عن أبي المفضل
محمد بن عبد الله الشيباني باسناده الصحيح عن رجاله ثقة عن ثقة أن النبي صلى الله
عليه وآله خرج في مرضه الذي توفي فيه إلى الصلاة متوكيا على الفضل بن العباس ،
وغلام له يقال له ثوبان ، وهى الصلاة التي أراد التخلف عنها لثقله، ثم حمل على
نفسه صلى الله عليه وآله وخرج ، فلما صلى عاد إلى منزله ، فقال لغلامه اجلس على
الباب ولا تحجب أحدا من الانصار ، وتجلاه الغشي ، وجاءت الأنصار فأحدقوا بالباب ،
وقالوا : ائذن لنا على رسول الله فقال : هو مغشي عليه ، وعنده نساؤه ، فجعلوا
يبكون.
فسمع رسول الله
صلى الله عليه وآله البكاء فقال : من هؤلاء؟ قالوا الانصار ، فقال صلى الله عليه
وآله من هيهنا من أهل بيتي؟ قالوا علي والعباس ، فدعاهما وخرج متوكئا عليهما ،
فاستند إلى جذع من أساطين مسجده وكان الجذع جريد نخلة ، فاجتمع الناس وخطب وقال في
كلامه : إنه لم يمت نبي قط إلا خلف تركة وقد خلفت فيكم الثقلين كتاب الله وأهل
بيتي فمن ضيعهم ضيعه الله أولا وإن الانصار كرشي التي آوي إليها ، وإني أوصيكم
بتقوى الله والاحسان إليهم ، فاقبلوا من محسنهم ، و تجاوزوا عن مسيئهم.
ثم دعا أسامة بن
زيد فقال سر على بركة الله والنصر والعافية حيث أمرتك بمن أمرتك عليه ، وكان عليه السلام
قد أمره على جماعة من المهاجرين والانصار فيهم أبو بكر وعمر وجماعة من المهاجرين
الاولين ، وأمره أن يغيروا على مؤتة واد في فلسطين فقال له اسامة : بأبي أنت وأمي
يا رسول الله أتأذن لي في المقام أياما حتى يشفيك الله ، فاني متى خرجت وأنت على
هذه الحالة خرجت وفى قلبي منك قرحة ، فقال : أنفذ يا أسامة ، فان القعود عن الجهاد
لا يجب في حال من الاحوال ، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وآله أن الناس طعنوا
في عمله ، فقال رسول الله (ص) بلغني أنكم طعنتم في عمل اسامة وفي عمل أبيه من قبل
، وأيم الله إنه لخليق بالإمارة وإن
أباه كان خليقا بها ، وإنه من أحب الناس إلي ، فأوصيكم به خيرا فلئن قلتم في
إمارته فقد قال قائلكم في إمارة أبيه.
ثم دخل رسول
الله صلى الله عليه وآله إلى بيته وخرج اسامة من يومه حتى عسكر على رأس فرسخ من
المدينة ونادى منادي رسول الله صلى الله عليه وآله أن لا يتخلف عن اسامة أحد
ممن أمرته عليه فلحق الناس به ، وكان أول من سارع إليه أبوبكر وعمر وأبو عبيدة بن
الجراح ، فنزلوا في زقاق واحد مع جملة أهل العسكر قال : وثقل رسول الله صلى الله عليه وآله فجعل
الناس ممن لم يكن في بعث اسامة يدخلون عليه أرسالا ، وسعد بن عبادة شاك فكان لا
يدخل أحد من الانصار على النبي صلى الله عليه وآله إلا انصرف إلى سعد يعوده.
قال : وقبض رسول
الله صلى الله عليه وآله وقت الضحى من يوم الاثنين ، بعد خروج اسامة إلى
معسكرة بيومين ، فرجع أهل العسكر والمدينة قد رجفت بأهلها ، فأقبل أبو بكر على
ناقة له حتى وقف على باب المسجد فقال : أيها الناس ما لكم تموجون إن كان محمد قد مات
فرب محمد (ص) لم يمت «وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفان مات أو قتل
انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا» ثم اجتمعت الانصار
إلى سعد بن عبادة وجاؤا به إلى سقيفة بنى ساعدة فلما سمع بذلك عمر أخبر به أبا بكر
ومضيا مسرعين إلى السقيفة ومعهما أبو عبيدة ابن الجراح ، وفي السقيفة خلق كثير من
الانصار وسعد بن عبادة بينهم مريض ، فتنازعوا الامر بينهم.
