أقرأ أيضاً
التاريخ: 27-4-2020
5651
التاريخ: 1-5-2020
2390
التاريخ: 1-5-2020
2947
التاريخ: 1-5-2020
2766
|
قال تعالى : {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (61) اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُو عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (63) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66) وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر : 60 - 67]
تفسير مجمع البيان
- ذكر الطبرسي في تفسير هذه الآيات (1)
{ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله} فزعموا أن له شريكا وولدا {وجوههم مسودة أ ليس في جهنم مثوى للمتكبرين} الذين تكبروا عن الإيمان بالله هذا استفهام تقرير أي فيها مثواهم ومقامهم وروى العياشي بإسناده عن خيثمة قال سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول من حدث عنا بحديث فنحن سائلوه عنه يوما فإن صدق علينا فإنما يصدق على الله وعلى رسوله وإن كذب علينا فإنما يكذب على الله وعلى رسوله لأنا إذا حدثنا لا نقول قال فلان وقال فلان إنما نقول قال الله وقال رسوله ثم تلا هذه الآية {ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله} الآية ثم أشار خيثمة إلى أذنيه فقال صمتا إن لم أكن سمعته وعن سودة بن كليب قال سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن هذه الآية فقال كل إمام انتحل إمامة ليست له من الله قلت وإن كان علويا قال (عليه السلام) وإن كان علويا قلت وإن كان فاطميا قال وإن كان فاطميا .
ولما أخبر الله سبحانه عن حال الكفار عقبه بذكر حال الأتقياء الأبرار فقال {وينجي الله الذين اتقوا} معاصيه خوفا من عقابه {بمفازتهم} أي بمنجاتهم من النار وأصل المفازة المنجاة وبذلك سميت المفازة على وجه التفاؤل بالنجاة منها كما سموا اللديغ(2) سليما {لا يمسهم السوء} أي لا يصيبهم المكروه والشدة {ولا هم يحزنون} على ما فاتهم من لذات الدنيا .
ولما ذكر الوعد والوعيد بين سبحانه أنه القادر على كل شيء بقوله {الله خالق كل شيء} أي محدث كل شيء ومبدعه {وهو على كل شيء وكيل} أي حافظ مدبر {له مقاليد السماوات والأرض} واحدها مقليد ومقلاد يريد مفاتيح السماوات والأرض بالرزق والرحمة عن ابن عباس وقتادة وقيل خزائن السماوات والأرض يفتح الرزق على من يشاء ويغلقه عمن يشاء عن الضحاك {والذين كفروا ب آيات الله أولئك هم الخاسرون} لأنهم يخسرون الجنة ونعيمها ويصلون النار وسعيرها .
ثم أعلم سبحانه أنه المعبود لا معبود سواه بقوله {قل} يا محمد لهؤلاء الكفار {أ فغير الله تأمروني أعبد} أي أ تأمرونني أن أعبد غير الله {أيها الجاهلون} فيما تأمرونني به إذ تأمرون بعبادة من لا يسمع ولا يبصر ولا ينفع ولا يضر ثم قال لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) {ولقد أوحي إليك} يا محمد {وإلى الذين من قبلك} من الأنبياء والرسل {لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين} قال ابن عباس هذا أدب عن الله تعالى لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) وتهديد لغيره لأن الله تعالى قد عصمه من الشرك ومداهنة الكفار(3) . وليس في هذا ما يدل على صحة القول بالإحباط على ما يذهب إليه أهل الوعيد لأن المعنى فيه أن من أشرك في عبادة الله غيره من الأصنام وغيرها وقعت عبادته على وجه لا يستحق عليها الثواب به ولذلك وصفها بأنها محبطة إذ لو كانت العبادة خالصة لوجه الله تعالى لاستحق عليها الثواب .
ثم أمر سبحانه بالتوحيد فقال {بل الله فاعبد} أي وجه عبادتك إليه تعالى وحده دون الأصنام {وكن من الشاكرين} الذين يشكرون الله على نعمه ويخلصون العبادة له قال الزجاج الله منصوب بقوله {فاعبد} في قول البصريين والكوفيين والفاء جاءت على معنى المجازاة والمعنى قد تبينت فاعبد الله .
ثم أخبر سبحانه عن أحوالهم فقال {وما قدروا الله حق قدره} أي ما عظموا الله حق عظمته إذ عبدوا غيره وأمروا نبيه بعبادة غيره عن الحسن والسدي قال المبرد وأصله من قولك فلان عظيم القدر يريد بذلك جلالته والقدر اختصاص الشيء بعظم أو صغر أو مساواة وقيل معناه وما وصفوا الله حق وصفه إذ جحدوا البعث فوصفوه بأنه خلق الخلق عبثا وأنه عاجز عن الإعادة والبعث .
{والأرض جميعا قبضته يوم القيامة} والقبضة في اللغة ما قبضت عليه بجميع كفك أخبر سبحانه عن كمال قدرته فذكر أن الأرض كلها مع عظمها في مقدوره كالشيء الذي يقبض عليه القابض بكفه فيكون في قبضته وهذا تفهيم لنا على عادة التخاطب فيما بيننا لأنا نقول هذا في قبضة فلان وفي يد فلان إذا هان عليه التصرف فيه وإن لم يقبض عليه وكذا قوله {والسماوات مطويات بيمينه} أي يطويها بقدرته كما يطوي الواحد منا الشيء المقدور له طيه بيمينه وذكر اليمين للمبالغة في الاقتدار والتحقيق للملك كما قال أو ما ملكت أيمانكم أي ما كانت تحت قدرتكم إذ ليس الملك يختص باليمين دون الشمال وسائر الجسد وقيل معناه أنه محفوظات مصونات بقوته واليمين القوة كما في قول الشاعر :
إذا ما راية رفعت لمجد *** تلقاها عرابة باليمين (3)
ثم نزه سبحانه نفسه عن شركهم فقال {سبحانه وتعالى عما يشركون} أي عما يضيفونه إليه من الشبيه والمثل .
________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج8 ، ص411-416 .
2- وقد ورد في روايات كثيرة عن اهل بيت العصمة ، صلوات الله عليهم أجمعين ، ان القران نزل باياك أعني واسمعي يا جارة , وفي حديث ابن أبي عمير ، عمن حدثه ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : ما عاتب الله نبيه فهو يعني به كان فهذه الآية وامثالها من باب (اياك اعني واسمعي يا جارة) خوطب به النبي (صلى الله عليه واله وسلم) ، لكن المراد به الامة .
3- قائله شماخ ونسبه الجوهري الى الحطيئة وعرابة : اسم رجل من الانصار وقد مر البيت ايضا .
