أقرأ أيضاً
التاريخ: 8-11-2016
2443
التاريخ: 2024-01-22
1060
التاريخ: 9-2-2021
2621
التاريخ: 13-9-2019
2117
|
الوضع الاجتماعي:
وفي هذا المجال (الوضع الاجتماعي) فإن الناظر إلى مجتمعات شبه الجزيرة، سواء في ذلك المجتمعات القبلية البدوية أو مجتمعات الحضر التي تظهر على أوضحها في التكوينات السياسية الكبيرة، يجد أنها تشترك جميعًا في عنصرين أساسيين:
العنصر الأول هو عوامل التماسك التي تبدو وكأنها تشد المجتمع إلى بعضه.
والعنصر الثاني هو عوامل الانقسام الطبقي التي تسير في موازاة العوامل الأولى. ولنحاول الآن أن نعرف إلى أي حد سيطر كل من العاملين على سكان شبه الجزيرة.
أ- عوامل التماسك:
وفيما يخص عوامل التماسك فإننا نجد عددا واضحا منها في التكوينات القبيلة تهدف إلى إشاعة التماسك، حسب تصور معين، في المجتمع القبلي. ومن بين هذه العوامل، عامل العصبية وعامل آخر مكمل له وهو الثأر. وحقيقة، إن العصبية والثأر قد أديا إلى مناسبات كثيرة من الصراع بين قبائل شبه الجزيرة في العصر السابق للإسلام، وكان هذا الصراع يصل في بعض الأحيان إلى فترات من العداء الصريح الذي يستمر عقودًا بأكملها بين توتر أو مناوشات أو غارات كثيفة متبادلة حفظ التراث العربي لنا عددًا من مواقعها وهي التي تسمى أيام العرب (1). ولكن من الجانب الآخر فإن كلًّا من هذين العاملين كان أمرًا حيويًّا بالنسبة للقبيلة حتى لا يذوب كيانها في مجال العلاقات بين القبائل في ظل الظروف القاسية التي سادت مجتمع البادية في شبه الجزيرة، فالعصبية التي تنتج عن تصور حقيقي أو مفترض لرابطة القرابة أو الدم كانت وسيلة التكتل الأساسية بين أفراد القبيلة في غياب أية وسائل أخرى ثابتة لإشاعة هذا التكتل. وهي وسيلة تجمع بين هؤلاء الأفراد بغض النظر عن الاعتبارات الأخرى المطروحة مثل اعتبارات الحق والباطل أو الظلم والعدل، بحيث يصبح هذا التكتل هو القيمة الأولى في حياة القبيلة التي كثيرًا ما كان يدفعها السعي وراء الكلأ إلى التنقل، وهو ظرف قد يؤدي إلى التشتت ومن ثم الاندثار كوحدة اجتماعية، أو إلى التصارع مع قبائل أخرى في سبيل الحصول على هذا الكلأ أو على عين ماء إذا أدخلنا في اعتبارنا قلة الماء في شبه الجزيرة إلى درجة الندرة في بعض الأحيان، وهنا مرة أخرى يبدو التكتل كعامل حيوي في ظل هذا الصراع. ونحن نجد الحديث عن هذه العصبية واردًا في أغلب ما وصل إلينا من الشعر الجاهلي، سواء أكان في الفخر بالقبيلة إلى درجة المبالغة، أم في هجاء قبيلة أو قبائل أخرى إلى درجة المبالغة كذلك.
كذلك يذكر لنا المؤرخ اليوناني هيرودوتس (2) أن القبيلة قد تلجأ في سبيل تقوية هذه العصبية إلى ما يمكن أن نسميه المؤاخاة بين شخص من داخل القبيلة وآخر من خارجها وذلك بأن يتقاسم هذا الأخير طعامًا مع ابن القبيلة، أو يمص قطرات من جرح يحدثه في جسمه، وهكذا يصبح هذا الشخص الغريب عن القبيلة ابنًا متبنًّى لهذه القبيلة. ولنا أن نتصور أن مثل هذا الشخص يكون مرغوبًا في تبنيه بسبب غزوة له أو بأس يتصف به، ولكن الأمر يظل على أي الأحوال طريقة من الطرق التي تلجأ إليها القبيلة لتقوية عصبيتها. ومن ثَمَّ يصبح هذا التصرف مؤشرًا نحو التماسك.
