أقرأ أيضاً
التاريخ: 7-11-2016
3287
التاريخ: 18-2-2021
1718
التاريخ: 2024-08-14
408
التاريخ:
1967
|
العلاقات مع القوات الغربية:
أ- الإسكندر الأكبر والدول المتأغرقة:
بقيت السيطرة الفارسية على منطقة الشرق الأدنى حتى الشطر الأخير من القرن الرابع. ق. م. وفي خلال هذه السيطرة لنا أن نتصور أن علاقاتهم بالعرب في شبه الجزيرة بقيت على ما هو عليه بما في ذلك علاقتهم "الخاصة" مع العرب الموجودين في أقصى الطرف الشمالي من القسم الشمالي الغربي لشبه الجزيرة العربية في المنطقة الواقعة بين القسم الجنوبي لسورية والحدود المصرية. ولكن الشطر الأخير من القرن الرابع ق. م. شهد بداية مرحلة جديدة من علاقات العرب بالعالم الخارجي ظهر على امتدادها اتجاهان واضحان:
الأول هو أن هذه العلاقات اتخذت اتجاها غربيا بالدرجة الأولى، وبخاصة في العصر المتأغرق عصر الدول التي قامت على أنقاض إمبراطورية الإسكندر في أول القرن الثالث ق. م. وامتدت حتى ظهور العصر الإمبراطوري الروماني في العقود الأخيرة من القرن الأول ق. م. وفي عصر الإمبراطورية الرومانية.
أما الاتجاه الثاني الذي اختلفت فيه هذه المرحلة عن المرحلة الخارجية فلم يعد قاصرًا على القسم الشمالي لشبه الجزيرة العربية، وإنما أصبح ينتظم كل شبه الجزيرة، بما فيها قسمها الجنوبي، وبخاصة المنطقة الجنوبية الغربية منه حيث منطقة إنتاج الطيوب ونقطة الانطلاق في تجارتها وهمزة الوصل في خطوط المواصلات بين الشرق والغرب في العالم القديم.
ولعلنا نستطيع أن ندرك الأبعاد الحقيقية ولو بشكل جزئي لهذه المرحلة إذا رجعنا قليلًا إلى الوراء، ففي النصف الأول من القرن الخامس ق. م. بعد الصدام العسكري بين اليونان والإمبراطورية الفارسية "490 و480 ق. م." وهو أول صدام كبير بين اليونان والعالم الخارجي بدأ اليونان يظهرون قدرا متزايدا من الاهتمام بشؤون العالم الشرقي الذي وصلت صورته إلى عقر دارهم في أثناء هذه الحروب التي دارت معاركها على الأراضي اليونانية أو في المياه اليونانية التي تفصل بين بلاد اليونان وبين الساحل الغربي لشبه جزيرة آسيا الصغرى حيث يوجد آخر امتداد غربي لولايات الإمبراطورية الفارسية، وكان أحد مظاهر الاهتمام هو التحقيقات التاريخية historiae التي شكلت كتابات المؤرخ اليوناني هيرودوتس في أواسط القرن الخامس ق. م. التي ظهر الحديث فيها عن شئون شبه الجزيرة العربية بشكل واضح، وهي كتابات أعقبتها احتكاكات أخرى سياسية وعسكرية بين اليونان والفرس وكتابات أخرى لرحالة مؤرخين وعلماء يونانيين بدأت فيها الكتابات عن شئون شبه الجزيرة تنتقل من دائرة المعلومات الموسوعية العامة إلى دائرة الحديث المتخصص وبخاصة عن الموارد الاقتصادية لهذه المنطقة، وأهمها، بطبيعة الحال، هو الطيوب.
ثم جاء الشطر الأخير من القرن الرابع ق. م. بتطور جديد وحاسم في العلاقات الدولية بين الغرب والشرق هي الفتوحات العسكرية التي قام بها الإسكندر الكبير ملك مقدونيا. لقد نقلت هذه الفتوحات علاقات الغرب بالشرق من مجرد مواجهات عسكرية محدودة أو علاقات سياسية في صورة أو في أخرى، بين الغرب والشرق لم تؤثر كثيرًا على الوضع القائم في علاقات هذين الجانبين، إلى مواجهة حاسمة سيطرت قوات الإسكندر على أثرها على الإمبراطورية الفارسية وبعض الأراضي المجاورة لها، أي: على أقسام كبيرة من منطقتي الشرق الأدنى والأوسط أحدقت بحدود شبه الجزيرة العربية ودفعت بالإسكندر إلى التفكير في غزو هذه المنطقة والاستعداد الفعلي لتنفيذ ذلك حتى تكتمل له حلقة الاتصال البحري الذي كان يرى فيه تدعيمًا لدائرة سيطرة عالمية شملت مناطق من الشرق والغرب.
