كتب التفسير/التفسير المنسوب للامام العسكري (عليه السلام)/الامامة
قوله عز وجل : (
إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ
وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً
يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ
الْفاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ
وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ
أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ )
قال الباقر عليه السلام فلما قال الله تعالى : ( يا
أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ ) وذكر الذباب في قوله ( إِنَّ الَّذِينَ
تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً ) الآية ولما قال ( مَثَلُ
الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ
اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ
كانُوا يَعْلَمُونَ ) وضرب المثل في هذه السورة بالذي استوقد نارا وبالصيب من
السماء قالت النواصب والكفار وما هذا من الأمثال فتضرب يريدون به الطعن على رسول
الله صلى الله عليه وآله فقال الله يا
محمد ( إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي ) لا يترك حياء (أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً) للحق
يوضحه به عند عباده المؤمنين ( ما بَعُوضَةً ) ما هو بعوضة المثل ( فَما فَوْقَها
) فما فوق البعوضة وهو الذباب يضرب به المثل إذا علم أن فيه صلاح عباده ونفعهم (
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا ) بالله وبولاية محمد وعلي وآلهما الطيبين وسلم لرسول
الله صلى الله عليه وآله وللأئمة عليه
السلام أحكامهم وأخبارهم وأحوالهم ولم يقابلهم في أمورهم ولم يتعاط الدخول في
أسرارهم ولم يفش شيئا مما يقف عليه منها إلا بإذنهم ( فَيَعْلَمُونَ ) يعلم هؤلاء
المؤمنون الذين هذه صفتهم ( أَنَّهُ ) المثل المضروب (الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ)
أراد به الحق وإبانته والكشف عنه وإيضاحه ( وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا )
بمحمد صلى الله عليه وآله بمعارضتهم في
علي عليه السلام بلم وكيف وتركهم الانقياد له في سائر ما أمر به (فَيَقُولُونَ ما
ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً)
يقول الذين كفروا إن الله يضل بهذا المثل كثيرا ويهدي به كثيرا أي فلا معنى للمثل
لأنه وإن نفع به من يهديه فهو يضر به من يضله به فرد الله تعالى عليهم قيلهم فقال
( وَما يُضِلُّ بِهِ ) يعني ما يضل الله بالمثل ( إِلاَّ الْفاسِقِينَ ) الجانين
على أنفسهم بترك تأمله وبوضعه على خلاف ما أمر الله بوضعه عليه ثم وصف هؤلاء
الفاسقين الخارجين عن دين الله وطاعته منهم فقال عز وجل ( الَّذِينَ يَنْقُضُونَ
عَهْدَ اللهِ ) المأخوذ عليهم لله بالربوبية ولمحمد صلى الله عليه وآله بالنبوة ولعلي بالإمامة
ولشيعتهما بالمحبة والكرامة ( مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ ) إحكامه وتغليظه (
وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ ) من الأرحام والقرابات أن
يتعاهدوهم ويقضوا حقوقهم وأفضل رحم وأوجبه حقا رحم محمد صلى الله عليه وآله فإن حقهم بمحمد كما أن حق
قرابات الإنسان بأبيه وأمه ومحمد أعظم حقا من أبويه كذلك حق رحمه أعظم وقطيعته
أفظع وأفضح ( وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ) بالبراءة ممن فرض الله إمامته واعتقاد
إمامة من قد فرض الله مخالفته (أُولئِكَ) أهل هذه الصفة ( هُمُ الْخاسِرُونَ )
خسروا أنفسهم لما صاروا إلى النيران وحرموا الجنان فيا لها من خسارة ألزمتهم عذاب
الأبد وحرمتهم نعيم الأبد قال وقال الباقر عليه السلام ألا ومن سلم لنا ما لا
