الاحسائيّ معتقد بثنويّة (يزدان) و (أهريمن) في لباس الوجود
المؤلف:
السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
المصدر:
معرفة الله
الجزء والصفحة:
ج3/ ص74-80
2025-08-06
564
لعلّ أبرز الإشكالات التي تعترض مسألة توحيد الحقّ تعالى هي الشرور، فتارة تُناقش هذه المسألة من ناحية صفة العدل وتارة من ناحية حكمته. ويروي لنا التأريخ أن الإيرانيّين كانوا من أوائل الشعوب التي رأت أن حلّ تلك الإشكالات يكمن في وجود مبدئين في عالم الخلقة والتكوين وفي عالم صفة الذات الأزليّة القديمة فاعتقدت بالثنويّة في الوجود.[1] وهو الأمر نفسه الذي كان الشيخ أحمد الأحسائيّ يرزح تحت وطأته هو الآخر، ولهذا رأينا كيف أنّه كان يؤمن بأصلين أصيلين وركنين شديدين وأساسين قويمين أزليّين في حلّه مسألة الشرور في مقابل الخيرات، وكان يُقرِن الماهيّة والوجود جنباً إلى جنب في هذه المسألة؛ ثمّ لجأ في نهاية الأمر إلى الاعتقاد ب- يزدان[2] وأهريمن[3] باسم الوجود والماهيّة.
ولا شكّ أن هذه المسألة هي من أوضح المسائل المستدلّة والمبرهنة في الإسلام وأبلغها دلالة وأسطعها برهاناً حتى أن المجوس في الماضي تقبّلوا فكرة التوحيد التي يعالجها القرآن بالرغم ممّا عُرف عنهم من تصلّب في عقيدة الثنويّة وبالرغم كذلك من وجود حكماء وفلاسفة ذوي شأن لديهم في هذه المسألة، مضافاً إلى ما كانوا يمتلكونه من عقل ودراية وكياسة. ثمّ تغيّر ذلك الدين القويم والمعتقد العميق الجذور الذي كان راسخاً بينهم لآلاف من السنين ومتأصّلًا فيهم، بحيث خرج فيهم فلاسفة مشهورون بحثوا مسألة التوحيد والقرآن منذ بداية ظهور الإسلام حتى أصبحوا بذلك أمثلة يُحتذى بها. والحقّ أن نبيّ الله زرادشت لم يستطع أن يستأصل جذور الثنويّة في بداية دعوته، ومع أنّه كان يدعو إلى التوحيد، ويعزي مصدر الشرور إلى أهريمن الذي هو أحد مخلوقات الله، واعتبار «اهورْ مَزْدا» المؤثّر الوحيد في الخلقة والصفات؛ إلّا أنّه وبالرغم من ذلك لم تمض على شريعته فترة طويلة حتى تغيّرت بشكل جذريّ بعد وفاته وعاد عامّة الناس من جديد إلى الثنويّة التي كانت معتقدهم الأوّل والمتجذّر فيهم، فبدلوا شريعة زرادشت وحرّفوها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا.
والحقّ أن إعجاز القرآن وكرامته وأصالته ورسالة نبيّنا كان له أبلغ الأثر في نفوس قدماء الإيرانيّين والفرس الأوائل ممّا جعلهم يتقبّلون مذهب التوحيد واشربوا في قلوبهم هذا الدين الجديد، وطووا صفحة أهور مَزْدا وأهريمن (يزدان وديو/ الإله والشيطان) وإلى الأبد. فخرّجوا للعالم علماء ذوي شأن وحكماء فطاحل ومؤرّخين يحملون فكرة التوحيد، وأخيراً ذوي عزّة ومقام ومجاهدين صادقين.