أما الثأر فهو نتاج طبيعي للعصبية وامتداد لها ويكمل نفس المهمة وهي الحفاظ على كيان القبيلة عن طريق مقابلة الاعتداء عليها باعتداء يهدف القائمون به إلى أن يكون رادعًا، ونحن نرى في هذا الصدد فكرة الثأر وقد أصبحت أحد واجبات سيد القبيلة كما يظهر، على سبيل المثال، من موقف أحد رؤساء القبائل، وهو عامر بن الطفيل "سيد بني عامر الذي سبقت الإشارة إليه" همًّا لا يستطيع أن يستريح قبل أن يقوم به رغم ما قد يسببه له ذلك في بعض الأحيان من حرج أو ألم.
تقوم ابنة العمريّ: ما لك، بعدما *** أراك صحيحًا، كالسليم المعذب؟
فقلــت لها: همي الــذي تعلمينـه *** من الثأر في حيي زبيد وأرحب
إن أغْـزُ زبيـــدًا أغْـزُ قومًا أعزة *** مركبهـم في الحـــي خير مركب
وإن أغـز حيي خثعـــم، فدماؤهم *** شفــاء، وخير الثـــأر للمتــأوب
ثم يمضي ليفخر بتأديته لواجبه في طلب الثأر بكل ما يرى أنه:
سلاح امرئ قد يعلم الناس أنه *** طلوب لثارات الرجال مطلَّب
وبعد أن يتحدث عن اختيار قبيلته إياه سيدًا عليها يلخص مغزى الثأر بالنسبة لها "وفي الواقع بالنسبة لأية قبيلة أخرى" حين يقول:
ولكنني أحمي حماها، وأتقي *** أذاها، وأرمي من رماها بمنكب (3)
وإذا كانت العصبية والثأر هما عاملا التماسك بالنسبة لكيان القبيلة، فإن الحرص عليهما لم يكن قاصرًا على رجال القبيلة فحسب، بل كان يتعدى ذلك إلى نسائها اللائي كن يحرصن عليهما بكل الطرق، بما في ذلك تحريض الرجال بكافة الطرق على التمسك بهذين العاملين اللذين أصبحا محورا أساسيا لحياة القبيلة وبمساعدتهن لهم على تنفيذهما والوقوف إلى جانبهم حتى في ميدان القتال، كما يبدو واضحًا من أبيات عمرو بن كلثوم في وصف أحد لقاءات الحرب:
على آثارنا بيض حسان *** نحاذر أن تقسّم أو تهونا
أخذن على بعولتهن عهدًا *** إذا لاقوا كتائب معلمينا
ليستلبُنَّ أفراسا وبيضا *** وأسرى في الحديد مقرنينا
يقُتْن جيادنا ويقلن: لستم *** بعولتنا إذا لم تمنعونا
إذا لم نحمهن، فلا بقينا *** لشيء، بعدهن، ولا حيينا (4)
أما العامل الثالث الذي ساعد على التماسك القبلي فهو الاشتراك على المشاع في الكلأ الذي يوجد حيث تحل القبيلة، كما أشرت في مناسبة سابقة. إن هذا النظام أملته ظروف البادية على المجتمع القبلي من حيث هو ضرورة اقتصادية لا يمكن إغفالها أو تجاوزها، ولكنه في الوقت ذاته كان عاملًا من عوامل التماسك الاجتماعي بين أفراد القبيلة حول قيمة حيوية بالنسبة لهم -يعيشون فيها ويذودون عنها، وفي كل الأحوال يلتفون حولها متضامنين فيما يقدمون عليه سواء كان انتفاعا أو دفاعا.