تفسير الكاشف
- ذكر محمد جواد مغنية في تفسير هذه الآيات (1)
{ويَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ} . كل من نسب إلى اللَّه ما ليس له به علم فقد كذب على اللَّه سواء أكان المنسوب إليه تعالى شريكا وصاحبة وولدا ، أم حلالا وحراما ، أم منصبا إلهيا كمن ينتحل النبوة أو الخلافة أو القضاء أو الإفتاء باسم دين اللَّه وشريعته . .
وسئل الإمام أبو جعفر الصادق (عليه السلام) عن معنى الآية ؟ فقال : (كل من انتحل إمامة ليست من اللَّه فقد كذب عليه . قال السائل : وان كان علويا . قال الإمام :
وان كان علويا . قال السائل : وان كان فاطميا . قال الإمام : وان كان فاطميا) .
وجزاء من كذب على اللَّه ورسوله أن يحشر أسود الوجه في زمرة من أعد اللَّه لهم جهنم وساءت مصيرا . وقوله تعالى : {للمتكبرين} بعد قوله : الذين كذبوا على اللَّه يومئ إلى أن كل من كذب على اللَّه فهو متكبر ومكابر أيضا .
{ويُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ ولا هُمْ يَحْزَنُونَ} . بمفازتهم أي بسبب فوزهم . بعد أن هدد سبحانه الكاذبين بنار جهنم بشّر أهل الصدق والتقوى بالنجاة من كل سوء ، وفوق ذلك انهم لا يستشعرون الحزن والندامة على شيء فاتهم في الحياة الدنيا {اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} . كل ما في الوجود من إنسان وحيوان ونبات وجماد يدل عليه تعالى دلالة الصورة الفنية على مصورها ، والبناية العظيمة على عظمة بانيها {وهُو عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} أي قائم عليه لأن كل شيء وجد بقدرة اللَّه ، ويبقى بعناية اللَّه إلى ما شاء اللَّه ، ولو تخلى عنه لصار هباء .
{لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ والأَرْضِ} . المراد بالمقاليد هنا المفاتيح ، وهي كناية عن تدبيره تعالى للكون وعلمه بكل ما يجري فيه من الذرة إلى أعظم الكواكب :
{وعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ} - 59 الأنعام .
{والَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ} . المراد بآيات اللَّه الكون ونظامه العجيب الذي لوحاد عنه قيد شعرة لآل إلى الخراب والدمار ، ومعنى الكفر بآيات اللَّه عدم الاعتراف بدلالة هذا النظام على المنظم ، وهذه الهندسة على المهندس .
وقد خسر المكذبون بهذه الدلالة عقولهم في الدنيا لأنها عميت عن المحسوس ، وأيضا خسروا أنفسهم في الآخرة لأنهم اختاروا لها الكفر والعناد . . وجهنم مثوى ومأوى لكل كفار عنيد .
{قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ} . جاء في بعض الروايات :
ان المشركين قالوا لرسول اللَّه (صلى الله عليه واله وسلم) : نعطيك من المال ما تكون به أغنى رجل في مكة ، ونزوجك من نسائنا ما تريد شريطة أن تكف عن دعوتك ، فنزلت هذه الآية ، وسواء أصحت الرواية أم لم تصح فإنها أوضح تفسير للآية . ومن المفيد أن نقتطف الجمل التالية من مقال للمرحوم مصطفى صادق الرافعي بعنوان (الدرهم والدينار) :
(رأيت فقهاء يعظون ويتكلمون على الناس في الحلال والحرام . . وتسخر منهم الحقيقة بذات الأسلوب الذي تسخر به من لص يعظ لصا آخر ، ويقول له :
لا تسرق) . . وأيضا ينطبق هذا على كثير من الصحفيين والسياسيين وغيرهم من الأحزاب التي تحمل شعارات وطنية وإنسانية . . ثم قال الرافعي : (من يعظم الدرهم والدينار فإنما يعظم النفاق والطمع والكذب . . ان هيبة الإسلام في بذل الحياة لا في الحرص عليها ، وفي تعاون المؤمنين لا في تعاديهم ، أما الغنى فإنه يقاس بما يعمل بالمال لا بما يجمع منه) .
{ولَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ولَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ} . المراد بالإحباط عدم الثواب . والشرك محال على الأنبياء ، ولكن فرض المحال ليس بمحال ، هذا إلى أن التحذير من الفعل لا يدل على أنه محتمل الوقوع ممن حذّر وأنذر ، والمعنى ان اللَّه لا يقبل العبادة من أحد إلا إذا كانت خالصة لوجهه الكريم من كل شائبة ، ومن عبد مع اللَّه إلها آخر فلا يستحق الثواب على عبادته حتى ولوكان كالنبي في عبادته . وتكلَّمنا عن الإحباط مفصلا في ج 1 ص 326 .
{بَلِ اللَّهً فَاعْبُدْ وكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} . هذا أمر في الظاهر ، وإخبار في الواقع عن أن الرسول الأعظم (صلى الله عليه واله وسلم) لا يعبد إلا اللَّه ، ولا يشكر أحدا سواه ، وإنما جاء بصيغة الأمر للتنبيه على أن العبادة والشكر يجب أن يكونا للَّه الواحد الأحد . . هذا ، إلى أن اللَّه سبحانه كثيرا ما يخاطب العموم بشخص نبيه الكريم :
وأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً . . فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ . . وأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ الخ .
{وما قَدَرُوا اللَّهً حَقَّ قَدْرِهِ} لأنهم كفروا به ، وآمنوا بالأصنام وبالدرهم والدينار {والأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ والسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} . هذا كناية عن عظمة اللَّه وقدرته وان السماوات والأرض وما فيهن وبينهن خاضعات لأمره مذعنات {سُبْحانَهُ وتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} . تنزه سبحانه عن الشريك ، وعن مقالة من قال : ان له يدا ويمينا ، وعن كل شبه يتوهمه الواصفون الجاهلون .
__________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج6 ، ص428-431 .
تفسير الميزان
- ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات (1)
قوله تعالى : {ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة أ ليس في جهنم مثوى للمتكبرين} الكذب على الله هو القول بأن له شريكا وأن له ولدا ومنه البدعة في الدين .
وسواد الوجه آية الذلة وهي جزاء تكبرهم ولذا قال : {أ ليس في جهنم مثوى للمتكبرين} .
قوله تعالى : {وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون} الظاهر أن مفازة مصدر ميمي بمعنى الفوز وهو الظفر بالمراد ، والباء في {بمفازتهم} للملابسة أو السببية فالفوز الذي يقضيه الله لهم اليوم سبب تنجيتهم .
وقوله : {لا يمسهم} إلخ بيان لتنجيتهم كأنه قيل : ينجيهم لا يمسهم السوء من خارج ولا هم يحزنون في أنفسهم .