ورغم أن الحملة المزمعة لم تخرج إلى حيز التنفيذ بسبب الموت المفاجئ للإسكندر في 323 ق. م. إلا أن الاستعدادات التي اتخذها بهدف القيام بهذه الحملة تمت عن آخرها. وفي هذا الصدد نجد الإسكندر يرسل عددًا من أعوانه، من بينهم قائده البحري أناكسكراتيس anaxikrates؛ ليجمعوا له كل المعلومات الممكنة عن الساحل الغربي وجزء من الساحل الجنوبي لشبه الجزيرة، كما يرسل ثلاثة قواد بحريين آخرين، الواحد تِلْوَ الآخر؛ لاستكشاف الساحل للجزيرة وصل أحدهم وهو هييرون hieron إلى نقطة يعتقد أنها عند منطقة رأس الخيمة الحالية (1) .
وقد كان اهتمام الإسكندر بشبه الجزيرة العربية بداية لعلاقة نشطة بين اثنين من الدول المتأغرقة التي قامت على أنقاض إمبراطورية الإسكندر، هما دولة السلوقيين في سورية ودولة البطالمة في مصر من جانب، وبين شبه الجزيرة العربية من جانب آخر. وقد جاء هذا الاهتمام نتيجة للصراع العنيف الطويل الذي شَبَّ بين خلفاء الإسكندر، وبخاصة بين هذين البيتين الحاكمين، وهو صراع استخدمت فيه كل أنواع الأسلحة بما فيها السلاح الاقتصادي على وجه التخصيص؛ ومن هنا يبدأ الاهتمام بمنطقة شبه الجزيرة العربية. فالسلوقيون الذين دخلت منطقة وادي الرافدين ضمن ملكهم لبعض الوقت، أقاموا عددًا من المستوطنات بين الفرات ومدينة جرهاء "على شاطئ شبه الجزيرة العربية المطل على الخليج" كما عقدوا اتفاقية مع هذه المدينة لتمدهم بالتوابل والطيوب لقاء عدم سيطرتهم السياسية عليها (2).
أما عن البطالمة فنحن نجد بطليموس فيلادلفوس philadelphos "308-246 ق. م." ثاني ملوك هذه الأسرة الحاكمة، يرسل أرستون ariston ليستكشف له ساحل شبه الجزيرة العربية المطل على البحر الأحمر حتى المداخل الجنوبية لهذا البحر "مضيق باب المندب حاليا" حتى يتعرف على أصلح الأماكن التي تسهِّل له طريق المواصلات البحرية التي تخدم مصالحه التجارية التي شكلت قسما بارزا من اهتماماته إزاء الصراع الاقتصادي والسياسي والعسكري العنيف الذي كان سمة منطقة الشرق الأدنى والقسم الشرقي للبحر المتوسط في ذلك الوقت. كذلك نجد هذا الملك يعمل على اعتراض "طريق الطيوب والتوابل" الذي يصل بين العربية الجنوبية والبتراء "في الشمال" عاصمة الأنباط عقابًا لهم بسبب انضمامهم إلى جانب السلوقيين في الصراع البطلمي السلوقي، فيعقد اتفاقية مع اللحيانيين الذين كانوا يسيطرون على ديدان dedan "العلا الحالية" جنوبي مملكة الأنباط، كذلك نستطيع أن نتبين خطوة أخرى في هذا الاتجاه العام فيما أقدم عليه بعض التجار اليونان "من ميلتوس miletos على الساحل الغربي لشبه جزيرة آسيا الصغرى" من إقامة مستوطنة أمبيلوني ampelone على الساحل الغربي لشبه الجزيرة العربية كميناء بحرية لمدينة ديدان لصالح الملك ذاته. كما اهتم البطالمة، إلى جانب ذلك بتأسيس أو تشجيع ورعاية عدد من المستوطنات اليونانية على الساحل الغربي لشبه الجزيرة؛ لتأمين الخط التجاري البحري في البحر الأحمر (3).
