نشأ التعليم العالي في البلد في مطالع القرن العشرين ، وشرع يتّخذ له كياناً تّتضح به معالمه ، وتستبين مراميه . وكان التعليم من قبلُ يجري في إطار من دراسة الدين وعلومه ، واللغة وآدابها ؛ ومكانه المسجد وما يتّصل به ، ويكون منه ؛ يستلهم أصحابه أمثلة مشهودة ، من رجال العلم في تاريخ الحضارة العربيّة الإسلاميّة ، ويقتدون بها على قدر ما يستطيعون . فقد عرف التاريخ العربيّ الإسلامي رجالاً نصبوا أنفسهم للعلم والمعرفة ؛ حرّاصاً على تكامل المعنى بين العلم الرصين ، والخلق الرفيع ، وكان مثلهم الأعلى ؛ أن يربأ ذو العلم بنفسه عمّا يَشينه ، ولا يزينه ؛ فيقول قائلهم ، وكأنّه ينطق عن لسان الصفوة منهم :
ولم أقضِ حقَّ العلم إن كان كلّما ... بدا مطمع صيّرتُه ليَ سلّما
ولو أنّ أهل العلم صانوه صانهم ... ولو عظّموه في النفوس تعظّما
وإذا اقترب أحد منهم من ذي سلطان ، وجلس إلى مائدته ؛ قدح ذلك فيه ، وثلم من منزلته ؛ وإنّما الشأن أن يُنزّه ذو العلم نفسه من المطامع ، وأن يُخلصها لما بين يديه ؛ لكي يتحقّق مرادُه ، ويتمّ مسعاه . وقد بقيت هذه الأمثلة حيّة شاخصة تتناقلها العصور ؛ عصراً من بعد عصر ؛ وكلُّ صاحب علم يأخذ منها على قدر ما يُتاح له ، وينظر إليها على أنّها ضياء يُنير دربه ، ويزيده هداية .
ولقد أمدّت هذه المعاني الرفيعةُ التعليمَ في البلد بمصباح هداية ، يوم استأنف الحياة ، وأخذ يفيق ؛ إذ وجد فيها خير زاد يقيم الأنفس ، ويهذّب الأخلاق ، وييسّر المعرفة . فلقد خرج أوائل ذوي العلم ، في مطلع القرن العشرين ، من المسجد متزودين بالعلم الرصين ، والخلق الرفيع ، قادرين على حسن استيعاب طلائع العصر الحديث ؛ كمثل محمود فهمي المدرّس ، والرصافي ، ومحمّد رضا الشبيبي ، وطه الراوي ، وغيرهم من أمثالهم ؛ ممّن كانوا طلائع التعليم العالي في البلد ، الذين تحقّق فيهم معنى الأستاذ ؛ علماً ، وخلقاً . لقد نشأوا على القديم ، ولكنّهم لم ينكروا الجديد ؛ بل أخذوا منه ما كان بهم حاجة إليه ، وما رأوا أنّه ينفع البلد وأهله .
ومضت بهم وبأمثالهم مسيرةُ التعليم ، توطّد من نفسها ، وتُحكم مسارها ، ويعلو فيها شأن الأستاذ متمثّلاً خلاصة ما كان في الحضارة العربيّة الإسلاميّة من قيم الصدق ، والإخلاص ، ومحبّة الحقيقة .
وقد مهّد ذلك الجيل الرائد الدربَ لمن يجيء بعده ؛ فاشتُرعت البعثات الدراسيّة ؛ وكان نهجها أن يُرسل النابهون من الطلبة للدراسة في أوربّا ، وفي أميركا ، وأن تتحمّل الدولة نفقات المبعوث ؛ ليرجع مُحرزاً علماً ، وخبرة ، وشهادة عليا . وكان شرطها ، الذي لا شرط غيره ، أن يكون الطالب نابهاً ، مقبلاً على الدرس . وكان من حكمة تلك البعثات القديمة ؛ أنّها لم تقتصر على ميدان من العلم دون غيره ، فابتعثت من يدرس العلم الصرف ، وابتعثت إلى جانبه من يدرس الآداب وما يتّصل بها . فما مضت مدّة يسيرة حتّى عاد أولئك الطلبة أساتذة ؛ يعمل بعضهم في التعليم ، وبعضهم في إدارة الدولة . وعرف البلد بهم أعلاماً كراماً ؛ يلتقي عندهم العلم ، بالرؤية السليمة ، والموقف القويم ، بالأفق الواسع . كمثل محمّد مهدي البصير ، ومصطفى جواد ، وعبد العزيز الدوري ، وعبد الجبار عبد الله ، وطه باقر ،وغيرهم ؛ على تفاوت أفكارهم ، وائتلاف نهجهم في تحقيق معنى الأستاذ ؛ في العلم والخلق ، وتماسك الموقف ، وسعة الأفق . وكانوا ، مع ذلك كلّه ، ينتظمهم روح وطني ؛ يحبّ العراق وأهله .