ولعلّ من المناسب واللائق أن نورد هنا مزيداً من البيان والتوضيح حول جذور الثنويّة مقتبسين بعضاً من كلام الصديق العزيز المرحوم آية الله الحاجّ الشيخ مرتضى المطهّريّ أعلى الله مقامه إحياءً لاسمه وتخليداً لذكراه، ما دمنا هنا نبحث مسألة الثنويّة ونبذها من وجهة نظر الإسلام وذلك لإبطال عقيدة أصالة الوجود والماهيّة ومذهب الشيخيّة، بعد أن قمنا بتفنيد اصول معتقداتهم في هذه المسألة وبيّنا أن جميع الكوارث الثقافيّة والعقائديّة التي رمت بالشيخ الأحسائيّ في أحضان الثنويّة المتهرّئة والفاسدة منشأها جهله بمسائل الحكمة والاصول المتقنة للفلاسفة والنهج الصحيح للعرفاء بالله وأوليائه، بسبب تعنّته وتشبّثه بآرائه الشخصيّة في دخوله معترك مسائل المعقول بحيث لم يستطع النجاة بنفسه من هذا المستنقع.
فبعد أن يناقش (الشيخ المطهريّ) بعض الأسئلة المطروحة من قبل المادّيّين والشيوعيّين، وبعض الأفراد الذين يجهلون مسائل التوحيد وذلك فيما يخصّ الشرور والأضرار والآلام والمصائب والأمراض والوفيّات والجراثيم والزلازل والفيضانات والمعوّقين على الأخصّ وأنسالهم، يقول: «هذه بعض الأسئلة التي تُطرح حول مسألتي العدل والظلم. ومهما يكن من أمر فإنّه يمكن طرحها مع قليل من الاختلاف تحت عناوين أخرى والتي هي الأخرى تنطوي تحت لواء مسائل الإلهيّات تماماً كمسألتَي العدل والظلم، من مثل الغايات في العلّة والمعلول، ومسألة العناية الإلهيّة عند بحث صفات الواجب.... وهذه المسائل نفسها يمكن طرحها عند بحث مسألة التوحيد مع اختلاف طفيف تحت عنوان «الخير والشر». ويكمن الإشكال في أنّ: هناك مبدأ ثُنائيّاً يتحكّم بالطبيعة، وعليه يلزم أن يكون للمسألة أصلان.
في الواقع، أن مسألة الخير والشرّ تُبحث أحياناً في باب التوحيد لتفنيد شبهة الثنويّة، وتُبحث أحياناً أخرى في باب العناية الإلهيّة التي ترجع إلى مسألة الحكمة البالغة.
وهنا يقال: أن العناية الإلهيّة تستوجب أن ننسب كلّ حدثٍ إلى الخير والكمال، وأن النظام الموجود هو النظام الأمثل؛ ولذا فمن المفروض أن لا تكون هناك شرور ونقائص تُنزل بالنظام الأمثل أذى كبيراً، في حين أنّنا نشهد وجود هذه الشرور والنقائص موجودة.... مسألة الشرور: إن الإشكال المزدوج الوارد على العدل والحكمة الإلهيّين يكمن في وجود المصائب والمحن، وبعبارة أدقّ «مسألة الشرور».
ويمكن إدراج مسألة الشرور في باب الظلم، اي باعتبارها مثلباً موجّهاً إلى العدل الإلهيّ؛ ويمكن أن تدرج كذلك في باب الظواهر العبثيّة كنفى للحكمة الإلهيّة البالغة. ومن هذا المنطلق، يمكن اعتبارها أيضاً سبباً للانحراف نحو المادّيّة.
فمثلًا عند ما نعتبر التحصينات الدفاعيّة والأمنيّة للكائنات الحيّة ضدّ الأخطار شاهداً ودليلًا على النظام والحكمة الإلهيّين، يطرح هذا السؤال نفسه وهو: لما ذا يوجد هناك خطر أساساً حتى تبرز الحاجة إلى اتّخاذ أنظمة دفاعيّة وأمنيّة؟
ما الهدف من وجود جراثيم ضارّة حتى تتمّ محاربتها بواسطة الكريّات البيض؟
لما ذا تُخلق الوحوش المفترسة لتكون هناك حاجة إلى امتلاك أرجل قويّة للفرار أو قروناً قويّة للدفاع؟ ففي عالم الحيوان نرى مثلًا أن الحيوانات الضعيفة المعرّضة للافتراس من قِبل الوحوش والحيوانات القويّة تتميّز بالخوف والجفول وغريزة الفرار، في حين تتّسم الأخيرة بالوحشيّة وصفة الافتراس.