وقد كانت نتيجة ذلك كله أن الخط الجديد للمواصلات التجارية البحرية في البحر الأحمر ازدهر على حساب القسم الشمالي من الخط التجاري البري الطولي في شبه الجزيرة؛ مما أثر على اقتصاديات مملكة الأنباط. وفي هذا المجال يذكر لنا سترابون الجغرافي اليوناني، أن السلع التي كانت تأتي بحرًا إلى ميناء ليوكي كومي leuke kome "القرية البيضاء" على القسم الشمالي من ساحل شبه الجزيرة المطل على البحر الأحمر،" في داخل منطقة الأنباط" ومنها برًّا إلى البتراء حيث تجد طريقها إلى الموانئ الفينيقية، أصبحت تصل الآن رأسًا "بالطريق البحري" إلى ميناء ميوس هورموس myos homos على الساحل المصري المقابل، ومنها بالطريق البري إلى النيل عند منطقة طيبة، ثم عن طريق النيل إلى الأسكندرية (4). وقد كانت نتيجة هذا التأثير السيئ "ولو بشكل جزئي" على اقتصاديات الأنباط ما أدى بهؤلاء إلى مهاجمة السفن التجارية التي تقلع من الموانئ المصرية، ولكنهم كفوا عن ذلك "بعدما أدبهم المصريون" حسب تعبير سترابون (5).
ب- العلاقات مع الإمبراطورية الرومانية:
ولكن الدول المتأغرقة، بما فيها مصر وسورية، كانت قد بدأت في التدهور لتحل محلها على المسرح الدولي قوة جديدة، وهي روما التي كان ظهورها كقوة قد بدأ بشكل تدريجي منذ القرن الثالث ق. م. وحين أطلت العقود الأخيرة من القرن الأول ق. م. كانت هذه القوة، التي صبحت الآن إمبراطورية، قد بدأت تفصل في أمور المناطق المتاخمة لسواحل البحر المتوسط في الشرق وفي الغرب. وقد اتجهت الإمبراطورية الرومانية بأنظارها إلى شبه الجزيرة العربية لسببين رئيسيين: أولهما هو الرخاء الكبير الذي كان يسود المجتمع الروماني آنذاك، وهو رخاء كان أحد مظاهره استهلاك غير عادي في حجمه من جانب المجتمع الروماني للطيوب والتوابل التي كان قسم منها يأتي من العربية الجنوبية، بينما يمر القسم الباقي الذي يأتي من مناطق أخرى بشواطئ العربية الجنوبية، ليصل عن الطرق البرية أو البحرية من هناك إلى أصحاب رءوس الأموال "أو طبقة الفرسان equites كما كانت تُدْعَى في روما آنذاك" التي كانت تسيطر على جوانب كثيرة من الاقتصاد الروماني، من بينها التجارة الخارجية التي كانت في أغلبها تجارة شرقية والتي كانت أغلى سلعها هي الطيوب والتوابل.
وإلى جانب ذلك فقد كانت هناك ظروف أخرى وجهت نظر روما إلى شبه الجزيرة العربية وموانئها، فبعد استيلاء روما على سورية وتحويلها إلى ولاية رومانية نجحت في 30 ق. م في غزو مصر وتحويلها بدورها إلى ولاية أخرى من ولاياتها، وهنا شعرت روما أنها بحاجه إلى تدعيم هذه الحدود الشرقية لإمبراطوريتها إزاءَ غارات المناطق الواقعة على الأطراف الغربية لشبه الجزيرة العربية، والتي كانت تهدد هذه الحدود الشرقية سواء في أرضها أو مواصلاتها. كذلك كانت هناك قوة شرقية كبيرة، وهي الدولة الفرثية "البارثية" في إيران، التي كانت في حالة صراع شبه دائم مع الرومان، استمر سجالًا ابتداء من القرن الأول ق. م. وقد تسبب هذا العداء في تهديد الفرثيين للطريق التجارية البرية الواقعة في أقصى الشمال من شبه الجزيرة العربية التي كانت تربط روما بالشرق الأقصى مرورًا بآسيا الصغرى، ومن هنا اتجه الرومان إلى معالجة هذا الوضع بطريقتين، إحداهما هي البحث عن وسيلة لتأمين هذا الخط البري الواقع في شمالي شبه الجزيرة بشكل أو بآخر، والثانية بتعويض هذه الطريق بالسيطرة في حدود الإمكان على المناطق التي تمر بها الطريق التجارية البحرية من البحر الأحمر إلى المحيط الهندي، والتي يشكل القسم الجنوبي الغربي لشبه الجزيرة العربية نقطة حيوية تتحكم عند نقطة التقاء البحر بالمحيط (6).