وللآية نظر إلى قوله تعالى في ذيل آيات سورة المؤمنون المنقولة آنفا : {إني جزيتهم اليوم بما صبروا إنهم هم الفائزون} فتدبر ولا تغفل .
وقوله تعالى : {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (63) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66) وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } [الزمر : 63 - 67]
فصل من الآيات به تختم السورة يذكر فيه خلاصة ما تنتجه الحجج المذكورة فيها قبل ذلك ثم يؤمر (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يخاطب المشركين أن ما اقترحوا به عليه أن يعبد آلهتهم ليس إلا جهلا بمقامه تعالى ويذكر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ما أوحي إليه وإلى الذين من قبله : لئن أشرك ليحبطن عمله .
ثم يذكر سبحانه أن المشركين ما عرفوه واجب معرفته وإلا لم يرتابوا في ربوبيته لهم ولا عبدوا غيره ثم يذكر تعالى نظام الرجوع إليه وهو تدبير جانب المعاد من الخلقة ببيان جامع كاف لا مزيد عليه ويختم السورة بالحمد .
قوله تعالى : {الله خالق كل شيء} هذا هو الذي ذكر اعتراف المشركين به من قبل في قوله : {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان : 25] وبنى عليه استناد الأشياء في تدبيرها إليه .
والجملة في المقام تمهيد لما يذكر بعدها من كون التدبير مستندا إليه لما تقدم مرارا أن الخلق لا ينفك عن التدبير فانتقل في المقام من استناد الخلق إليه إلى اختصاص الملك به وهو قوله : {له مقاليد السموات والأرض} ومن اختصاص الملك به إلى كونه هو الوكيل على كل شيء القائم مقامه في تدبير أمره .
وقد تقدم في ذيل قوله : {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } [الأنعام : 102] في الجزء السابع من الكتاب كلام في معنى عموم الخلقة لكل شيء .
قوله تعالى : {وهو على كل شيء وكيل} وذلك لأن انتهاء خلق كل شيء وجوده إليه يقتضي أن يكون تعالى هو المالك لكل شيء فلا يملك شيء من الأشياء لا نفسه ولا شيئا مما يترشح من نفسه إلا بتمليك الله تعالى ، فهو لفقره مطلقا لا يملك تدبيرا والله المالك لتدبيره .
وأما تمليكه تعالى له نفسه وعمله فهو أيضا نوع من تدبيره تعالى مؤكد لملكه غير ناف ولا مناف من شئون وكالته تعالى عليهم لا تفويض للأمر وإبطال للوكالة فافهم ذلك .
وبالجملة إذ كان كل شيء من الأشياء لا يملك لنفسه شيئا كان سبحانه هو الوكيل عليه القائم مقامه المدبر لأمره والأسباب والمسببات في ذلك سواء فالله سبحانه هو ربها وحده .
فقد تبين أن الجملة مسوقة للإشارة إلى توحده في الربوبية وهو المقصود بيانه فقول بعضهم إن ذكر ذلك بعد قوله : {الله خالق كل شيء} للدلالة على أنه هو الغني المطلق وأن المنافع والمضار راجعة إلى العباد ، أو أن المراد أنه تعالى حفيظ على كل شيء فيكون إشارة إلى أن الأشياء محتاجة إليه في بقائها كما أنها محتاجة إليه في حدوثها ، أجنبي عن معنى الآية بالمرة .
قوله تعالى : {له مقاليد السموات والأرض} إلخ المقاليد - كما قيل - بمعنى المفاتيح ولا مفرد له من لفظه .
ومفاتيح السماوات والأرض مفاتيح خزائنها قال تعالى : {وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [المنافقون : 7] وخزائنها غيبها الذي يظهر منه الأشياء والنظام الجاري فيها فتخرج إلى الشهادة قال تعالى : { وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} [الحجر : 21] .
وملك مقاليد السماوات والأرض كناية عن ملك خزائنها التي منها وجودات الأشياء وأرزاقها وأعمارها وآجالها وسائر ما يواجهها في مسيرها من حين تبتدىء منه تعالى إلى حين ترجع إليه .
وهو أعني قوله : {له مقاليد} إلخ في مقام التعليل لقوله : {وهو على كل شيء وكيل} ولذا جيء به مفصولا من غير عطف .
وقوله : {والذين كفروا بآيات الله أولئك هم الخاسرون} قد تقدم أن قوله : {الله خالق كل شيء - إلى قوله - والأرض} ذكر خلاصة ما تفيده الحجج المذكورة في خلال الآيات السابقة ، وعليه فقوله : {والذين كفروا بآيات الله} إلخ معطوف على قوله : {الله خالق كل شيء} والمعنى الذي تدل عليه الآيات والحجج المتقدمة أن الله سبحانه خالق فمالك فوكيل على كل شيء أي متوحد في الربوبية والألوهية والذين كفروا بآيات ربهم فلم يوحدوه ولم يعبدوه أولئك هم الخاسرون .
وقد اختلفوا فيما عطف عليه قوله : {والذين كفروا} إلخ فذكروا فيه وجوها مختلفة كثيرة لا جدوى فيها من أرادها فليرجع إلى المطولات .
قوله تعالى : {قل أ فغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون} لما أورد سبحانه خلاصة ما تنطق به الحجج المذكورة في السورة من توحده تعالى بالخلق والملك والتدبير ولازم ذلك توحده تعالى في الربوبية والألوهية أمر نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يخاطب المشركين المقترحين عليه أن يعبد آلهتهم أنه لا يبقى مع هذه الحجج الباهرة الظاهرة محل لعبادته غير الله وإجابة اقتراحهم وهل هي إلا الجهل .
فقوله : {أ فغير الله تأمروني أعبد} الفاء لتفريع مضمون الجملة على قوله : {الله خالق كل شيء} إلى آخر الآيتين ، والاستفهام إنكاري ، و{غير الله} مفعول {أعبد} قدم عليه لتعلق العناية به ، و{تأمروني} معترض بين الفعل ومفعوله وأصله تأمرونني أدغمت فيه إحدى النونين في الأخرى .
وقوله : {أيها الجاهلون} خطابهم بصفة الجهل للإشارة إلى أن أمرهم إياه بعبادة غير الله واقتراحهم بذلك مع ظهور آيات وحدته في الربوبية والألوهية ليس إلا جهلا منهم .
قوله تعالى : {ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك} إلخ فيه تأييد لمدلول الحجج العقلية المذكورة بالوحي كأنه قيل : لا تعبد غير الله فإنه جهل وكيف يسوغ لك أن تعبده وقد دل الوحي على النهي عنه كما دل العقل على ذلك .
