د.صباح خيري العرداوي
لعله من النافع أن نبدأ هذا الموضوع بإجمال القول في المصادر الأساسية في الثقافة العربية الإسلامية التي اوحت العناية بهذا الاتجاه التفكيري- النقد الفكري-، ومن ثم نحاول الكشف عما انطوت عليه تلك المصادر من بواعث وحوافز قادت المعنيين بهذا الاسلوب من التفكير إلى تقعيد الأسس العقلانية في التفكير الثقافي العربي بشكل عام والثقافة النقديّة بشكل خاص، وتتمثل: بالآيات القرآنية الحاثّة على تدبر معالم الكون والاسترشاد بنور العقل، ونشأت الجدل حول قضية فلسفة الحكم في الإسلام المتمثلة بعد حكم الامام علي(عليه السلام) واحتدام التفكير حول قدرة الإنسان وأفعاله من خلال قدرته المرهونة بإرادته أو المقهور عليها، ثم دور الفرق الإسلامية في خلق الصراع الديني والعقلي بإدارة الأفكار و سياسة الحكم.
اولا: تعد مرحلة التدوين التي بدأ في عهد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) هي من المراحل الاولى و المعروفة بأدلة وضع الأحاديث، وقد ألف في هذا الموضوع دراستين مستفيضتين لكل الظروف التاريخية منها دراسة السيد علي الشهرستاني بكتابه (منع تدوين الحديث) وايضاً عند السيد الجلالي، كانت دراسة تتناول اسباب المنع ومراحله بصورة مفصلة اكثر من دراسة الشهرستاني، لان السيد الجلالي وقف على مرحلة المنع الاولي بمنع الصحابة ومناقشه بشكل تفصلي، ثم المرحلة الثانية وهي الاكتفاء بالقران وعدم التمسك بالسنة من مقولة احد دعاة هذه المرحلة بقوله:(حسبنا كتاب الله)، ثم مرحلة عدم فهم الاحاديث لاختلافها وكثرت رواتها ويقصدون روايات المعنى، ثم مرحلة عدم معرفة الروات الراوين للحديث وهو الطعن بهم.
و تدور عملية نقد الروايات بين الخبر اليقيني والخبر الظني، وهذا معلوم في الفكر الامامي الشيعي الاجتهادي، ولكن عملية نقد الأسانيد تبحث في خصوص الخبر الظني، وعدم النظر الى مضمونه، لانه ينظر فيه إلى ما يسمى بالمبنى الوثاقة، ويعتمد هذا المبنى اجتهاد علماء الرجال في توثيق والتضعيف ضمن ارائهم واجتهاداتهم الخاصة للسند، وهذا ما ادى الى تضارب في اقوالهم في توثيق الرواي او تضعيفه، بل قد يختلف او يتردد فيه الممارس نفسه لعملية النقد للرجال في مكان وموضع واحد، فلم تكن هناك مقاييس موضوعية لهذا الموضوع بصورة اساسية حتى يتوقف عليها من خلال النصوص او الآراء الاجتهادية للعلماء الأعلام، فوجد من المناسب ان يقف البحث العلمي اليوم على هذه الاراء ضمن شخصية بارزة في مجال نقد الاسانيد وهي تبدا من السيد احمد بن طاووس في تعليقاته على روايات الكشي في كتاب الاختيار المنسوب الى الشيخ الطوسي وحتى السيد الخوئي وحتى المعاصرين.
ثانياً : ان تطورات الدرس الرجالي والدراياتي شهد تطورا ملحوظا في القرون الاخيره، ولكن بقي بطيء الخطوة ومغيبا الى حدا كبير، ومن خلال اطلاعنا على الكتب الرجالية وجدنا ضمن استقرائنا ان اكثر المتفردين في دراسة السند بعد صاحب المدارك وهو السيد شمس الدين محمد بن السيد علي بن ابي الحسن بن الحسن العاملي الموسوي (1009هـ) صاحب كتاب المدارك في شرح شرائع الإسلام وهو من مدرسة العلامة احمد بن محمد الاردبيلي: وهو من كبار علماء الشيعة (ت 993هـ) الذي كان له دور في مخالفة المشهور انذاك المتمثل بالنزعة التسامحية في الأسانيد فله الاهتمام بامر الأسانيد لما له أراء في الرجال أعطت التطور الرجالي حضورا فاعلاً وممارساً للاجتهاد باعتقاده باخبار الاحاد وعدم ايمانه بالشهرة الفتوائية وكونه يؤمن بالتقسيم الرباعي، فقد ألف كتاب (مجمع الفائدة والبرهان في شرح ارشاد الاذهان ). فقد خرّج الاردبيلي جيلا من العلماء لهم الدور في التعامل مع أسانيد الإخبار وابرز هذه الشخصيات: ( زكي الدين عناية الله القهبائي(ق 11هـ) له دراسات حول كتب ابن داود والتفريشي والاسترابادي. المولى عبد الله التستري (1021هـ) حاشية حول رجال بن داود. الشيخ حسن صاحب المعالم (1011هـ) منتقى الجمان ــ تحرير الطاووسي .السيد محمد بن علي ألعاملي (1009هـ) صاحب المدارك. الميرزا محمد الاسترآبادي (1028هـ) صاحب كتاب منهج المقال في علم الرجال، تلخيص الأقوال في معرفة الرجال. مير فيض الله التفرشي (1025هـ) رجال الشيعة .