وفي إطار هذه الظروف جميعًا كانت تدور علاقات الرومان بالتجمعات أو التكوينات السياسية في شبه الجزيرة العربية، وهي علاقات تعرضت من خلالها روما إلى ثلاث مناطق في شبه الجزيرة هي، حسب الترتيب الزمني: اليمن أو المنطقة الجنوبية الغربية، ومملكة الأنباط في القسم الشمالي الغربي، ثم مملكة تدمر في أقصى الشمال. وكان أول نشاط الرومان في هذا المجال هو الحملة التي أرسلها أغسطس augustus، أول الأباطرة الرومان، إلى منطقة سبأ في العربية الجنوبية عام 25 ق. م. تحت قيادة إيليوس جالوس aelius gallus الوالي الروماني على مصر آنذاك. ويذكر لنا سترابون أن هناك اعتبارين وراء هذه الحملة: أحدهما هو السيطرة على مداخل البحر الأحمر إما عن طريق كسب العرب إلى صفه أو إخضاعه لهم. والاعتبار الآخر هو ما سمعه أغسطس عن الثروة الهائلة لهذه المنطقة التي تكثر بها الطيوب والتوابل؛ الأمر الذي أغراه بإرسال هذه الحملة حتى يتمكن من "أن يتعامل معهم كأصدقاء أغنياء أو أن يسيطر عليهم كأعداء أغنياء" (7) وهو تعليل يوضح تفاصيل كثيرة وصحيحة تدور كلها حول هذين الاعتبارين، كما يذكر سترابون عاملًا شجع أغسطس على هذه الحملة، وهو ما وعده به الأنباط من مساعدة في تنفيذها عن طريق إرشاد القائمين عليها إلى طرقات المنطقة وتعريفهم بأرضها (8).
وقد أبحر إيليوس جالوس بحملة من ميناء أرسينوي arsinoe المصرية عند الطرف الشمالي الشرقي لخليج القلزم "السويس حاليًا" ونزل بجنوده في ليوكي كومي leuke kome التي تقع على خط عرض 25 شمالًا على الساحل الشرقي للبحر الأحمر، وهي آخر موانئ الأنباط جنوبًا على هذا الساحل، ومن هنا كان على الحملة أن تقطع المسافة الباقية إلى سبأ عن طريق الصحراء وهي مسافة تصل إلى 1400 كيلومتر أو تزيد. وقد تعرضت الحملة على طول هذه المسافة إلى مصاعب لم تكن في حساب القائد الروماني، منها قلة المياه على الطريق وقلة مواد التموين، ومنها كذلك الأمراض المتوطنة التي تعرض لها قسم كبير من الجنود، ثم عدم توفر الطرق الصالحة لسير تشكيلات كبيرة من الجنود مما جعل هذه الحملة تستمر في طريقها ستة أشهر كاملة قبل أن تصل إلى حدود سبأ، بكل ما تعنيه هذه المدة الطويلة من صعوبات سواء اتخذت هذه الصورة تكاليف مادية أو هبوطًا في الروح المعنوية للجنود.
وحين وصلت هذه الحملة أخيرًا إلى سبأ لم تستطع أن تحقق هدفها الأساسي وهو الاستيلاء على عاصمة المملكة التي كان أغسطس يرمي إلى السيطرة عليها فقد وصل جالوس إلى مدينة يدعوها المؤرخ بلينيوس ماربه mariba "وربما تكون مأرب العاصمة" وبعد حصار دام ستة أيام اضطر أن يعود أدراجه؛ إذ لم يكن لديه من الماء ما يكفي لاستهلاك جنوده في حصار أطول من هذا، وبذلك تكون الحملة قد انتهت دون تحقيق هدفها العسكري. كذلك نسمع عن حملة رومانية أخرى أرسلها الإمبراطور أغسطس عن طريق البحر في وقت لاحق "ربما بعد عشرين سنة" إلى هذه المنطقة تحت قيادة ابنه بالتبني جايوس قيصر gaius caesar. ويبدو أن هذه الحملة لم تستغرق وقتا أو جهدا كبيرا إذ يذكر لنا الكاتب الروماني بلينيوس أن هذا القائد "لم يفعل أكثر من إلقاء نظرة سريعة على بلاد الغرب" (9).