فقوله : {ولقد أوحي إليك} اللام للقسم ، وقوله : {لئن أشركت ليحبطن عملك} بيان لما أوحي إليه ، وتقدير الكلام وأقسم لقد أوحي إليك لئن أشركت {إلخ} وإلى الذين من قبلك من الأنبياء والرسل لئن أشركتم ليحبطن عملكم ولتكونن من الخاسرين .
وخطاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وسائر الأنبياء (عليهم السلام) بالنهي عن الشرك وإنذارهم بحبط العمل والدخول في زمرة الخاسرين خطاب وإنذار على حقيقة معناهما كيف؟ وغرض السورة - كما تقدمت الإشارة إليه - بيان أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مأمور بالإيمان بما يدعو المشركين إلى الإيمان به مكلف بما يكلفهم ولا يسعه أن يجيبهم إلى ما يقترحون به عليه من عبادة آلهتهم .
وأما كون الأنبياء معصومين بعصمة إلهية يمتنع معها صدور المعصية عنهم فلا يوجب ذلك سقوط التكليف عنهم وعدم صحة توجهه إليهم ولوكان كذلك لم تتصور في حقهم معصية كسائر من لا تكليف عليه فلم يكن معنى لعصمتهم .
على أن العصمة - وهي قوة يمتنع معها صدور المعصية - من شئون مقام العلم - كما تقدمت الإشارة إليه في تفسير قوله تعالى : { وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ} [النساء : 113] لا تنافي ثبوت الاختيار الذي هومن شئون مقام العمل وصحة صدور الفعل والترك عن الجوارح .
فمنع العلم القطعي بمفسدة شيء منعا قطعيا عن صدوره عن العالم به كمنع العلم بأثر السم عن شربه لا ينافي كون العالم بذلك مختارا في الفعل لصحة صدوره ولا صدوره عن جوارحه فالعصمة لا تنافي بوجه التكليف .
ومما تقدم يظهر ضعف ما يستفاد من بعضهم أن نهيه (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الشرك ونحوه نهي صوري والمراد به نهي أمته فهومن قبيل {إياك أعني واسمعي يا جارة} .
ووجه الضعف ظاهر مما تقدم ، وأما قولنا كما ورد في بعض الروايات أن هذه الخطابات القرآنية من قبيل {إياك أعني واسمعي يا جارة} فمعناه أن التكليف لما كان من ظاهر أمره أن يتعلق بمن يجوز عليه الطاعة والمعصية فلو تعلق بمن ليس منه إلا الطاعة مع مشاركة غيره له كان ذلك تكليفا على وجه أبلغ كالكناية التي هي أبلغ من التصريح .
وقوله : {ولتكونن من الخاسرين} ظهر معناه مما تقدم ويمكن أن يكون اللام في الخاسرين مفيدا للعهد ، والمعنى ولتكونن من الخاسرين الذين كفروا بآيات الله وأعرضوا عن الحجج الدالة على وحدانيته .
قوله تعالى : {بل الله فاعبد وكن من الشاكرين} إضراب عن النهي المفهوم من سابق الكلام كأنه قيل فلا تعبد غير الله بل الله فاعبد ، وتقديم اسم الجلالة للدلالة على الحصر .
والفاء في {فاعبد} زائدة للتأكيد على ما قيل ، وقيل : هي فاء الجزاء وقد حذف شرطه والتقدير بل إن كنت عابدا أو عاقلا فاعبد الله .
وقوله : {وكن من الشاكرين} أي وكن بعبادتك له من الذين يشكرونه على نعمه الدالة على توحده في الربوبية والألوهية ، وقد تقدم في تفسير قوله تعالى : {وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران : 144] وقوله : { وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف : 17] أن مصداق الشاكرين بحقيقة معنى الكلمة هم المخلصون بفتح اللام فراجع .
قوله تعالى : {وما قدروا الله حق قدره} إلى آخر الآية قدر الشيء هو مقداره وكميته من حجم أو عدد أو وزن وما أشبه ذلك ثم استعير للمعنويات من المكانة والمنزلة .
فقوله : {وما قدروا الله حق قدره} تمثيل أريد به عدم معرفتهم به تعالى واجب المعرفة إذ لم يعرفوه من حيث المعاد ورجوع الأشياء إليه كما يدل عليه تعقيب الجملة بقوله : {والأرض جميعا قبضته يوم القيامة} إلى آخر السورة حيث ذكر فيه انقطاع كل سبب دونه يوم القيامة ، وقبضه الأرض وطيه السماوات ونفخ الصور لإماتة الكل ثم لإحيائهم وإشراق الأرض بنور ربها ووضع الكتاب والمجيء بالنبيين والشهداء والقضاء وتوفية كل نفس ما عملت وسوق المجرمين إلى النار والمتقين إلى الجنة فمن كان شأنه في الملك والتصرف هذا الشأن وعرف بذلك أوجبت هذه المعرفة الإقبال إليه بعبادته وحده والإعراض عن غيره بالكلية .
لكن المشركين لما لم يؤمنوا بالمعاد ولم يقدروه حق قدره ولم يعرفوه واجب معرفته أعرضوا عن عبادته إلى عبادة من سواه .
وقوله : {والأرض جميعا قبضته يوم القيامة} أي الأرض بما فيها من الأجزاء والأسباب الفعالة بعضها في بعض ، والقبضة مصدر بمعنى المقبوضة ، والقبض على الشيء وكونه في القبضة كناية عن التسلط التام عليه أو انحصار التسلط عليه في القابض والمراد هاهنا المعنى الثاني كما يدل عليه قوله تعالى : {وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار : 19] وغيره من الآيات .
وقد مر مرارا أن معنى انحصار الملك والأمر والحكم والسلطان وغير ذلك يوم القيامة فيه تعالى ظهور ذلك لأهل الجمع يومئذ وإلا فهي له تعالى دائما فمعنى كون الأرض جميعا قبضته يوم القيامة ظهور ذلك يومئذ للناس لا أصله .
وقوله : {والسموات مطويات بيمينه} يمين الشيء يده اليمنى وجانبه القوي ويكنى بها عن القدرة ، ويستفاد من السياق أن محصل الجملتين أعني قوله : {والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه} تقطع الأسباب الأرضية والسماوية وسقوطها وظهور أن لا مؤثر في الوجود إلا الله سبحانه .
وقوله : {سبحانه وتعالى عما يشركون} تنزيه له تعالى عما أشركوا غيره في ربوبيته وألوهيته فنسبوا تدبير العالم إلى آلهتهم وعبدوها .