فآل الامر إلى
أن قال أبو بكر في آخر كلامه للأنصار : إنما أدعوكم إلى أبي عبيدة بن الجراح أو
إلى عمر ، وكلاهما قد رضيت لهذا الامر ، وكلاهما أراه له أهلا ، فقال عمر وأبو عبيدة
: ما ينبغي لنا أن نتقدمك يا أبا بكر أنت أقدمنا إسلاما وأنت صاحب الغار وثاني
اثنين ، فأنت أحق بهذا الامر وأولانا به ، فقالت الأنصار نحذر أن يغلب على هذا
الامر من ليس منا ولا منكم ، فنجعل منا أميرا ومنكم أميرا ، ونرضى به على أنه إن
هلك اخترنا آخر من الانصار.
فقال أبو بكر
بعد أن مدح المهاجرين : وأنتم معاشر الانصار ممن لا ينكر فضلهم ، ولا نعمتهم
العظيمة في الاسلام ، رضيكم الله أنصارا لدينه ولرسوله ، وجعل إليكم مهاجرته ،
وفيكم محل أزواجه ، فليس أحد من الناس بعد المهاجرين الاولين بمنزلتكم، فهم
الامراء وأنتم الوزراء.
فقام الحباب بن
المنذر الانصاري فقال : يا معشر الانصار أملكوا على أيديكم وإنما الناس في فيئكم
وضلالكم ، ولن يجتريء مجتريء على خلافكم ، ولن يصدر الناس إلا عن رأيكم ، وأثنى
على الانصار ، ثم قال : فان أبى هؤلاء تأميركم عليهم ، فلسنا نرضى تأميرهم علينا ،
ولا نقنع بدون أن يكون منا أمير ومنهم أمير.
فقام عمر بن
الخطاب فقال : هيهات لا يجتمع سيفان في غمد واحد ، إنه لا ترضى العرب أن تؤمركم
ونبيها من غيركم ، ولكن العرب لا تمتنع أن تولي أمرها من كانت النبوة فيهم ، ولنا
بذلك على من خالفنا الحجة الظاهرة ، والسلطان البين ، فما ينازعنا في سلطان محمد
صلى الله عليه وآله ونحن أولياؤه وعشيرته إلا مدل بباطل أو متجانف لاثم ، أو
متورط في الهلاكة محب للفتنة.
فقام الحباب بن
المنذر ثانية فقال : يا معاشر الانصار أمسكوا على أيديكم ، ولا تسمعوا مقالة هذا
الجاهل وأصحابه ، فيذهبوا بنصيبكم من هذا الامر ، وإن أبو أن يكون منا أمير ومنهم
أمير، فأجلوهم عن بلادكم ، وتولوا هذا الامر عليهم ، فأنتم والله أحق به منهم ،
فقد دان بأسيافكم قبل هذا الوقت من لم يكن يدين بغيرها ، وأنا جذيلها المحك
وعذيقها المرجب ، والله لئن رد أحد قولي لأحطمن أنفه بالسيف.
قال عمر بن
الخطاب : فلما كان الحباب هو الذي يجيبني لم يكن لي معه كلام ، فانه جرت بيني
وبينه منازعة في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله فنهاني رسول الله صلى الله
عليه وآله عن مهاترته فحلفت أن لا أكلمه أبدا ، ثم قال عمر لأبي عبيدة : يا أبا عبيدة تكلم فقام أبو عبيدة بن الجراح
وتكلم بكلام كثير ذكر فيه فضايل الأنصار فكان بشير بن سعد سيدا من سادات الانصار ،
لما رأى اجتماع الانصار على سعد ابن عبادة لتأميره ، حسده وسعى في إفساد الامر
عليه ، وتكلم في ذلك ورضى بتأمير قريش ، وحث الناس كلهم لا سيما الانصار على الرضا
بما يفعله المهاجرون.
فقال أبو بكر :
هذا عمر وأبو عبيدة شيخا قريش فبايعوا أيهما شئتم فقال عمر وأبو عبيدة ما نتولى
هذا الامر عليك ، امدد يدك نبايعك ، فقال بشير بن سعد : وأنا ثالثكما ، وكان سيد
الاوس وسعد بن عبادة سيد الخزرج ، فلما رأت الاوس صنيع بشير وما دعت إليه الخزرج
من تأمير سعد أكبوا على أبي بكر بالبيعة ، وتكاثروا على ذلك وتزاحموا ، فجعلوا
يطأون سعدا من شدة الزحمة ، وهو بينهم على فراشه مريض فقال: قتلتموني ، قال عمر :
اقتلوا سعدا قتله الله ، فوثب قيس بن سعد فأخذ بلحية عمرو قال : والله يا ابن صهاك
الجبان الفرار في الحروب ، الليث في الملا والامن ، لو حركت منه شعرة ما رجعت وفى
وجهك واضحة فقال أبو بكر مهلا يا عمر فان الرفق أبلغ وأفضل، فقال سعد يا ابن صهاك
وكانت جدة عمر حبشية أما والله لو أن لي قوة على النهوض لسمعتما مني في سككها
زئيرا يزعجك وأصحابك منها ، ولألحقتكما بقوم كنتم فيهم أذنابا أذلاء ، تابعين غير
متبوعين لقد اجترأتما! يا آل الخزرج احملوني من مكان الفتنة، فحملوه فأدخلوه منزله.