ولكن يبدو مع ذلك أن كلًّا من الحملتين، أو إن الحملتين في مجموعهما، قد حققتا الهدف الاقتصادي والسياسي بالنسبة لروما. وهناك أكثر من دليل يشير إلى هذه النتيجة، فمن جهة يذكر لنا كاتب يوناني وصل إلينا كتابه وإن لم يصلنا اسمه أن "قيصر" أخضع عدن (10) eudaemon . وسواء أكانت تسمية "قيصر" تعني جايوس قيصر قائد الحملة البحرية أو تشير إلى أغسطس الذي كان يشار إليه عادة باسم قيصر، فالنتيجة واحدة. كذلك يذكر لنا بلينيوس أن جايوس قيصر قد "حصل على شهرة واسعة" (11) من وراء هذه الحملة، وهو حديث يدل على أن روما حققت هدفًا ملموسًا من وراء حملته. فإذا تذكرنا أنه لم يفعل في هذه الحملة أكثر من مجرد الظهور على سواحل الغربية الجنوبية يكون معنى هذا أن الحملة الأولى لم تكن فاشلة تماما في جانبها السياسي بحيث إن مجرد ظهور القوة الرومانية مرة أخرى بعد نحو عشرين سنة -وهي المدة المرجحة بين الحملتين- كان كافيا في حد ذاته لإخضاع عدن "حتى ولو أخذنا هذا الإخضاع بأقل معانيه وهو حصول روما على امتيازات في هذه الميناء". وأما الشاهد الأخير فهو شاهد أثري مؤداه أن حوالي نصف العملة الرومانية التي وجدت في الهند ترجع إلى عهد كل من الإمبراطور أغسطس والإمبراطور تيبريوس Tiberius ثاني الأباطرة الرومان. ومعنى هذا أن التجارة الرومانية مع الهند قد نشطت نشاطا كبيرا في هذه الفترة (12)، وغني عن البيان أن نقطة الوسط في طريق التجارة بين روما والهند تشغلها السواحل الجنوبية لشبه الجزيرة العربية، الأمر الذي يدل على أن روما، إن لم تكن قد وضعت المنطقة تحت نفوذها، تكون قد حصلت على تسهيلات تجارية كبيرة في موانيها.
هذا فيما يخص علاقة روما بجنوبي شبه الجزيرة العربية. أما في القسم الشمالي من شبه الجزيرة، فقد احتكت روما، كما أسلفت، بمنطقتين أساسيتين إحداهما مملكة الأنباط والأخرى مملكة تدمر. وفيما يخص مملكة الأنباط فإن أول ظهور واضح لها في مجال السياسة الخارجية كان في مجال العلاقات مع الإمبراطورية الرومانية. وفي هذا المجال نجد أن الرومان يعتمدون على الوزير النبطي سللايوس syllaeus "الشلاء أو الصلاء" ليرشد القوات الرومانية في طريقها إلى العربية الجنوبية. وقد عانت الحملة الرومانية كثيرًا، كما رأينا، من هذه الطريق التي استمر السير فيها ستة أشهر كاملة، قبل الوصول إلى هدفها، وهو أمر أثار الشك عند أحد الكتاب الذين عاصروا الحملة وهو سترابون الذي كان صديقا شخصيا لقائدها الروماني إيليوس جالوس، فيذكر لنا هذا الكاتب أن الوزير النبطي قد تعمد تضليل الحملة، وأنه كان يهدف من وراء ذلك إلى القضاء عليها أو إفشال هدفها بعد أن تكون قد دمرت بعض المدن التي قد تبدي شيئًا من المقاومة، ومن ثم يتمكن سللايوس بعد ذلك من فرض سيادته على كل المنطقة معتمدًا في مخططه هذا على ضعف شخصية الملك النبطي عبيدة Obodas. ثم ينهي الكاتب حديثه باكتشاف روما، بعد إخفاق الحملة، لأهداف سللايوس وإعدامه عقابًا على مجموعة أخطاء من بينها هذه الخديعة (13).