_______________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج17 ، ص231-238 .
تفسير الامثل
- ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه الآيات (1)
الله خالق كلّ شيء وحافظه :
الآيات السابقة تتحدث عن المشركين الكذابين والمستكبرين الذين يندمون يوم القيامة على ما قدمت أيديهم ويتوسلون لإعادتهم إلى الدنيا ، ولكن هيهات أن يستجاب لهم طلبهم ، وآيات بحثنا هذه تواصل الحديث عن هذا الأمر ، إذ تقول : {ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة} .
ثم تضيف {أليس في جهنم مثوى للمتكبرين} .
لا شكّ أن عبارة {كذبوا على الله} لها مفاهيم ومعان واسعة وعميقة ، لكن الآية ـ هناـ تستهدف أُولئك الذين قالوا بوجود شريك لله ، أو باتخاذ الله ولداً من الملائكة أو الذين يزعمون أنّ المسيح(عليه السلام) هو ابن الله ، وأمثال هذه المزاعم والإدعاءات .
وكلمة «مستكبر» تطلق دائماً على أُولئك الذين يرون أنفسهم ذات شأن وقدر كبير ، ولكن المراد منها ـ هناـ أُولئك الذين يستكبرون على الأنبياء ، والذين يتركون اتباع الشريعة الحقة ، ويرفضون قبولها واتباعها .
اسوداد وجوه الكاذبين يوم القيامة دليل على ذلتهم وهوانهم وافتضاحهم ، وكما هو معروف فإن ساحة القيامة هي ساحة ظهور الأسرار والخفايا وتجسيد أعمال وأفكار الإنسان ، فالذين كانت قلوبهم سوداء ومظلمة في الدنيا ، وأعمالهم وأفكارهم سوداء ومظلمة أيضاً ، يخرج هذا السواد والظلام من أعماقهم إلى خارجهم في يوم القيامة ليطفح على وجوههم التي تكون في ذلك اليوم مسودّة ومظلمة .
وبعبارة اُخرى فإنّ ظاهر الإنسان يطابق باطنه يوم القيامة ، ولون الوجه يكون بلون القلب ، فالذي قلبه أسود ومظلم ، يكون وجهه مظلماً وأسود ، والذي قلبه ساطع بالنور يكون وجهه كذلك ساطعاً بالنور .
وهوما ورد في الآيتين (106) و(107) من سورة آل عمران {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [آل عمران : 106 ، 107] .
والملفت للنظر أنّه قد ورد في بعض الروايات أهل البيت عليهم السلام ، أن الكذب على الله ، الذي هو أحد أسباب اسوداد الوجه يوم القيامة ، له معان واسعة تشمل حتى الادعاء بالإمامة والقيادة كذباً ، كما ذكر ذلك الشيخ الصدوق في كتاب (الاعتقادات) نقلا عن الإمام الصادق(عليه السلام) عندما أجاب الإمام على سؤال يتعلق بتفسير هذه الآية ، وقال : «من زعم أنّه إمام وليس بإمام ، قيل : وإن كان علوياً فاطمياً؟ قال : وإن كان علوياً فاطمياً»(2) .
وهذا في الحقيقة بيان لمصداق بارز ، لأنّ الإدعاء المزيف بالإمامة والقيادة الإلهية هو أوضح مصاديق الكذب على الله .
وكذلك فإنّ من نسب إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أوإلى الإمام المعصوم حديثاً مختلقاً ، اعتبر كاذباً على الله ، لأنّهم لا ينطقون عن الهوى .
لهذا فقد ورد في حديث عن الإمام الصادق(عليه السلام) : «من تحدث عنّا بحديث فنحن سائلوه عنه يوماً فإن صدق علينا فإنّما يصدق على الله وعلى رسوله ، وإن كذب علينا فإنّه يكذب على الله ورسوله ، لأنّا إذا حدثنا لا نقول قال فلان وقال فلان ، إنّما نقول قال الله وقال رسوله ثمّ تلا هذه الآية {ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة . . .}(3) .
الحديث المذكور يبيّن بصورة واضحة أنّ أئمة أهل البيت الأطهار ، لم يقولوا شيئاً من عندهم ، وإن كلّ الأحاديث التي وردت عنهم صحيحة وموثوقة ، لأنّها تعود إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وهذه الحقيقة مهمّة جداً ، وعلى علماء الإسلام أن يلتفتوا إليها ، فالذين لا يقبلون بإمامة أهل البيت عليهم السلام ، عليهم أن يقبلوا بأن الأحاديث التي يرويها أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) ، إنّما هي منقولة عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) .
وبهذا الشأن ورد في كتاب الكافي حديث آخر عن الإمام الصادق(عليه السلام) :
«حديثي حديث أبي ، وحديث أبي حديث جدي ، وحديث جدي حديث الحسين ، وحديث الحسين حديث الحسن ، وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين ، وحديث أمير المؤمنين حديث رسول الله ، وحديث رسول الله قول الله عزّوجلّ»(4) .
هذا الكلام يدعو إلى الإمعان والتأمل أكثر في آيات القرآن المجيد ، لأن التكبر هو المصدر الرئيسي للكفر ، كما نقرأ ذلك بشأن الشيطان { أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة : 34] . ولهذا السبب فلا يمكن أن يكون للمستكبرين مكان آخر غير جهنم ليحترقوا بنارها ، وقد ورد في حديث لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) :
«إنّ في جهنم لواد للمتكبرين يقال له سقر ، شكى إلى الله عزّوجلّ شدة حرّه ، وسأله أن يتنفس فأذن له فتنفس فاحرق جهنم» (5) .
الآية التالية تتحدث عن طائفة تقابل الطائفة السابقة ، حيث تتحدث عن المتقين وابتهاجهم في يوم القيامة ، إذ تقول : {وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم} (6) .
ثم توضح فوزهم وانتصارهم من خلال جملتين قصيرتين مفعمتين بالمعاني ، {لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون} .
نعم ، إنّهم يعيشون في عالم لا يوجد فيه سوى الخير والطهارة والسرور ، وهذه العبارة القصيرة جمعت ـ حقّاً ـ كلّ الهبات الإلهية فيها .
الآية التالية تتطرق من جديد إلى مسألة التوحيد والجهاد ضدّ الشرك ، وتواصل مجادلة المشركين ، حيث تقول : {الله خالق كلّ شيء وهو على كل شيء وكيل} .
العبارة الأولى في هذه الآية تشير إلى (توحد الله في الخلق) والثانية تشير إلى (توحده في الربوبية) .
فمسألة (توحده في الخلق) هي حقيقة اعترف بها حتى المشركون ، كما ورد في الآية (38) من السورة هذه {ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله} .
