في غزة، لم تعد القصص تُروى فقط في نشرات الأخبار، بل تنطق بها مآذن المساجد، وتُهمس بها المنابر التي تعبت من التكرار، وبُحت أصواتها من الدعاء، وارتعشت أيديها من فرط الألم. ومن بين هذه المشاهد، خرجت واحدة لا تُنسى، حملت كل معنى الفقر، والانكسار، والجوع.
وقف خطيب الجمعة في أحد مساجد غزة، بثوبه الأبيض، يحمل خطبته بيد مرتجفة. نظر إلى وجوه المصلين أمامه، فلم يرَ وجوهًا، بل رأى بطونًا خاوية، وعيونًا غائرة، وأجسادًا جافة من التعب. بدأ يتلو كلماته، لكنه لم يستطع المضي طويلًا. توقف، تنهد، ثم قال بصوت خافت، غلب عليه العجز:
"أنا لا أستطيع إكمال الخطبة بسبب الجوع... وأنتم لا تستطيعون الاستماع بسبب الجوع... أقم الصلاة."
كلمات قليلة، لكنها أقوى من ألف خطبة. لم يكن الموقف ضعفًا في الحفظ أو ارتباكًا على المنبر، بل لحظة صدق مؤلمة نابعة من بطنٍ فارغة، من قلبٍ مثقل بالحزن، ومن واقعٍ لا يُحتمل. الخطيب لم يتحدث عن الجوع، بل كان الجوع نفسه. لم يشرح أحوال الناس، بل كان انعكاسًا لها.
الناس في المسجد لم يندهشوا. لم يعترض أحد، لم يُكمل أحد. ساد الصمت. ذلك الصمت الذي لا يأتي من الخشوع، بل من الإنهاك، من التعب، من الجوع الطويل الذي أصبح ضيفًا مقيمًا في كل بيت.
فأي خطبة تُسمَع، إذا كان المصلون يفكرون في كسرة خبز وأي كلام يُفهم، إذا كان العقل مشغولًا بكيفية إطعام الطفل قبل المساء
في غزة، لم يعد المنبر منصة للبلاغة، بل منصة للبكاء. حتى الخطبة، تلك الشعيرة المقدسة التي تسبق الصلاة، لم تَسلَم من الجوع. لقد تسلل إلى كل شيء: المدارس، المستشفيات، الأسواق، وحتى بيوت الله.
المشهد هذا ليس عابرًا، وليس رمزيًا فحسب. إنه عنوان مرحلة بأكملها. مرحلة يُختصر فيها حال شعب بموقف واحد: خطيب لا يستطيع الكلام، ومصلّون لا يستطيعون الاستماع. كأنّ الجوع قطع خط الاتصال بين الأرض والسماء.
كيف يستقيم حال أمة إذا جاع خطيبها كيف تُصلى الجمعة و"الجمعة" نفسها مكلومة كيف يُذكر الصبر، والقلوب قد أنهكها اليأس
هذا المشهد لا يجب أن يُنسى، بل يجب أن يُكتب، ويُوثق، ويُعلّق على جدران الضمير العالمي. لأن غزة لا تختنق فقط تحت القصف، بل تنكسر تحت وطأة التجاهل. ولأن صوت الخطيب الجائع، هو الصوت الحقيقي لهذه المرحلة.
"أقم الصلاة"...
بهذه الكلمات، أنهى خطبته. لكنها لم تكن دعوة للصلاة فقط، بل صرخة صامتة: أقم العدالة، أقم الضمير، أقم إنسانيتك من سباتها الطويل.







وائل الوائلي
منذ 7 ايام
"المهمة".. إصدار قصصي يوثّق القصص الفائزة في مسابقة فتوى الدفاع المقدسة للقصة القصيرة
(نوافذ).. إصدار أدبي يوثق القصص الفائزة في مسابقة الإمام العسكري (عليه السلام)
قسم الشؤون الفكرية يصدر مجموعة قصصية بعنوان (قلوب بلا مأوى)
EN