ويواجه بنو البشر سؤالًا محيّراً وهو: لما ذا كلّ أسباب الهجوم والاعتداء تلك حتى يكون هناك بالمقابل وسائل دفاعيّة مصمّمة على أساس محسوب ومدروس؟
وكما ذُكر آنفاً فإنّ مسألة الشرور تصطدم ببحوث الإلهيّات في مكان آخر كذلك؛ وأعني بذلك مسألة: التوحيد والثنويّة.
[1] ورد في كتاب« تاريخ الشعوب» ص 51 إلى 54، في القسم الثاني الخاصّ ب-« تاريخ إيران»، الطبعة الحجريّة، بحثاً حول مذهب الإيرانيّين القدماء. وننقل أدناه تفصيل ذلك البحث: «الدين»: صنّف الإيرانيّون القدماء، كما بيّنا ذلك في تأريخ الأقوام الآريّة، بادئ ذي بدء الظواهر والقوي الطبيعيّة إلى مجموعتين من الموجودات، خيّرة وشريرة، واعتقدوا كذلك بوجود صراع دائميّ بين هاتين المجموعتين. ولهذا كانوا يقدّسون النور والنار والريح والمطر والسماء حيث كانوا ينسبونها إلى المجموعة الاولى، ولكي يأمنوا شرّ الظلمة والشتاء والجدب والأمراض والكوارث وغير ذلك والتي كانوا يعتقدون بأنّها تنسب إلى المجموعة الثانية فقد كانوا يقومون بتلاوة الأدعية والتعاويذ. وكما قلنا سابقاً فإنّ هذه العقائد مهّدت لوجود الخرافات وانتشار السِّحر والشعوذة ولهذا أعلن زرادشت حرباً على تلك العقائد.
و زرادشت أو زراتُشترا هذا هو ابن پور شَسب واختُلف في مكان ولادته وتأريخ ظهوره؛ فنسبه البعض إلى اورميّة( في آذربايجان) في حين نسبه آخرون إلى بلخ الغربيّة( شمال أفغانستان الحاليّة). وأمّا ظهوره فقد اختُلف فيه أيضاً حيث اعتقد البعض أنّه ظهر قبل حوالي ستّة آلاف سنة قبل الميلاد، بينما قال البعض بظهوره في حوالي سنة ستمائة قبل الميلاد. وقد بُعث زرادشت نبيّاً من قبل الله وهو في سنّ الثلاثين وامِر بدعوة الناس إلى عبادة الله الواحد، فأبدى زرادشت جلّ سعيه في هذا الأمر وقام بتعديل وإصلاح معتقد قدماء الإيرانيّين إلّا أنّه جوبه بمعارضة بعض رجال الدين والسَّحَرة الذين عقدوا العزم على قتله.
فاضطرّ إلى الهجرة إلى شرق إيران وقام بالدعوة إلى دينه في منطقة سيستان وأفغانستان الحاليّة، وبسبب من معارضة الملأ له هناك لم يفلح في نشر دعوته، فلجأ إلى بلاط جُشتاسب (ويشتاسب) ملك بلخ فتبنّى الأخير دعوته وقويت شوكته بمساعدة جاماسب وزير الملك. إلّا أنّه قُتِل في المعركة التي جرت بينه وبين شعب توران بقيادة أرجاسب.