تعد هذه الحقبة من التشدد في السند، وظهور الوحيد البهبهاني (1205هـ) بعد الحركة الإخبارية المتمثلة بالاسترآبادي مؤثرة بالتحول النقدي للاسانيد التي شهد ضمورا واضحا في الاتكاء على المعايير السندية، فلا نجد اجتهادا على السند ومعايير علم الرجال، على الرغم من وجود بعض العلماء في الأواسط العلمية كالكلباسي والبروجردي إلا إن الاتجاه العام لم يكن يهتم كثيرا بعلم الرجال والأسانيد، وكما قال الشيخ الايرواني وهو يتحدث عن تجربة العلمية (فتحت عيني في مدرسة النجف الأشرف، في كتابه الدروس تمهيدية في علم الرجال).
فلم نجد درسا رجاليا جادا، ومتقناً ذات أسس علمية واسعة المباني والتغيير خلاف كل ما ألف من المشهور إلا عند السيد الخوئي (قد). فأجاد بدرسه في بحث الرجالي عن عقل شيعي المتجدد . فقد اشار الباحث حيدر حب الله إلى هذه المفارقة في كثير من مدونات العلماء المعاصرين بسبب البحث المطول واتساع نظام التعليمي في الحوزة الشيعية يمثل الموضوعات السندية والرجالية: ولهذا تجد المهتمين بموضوع السند والرجال اليوم يرون في البروجردي الخوئي مرجعيتهم، اذ يحضر اسم هذين الرجلين كثيرا في مصنفاتهم ؛ ومن هنا نجد ان شخصية السيد الخوئي قد برزت بمشروعه الرجالي والاهتمام السندي (معجم رجال الحديث) متمثل بعدة امور:
1- أهتم في علم الرجال بتاليف موسعته الرجالية القيمة (معجم رجال الحديث)التي جمع فيها اسماء كل الرواة الذكور والاناث ممن وردة اسمهم في الكتب الاربعة او في مصادر الرجال، وكان تنظيم الموسوعة على نظام الالفبائي.
2- تطبيقات واسعة النطاق لموضعات السند وهذا مانجده في كثير من جهوده الفقهية والتفسيرية، كما في كتابه (مصباح الفقاهة).
3- عمل السيد باسلوب الاجتهادي مغاير لما هو معهود في النظريات السابقة نتج عن تشدد في الاسانيد لذا نجد ان السيد ضعف كثير من الروايات بسبب الرواة الذين له الالاف من الروايات مثل : محمد بن سنان، وسهل بن زياد الادمي، لان السيد لم يتعامل مع المشهور بشكل كما تعمل معه الاخرين من العلماء بل كان يعمل ضمن مايراه من الحاسة الذوقية للاجتهاد الفقهي المطلوب في استعمالات الرواية.
فكان التشدد واضحاً عند السيد بضرب النظريات التي كانت عامل مساعد في لكثير من الروايات عند العلماء، وهذا واضح جدا من السيد ومن اتبعه من تلامذته كما في تجربة محمد اصف محسني القندهاري المعاصر الذي اصدر كتاب في 2000م الموسوم (مشرعة بحار الانوار) اذ يهدف هذا الكتاب لمشروع يكسر به مرجعية بحار الأنوار في الثقافة الشيعية المعاصرة، وسبب ذلك هو: التحفظ الشديد من نسبة الروايات غير الصحيحة الى المعصوميين(عليهم السلام).
ثالثاً: تبين من سرد هذا ا لموضوع بشكل مختصر لمفهوم النقد كان يتجه بمحورين :
المحور الأول : منع التدوين وهو على نوعين :
1- نوع سلبي : وهو رفض كل عملية التدوين. خوفاً من التصريح المعلن في حق إتباع القران وأهل البيت (ع) ولغرض سياسي او غرض عقائدي (بشكل عام) .
2- ونوع ايجابي: وهو رفض كل الروايات التي تعارض القران والسنة القطعية، بقاعدة عرض الروايات على القران الكريم وهذا .
المحور الثاني: التشدد في الأسانيد، وهو على نوعين :
1- تشدد التقليدي في نقد الأسانيد، وقوامه ناظر أمور عقائدية منها: العدالة والإيمان، والإسلام. ومن رواده مدرسة ابن طاووس وتلامذته ومن جاء بعهد من مدرسة العلامة احمد بن محمد الاردبيلي .
2- التشدد بالأسس والمباني وقوامه ناظر الى الأمور العقلية في كيفية استنباط الآليات وقواعد نقدية لنقد الرواية، وهذا مثاله شخصية السيد الخوئي(قد) في منهجه العقلاني الناظر الى التراث ككل ثم الآلية في استخدام هذا التراث بشكل محدث وجديد وهو : من ناحية عدم مدافعته عن السائد في استخدام الاليات السابقة التقليدية، بل توجيه وتحديد الاسس التي بنية عليها هذه القواعد والاليات التقليدية ثم دخول الحس الذوقي في نقده للرواية وكيفية استعمالها في استنباط الحكم الشرعي، وهذا ما نجده مغايراً للاخرين في تحديد منهجه في الموسوعة الفقهية والرجالية .







وائل الوائلي
منذ 22 ساعة
"المهمة".. إصدار قصصي يوثّق القصص الفائزة في مسابقة فتوى الدفاع المقدسة للقصة القصيرة
(نوافذ).. إصدار أدبي يوثق القصص الفائزة في مسابقة الإمام العسكري (عليه السلام)
قسم الشؤون الفكرية يصدر مجموعة قصصية بعنوان (قلوب بلا مأوى)
EN