ولكنّهم ابتلوا بالإنحراف فيما يتعلق بمسألة (توحده في الربوبية) ، ففي بعض الأحيان اعتبروا الأصنام هي التي تحفظهم وتحميهم وتدبر أمرهم ، وكانوا يلجؤون إليها عندما يواجهون أي مشكلة . والقرآن المجيد ـ من خلال الآية المذكورة أعلاه ـ يشير إلى حقيقة أنّ تدبير أُمور الكون وحفظه هي بيد خالقه ، وليس بيد أحد آخر ، ولهذا يجب اللجوء إليه دائماً .
وقد ذكر «ابن منظور» في كتاب (لسان العرب) معاني متعددة لكلمة (وكيل) منها : الكفيل ، والحافظ ، والمدبر للأمر .
ومن هنا يتضح أنّ الأصنام ليست مصدر خير أوشر ، وأنّها عاجزة عن حل أبسط عقدة ، حيث أنّها موجودات ضعيفة وعاجزة ، ولا يمكن أن تقدم أدنى فائدة للإنسان .
وقد عمد بعض المؤيدين للمذهب الجبري إلى الاستدلال على بعض الأمور من عبارة (الله خالق كلّ شيء) لتأكيد ما جاء في معتقداتهم المنحرفة ، إذ قالوا : إنّ هذه الآية تشمل الأعمال أيضاً ، ولهذا فإنّ أعمالنا تعد من خلق الله ، رغم أنّ أعضاءنا هي التي تقوم بها .
إنّ خطأ أُولئك هو أنّهم لم يدركوا هذه الحقيقة جيداً ، وهي أنّ خالقية الله سبحانه وتعالى لا يوجد فيها أي تعارض مع حرية الإرادة والإختيار لدينا ، لأنّ التناسب فيما بينهما طولي وليس عرضي .
فأعمالنا تتعلق بالله ، وتتعلق بنا أيضاً ، لأنّه لا يوجد هناك شيء في هذا الكون يمكن أن يكون خارج إطار سلطة الباريء عزّوجلّ ، وعلى هذا الأساس فإن أعمالنا هي من خلقه ، وإنه أعطانا القدرة والعقل والإختيار والإرادة وحرية العمل ، ومن هذه الناحية يمكن أن ننسب أعمالنا إليه ، حيث أنّه أراد أن نكون أحراراً وننفذ الأعمال بأختيارنا ، كما أنّه وضع كلّ ما نحتاجه تحت تصرفنا .
لكننا في الحال ذاته أحرار مخيرون في تنفيذ الأعمال ، وعلى ذلك فإنّ أفعالنا منسوبة إلينا ونحن المسؤولون عنها .
فإذا قال أحد : إنّ الإنسان يخلق أعماله ، ولا دخل لله عزّوجلّ فيها ، فإنّه قد أشرك لأنّه في هذه الحالة يعتقد بوجود خالقين ، خالق كبير وخالق صغير ، وإذا قال آخر : إنّ أعمالنا هي من خلق الله ولا دخل لنا فيها ، فقد انحرف ، لأنّه أنكر بقوله هذا حكمة وعدالة الله ، إذ لا يصح أن يجبرنا في الأعمال ، ثمّ يحمّلنا مسؤوليتها! لأنّ في هذه الحالة ، يصبح الجزاء والثواب والحساب والمعاد والتكليف والمسؤولية كلّها عبثاً .
لذا فإن الاعتقاد الإسلامي الصحيح والذي يمكن أن يستشف من مجموع آيات القرآن المجيد ، هو أن كلّ أعمالنا منسوبة لله وإلينا ، وهذه النسبة لا يوجد فيها أي تعارض ، لأنّها طولية وليست عرضية .
أمّا الآية التالية فقد تطرقت (توحيد الله في المالكية) لتكمل بحث التوحيد الذي ورد في الآيات السابقة ، إذ تقول : (له مقاليد السماوات والأرض) .
«مقاليد» : كما يقول أغلب اللغوين ، جمع (مقليد) (مع أن الزمخشري يقول في الكشاف : إن هذه الكلمة ليس لها مفرد من لفظها) و(مقليد) و(إقليد) كلاهما تعني المفتاح ، وعلى حدّ قول صاحب كتاب (لسان العرب) وآخرين غيره فإن كلمة (مقليد) مأخوذة من (كليد) الفارسية الأصل ، ومن العربية تستعمل بنفس المعنى ، ولذا فإن (مقاليد السماوات والأرض) تعني مفاتيح السماوات والأرض .
هذه العبارة تستخدم ككناية عن امتلاك شيء ما أو التسلط عليه كأنّ يقول أحد : مفتاح هذا العمل بيد فلان . لذا فإنّ الآية المذكورة أعلاه يمكن أن تشير إلى (وحدانية الله في الملك) وفي نفس الوقت تشير إلى وحدانيته في التدبير والربوبية والحاكمية على هذا العالم الكوني .
ولهذا السبب أوردت الآية المذكورة بمثابة استنتاج {والذين كفروا بآيات الله أُولئك هم الخاسرون} .
لأنّهم تركوا المصدر الرئيسي والمنبع الحقيقي لكل الخيرات والبركات وتاهوا في صحاري الضلال عندما أعرضوا بوجوههم عن مالك مفاتيح السماوات والأرض ، وتوجهوا نحو موجودات عاجزة تماماً عن تقديم أدنى عمل لهم .
وقد ورد في حديث عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه طلب من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)توضيح معنى كلمة (مقاليد) فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) : «يا علي ، لقد سئلت عن عظيم المقاليد ، هو أن تقول عشراً إذا أصبحت ، وعشراً اذا أمسيت ، لا إله الاّ الله والله أكبر وسبحان الله والحمد لله واستغفر الله ولا قوة إلا بالله (هو) الأوّل والآخر والظاهر والباطن له الملك وله الحمد (يحيي ويميت) بيده الخير وهو على كلّ شيء قدير» (7) .
ثم أضاف : «من قالها عشراً إذا أصبح ، وعشراً إذا أمسى ، أعطاه الله خصالا ستاً . . . أوّلها يحرسه من الشيطان وجنوده فلا يكون لهم عليه سلطان» .
أمّا من ردد هذه الكلمات بصورة سطحية فإنّه ـ حتماًـ لا يستحق كل ، هذه المكافآت ، فيجب الإيمان بمحتواها والتخلق بها .
هذا الحديث يمكن أن يشير إلى أسماء الله الحسنى التي هي أصل الحاكمية والمالكية لهذا العالم الكوني .
من مجموع كلّ الأُمور التي ذكرناها في الآيات السابقة بشأن فروع التوحيد ، يمكن الحصول على نتيجة جيدة ، وهي أنّ التوحيد في العبادة هو حقيقة لا يمكن نكرانها وعلى كلّ إنسان عاقل أن لا يسمح لنفسه بالسجود للأصنام ، ولهذا فإن البحث ينتهي بآية تتحدث بلهجة حازمة ومتشددة {قل أفغير الله تأمرونّي أعبد أيّها الجاهلون} .