الأفستا: ويُدعى كتاب الزرادشتيّين المقدّس ب-« أوِستا» ويبدو أنّ تدوين هذا الكتاب تمّ في عصر الماديّين. وكانت هناك نسختان رسميّتان من كتاب الأوِسْتا في زمان الملوك الهخامنشيّين، الاولى في تخت جمشيد [وهي من الآثار الإيرانيّة القديمة المنسوبة إلى الملك جمشيد في مدينة استخر الواقعة شمالي شيراز.(م)] حيث احرِقت في هجوم الإسكندر الذي أشعلَ النار في القصور الملكيّة؛ وأمّا النسخة الثانية فقد وقعت بأيدي اليونانيّين الذين قاموا بترجمة محتوياتها من العلوم الطبّيّة والفَلك والنجوم وغيرها إلى اليونانيّة، ثمّ قاموا بإحراقها.
هذا وكان الملك الأشكانيّ بلاش الأوّل قد أمر، كما سنأتي على ذكر ذلك لاحقاً، بجمع الأوِسْتا مرّة أخرى، كما كَلّف أردشير بابكان (رأس السلالة الساسانيّة) أحد رجال الدين والمفكّرين الإيرانيّين بتنظيم الأوِسْتا وترتيبها، ثمّ تمكّن ابنه شاپور الأوّل بعد ذلك من جمع ما اقتبسه اليونانيّون والهنود وسائر الشعوب من الأوِسْتا في مجال الطبّ والنجوم والفلسفة وغير ذلك. وقد كُتِب تفسير للأوِسْتا في عهد الساسانيّين باللغة البهلويّة حيث دُعيَ بال-« زَند». وتجدر الإشارة إلى أن رُبعاً من كلّ كتاب الأوِسْتا الأصلي موجود اليوم في أيدينا وأمّا الباقي فقد طواه التأريخ في سلّة مجهولاته. ومن كلام زرادشت أنّه كان يقول: يستند العالَم كلّه إلى مبدءين اثنين هما: الخير والشرّ أو النور والظُّلمة وهما في صراع مستمرّ. فأمّا الخيرات فنابعة من أهورا مزدا، وأمّا الشرور فمن أنْگْرَه مَيْنو أو أهريمَن. فأهورا مزدا أو( هرمزد) يُدير العالَم بمعونة ستّة ملائكة والمُسَمَّوْنَ بأمِشاسْپَنْدان ومعناها( الأطهار الخالدون)، وأسماء تلكم الملائكة هي: بَهْمَن، ارْدِيبهشت، شَهريور، اسفَندارند، خُرداد وأمرداد، ويُدير كلّ مَلَك من هؤلاء جزءاً معيّناً من عالَم الموجودات، ثمّ هنالك المزيد من الملائكة تحت إمرة كلّ مَلك من الملائكة الستّة. وأمّا أهريمن فتوجد تحت سلطانه كذلك ستّة عفاريت وهم يُعينونه على أعمال الشرّ ويُؤازرون الأشرار من المخلوقات. وممّا اعتقد به زرادشت أيضاً هو أنّ: أهورا مزدا يقود العالَم ويهديه بواسطة النور واليُمن والخير؛ ولكي يتغلّب الخير في الكون على الشرّ ويَفني أهريمن رمز ذلك الشرّ، يتحتّم على أفراد البشر محاربة جُند أهريمن ومساعدة أهورا مزدا. ومن هنا يتوجّب على اولئك البشر ممارسة الزراعة وتربية الحيوانات الداجنة كالخروف والكلب والديك وما شابه وهي مخلوقات خلقها أهورا مزدا وفي المقابل عليهم إبادة الحيوانات الضارّة والمؤذية كالحيّة والفراشة والحشرات وكلّ الحيوانات التي تتسبّب في إيجاد الآفات الزراعيّة إذ هي مخلوقات قام أهريمن بإيجادها. وعلى البشر إبعاد الماء والنار والتراب والرياح عن أيّ تلوّث أو دَنَس، وكذا اجتناب تلويث النار والماء بأجساد الأموات. على الجميع أن يسعوا في اكتساب الفكرة الحسنة والكلام الطيّب والأفعال الحميدة، والابتعاد عن الكذب وتعويد النفس على الخُلُق الحَسَن والصدق والخير.
[3] إله وهو بصيغة الجمع، وأصله إيزد( فارسيّة).
الاكثر قراءة في مقالات عقائدية عامة
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة