التفسير بالمأثور/الاستغفار والتوبة وأنواعها وشرائطها/النبي محمد (صلى الله عليه وآله)
الطالقاني، عن
أحمد الهمداني، عن أحمد بن صالح، عن موسى بن داود، عن الوليد بن هشام، عن هشام بن حسان،
عن الحسن بن أبي الحسن البصري، عن عبد الرحمن بن غنم الدوسي قال: دخل معاذ بن جبل على
رسول الله صلى الله عليه واله باكيا فسلم فرد عليه السلام ثم قال: ما يبكيك يا معاذ
؟ فقال: يا رسول الله إن بالباب شابا طري الجسد، نقي اللون، حسن الصورة، يبكي على شبابه
بكاء الثكلى على ولدها، يريد الدخول عليك، فقال النبي صلى الله عليه واله: ادخل علي
الشاب يا معاذ، فأدخله عليه فسلم فرد عليه السلام، ثم قال: ما يبكيك يا شاب ؟ قال:
كيف لا أبكي وقد ركبت ذنوبا إن أخذني الله عزوجل ببعضها أدخلني نار جهنم ؟ ولا أراني
إلا سيأخذني بها ولا يغفر لي أبدا، فقال رسول الله صلى الله عليه واله: هل أشركت بالله
شيئا: قال: أعوذ بالله أن اشرك بربي شيئا، قال: أقتلت النفس التي حرم الله ؟ قال: لا،
فقال النبي صلى الله عليه واله: يغفر الله لك ذنوبك وإن كانت مثل الجبال الرواسي، فقال
الشاب: فإنها أعظم من الجبال الرواسي، فقال النبي صلى الله عليه واله: يغفر الله لك
ذنوبك وإن كانت مثل الارضين السبع وبحارها ورمالها وأشجارها وما فيها من الخلق، قال:
فإنها أعظم من الارضين السبع وبحارها ورمالها وأشجارها وما فيها من الخلق ! فقال النبي
صلى الله عليه واله: يغفر الله لك ذنوبك وإن كانت مثل السماوات ونجومها ومثل العرش
والكرسي، قال: فإنها أعظم من ذلك، قال: فنظر النبي صلى الله عليه واله إليه كهيئة الغضبان
ثم قال: ويحك يا شاب ذنوبك أعظم أم ربك ؟ فخر الشاب لوجهه وهو يقول: سبحان ربي ما شئ
أعظم من ربي، ربي أعظم يا نبي الله من كل عظيم، فقال النبي صلى الله عليه واله: فهل
يغفر الذنب العظيم إلا الرب العظيم ؟ قال الشاب: لا والله يا رسول الله، ثم سكت الشاب
فقال له النبي صلى الله عليه واله: ويحك يا شاب ألا تخبرني بذنب واحد من ذنوبك ؟ قال:
بلى اخبرك: إني كنت أنبش القبور سبع سنين، أخرج الاموات، وأنزع الاكفان، فماتت جارية
من بعض بنات الانصار فلما حملت إلى قبرها ودفنت وانصرف عنها أهلها وجن عليهم الليل
أتيت قبرها فنبشتها ثم استخرجتها ونزعت ما كان عليها من أكفانها وتركتها متجردة على
شفير قبرها، ومضيت منصرفا فأتاني الشيطان فأقبل يزينها لي، ويقول: أما ترى بطنها وبياضها
؟ أما ترى وركيها ؟ فلم يزل يقول لي هذا حتى رجعت إليها، ولم أملك نفسي حتى جامعتها
وتركتها مكانها، فإذا أنا بصوت من ورائي يقول: يا شاب ويل لك من ديان يوم الدين، يوم
يقفني وإياك كما تركتني عريانة في عساكر الموتى، ونزعتني من حفرتي وسلبتني أكفاني،
وتركتني أقوم جنبة إلى حسابي، فويل لشبابك من النار !. فما أظن أني أشم ريح الجنة أبدا
فما ترى لي يا رسول الله ؟ فقال النبي صلى الله عليه واله: تنح عني يا فاسق، إني أخاف
أن أحترق بنارك، فما أقربك من النار ! ثم لم يزل عليه السلام يقول ويشير إليه حتى امعن