فإذا خرجنا عن نطاق التكوينات القبلية إلى تكوينات ذات المجتمعات الكبيرة مثل تلك التي كانت موجودة في القسم الجنوبي الغربي لشبه الجزيرة حين تزدهر الزراعة وتوجد الغابات الممتدة من أشجار الطيوب وقدر لا بأس به من أعمال الصناعة والتعدين وجدنا كذلك إشارات متواترة، سواء في النقوش التي عثر عليها المنقبون الأثريون أو في الكتابات التي تركها لنا الكتاب الكلاسيكيون، إلى عدد من الممارسات في الحياة اليومية يؤدي إلى التماسك في جوانب مختلفة من الحياة الاجتماعية. وفي المجال يبدو أن فكرة الملكية "الامتلاك" الجماعية كانت معروفة في المنطقة بين أفراد الأسرة الواحدة على الأقل، يشير إلى ذلك سترابون ذاكرًا أن السيطرة على هذه الأملاك الجماعية كانت في يد الأخ الأكبر، ونحن نجد تأييدًا لهذا فيما ذكره بلينيوس الذي سبقت الإشارة إلى حديثه عن ملكية جماعية بين 3000 أسرة لجميع أشجار الطيوب الموجودة في دول الجنوب ولحق الاتجار في نتاج هذه الأشجار، وأضيف هنا أن هذا الكاتب يخوض في تفصيل كيفية هذا الانتفاع الجماعي فيذكر أن هناك من يقول: إن "مجموعات من" هذه الأسر تتناوب هذا الانتفاع من سنة إلى سنة وأن هناك من يقول: إن أرباح النتاج تقسم على كل الأسر سنويًّا، وسواء كان هذا أو ذاك ففكرة الملكية الجماعية والانتفاع الجماعي حسب تنظيم أو آخر قائمة في الحالين (5).
ولنا أن نصدق ما رواه هذان الكاتبان فأولهما كان صديقا شخصيا لقائد الحملة الرومانية على بلاد اليمن وقد كان حريصًا أن يستفسر من الجنود الرومان الذين اشتركوا في الحملة عما شهدوه في المنطقة، والثاني وهو بلينيوس يذكرنا في أكثر من موضع بأنه يحصل على معلوماته من التجار الرومان واليونان الذين يتعاملون مع سكان هذه المناطق. كما نجد تأييدًا لهذه النزعة نحو الملكية الجماعية في عدد من النقوش العربية الجنوبية التي يشير بعضها إلى جمعيات زراعية من نوع الجمعيات التعاونية التي نعرفها في الوقت الحاضر. وقد أسلفت الإشارة إلى واحدة من هذه الجمعيات كان لها مجلس إدارة مكون من ثمانية أشخاص يقومون على إدارة هذه "المؤسسة الزراعية" حسبما سماها باحث معاصر، والإشراف على العمل بها من تهيئة البذور ودفع الحصص أو الضرائب الواجب دفعها للحكومة أو للمعبد، ومن خزن وتسويق وبيع (6).
ومثل هذا الاتجاه نحو الجماعية في الامتلاك أو إدارة الأملاك أو الانتفاع بنتاجها، رغم أنها ممارسة اقتصادية إلا أن انعكاساتها الاجتماعية تؤدي إلى التماسك بين شرائح كبيرة وكثيرة في هذا المجتمع الذي مُورست فيه الزراعة أو الانتفاع بغابات الطيوب أو الاتحاد في محصولها على نطاق واسع. ولعل إشارة أخيرة، في هذا الصدد قدمها لنا الكاتب الجغرافي والتاريخي سترابون تعطينا، في ختام الحديث عن هذه النقطة مدى تأثير هذه النزعة الجماعية حتى على التصورات أو الاعتبارات المتصلة بروابط الأسرة، إذ يذكر لنا هذا الكاتب أن "الإخوة كانوا يوضعون في منزلة أكثر تقديرًا من الأبناء" (7). ونحن إذا تمعَّنَّا في هذه العبارة التي تجعل الإخوة مقدمين على الأبناء وجدناها تشير بشكل واضح إلى تجاوز التكتل داخل الأسرة الواحدة
"أي بين الأب والأم والأبناء" إلى تكتل أوسع هو مجموعة الأسرة التي يكونها كل من الإخوة حول آصرة قوية هي الآصرة التي تربط هؤلاء الإخوة.