هذه الآية ـ وبالنظر الى أنّ المشركين والكفرة كانوا أحياناً يدعون رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى احترام آلهتهم وعبادتها ، أو على الأقل عدم الانتقاص منها أو النهي عن عبادتها ، ـ أعلنت وبمنتهى الصراحة أنّ مسألة توحيد الله وعدم الإشراك به هي مسألة لا تقبل المساومة والإستسلام أبداً ، إذ يجب أن تزال كافة أشكال الشرك وتمحى من على وجه الأرض .
فالآية تعني أنّ عبدة الأصنام على العموم هم أناس جهلة ، لأنّهم لا يجهلون فقط الباريء عزّوجلّ ، بل يجهلون حتى مرتبة الإنسان الرفيعة .
إنّ التعبير بـ «تأمروني» ، الذي ورد ـ في الآية الآنفة ـ يشير إلى أنّ الجهلة كانوا يأمرون رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بأن يعبد أصنامهم بدون أيّ دليل منطقي ، وهذا الموقف ليس بعجيب من أفراد جهلة .
أليس من الجهل والغباء أن يترك الإنسان عبادة الباريء عزّوجلّ رغم مشاهدته للكثير من الأدلّة في هذا العالم والتي تدلّ على علمه وقدرته وتدبيره وحكمته ، ثمّ يتمسّك بعبادة موجودات تافهة لا قيمة لها وعاجزة عن تقديم أدنى مساعدة وعون لعبدتها .
وقوله تعالى : {وَلَقَدْ أُوحِىَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَسِرِينَ( 65 ) بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِّنَ الشَّكِرِينَ ( 66 ) وَمَا قَدَرُواْ اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالاَْرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَمَةِ وَالسَّمَاوتُ مَطْوِيَّاتُ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} :
الشرك محبط للأعمال :
آيات بحثنا تواصل التطرق للمسائل المتعلقة بالشرك والتوحيد والتي كانت قد استعرضت في الآيات السابقة أيضاً .
الآية الأولى تتحدث بلهجة قاطعة وشديدة حول أخطار الشرك ، وتقول :
{ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين} .
وبهذا الترتيب ، فإنّ للشرك نتيجتين خطيرتين ، تشملان حتى أنبياء الله في مالو أصبحوا مشركين ـ على فرض المحال ـ النتيجة الأولى : إحباط الأعمال ، والثانية : الخسران والضياع .
وإحباط الأعمال يعني محو آثار ثواب الأعمال السابقة ، وذلك بعد كفره وشركه بالله ، لأنّ شرط قبول الأعمال هو الاعتقاد بأصل التوحيد ، ولا يقبل أي عمل بدون هذا الاعتقاد .
فالشرك هو النّار التي تحرق شجرة أعمال الإنسان .
والشرك هو الصاعقة التي تهلك كلّ ما جمعه الإنسان خلال فترة حياته .
والشرك هو عاصفة هوجاء تدمر كلّ أعمال الإنسان وتأخذها معها ، كما ورد في الآية (18) من سورة إبراهيم {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ} [إبراهيم : 18] .
لذا ورد في حديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : «إن الله تعالى يحاسب كلّ خلق إلاّ من أشرك بالله فإنّه لا يحاسب ويؤمر به إلى النّار»(8) .
وأمّا خسارتهم فإنّها بسبب بيعهم أكبر ثروة يمتلكونها ، ألا وهي العقل والإدراك والعمر في سوق التجارة الدنيوية ، وشراؤهم الحسرة والألم بثمنها .
وهنا يطرح هذا السؤال : هل من الممكن أن يسير الأنبياء العظام في طريق الشرك حتى تخاطبهم الآية الآنفة بهذه اللهجة؟
الجواب على هذا السؤال واضح ، وهو أنّ الأنبياء لم يشركوا قطّ ، مع أنّهم يمتلكون القدرة والإختيار الكاملين في هذا الأمر ، ومعصوميتهم لا تعني سلب القدرة والإختيار منهم ، إلاّ أنّ علمهم الغزير وإرتباطهم المباشر والمستمر مع الباريء عزّوجلّ يمنعهم حتى من التفكير ولو للحظة واحدة بالشرك ، فهل يمكن أن يتناول السمّ طبيب عالم وحاذق ومطلع بصورة جيدة على تأثير تلك المادة السامة والخطرة ، وهو في حالة طبيعية؟!
الهدف هو إطلاع الجميع على خطر الشرك ، فعندما يخاطب الباريء عزّوجلّ أنبياء العظام بهذه اللهجة الشديدة ، فعلى الأمة أن تحسب حسابها ، هذا الأسلوب من قبيل ما نصّ عليه المثل المعروف (إيّاك أعني واسمعي يا جارة) .
ونفس المعنى ورد في حديث عن الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام) أثناء إجابته على سؤال وجهه إليه المأمون ، إذ قال : يابن رسول الله أليس من قولك أن الأنبياء معصومون؟ قال (عليه السلام) : «بلى» قال : فما معنى قول الله إلى أن قال : فأخبرني عن قول الله : (عفى الله عنك لم أذنت لهم) .
قال الرضا(عليه السلام) : «هذا ممّا نزل بإيّاك أعني واسمعي يا جارة ، خاطب الله بذلك نبيّه وأراد به أمته» وكذلك قوله : {لئن اشركت ليحبطن عملك . . . } وقوله تعالى : {ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلا} قال : صدقت يا بن رسول الله(9) .
الآية التالية تضيف للتأكيد أكثر {بل الله فاعبد وكن من الشاكرين}(10) .
تقديم اسم الجلالة للدلالة على الحصر ، وذلك يعني أن ذات الله المنزهة يجب أن تكون معبودك الوحيد ، ثمّ تأمر الآية بالشكر ، لأن الشكر على النعم التي أُغدقت على الإنسان هي سلم يؤدي إلى معرفة الله ، ونفي كلّ أشكال الشرك ، فالشكر على النعم من الأمور الفطرية عند الإنسان ، وقبل الشكر يجب معرفة المنعم ، وهنا فإن خط الشكر يؤدي إلى خط التوحيد ، وينكشف بطلان عبادة الاصنام التي لا تهب للانسان آية نعمة .
الآية الأخيرة في بحثنا هذا تكشف عن الجذر الرئيسي لانحرافهم ، وتقول : (وما قدروا الله حق قدره) . ولهذا تنزلوا باسمه المقدس حتى جعلوه رديفاً للاوثان!!
نعم ، فمصدر الشرك هو عدم معرفة الباريء عزّوجلّ بصورة صحيحة ، فالذي يعلم :
أوّلا : أنّ الله مطلق وغير محدود من جميع النواحي .