فلما كان بعد
ذلك بعث إليه أبو بكر أن قد بايع الناس فبايع ، فقال لا والله حتى أرميكم بكل سهم
في كنانتي ، وأخضب منكم سنان رمحي ، وأضربكم بسيفي ، ما أقلت يدي ، فأقاتلكم بمن تبعني من أهل بيتي وعشيرتي
، ثم وايم الله لو اجتمع الجن والانس علي ما بايعتكما أيها الغاصبان ، حتى أعرض
على ربي ، وأعلم ما حسابي ، فلما جاءهم كلامه قال عمر : لابد من بيعته فقال بشير
بن سعد إنه قد أبى ولج ، وليس بمبايع أو يقتل وليس بمقتول حتى تقتل معه الخزرج
والاوس فاتركوه وليس تركه بضائر ، فقبلوا قوله وتركوا سعدا ، وكان سعد لا يصلي
بصلاتهم ولا يقضي بقضائهم ولو وجد أعوانا لصال بهم ولقاتلهم ، فلم يزل كذلك في ولاية
أبي بكر حتى هلك أبو بكر ، ثم ولي عمر فكان كذلك فخشى سعد غائلة عمر فخرج إلى
الشام فمات بحوران في ولاية عمر ، ولم يبايع أحدا وكان سبب موته أن رمي بسهم في
الليل فقتله ، وزعم أن الجن رموه ، وقيل أيضا إن محمد بن مسلمة الانصاري تولى قتله
بجعل جعلت له عليه وروي أنه تولى ذلك المغيرة بن شعبة.
قال : وبايع
جماعة من الانصار ومن حضر من غيرهم وعلي ابن أبي طالب عليه السلام مشغول بجهاز
رسول الله (ص) ، فلما فرغ من ذلك وصلى على النبي صلى الله عليه وآله والناس
يصلون عليه : من بايع أبا بكر ، ومن لم يبايع جلس في المسجد ، فاجتمع إليه بنو
هاشم ومعه الزبير بن العوام واجتمعت بنو امية إلى عثمان ابن عفان وبنو زهرة إلى
عبد الرحمن بن عوف، فكانوا في المسجد مجتمعين إذ أقبل أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن
الجراح ، فقالوا ما لنا نراكم حلقا شتى ، قوموا فبايعوا أبا بكر فقد بايعه الانصار
والناس ، فقام عثمان وعبد الرحمن بن عوف ومن معهما فبايعوا وانصرف علي عليه السلام
وبنو هاشم إلى منزل علي عليه السلام ومعهم الزبير.
قال : فذهب
إليهم عمر في جماعة ممن بايع فيهم أسيد بن حضير وسلمة بن سلامة فألقوهم مجتمعين ،
فقالوا لهم : بايعوا أبا بكر فقد بايعه الناس ، فوثب الزبير إلى سيفه فقال عمر :
عليكم بالكلب فأكفونا شره ، فبادر سلمة بن سلامة فانتزع السيف من يده فأخذه عمر
فضرب به الارض فكسره وأحدقوا بمن كان هناك من بني هاشم ومضوا بجماعتهم إلى أبي بكر
فلما حضروا قالوا بايعوا أبا بكر فقد بايعه الناس ، وأيم الله لئن أبيتم ذلك
لنحاكمنكم بالسيف.
فلما رأى ذلك
بنو هاشم أقبل رجل رجل فجعل يبايع حتى لم يبق ممن حضر الا علي بن أبي طالب عليه السلام
فقال له : بايع أبا بكر فقال علي : أنا أحق بهذا الامر منه وأنتم أولى بالبيعة لي
أخذتم هذا الامر من الانصار واحتججتم عليهم بالقرابة من رسول الله ، وتأخذونه منا
أهل البيت غصبا ألستم زعمتم للأنصار أنكم أولى بهذا الامر منه لمكانكم من رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فأعطوكم المقادة ، وسلموا لكم الامارة ، وأنا
احتج عليكم بمثل ما احتججتم على الانصار ، أنا أولى برسول الله حيا وميتا وأنا
وصيه ووزيره ومستودع سره وعلمه ، وأنا الصديق الاكبر أول من آمن به وصدقه ،
وأحسنكم بلاء في جهاد المشركين ، وأعرفكم بالكتاب والسنة وأفقهكم في الدين وأعلمكم
بعواقب الامور ، وأذربكم لسانا ، وأثبتكم جنانا فعلام تنازعونا هذا الامر، أنصفونا
إن كنتم تخافون الله من أنفسكم وأعرفوا لنا من الامر مثل ما عرفته الانصار لكم ،
وإلا فبوؤا بالظلم وأنتم تعلمون.