ب- عوامل الانقسام:
ولكن مع كل العوامل المؤشرة إلى التماسك سواء في مجتمع التكوينات القبلية أو في مجتمع التكوينات الكبيرة فإن عوامل الانقسام كانت موجودة في داخل هذه التكوينات في الوقت ذاته. ففي المجتمع القبلي، رغم ما كانت عليه العصبية من رسوخ يدفع القبيلة إلى أن تخفَّ للدفاع عن أي فرد من أفرادها إذا تعرض لأذًى أو اعتداء أو إهانة من قبيلة أخرى، فإن نداء العصبية هذا لم يكن يمارس بنفس الحماس في حالة كل الأشخاص. ولعل الأقرب إلى الواقع في هذا الصدد هو أن هذا الحماس في الاستجابة لنداء العصبية كان يشتد أو يخف أو حتى ينعدم حسب وضع الشخص في القبيلة، فإذا كان من الوجهاء أو الأعيان أو السادة فإن القبيلة تهب في استجابة فورية لهذا النداء، كما حدث، على سبيل المثال، فيما يرويه ابن الأثير من غضب عمرو بن كلثوم حين أحس أن إهانة قد لحقت بأمه على يدي أم الأمير اللخمي عمرو بن هند فنادى آل قبيلته تغلب، واستجابت القبيلة للنداء وكان بعدها صدام مسلح انتهى لصالح التغلبيين (8).
ونحن نستطيع أن نقابل بين هذا وبين ما نستنتجه من شعر قاله قريط بن أنيف أحد بني العنبر "وهو شاعر مخضرم" وكان عدد من أفراد بني ذهل بن شيبان قد نهبوا عددًا من إبله فاستغاث بقوم فلم يغيثوه، فندَّد بموقفهم هذا في أبياته. والتفسير المنطقي هنا هو أن قريطًا ربما كان من طبقة العوام في قبيلته، ومن ثم لم يكن ما أصابه من أذى "سواء بالحق أو بالباطل" مدعاة لاهتمام بين أفرادها ليهبوا لمساندته، وهو يشرح لنا هذا الموقف بكل وضوح حين يقول:
لو كنت من مازن لم تستبِحْ إبلي *** بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا
إذن لقــام بنصري معشــر خُشُن *** عند الحفيظة إن ذو لوثة هانا
قوم إذا الشر أبــدى نــاجذيه لهم *** طاروا إليه زرافات ووحدانا
لا يسألون أخــاهم حيــن ينـدبهم *** في النائبات على ما قال برهانا
لكن قومي وإن كــانوا ذوي عدد *** ليسوا من الشر في شيء وإن هانا (9)
كذلك فقد كان العرف المتبع في القبيلة يضع حواجز بين بعض فئاتها، فالعبيد الذين حرروا لا يصبحون أبناء للقبيلة وإنما يتحولون إلى موالٍ أو أتباع مهما قدموا من خدمات. والتصنيف ذاته ينطبق على أي غريب يلجأ للقبيلة لسبب أو لآخر ويطلب أن تحميه وأن يعيش في كنفها (10). إنه هو الآخر يصبح من طبقة الموالي الذين لا يرقون إلى مرتبة أبناء القبيلة مهما تفانى في تأدية دوره في خدمة مصالحها والذود عن هذه المصالح. وهكذا تتكون بالتدريج داخل كل قبيلة فئة أو طبقة لا تشعر بالانتماء الكامل لها ويمكن أن تصبح عنصر انقسام بدلًا من أن تكون عنصر تماسك. والشيء ذاته نجده، في صورة أخرى في حالة الخلعاء، أي: أفراد القبيلة الذين تخلعهم القبيلة لتصرف أتوه ولم ترضَ القبيلة عنه. إن القبيلة تعلن على لسان سيدها أو شيخها أنها غير مسئولة عن تصرفاته؛ وبالتدريج تتكون مجموعة من المنبوذين عن المجتمع القبلي تشكل بدورها عنصرًا من عناصر الانقسام. هذا إلى وجود طبقة من المدقعين أو المعدمين من أفراد القبائل، كان فقرهم يدفع بهم إلى الحصول على رزقهم بكافة الطرق دون مراعاة لعرف القبيلة وتقاليدها، وهؤلاء هم صعاليك العرب الذين كان ينتهي بهم الأمر إلى الخروج على القبيلة والخروج من أرضها، لتتضخم بذلك طبقة غير المنتمين على اختلاف فئاتهم.