من بين يديه، فذهب فأتى المدينة فتزود منها ثم أتى بعض جبالها فتعبد فيها، ولبس مسحا
وغل يديه جميعا إلى عنقه، ونادى: يا رب هذا عبدك بهلول، بين يديك مغلول، يا رب أنت
الذي تعرفني، وزل مني ما تعلم سيدي ! يا رب أصبحت من النادمين، وأتيت نبيك تائبا فطردني
وزادني خوفا، فأسألك باسمك وجلالك وعظمة سلطانك أن لا تخيب رجائي، سيدي ! ولا تبطل
دعائي ولا تقنطني من رحمتك. فلم يزل يقول ذلك أربعين يوما وليلة، تبكي له السباع والوحوش،
فلما تمت له أربعون يوما وليلة رفع يديه إلى السماء، وقال: اللهم ما فعلت في حاجتي
؟ إن كنت استجبت دعائي وغفرت خطيئتي فأوح إلى نبيك، وإن لم تستجب لي دعائي ولم تغفر
لي خطيئتي وأردت عقوبتي فعجل بنار تحرقني، أو عقوبة في الدنيا تهلكني، وخلصني من فضيحة
يوم القيامة. فأنزل الله تبارك وتعالى على نبيه صلى الله عليه واله: " والذين
إذا فعلوا فاحشة " يعني الزنا " أو ظلموا أنفسهم " يعني بارتكاب ذنب
أعظم من الزنا، ونبش القبور، وأخذ الاكفان " ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم
" يقول: خافوا الله فعجلوا التوبة " ومن يغفر الذنوب إلا الله " يقول
عزوجل: أتاك عبدي يا محمد تائبا فطردته، فأين يذهب ؟ وإلى من يقصد ؟ ومن يسأل أن يغفر
له ذنبا غيري ؟ ثم قال عزوجل: " ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون " يقول:
لم يقيموا على الزنا ونبش القبور وأخذ الاكفان " اولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات
تجري من تحتها الانهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين " فلما نزلت هذه الآية على
رسول الله صلى الله عليه واله خرج وهو يتلوها ويتبسم، فقال لأصحابه: من يدلني على ذلك
الشاب التائب ؟ فقال معاذ: يا رسول الله بلغنا أنه في موضع كذا وكذا، فمضى رسول الله
صلى الله عليه واله بأصحابه حتى انتهوا إلى ذلك الجبل فصعدوا إليه يطلبون الشاب فإذا
هم بالشاب قائم بين صخرتين، مغلولة يداه إلى عنقه، قد اسود وجهه، وتساقطت أشفار عينيه
من البكاء، وهو يقول: سيدي: قد أحسنت خلقي وأحسنت صورتي، فليت شعري ماذا تريد بي ؟
أفي النار تحرقني ؟ أو في جوارك تسكنني ؟ اللهم إنك قد أكثرت الاحسان إلي وأنعمت علي،
فليت شعري ماذا يكون آخر أمري ؟ إلى الجنة تزفني ؟ أم إلى النار تسوقني ؟ اللهم إن
خطيئتي أعظم من السماوات والارض ومن كرسيك الواسع وعرشك العظيم، فليت شعري تغفر خطيئتي
أم تفضحني بها يوم القيامة ؟ فلم يزل يقول نحو هذا وهو يبكي ويحثو التراب على رأسه
وقد أحاطت به السباع ! وصفت فوقه الطير ! وهم يبكون لبكائه ! فدنا رسول الله صلى الله
عليه واله فأطلق يديه من عنقه، ونفض التراب عن رأسه، وقال: يا بهلول ! أبشر فإنك عتيق
الله من النار. ثم قال عليه السلام لأصحابه: هكذا تداركوا الذنوب كما تداركها بهلول.
ثم تلا عليه ما أنزل الله عزوجل فيه وبشره بالجنة.
المصدر : بحار الأنوار
المؤلف : العلامة الشيخ محمد باقر المجلسي
الجزء والصفحة : جزء 6 / صفحة [ 23 ]
تاريخ النشر : 2023-05-22