السبيل لحل معضلتين: الحروف المقطعة
  إن وضع الحروف مسألة اعتبارية، وهي تختلف باختلاف الجعل. وعلى هذا الأساس، من الممكن أن يجعل حرف في لغة قوم ليؤدي معنى خاصاً، ويكون - في الوقت ذاته - مهملاً غير مستعمل في لغة قوم آخرين، كما هو الحال بالنسبة لأصل الكلمة أيضا؛ فخواص الحروف والكلمات ليست أمراً تكوينياً كي تكون متماثلة عند كل الأقوام والملل أولا ويكون لها ارتباط عيني مع الموجودات التكوينية الارفع منها كالموجود المثالي، والعقلي وما فوقها، ثانياً، لكن، كما أن معضلة اعتبارية وضع الحرف، من ناحية، وإعضال ارتباط الاعتبار بالتكوين، من ناحية أخرى، مطروحان بالنسبة لأصل آيات القرآن الكريم، فهما مطروحان كذلك بالنسبة للحروف المقطعة، ولحل هاتين المعضلتين يطرح جواب معقول ومقبول بالاستمداد من مبانى العرفان، والاستعانة بمسالة خلافة الإنسان الكامل، وتنظيم ارتباط الموجود الاعتباري بالموجود الحقيقي ضمن الحيز الوجودي لخليفة الله؛ أي، الإنسان الكامل الذي ظهر الفيض الإلهي الخاص في جميع مجاريه الإدراكية والتحريكية، وزهر الفوز الإلهي المميز في كل شؤونه الوجودية جراء قرب النوافل والفرائض.

في هذا المشهد، تكلم العرفاء، في المرحلة الأولى، والحكماء الذين أداموا صبغة العرفاء، في سيرتهم، أو بادوا إلى كتابة رسالة عرفانية في فترة خاصة، في المرحلة الثانية، عن سر الحروف المقطعة ورمزها، وجعلوا المحجوب المستور مشهوراً لبعض أصحاب السر. إن هذا الإنزال لما وراء الحجاب إلى الخارج، وتنزيل السر المستور إلى مقام المشهور لا يتنافى مع الحكم الأزلي؛ إذ، بالرغم من أن الحكم الأزلي في ماء الورد والورد هو أن ماء الورد محجوب مستور، والورد شاهد مشهور:
حكم ماء الورد والورد قديماً في الأزل         ذاك محجوب وذا مشتهر ولم يزل(1)
إلاً أنه مكتوب في هذا الأزل أن تكون بعض الأسرار المكتومة مشهورة، لكنه ليس لأي أحد، بل للخواص الذين سلكوا سبيلاً مستورة ومصونة عن غبار الغيرية، وطريقاً هي أقرب من حبل الوريد.
لم يبح عارف الحق بالسر طوعاً            يا ترى من لبائع الراح للسر أفشى؟(2)
إن ما أزال الحيرة، يفشي سر هذا السر المستور، وهو:
هات يا ساقي الكأس فالحب بنبي:    نحن من حديث الهوى لراويهِ أفشى(3)
أي، ما من أجنبي تدخل، ولا من غرب عرف السر أو نقله، كل ما في الأمر أن صاحب السر عمد إلى إفشائه بشكل خصوصيّ.
بناء على هذا، تكون فتوى العقل الحازم، واللب الجازم - بعد مشاهدة نموذج تنزل أم الكتاب والكتاب المبين (الذي هو موجود عيني تكويني) بكسوة آيات وسور بلغة عربية مبينة (وهي موجودات وضعية اعتبارية) , هو عدم إبداء التعجب أمام ادعاءات بعض سدنة الأسرار، وأن لا يحل «الاستبعاد» محل «الاستحالة»، وأن لا يحتل «عدم الإدراك» مكان «إدراك العدم"، ولا يترك قول «لا أدري» في البحوث العرفانية التي هي فوق المسائل الدارجة والشائعة، وإلاً فسيحكم عليه في محكمة العرفان الأصيل بحكم آنه قد «أصيبت مقاتله)(4) . ومثل هذا الحكم على العقل في محكمة العشق لهو خسران عظيم.
الآن، وفد كبحت سورة استبعاد رأي أهل المعرفة، واخمدت صولة العقلاء وأرباب الفكر في ميدان محترفي الشهود، ومدعي صعود قمم العرفان، فسنكتفي في الإشارة
اللاحقة بنقل بعض كلمات طويلي الباع في هذه الحرفة، , السباقين على هذا الدرب، كي تنسجم رسالة «أصحاب البصر» وكلمات «أرباب النظر» في صحيفة واحدة، عند ذاك يتخلص المتغذون من المائدة القرآنية، والمتغذون من المأدبة السماوية -كل بحسب سعة واديه -من سراب الرمضاء، ويروون ظمأهم بعذب الماء، وتسيل أوعية السائلين عن المسائل الغيبية على قدر أوعيتهم: {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} [الرعد: 17]. ...
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. إشارة إلى البيت الفارسي لحافظ الشيرازي، «ديوان غزليات حافظ"، ص217:
در كار كلاب وكل حكم ازلى اين بود كاين شاهدبازارى وآن يرده نثين باشد
2. و3. إشارة إلى البيتين الفارسيين لحافظ الشيرازي، «ديوان غزليات حافظ«، ص328 (بالترتيب):
سر خدا كه عارف سالك به ك نكفت در حيرتم كه باده فروش از كجا شنيد ساقى بيا كه عشق ندا مى كند بلند كان كس كه كفت قصه ما هم ز ما شنيد
4.عن أمير المؤمنين:: «من ترك قول لا أدري أصيبت مقاتله»، (نهج البلاغة، الحكمة 85). 2. سورة الرعد، الآية 17.