وقد كان الوزير النبطي سللايوس رجلا ذا شخصية قوية فعلا، وربما أقدم على هذه الخديعة، وربما لم يقدم عليها كما يذهب بعض الباحثين (14)، ولكن تبقى في النهاية حقيقة لا تقبل الجدل وهي أن روما قد حاكمته وأعدمته فعلا، ومعنى هذا أنها وجدت من حقها ومن سلطانها أن تقدم على هذا التصرف، وهو تصرف نرجح أمامه أن مملكة الأنباط، رغم عدم تبعيتها من الناحية الرسمية لروما، إلا أنها في ضوء هذا الظرف لا بد أنها كانت داخلة في دائرة نفوذ الإمبراطورية الرومانية. ويدعم هذا الترجيح أن الكاتب نفسه "سترابون" يذكر في موضع آخر من كتابه أن الأنباط كانوا قد أصبحوا في الوقت الذي كتب فيه "أواخر القرن الأول ق. م. وأوائل القرن الأول الميلادي" من رعايا روما (15) رغم أن مملكة الأنباط لم تصبح ولاية رومانية من الناحية الرسمية إلا بعد ذلك بقرن وربع تقريبًا. ويؤكد دخول مملكة الأنباط في دائرة النفوذ الروماني في الفترة التي نحن بصدد الحديث عنها "الربع الأخير من القرن الأول ق. م" أن الإمبراطور أغسطس كاد يطيح بالحارثة "aretas عند الرومان" الملك النبطي الذي اعتلى العرش بعد موت عبيدة؛ لأنه لم يستأذنه قبل اعتلاء العرش (16).
ويرجع السبب الذي أدى بالإمبراطورية الرومانية إلى مد نفوذها على مملكة الأنباط إلى ظروف تتعلق بإقرار الأمور على الحدد الشرقية لهذه الإمبراطورية. وهي ظروف كانت تستوجب من أغسطس موقفا حازما على هذه الحدود؛ إذ كان للسلام السائد في هذه المنطقة ألا يتعرض لأية هزات في غير صالح روما. فقُبَيْل هذه العلاقات الرومانية النبطية كانت هناك ظروف في المنطقة تحمل بذور الاضطراب على الحدود الرومانية في الشرق. فالعلاقات بين سلّلايوس، الوزير النبطي، وبين هيرودوس herodos، ملك يهوذا "اليهودية" كانت قد تعقدت بعض الشيء مما أدى بالوزير النبطي إلى أن يحرِّض على قيام بعض الحركات الثورية ضد هيرودوس، الأمر الذي دفع هذا الأخير إلى مهاجمة الأراضي النبطية (17). وكان طبيعيًّا في وسط هذه الظروف المشحونة بالاضطرابات أن يتخلخل نفوذ روما بعض الشيء في المنطقة مما أغرى سللايوس باغتيال أحد المسئولين الرومان، ومن هنا نستطيع أن نفهم التصرف الذي أقدم عليه أغسطس وهو فرض النفوذ الروماني على مملكة الأنباط إقرارًا للأمور على الحدود الشرقية للإمبراطورية الرومانية، وهو أمر كان من الأهداف الأولى لهذا الإمبراطور.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فقد كان الفرثيون لا يفتئون من حين لآخر يحاولون توسيع حدود إمبراطوريتهم "الإمبراطورية الفارسية" أو مناطق نفوذها نحو الغرب على حساب حدود الإمبراطورية الرومانية ومناطق نفوذها كما كان الفرثيون يهددون بالذات الطرق التجارية التي تصل روما بالشرق الأقصى. ومن هنا كانت البتراء، عاصمة الأنباط، سواء بموقعها الذي تحصنه التكوينات الصخرية المرتفعة من أغلب جهاتها، أو بموقعها التجاري الحيري على الخط التجاري الذي يصل بين شمالي شبه الجزيرة العربية وجنوبيها، موقعًا يشكل نقطة إغراء بالنسبة لروما، سواء في التحرز ضد أي اجتياح فارسي، أو من حيث ضمان التحكم في أحد الخطوط التجارية الرئيسة. وهكذا ابتدأت تبعية المملكة النبطية بهذا الشكل غير الرسمي ليصل الأمر إلى ضم روما لهذه المملكة كولاية من ولاياتها تحت اسم "الولاية العربية" provincia arabia في 105م على عهد الإمبراطور الروماني ترايانوس (18).