يدريه ثقة بأنا محقون عالمون لا نقف به إلا على أوضح المحجات سلم الله تعالى إليه
من قصور الجنة أيضا ما لا يعلم قدرها هو ولا يقادر قدرها إلا خالقها وواهبها ألا
ومن ترك المراء والجدال واقتصر على التسليم لنا وترك الأذى فإذا حبسه الله تعالى
على الصراط فجاءته الملائكة تجادله على أعماله وتوافقه على ذنوبه فإذا النداء من
قبل الله عز وجل يا ملائكتي عبدي هذا لم يجادل وسلم الأمر لأئمته فلا تجادلوه
وسلموه في جناني إلى أئمته يكون منيخا فيها بقربهم كما كان مسلما في الدنيا لهم
وأما من عارض بلم وكيف ونقض الجملة بالتفصيل قالت له الملائكة على الصراط واقفنا
يا عبد الله وجادلنا على أعمالك كما جادلت في الدنيا الحاكمين لك عن أئمتك
فسيأتيهم النداء صدقتم بما عامل فعاملوه ألا فواقفوه فيواقف ويطول حسابه ويشتد في
ذلك الحساب عذابه فما أعظم هناك ندامته وأشد حسراته لا تنجيه هناك إلا رحمة الله
إن لم يكن فارق في الدنيا جملة دينه وإلا فهو في النار أبد الآبدين قال الباقر
عليه السلام ويقال للموفي بعهوده في الدنيا ونذوره وأيمانه ومواعيده يا أيتها
الملائكة وفى هذا العبد في الدنيا بعهوده فوفوا له هاهنا بما وعدناه وسامحوه ولا
تناقشوه فحينئذ تصيره الملائكة إلى الجنان وأما من قطع رحمه فإن كان وصل رحم
محمد صلى الله عليه وآله وقد قطع رحم نفسه
شفع أرحام محمد له إلى رحمه وقالوا لك من حسناتنا وطاعتنا ما شئت فاعف عنه فيعطونه
ما يشاء فيعفوا عنه ويعوض الله المعطين ولا ينقصهم وإن كان وصل أرحام نفسه وقطع
أرحام محمد صلى الله عليه وآله بأن جحد
حقوقهم ودفعهم عن واجبهم وسمى غيرهم بأسمائهم ولقبهم بألقابهم ونبز بالألقاب
القبيحة مخالفيه من أهل ولايتهم قيل له يا عبد الله اكتسبت عداوة آل محمد الطهراء
[ المطهر ] أئمتك لصداقة هؤلاء فاستعن بهم الآن ليعينوك فلا يجدوا معينا ولا مغيثا
ويصير إلى العذاب الأليم المهين قال الباقر عليه السلام ومن سمانا بأسمائنا ولقبنا
بألقابنا ولم يسم أضدادنا بأسمائنا ولم يلقبهم بألقابنا إلا عند الضرورة التي عند
مثلها نسمي نحن ونلقب أعداءنا بأسمائنا وألقابنا فإن الله عز وجل يقول لنا يوم
القيامة اقترحوا لأوليائكم هؤلاء ما تغنونهم به فنقترح لهم على الله عز وجل ما
يكون قدر الدنيا كلها فيه كقدر خردلة في السماوات والأرض فيعطيهم الله تعالى إياه
ويضاعفه لهم أضعافا مضاعفات فقيل للباقر عليه السلام فإن بعض من ينتحل موالاتكم
يزعم أن البعوضة علي وأن ما فوقها وهو الذباب محمد رسول الله صلى الله عليه وآله فقال الباقر عليه السلام
سمع هؤلاء شيئا لم يضعوه على وجهه إنما كان رسول الله صلى الله عليه وآله قاعدا ذات يوم وعلي إذ سمع
قائلا يقول ما شاء الله وشاء محمد وسمع آخر يقول ما شاء الله وشاء علي فقال رسول
الله صلى الله عليه وآله لا تقرنوا محمدا
ولا عليا بالله عز وجل ولكن قولوا ما شاء الله ثم ما شاء محمد ثم ما شاء علي ثم ما
شاء محمد ما شاء الله ثم ما شاء علي إن مشية الله هي القاهرة التي لا تساوى ولا
تكافى ولا تدانى وما محمد رسول الله صلى
الله عليه وآله في دين الله وفي قدرته إلا كذبابة تطير في هذه الممالك الواسعة وما
علي في دين الله وفي قدرته إلا كبعوضة في جملة هذه الممالك مع أن فضل الله تعالى
على محمد وعلي الفضل الذي لا يفي به فضله على جميع خلقه من أول الدهر إلى آخره هذا
ما قال رسول الله صلى الله عليه وآله في
ذكر الذباب والبعوضة في هذا المكان فلا يدخل في قوله ( إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي
أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً ).
المصدر : بحار الأنوار
المؤلف : العلامة الشيخ محمد باقر المجلسي
الجزء والصفحة : جزء 24 / صفحة [ 388 ]