فقال عمر : أما
لك بأهل بيتك أسوة؟ فقال علي عليه السلام سلوهم عن ذلك فابتدر القوم الذين بايعوا
من بني هاشم فقالوا : ما بيعتنا بحجة على علي عليه السلام ، ومعاذ الله أن نقول
أنا نوازيه في الهجرة وحسن الجهاد والمحل من رسول الله صلى الله عليه وآله ،
فقال عمر : إنك لست متروكا حتى تبايع طوعا أو كرها ، فقال علي عليه السلام : احلب
حلبا لك شطره ، اشدد له اليوم ليرد عليك غدا ، إذا والله لا أقبل قولك ولا أحفل
بمقامك ولا ابايع فقال أبو بكر : مهلا يا أبا الحسن ما نشدد عليك ولا نكرهك ، فقام
أبو عبيدة إلى علي فقال : يا ابن عم لسنا ندفع قرابتك ولا سابقتك ولا علمك ولا
نصرتك ولكنك حدث السن ، وكان لعلي عليه السلام يومئذ ثلاث وثلاثون سنة ، وأبو بكر
شيخ من مشايخ قومك ، وهو أحمل لثقل هذا الامر ، وقد مضى الامر بما فيه ، فسلم له
فان عمرك الله لسلموا هذا الامر إليك ، ولا يختلف عليك اثنان بعد هذا ألا وأنت به
خليق ، وله حقيق ، ولا تبعث الفتنة قبل أوان الفتنة قد عرفت ما في قلوب العرب
وغيرهم عليك.
فقال أمير المؤمنين
عليه السلام : يا معاشر المهاجرين والانصار الله الله لا تنسوا عهد نبيكم إليكم
في أمري ، ولا تخرجوا سلطان محمد من داره وقعر بيته إلى دوركم وقعر بيوتكم ،
وتدفعوا أهله عن حقه ومقامه في الناس ، يا معاشر الجمع إن الله قضى وحكم ونبيه
أعلم وأنتم تعلمون أنا أهل البيت أحق بهذا الامر منكم ، أما كان منا القاريء لكتاب الله الفقيه في دين
الله ، المضطلع بأمر الرعية ، والله إنه لفينا لا فيكم ، فلا تتبعوا الهوى
فتزدادوا من الحق بعدا ، وتفسدوا قديمكم بشر من حديثكم.
فقال بشير بن
سعد الانصاري الذي وطأ الامر لابي بكر ، وقالت جماعة الانصار : يا أبا الحسن لو
كان هذا الكلام سمعته الانصار منك قبل الانضمام لابي بكر ، ما اختلف فيك اثنان
فقال علي عليه السلام : يا هؤلاء أكنت أدع رسول الله (ص) مسجى لا أواريه وأخرج
أنازع في سلطانه؟ والله ما خفت أحدا يسمو له وينازعنا أهل البيت فيه ، ويستحل ما
استحللتموه ولا علمت أن رسول الله صلى الله عليه وآله ترك يوم غدير خم لاحد حجة
ولا لقائل مقالا ، فانشد الله رجلا سمع النبي (ص) يوم غدير خم يقول : من كنت مولاه
فهذا على مولاه اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من
خذله ، أن يشهد بما سمع ، قال زيد بن أرقم : فشهد اثنا عشر رجلا بدريا بذلك وكنت
ممن سمع القول من رسول الله صلى الله عليه وآله فكتمت الشهادة يومئذ فذهب بصري
قال : وكثر الكلام في هذا المعنى ، وارتفع الصوت ، وخشي عمر أن يصغى إلى قول علي
عليه السلام ففسخ المجلس ، وقال : إن الله تعالى يقلب القلوب والابصار ، ولا يزال
يا أبا الحسن ترغب عن قول الجماعة ، فانصرفوا يومهم ذلك.
المصدر : بحار الأنوار
المؤلف : العلامة الشيخ محمد باقر المجلسي
الجزء والصفحة : جزء 28 / صفحة [ 195 ]
تاريخ النشر : 2025-07-21