واتّصل الأمر ، ونشأت تقاليد في كيان التعليم العالي ، وأخذت ترسخ ؛ وكانت دار المعلمين العالية رائدة في ذلك البناء ؛ بما رعت منه وزادت فيه ، ومكّنت له . وانتظم أمر البعثات ، واتّسع نطاقها ، واتّضحت ثمارها . وإذا تقدّمت السن بجيل فإنّ جيلاً آخر لا يقلّ عن السابق قد أطلّ ، وعاد من بعثته محمّلاً بالعلم ، والمعرفة ، مزوّداً بخبرة الجامعات الغربيّة ؛ كان في طليعته علي الوردي ، علي جواد الطاهر ، ونوري جعفر ، وصلاح خالص ، وعلي الزبيدي ، وغيرهم في الآداب ، وفي ميادين أخرى من المعرفة . وليس في طوق هذه السطور أن تحصيهم ، وأن تقف عندهم فرداً فرداً ، وحقّهم أن ينهض بذلك كتاب برأسه ؛ ينشر فضلهم ، وينبّه على كريم خصالهم .
وكلُّ كلّيّة ؛ كان فيها نخبة من أهل العلم ممّن عرف أصول علمه وتمرّس بها ؛ بل كلّ قسم كان يزدان بهم . وكلّهم كان على توازن واعتدال ؛ أخذ من الغرب ، وأفاد من علمائه ، لكنّه لم يُغفل تراثه ؛ فانسجم عنده الجديد مع القديم على نحو نافع مفيد .
واتّصل الأمر ، واتّسع ، وكان ينبغي له أن يطّرد
وكانت الدولة تحفظ حقّهم ، وترعى منزلتهم ، ولا تكلّفهم ما يخرج بهم عمّا هم فيه من محيط العلم والمعرفة .
ذلك ما كان على جملة الأمر ، وما تمّ على نحو يبعث على الفخار . ومن ينظر إلى تلك الطبقة الكريمة التي رعت التعليم العالي ، وحفظت مكانته ، وأعلت منه ؛ أقول : إنّ من ينظر إليهم ، بعد هذه السنين ، يرهم في طليعة رجال العلم والتعليم عند العرب في العصر الحديث ؛ لا يقصّر بهم أمر عن نظرائهم في مصر أو سوريا ، أمّا البلاد العربيّة الأخرى ؛ فإنّهم أساتذة من فيها .
ثمّ كان أن طرأ ما ألقى بظلّ ثقيل ، وما أصاب بوهن ؛ حين نشأت حكومات كانت تريد أن تبسط نفوذها على كلّ شيء ، وأن تجعل في قبضتها كلّ أمر . فشرع مبدأ الولاء يتقدّم على مبدأ الكفاية شيئاً فشيئاً ، وضاق نطاق البعثات ، ووجد غيرُ ذي الكفاية منفذاً إليها ؛ فزاحم الذكيَّ النابه ، وأخذ مكانه ، وشاع جوّ من الخشية والمحاذرة . ورجحت في بعض السنين كفّة أهل الولاء على كفّة أهل الكفاية ، وربّما ولي مِن الأمر مَن لا يحسن منه شيئاً . غير أنّ الميدان لم يخلُ ، وبقي فيه من يرعى حقّ العلم ، ويؤدي الأمانة .
إنّ التعليم العالي لا يحيى من دون تقاليد منبعثة منه تحفظ كيانه ، وترقى به ؛ أوّلها الحريّة ؛ حريّة الفكر التي لا رقيب عليها إلّا الصدق والإخلاص ، واستقامة النهج ؛ وحريّةٌ تحفظ على الأستاذ كيانه ، وتجعله مطمئن العيش ، وحريّة يأمن بها طالب العلم على نفسه حتّى لا يثقله شيء يصرفه عمّا هو في سبيله . لا بدّ من جوّ يُشيع الحريّة ؛ تنتفي فيه الخشية والمحاذرة . وثانيها ؛ أن يلي كلّ أمر من أمور التعليم ؛ القديرُ ذو الخبرة ، المشهود له بذلك ، وألّا يتقدّم المفضول على الفاضل حتّى تنزل الأشياء منازلها ، ويستقيم أمرها . وثالثها ؛ أن يكون لمؤسسات التعليم العالي استقلالها ، وألّا يحكمها السياسيّ ؛ جهرة أو من وراء حجاب ؛ بل ألّا تدار إلّا بقيم العلم المتراكمة عبر العصور .
لقد كان للتعليم العالي في البلد تقاليد حسنة نشأت من نسيجه ؛ منذ العقد الثالث من القرن العشرين ، وظلّت في نموّ واطّراد ؛ فإذا اختلّت ، واضطرب نهجها ، وإذا طرأ على التعليم ما ليس منه ؛ فإنّ الصلاح كلّ الصلاح في الرجوع إلى المتراكم من قيم العلم ...







وائل الوائلي
منذ 1 يوم
"المهمة".. إصدار قصصي يوثّق القصص الفائزة في مسابقة فتوى الدفاع المقدسة للقصة القصيرة
(نوافذ).. إصدار أدبي يوثق القصص الفائزة في مسابقة الإمام العسكري (عليه السلام)
قسم الشؤون الفكرية يصدر مجموعة قصصية بعنوان (قلوب بلا مأوى)
EN