وثانياً : أنّه خالق كلّ الموجودات التي تحتاج إليه في كلّ لحظة من لحظات وجودها .
وثالثاً : أنّه يدير الكون ويحل كلّ عقد المشاكل ، وأنّ الأرزاق بيده ، وحتى الشفاعة إنّما تتمّ بإذنه وأمره ، فما معنى توجه من يعلم بكلّ هذه الحقائق إلى غير الله .
وأساساً فإنّ وجود مثل هذه الصفات في موجودين اثنين أمر محال ، لأنّه من غير الممكن عقلا وجود موجودين مطلقين من جميع الجهات .
ثمّ يأتي القرآن بعبارتين كنائيتين بعد العبارة السابقة ، وذلك لبيان عظمة وقدرة الباريء عزّوجلّ ، إذ يقول كلام الله المجيد : {والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه} .
«القبضة» : الشيء الذي يقبض عليه بجميع الكف ، تستخدم ـ عادة ـ للتعبير عن القدرة المطلقة والتسلط التام ، مثلما نقول في الاصطلاحات اليومية الدارجة : إن المدينة الفلانية هي بيدي ، أو الملك الفلاني هو بيدي وفي قبضتي .
«مطويات» : من مادة (طي) وتعني الثني ، والتي تستعمل أحياناً كناية عن الوفاة وانقضاء العمر ، أوعن عبور شيء ما .
والعبارة المذكورة أعلاه استخدمت بصورة واضحة بشأن السماوات في الآية (104) من سورة الأنبياء { يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} [الأنبياء : 104] .
فالذي يثني طوماراً ويحمله بيده اليمنى يسيطر بصورة كاملة على الطومار الذي يحمله بتلك اليد ، وانتخبت اليد اليمنى هنا لأن أكثر الأشخاص يؤدون أعمالهم المهمّة باليد اليمنى ويحسون بأنّها ذات قوة وقدرة أكثر .
خلاصة الكلام ، أنّ كلّ هذه التشبيهات والتعابير هي كناية عن سلطة الله المطلقة على عالم الوجود في العالم الآخر ، حتى يعلم الجميع أن مفتاح النجاة وحل المشاكل يوم القيامة هوبيد القدرة الإلهية ، كي لا يعمدوا إلى عبادة الأصنام وغيرها من الآلهة بذريعة أنّها ستشفع لهم في ذلك اليوم .
ولكن هل أنّ السماء والأرض ليستا في قبضته في الحياة الدنيا؟ فلم الحديث عن الآخرة؟
الجواب : إنّ قدرة الباريء عزّوجلّ تظهر وتتجلّى في ذلك اليوم أكثر من أيّ وقت مضى ، وتصل إلى مرحلة التجلّي النهائي ، وكل إنسان يدرك ويشعر أنّ كلّ شيء هومن عند الله وتحت تصرفه . إضافة إلى أنّ البعض اتجه إلى غير الله بذريعة أنّ أُولئك سينقذونه يوم القيامة ، كما فعل المسيحيون ، إذ أنّهم يعبدون عيسى(عليه السلام)متصورين أنّه سينقذهم يوم القيامة ، وطبقاً لهذا فمن المناسب التحدث عن قدرة الباريء عزّوجلّ في يوم القيامة .
ويتّضح بصورة جيدة ممّا تقدم أنّ طابع الكناية يطغى على هذه العبارات ، وبسبب قصور الألفاظ المتداولة فإنّنا نجد أنفسنا مضطرين إلى صبّ تلك المعاني العميقة في قوالب هذه الألفاظ البسيطة ، ولا يرد إمكانية تجسيم الباريء عزّوجلّ من خلالها ، إلاّ إذا كان الشخص الذي يتصور ذلك ذا تفكير ساذج وعقل بسيط جدّاً ، حيث نفتقد ألفاظاً تبيّن مقام عظمة الباريء عزّوجلّ بصورة واضحة ، إذن فيجب الإستفادة بأقصى ما يمكن من الكنايات التي لها مفاهيم كثيرة ومتعددة .
على أية حال ، فبعد التوضيحات التي ذكرت آنفاً ، يعطي الباريء عزّوجلّ في آخر الآية نتيجة مركزة وظاهرية ، إذ يقول : {سبحانه وتعالى عما يشركون} .
فلولم يكن بنوآدم قد أصدروا أحكامهم على ذات الله المقدسة المنزهة وفق مقاييس تفكيرهم الصغيرة والمحدودة ، لما انجر أحد منهم إلى حبائل الشرك وعبادة الأصنام .
_____________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج11 ، ص552-562 .
2 ـ الإعتقادات الإمامية ، نقلا عن تفسير نور الثقلين ، المجلد 4 ، الصفحة 496 ، ونفس المعنى نقل عن تفسير علي بن إبراهيم وكتاب الكافي (يراجع المجلد الأوّل من كتاب الكافي (باب من ادعى الإمامة وليس لها بأهل) الحديث الأوّل والثّالث) .
3 ـ مجمع البيان ذيل آية البحث .
4 ـ أصول الكافي ، المجلد 1 ، صفحة 51 (باب رواية الكتب والأحاديث) الحديث 14 .
5 ـ تفسير علي بن إبراهيم ، نقلا عن تفسير نور الثقلين ، المجلد 4 ، الصفحة 496 ، كما ورد نفس المعنى في تفسير الصافي في ذيل آيات البحث .
6 ـ «مفازة» : مصدر ميمي بمعنى الفوز والظفر ، و(الباء) في (بمفازتهم) للملابسة أو السببة ، وبالنسبة إلى الحالة الأولى يكون المعنى إن الله يعطيهم النجاة المقترنة بالاخلاص والفلاح ، أمّا بالنسبة إلى الحالة الثانية فالمعنى يكون (إن الله أنقذهم ونجاهم بسبب إخلاصهم) كناية عن الأعمال الصالحة والإيمان ـ .
7 ـ تفسير القرطبي ، المجلد الثامن ، الصفحة 5719 ، وتفسير أبو الفتوح الرازي ، المجلد 9 ، الصفحة 417 ذيل آيات البحث (مع اختصار ذيل الحديث) .
8 ـ نور الثقلين ، المجلد 49 ، الصفحة 497 .
11 ـ المصدر السابق .
10 ـ (الفاء) في (فاعبد) زائدة للتأكيد على ما قيل ، وقال البعض : إنّها (فاء) الجزاء وقد حذف شرطه والتقدير (إن كنت عابداً فاعبد الله) ، ثمّ حذف الشرط ، وقدم المفعول مكانه .
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
اتحاد كليات الطب الملكية البريطانية يشيد بالمستوى العلمي لطلبة جامعة العميد وبيئتها التعليمية
|
|
|