بل أكثر من هذا فإنه حتى في حالة المنتمين من أفراد القبيلة، فإنهم رغم المساواة المفترضة بينهم، لم يكونوا كلهم سواء فعلًا، ولم يكونوا كلهم راضين عن معاملة القبيلة لهم. ولقد مر بنا أنه حتى في حالة الكلأ الذي كان مشاعًا بين جميع أفراد القبيلة، كانت هناك أحماء يتمتع بها أفراد بعينهم إلى جانب تمتعهم بميزات الكلأ العام (11). وهو نوع من التمييز كان لا بد أن يشكل خطًّا، مهما كان باهتًا، يقسم القبيلة إلى طبقة من المتميزين وطبقة ممن لا يحظون بهذا الموقع المتميز.
ونحن نلمس هذا الانقسام الطبقي بين سكان شبه الجزيرة في أكثر من شاهد. فالكاتب اليوناني أرتميدوروس يذكر لنا في مجال حديثه عن السبئيين أن "الملك ومن حوله يعيشون في بذح أنثوي"، كما سبق أن رأيناه يتحدث عن الطبقة الثرية من السبئيين والجرهائيين ليذكر أنهم يقتنون الأدوات المصنوعة من الذهب والفضة ويسكنون بيوتًا طعمت أبوابها وجدرانها وسقوفها بالعاج والذهب والفضة ورصعت بالأحجار النفيسة. هذا، إلى ما سبقت الإشارة إليه من امتلاك طبقة محددة تتكون من 3000 أسرة لكل أشجار الطيوب في العربية الجنوبية، ولحق التجارة في هذه الطيوب دون غيرهم. وأضيف هنا إلى هذا أن الوظائف في الدولة كانت قاصرة على أولاد الملوك، فإذا أدخلنا في اعتبارنا ما سبقت الإشارة إليه من أن منصب الملك كان بالتناوب بين أفراد الطبقة الأرستقراطية، كان معنى هذا أن وظائف الدولة هي الأخرى كانت حكرًا على هذه الطبقة. وفي القرن السابع الميلادي نجد الظاهرة لا تزال موجودة، فالقرآن الكريم يتحدث عن فئة من المجتمع تكسب {وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ} [آل عمران: 14] وعن {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34] مشيرا بذلك إلى وجود طبقة أخرى من المعوزين لا تعود عليهم هذه الثروة بأي نفع يخفف من ضائقتهم, كما يسمي على الأقل واحدا من أثرياء مكة الذين جمعوا قدرا كبيرا من المال، وهو أبو لهب، ملمحًا إلى موقفه الطبقي المتعنت اعتمادا على ثروته (12) .
