أحاديث وروايات المعصومين الاربعة عشر/الجنة والنار/الجنة ونعيمها/الإمام علي (عليه السلام)
من كتاب صفات الشيعة للصدوق رحمه الله
بإسناده، عن محمد بن صالح، عن أبي العباس الدينوري، عن محمد بن الحنفية قال: لما
قدم أمير المؤمنين البصرة بعد قتال أهل الجمل دعاه الاحنف بن قيس واتخذ له طعاما
فبعث إليه صلوات الله عليه وإلى أصحابه فأقبل، ثم قال: يا أحنف ادع لي أصحابي،
فدخل عليه قوم متخشعون كأنهم شنان بوالي، فقال الاحنف بن قيس: يا أمير المؤمنين
ما هذا الذي نزل بهم ؟ أمن قلة الطعام أو من هول الحرب ؟ فقال صلوات الله عليه
: لا يا أحنف إن الله سبحانه أحب أقواما تنسكوا له في دار الدنيا تنسك من هجم على
ما علم من قربهم من يوم القيامة من قبل أن يشاهدوها، فحملوا أنفسهم على مجهودها،
وكانوا إذا ذكروا صباح يوم العرض على الله سبحانه توهموا خروج عنق يخرج من النار
يحشر الخلائق إلى ربهم تبارك وتعالى، وكتاب يبدو فيه على رؤوس الاشهاد فضائح ذنوبهم،
فكادت أنفسهم تسيل سيلا، أو تطير قلوبهم بأجنحة الخوف طيرانا، وتفارقهم عقولهم
إذا غلت بهم من أجل المجرد إلى الله سبحانه غليانا، فكانوا يحنون حنين الواله
في دجى الظلم، وكانوا يفجعون من خوف ما أوقفوا عليه أنفسهم، فمضوا ذبل الاجسام
حزينة قلوبهم، كالحة وجوههم ذابلة شفاههم خامصة بطونهم، متخشعون كأنهم شنان بوالي،
قد أخلصوا لله أعمالهم سرا وعلانية، فلم تأمن من فزعه قلوبهم،
بل كانوا كمن جر سواقباب خراجهم، فلو رأيتهم في ليلتهم وقد نامت العيون، وهدأت
الاصوات، وسكنت الحركات، وقد نبههم هول يوم القيامة
والوعيد كما قال سبحانه: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا
بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ } [الأعراف: 97] فاستيقظوا لها فزعين، وقاموا إلى صلاتهم معولين
باكين تارة، واخرى مسبحين، يبكون في محاريبهم ويرنون، يصطفون ليلة مظلمة بهماء
يبكون، فلو رأيتهم يا أحنف في ليلتهم قياما على أطرافهم، منحنية ظهورهم، يتلون
أجزاء القرآن لصلاتهم، قد اشتدت أعوالهم ونحيبهم وزفيرهم، إذا زفروا خلت النار
قد أخذت منهم إلى حلاقيمهم، وإذا أعولوا حسبت السلاسل قد صفدت في أعناقهم، فلو
رأيتهم في نهارهم إذا لرأيت قوما يمشون على الارض هونا ويقولون للناس حسنا، وإذا
خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما، وإذا مروا باللغو مروا كراما قد قيدوا أقدامهم من التهمات،
وأبكموا ألسنتهم أن يتكلموا في أعراض الناس، وسجموا أسماعهم أن يلجها خوض
خائض، وكحلوا أبصارهم بغض البصر من المعاصي، وانتحوا دار السلام التي من دخلها كان
آمنا من الريب والاحزان، فلعلك يا أحنف شغلك نظرك إلى الدنيا عن الدار التي خلقها
الله سبحانه من لؤلؤة بيضاء، فشقق فيها أنهارها، وكبسها بالعواتق من حورها، ثم سكنها
أولياؤه وأهل طاعته، فلو رأيتهم يا أحنف وقد قدموا على زيادات ربهم سبحانه صوتت
رواحلهم بأصوات لم يسمع السامعون بأحسن منها، وأظلتهم غمامة فأمطرت عليهم المسك
والزعفران، وصهلت خيولها بين أغراس تلك الجنان، وتخللت بهم نوقهم بين كتب الزعفران،
ويتطأمن تحت أقدامهم اللؤلؤ والمرجان، واستقبلتهم قهارمتها بمنابر الريحان وهاجت لهم
ريح من قبل العرش فنثرت عليهم الياسمين والاقحوان، ذهبوا إلى
بابها فيفتح لهم الباب رضوان، ثم يسجدون لله في فناء الجنان، فقال لهم الجبار: ارفعوا
رؤوسكم فإني قد رفعت عنكم مؤونة العبادة وأسكنتكم جنة الرضوان، فإن فاتك يا أحنف
ما ذكرت في صدر كلامي لتتركن في سرابيل القطران، ولتطوفن بينها وبين حميم آن، ولتسقين
شرابا حار الغليان، فكم يومئذ في النار من صلب محطوم، ووجه
مهشوم ومشوه مضروب على الخرطوم، قد أكلت الجامعة كفه، والتحم الطوق بعنقه، فلو رأيتهم
يا أحنف ينحدرون في أوديتها، ويصعدون جبالها، وقد البسوا المقطعات من القطران،
واقرنوا مع أفجارها وشياطينها، فإذا استغاثوا من حريق شدت عليهم عقاربها وحياتها،
ولو رأيت مناديا ينادي وهو يقول: يا أهل الجنة ونعيمها ويا أهل حليها وحللها
خلدوا فلا موت، فعندها ينقطع رجاؤهم، وتغلق الابواب، وتنقطع بهم الاسباب، فكم
يومئذ من شيخ ينادي، واشيبتاه، وكم من شاب ينادي: واشباباه وكم من امرأة تنادي: وافضيحتاه،
هتكت عنهم الستور، فكم يومئذ من مغموس بين أطباقها محبوس، يا لك غمسة ألبسك
بعد لباس الكتان والماء المبرد على الجدران وأكل الطعام ألوانا بعد ألوان لباسا
لم يدع لك شعرا ناعما إلا بيضة، ولا عينا كنت تبصر بها إلى حبيب إلا فقأها، هذا
ما أعد الله للمجرمين، وذلك ما أعد الله للمتقين.
المصدر : بحار الأنوار
المؤلف : العلامة الشيخ محمد باقر المجلسي
الجزء والصفحة : جزء 7 / صفحة [ 219 ]
تاريخ النشر : 2023-12-24