ثم نأتي إلى المنطقة الثالثة "من مناطق شبه الجزيرة العربية" التي كانت لها علاقات مع الإمبراطورية الرومانية وهي تدمر. وأول مناسبة نسمع فيها عن علاقات بين هذه المدينة والإمبراطورية الرومانية هي في 17م على عهد الإمبراطور تيبريوس "14-37م" ففي هذه السنة نجد قرارات رومانية تتعلق بالجمارك الخاصة بهذه المدينة (19). أما عن السبب الذي أدى بدخول تدمر في دائرة النفوذ الروماني فيكمن في عاملين متداخلين يتعلقان، كما سبق أن رأينا في حالة مملكة الأنباط، بوجود الخطر الفارسي في الشرق. إن توترًا كان يشوب العلاقات الرومانية الفارسية بشكل يكاد يكون مستمرًّا، وكان هذا التوتر يعبر عن نفسه في شكلين متكاملين. والشكل الأول هو محاولة دائبة من جانب الفرس لقطع الطرق التجارية التي تصل الإمبراطورية الرومانية بتجارة الشرق الأقصى عبر آسيا الوسطى، أو على الأقل تهديد هذه الطرق. وأما الشكل الثاني فهو انفجار هذا التوتر بشكل مسلح، كثيرا ما كان يقع على الحدود الفاصلة بين الإمبراطوريتين الكبيرتين. وقد كانت تدمر تقع فيما يمكن أن نسميه المنطقة الحرام الواقعة قرب هذه الحدود: إلى شرقيها يقع وادي الرافدين الذي يسيطر عليه الفرس، وإلى غربيها تقع سورية التي يسيطر عليها الرومان، ثم في وسط موقعها يمر الخط التجاري المهم الذي يوصل بين الشرق والغرب في أقصى الشمال من شبه الجزيرة العربية.
ولعل هذا الموقع الحساس في نقطة الوسط بين الإمبراطوريتين هو الذي حدد شكل العلاقة بين روما وبين هذه الواحة في قلب الصحراء، بحيث اختلفت هذه العلاقة عما رأيناه بين روما وبين مملكة الأنباط. ذلك أن منطقة الأنباط كانت تقع على الحدود المباشرة للإمبراطورية الرومانية، ومن هنا كانت روما تستطيع أن تلجأ معها إلى سياسة العصا الغليظة، سواء في حالة التبعية غير المباشرة أو التبعية الرسمية كولاية رومانية كما رأينا في أكثر من مثال في أثناء الحديث عن هذه العلاقة. ولكن الوضع كان مختلفًا في حالة تدمر فهي على الحدود بين الخصمين اللدودين ومن ثم يصبح من السهل عليها إذا ضغط عليها طرف أكثر من اللازم، أن تنقل ولاءها للطرف الآخر. ومن هنا فإن سياسة الإمبراطورية الرومانية إزاءها اتسمت منذ البداية بشيء غير قليل من الليونة التي تركت لهذه المدينة كثيرًا من الاستقلال في الحركة المستقلة رغم تبعيتها للإمبراطورية الرومانية، سواء بشكل غير رسمي أو بشكل رسمي بعد ذلك.
وفي ضوء هذا المفهوم نجد تدمر هي والمدن الصغيرة التابعة لها، تنتقل من النفوذ الروماني الصامت إلى تبعية واضحة للإمبراطورية الرومانية على عهد الإمبراطور هادريانوس hadrianus "117-138م" وعلى أثر زيارة قام بها هذا الإمبراطور للمدينة في 130م تدشن هذه التبعية ليصبح اسم المدينة بالميرا هادريانا palmyra hadriana "أي: تدمر الهادريانية، إذ كان اسم تدمر عند الرومان هو بالميرا، أي: مدينة النخيل بسبب الأعداد الهائلة من النخيل التي كانت موجودة بها". ثم نجد الإمبراطور سبتميوس سيفيروس septimius severus "193-211 م" يحولها هي والمدن التابعة لها إلى مدن لها وضع مدن الولايات الرومانية، وأخيرًا تصبح تدمر في أوائل القرن الثالث الميلادي ولاية رومانية رسمية. ولكن في كل هذه الأحوال اكتفت روما بالتبعية الاسمية من جانب هذه المدينة تاركة لها قدرًا يكاد يكون كاملًا من الاستقلال الإداري الذي وصل إلى درجة الحكم الذاتي (20). وقد قابلت المدينة هذا الموقف من جانب روما بشيء كثير من الولاء في خدمة مصالح الإمبراطورية الرومانية. ففي أثناء الصراع الطويل الذي نشب بين الرومان والساسانيين "الذين خلفوا حكم الفرثيين في الإمبراطورية الفارسية" وقفت تدمر في جانب الرومان ووصل الأمر في 260م إلى موقف من جانب تدمر ظهر فيه قدر كبير من الإيجابية إزاء الرومان. ففي ذلك العام نجد الإمبراطور الفارسي شابور الأول يغزو قسمًا كبيرًا من سورية -التي كانت ولاية رومانية- ويأسر الإمبراطور الروماني فاليريانوس valerianus، وهنا يتدخل أذينة "أوديناتوس odenatus عند الرومان" أمير تدمر لصالح الرومان وينجح في مطاردة الإمبراطور الفارسي شابور إلى حدود عاصمة طيسفون ctesiphon "المدائن فيما بعد، طاق كسرى الآن على حدود بغداد". وكانت النتيجة التي ترتبت على ذلك هي مزيد من الثقة الرومانية التي جعلت الرومان يعطون هذا الأمير التدمري في 66م سلطة فعلية على بعض الولايات الرومانية وهي سورية والعربية الشمالية وربما أرمينية، وإن كانت السلطة الاسمية التي أضفاها عليه الإمبراطور الروماني جالينيوس47 galienus "253-268 م" (21).