كذلك نجد، في الجانب الآخر، تقسيمًا في مجتمع العربية الجنوبية في أواخر القرن الأول ق. م. وأوائل القرن الأول الميلادي، يصنف هذا المجتمع إلى فئات لها طابع طبقي؛ إلى فلاحين وحرفيين وعاملين في جمع المر واللبان، وهو تصنيف مانع لا يتغير من الآباء إلى الأجداد ولا يمكن أن يغير فيه أحد الأفراد مهنته لينتقل من فئة إلى فئة، ومن ثم فهو يكرس الطبقية في صورة حادة ومستمرة في الوقت ذاته. وقد زاد من حدة الوضع الطبقي أن طبقة أصحاب الحرف أو من كانوا يعملون بالأجر كان ينظر إليهم، كما مر بنا، على أنهم يمارسون عملا متدنيا، رغم حاجة المجتمع إليهم. أما في أوائل القرن السادس الميلادي فنحن نجد الشنفري، أحد صعاليك العرب، يصف لنا حياة الجوع التي كان يمارسها والتي وصل من حدتها أنه كان يماطل الجوع ويستفُّ التراب حتى لا تظهر عليه آثاره فيشمت فيه أفراد الطبقة الأخرى، وهو وصف لا أرى فيه مبالغة إذا أدخلنا في اعتبارنا أن الشاعر كان لا يبغي من وراء شعره استعطافًا لأحد وأنه يفخر باعتزازه الشديد رغم جوعه الشديد:
أديم مطال الجوع حتى أُميتَه *** وأضرب عنه الذكر صفحًا، فأذهل
وأستفّ ترب الأرض كي لا يُرى له *** عليّ، من الطوْل، امرؤ متطول
وأطوي على الخمص الحوايا، كما انطوت *** خيوطة ماريّ تغار وتفتل
وأغدو على القوت الزهيد، كما غدا *** أزل تهاداه القنائف، أطحل
كما نجد صعلوكًا آخر، وهو تأبط شرًّا، يعرض حياته لخطر محقق ليسرق قليلا من العسل من منحل في غار لبني هذيل، ثم يجد في احتياله حتى يفر من القتل نوعًا من الذكاء الذي يفخر به -الأمر الذي نستنتج منه مدى المعاناة التي كانت تمارسها هذه الطبقة، وبخاصة إذا عرفنا أن بني هذيل كانوا أعداء لتأبط شرًّا يتربصون به الدوائر، ومع ذلك فقد أقدم على المخاطرة في سبيل ما يسد به جوعه. فإذا وصلنا إلى القرن السابع الميلادي وجدنا القرآن الكريم يشير في شكل متواتر إلى طبقة متعددة الفئات من الذين تفصل بينهم وبين الطبقة الثرية هوة واسعة من بينهم السائلون والمساكين وأبناء السبيل واليتامى الذين يبدو أن العرف السائد في المجتمع لم يكن يضمن لهم أي نوع من الكفالة الاجتماعية، أو إذا وجدت هذه الكفالة الاجتماعية افتراضًا، كان المجتمع متهاونًا في الوسائل التي تمكن من وضعها موضع التنفيذ الفعلي (13) .
وقد ظهرت آثار هذا التقسيم الطبقي الحاد، سواء أكان بموجب قوانين رسمية، أم كان نتيجة للممارسة الفعلية للطبقات الموجودة في المجتمع، أم كان سببه تصور يؤدي إلى نظرة استعلائية إزاء إحدى الفئات أو الطبقات وكانت محصلة هذه الآثار المترتبة على التقسيم الطبقي وجود طبقة متضررة تعبر عن معارضتها للأوضاع القائمة بأكثر من وسيلة. ففي العربية الجنوبية نسمع من النقوش التي عثر عليها المنقبون الأثريون عن جماعات من المزارعين تهرب من الأرض وتلجأ إلى المدن بكل ما يترتب على هذا من إلحاق الأذى بالزراعة وبالمحاصيل، وذلك رغم تشديد الحكومات على منع الهجرة وترك المزارع دون موافقة أصحاب الأرض. كذلك نجد القرآن الكريم يعطينا صورة للمعارضة التي كانت قائمة ضد الأوضاع السائدة في مجتمعات شبه الجزيرة في عصور ما قبل الإسلام والتي كانت تتبلور كلما ظهر أحد الرسل والأنبياء بدعوة تستهدف إصلاح أحوال المجتمع وكان صوت هذه المعارضة يبدو واضحا ومحددا في الانحياز إلى جانب أصحاب هذه الدعوات وفيما كان يثور بينهم وبين الطبقة المسيطرة على أمور المجتمع من محاجَّات ومجادلات. وأخيرًا فقد كانت هجرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- هو وأتباعه من مكة إلى المدينة دليلا واضحا على مدى الانقسام المذكور ومدى التعنت الطبقي الذي كان يسود مجتمع شبه الجزيرة في الوقت الذي ظهرت فيه الدعوة الإسلامية (14).
_____________
(1) عن عرض شامل لأيام العرب راجع، جورجي زيدان: العرب قبل الإسلام "مراجعة وتعليق حسين مؤنس"، طبعة دار الهلال، القاهرة صفحات 254-274. عن عرض بعض هذه الأيام راجع، عمر فروخ: تاريخ الجاهلية، صفحات 77-86، السيد عبد العزيز سالم: تاريخ العرب في العصر الجاهلي، صفحات 426-443، سعد زغلول عبد الحميد: في تاريخ العرب قبل الإسلام، صفحات 311-318.
(2) herodotus: III, 8.
(3) هذا البيت والأبيات السابقة في شيخو والبستاني: المجاني، صفحات 292-293، أبيات 1-4، 7، 10.
(4) شيخو والبستاني: ذاته، ص135، أبيات 77، 79-80، 82-83.
(5) جماعية الملكية في الأسرة في strabo: XVI, 4, 25، الملكية الجماعية لأشجار الطيوب وطرق الانتفاع بنتاجها في plinius: HN, XII, 54.
(6) نص halevy: 147, راجع الباب السابق الخاص بالموارد الاقتصادية وصف "المؤسسة الزراعية" في جواد علي: ذاته، ج7، ص224.
(7) strabo: XVI, 4:25.
(8) ابن الأثير: الكامل في التاريخ، القاهرة 1348هـ، ج1، ص331. هذا وربما كان في رواية ابن الأثير الذي نقل ما ذكره عن الرواية العربية، شيء من تزيين الحوادث بتفصيلات مشوقة كما يحدث حين تنتقل الرواية شفاهًا لعدة قرون، ولكن يبقى الاتجاه العام واردًا في حدود ما وصل إلينا من شعر الجاهليين.
(9) "ديوان الحماسة, مختارات أبي تمام"، طبعة الرافعي، القاهرة, أولى قصائد الديوان.
(10) hitti: ذاته ص27.
(11) راجع الباب السابق الخاص بالموارد الاقتصادية.
(12) بذخ الملك ومن حوله في أرتميدوروس، منقول في سترابون strabo: XVI, 4: 19 عن بذخ السبئيين والجرهائيين. راجع الباب الثامن عن الموارد الاقتصادية في هذه الدراسة. إشارات القرآن الكريم إلى أصحاب الثروة بترتيب المتن في، سورة آل عمران: 14، التوبة: 34، تبت، أو ما بعدها.
(13) تقسيم المهن في strabo: XVI, 4:25، قارن كذلك أرتميدوس في سترابون، ذاته XVI, 4:92 حيث يذكر أن العامة يعملون في الزراعة ونقل الطيوب. الاستعلاء على أصحاب، عن الاستعلاء الطبقي على الذين يعملون في الحرف راجع الباب الثامن الخاص بالموارد الاقتصادية في هذه الدراسة. أبيات الشنفري في شيخو والبستاني: المجاني، ص7، أبيات 21-22، 25-26. أبيات تأبط شرا في ذاته: ص11، أبيات 1-9.
(14) النقوش الخاصة بهرب المزارعين في RES, 4646, HALEVY, 147. عن إشارات القرآن الكريم إلى معارضة الأوضاع الطبقية السائدة راجع: صفحات 172-173 وحاشية 17 في الباب الخامس من هذه الدراسة.
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
اتحاد كليات الطب الملكية البريطانية يشيد بالمستوى العلمي لطلبة جامعة العميد وبيئتها التعليمية
|
|
|