ولكن مع ذلك فإن المنطلق الأساسي للسياسة الرومانية إزاء تدمر كان بطبيعة الحال هو المصلحة الرومانية في المقام الأول. وعلى هذا فحين شكت روما في بعض تصرفات البيت الحاكم التدمري نجد هذا الأمير "أذينة" وابنه يغتالان في حمص، على أرجح الظن، بتدبير من روما. ويتكرر موقف روما المنبثق من مصالحها في عهد الملكة الزباء "زينوبيا zenobia" التي خلفت زوجها أذينة كوصية على ابنها الصغير وهب اللات "فابالاتوس VABALATUS". وقد سبق أن رأينا في مناسبة سابقة أن الرومان وسعوا نطاق سلطتها مكافأة لها على رعاية مصالح الإمبراطورية الرومانية؛ لتمتد، إلى جانب تدمر، إلى سورية وشمالي الجزيرة العربية. ولكن حين حاولت هذه الملكة الطموحة أن تنتهز انشغال الإمبراطور الروماني أورليانوس aurelianus في بعض الحروب لتمد نفوذها على بعض المناطق في مصر وفي آسيا الصغرى عاجلها الإمبراطور واجتاحت قواته مدينتها ودمرتها في 272م وأخذت الملكة أسيرة لتسير في موكب النصر الإمبراطوري في روما48.
__________
(1) ARRIANOS: ANABASIS، vii، 20:8-10. عن محاولة تحديد المكان الذي وصل إليه مساعدو الإسكندر راجع M. cary & e. h. warmington: ancient explorers الفصل الرابع.
(2) plinius: HN، VI، 147، polybieos: II، 39: 11 sq. ،XIII،9:4-5.
(3) plinius: hn،VI، 159. راجع كذلك، w.w.tarn:jea "1929" صفحات 9 وما بعدها.
(4) strabo: XVI، 4: 24.
(5) ذاته: XVI، 4: 18.
(6) لطفي عبد الوهاب يحيى: ذاته، صفحات 8-9.
(7) strabo: XVI، 4: 22.
(8) ذاته: الموضع ذاته.
(9) تفاصيل حملة إيليوس جالوس في ذاته: xvi، 4: 23-4. عن حملة جايوس قيصر، plinius: HN، VI، 141. عن إلقائه نظرة سريعة على بلاد العرب، ذاته: VI، 160.
(10) periplos: 26.
(11) plinius: HN، XII، 55.
(12) M.Cary: A History of Rome ط2، 1960، ص591، حاشية 18.
(13) strabo: XVI، 4: 24.
(14) عن قوة شخصية سللايوس راجع kammerer: petra et la nabatene ص191. عن رأي يستبعد الخدعة راجع J.G.C. Anderson: CAH، X ص152 وحاشية1.
(15) strabo: XVI، 4:21.
(16)kammerer: ذاته، ص242.
(17) ذاته: ص 245 وما بعدها.
(18) cary: ذاته، ص645.
(19) راجع ترجمة لنصوص بعض هذه القرارات في KAMMERER ذاته، صفحات 313-314.
(20) عن آراء مختلفة في توقيت مراحل التبعية راجع KAMMERER ذاته، ص317؛ كذلك hitti: ذاته، ص75؛ Cary: ذاته، ص724.
(21) hitti: ذاته، الصفحة ذاتها.
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
اتحاد كليات الطب الملكية البريطانية يشيد بالمستوى العلمي لطلبة جامعة العميد وبيئتها التعليمية
|
|
|