تنتشر حياة البداوة في شمال الجزيرة العربية أكثر من حياة الحضر بسبب طبيعة الأرض، والمناطق الحضرية في هذه المنطقة هي غالبا نفس الواحات والقرى الواقعة على طول الطرق التجارية، وسكان هذه الواحات غالبا ما يتخذون شكل المجتمع المستقل الذي يمكن ان نطلق عليه اسم (دولة) بل وكانت بعض هذه المجتمعات دولا قوية ولها وزنها النسبي ولعبت أدوارا رئيسية في تاريخ شبه الجزيرة العربية ومنها دولة الحيرة التي كانت تقع على ضفاف الفرات، ودولة تدمر في حلب، ودولة كندة في دومة الجندل (الحوف الشمالية حاليا)، ودولة الغساسنة أو آل جفنة في حلق الشام، ودولة البطراء في خليج العقبة. صحيح ان بعضا من هذه البقاع تعد اليوم خارج حدود الجزيرة العربية الا ان سكانها كانوا في الأزمان الغابرة كلهم من العرب او بعبارة ادق من اهل الجزيرة العربية.

ومن الآثار والنقوش التي اكتشفت في هذه المنطقة يتضح ان بعض القبائل النازحة من جنوب الجزيرة كانت قد اتخذت من هذه البقاع مستقرا لها. وقد ورد في اخبار العرب أيضاً حديث عن هجرة القبائل من الجنوب الى الشمال. ويربط الباحثون الاوروبيون بين هذه الهجرات وبين التجارة ويرون انه بعد استقرار طريق البحر الاحمر في ايدي الروم وكساد الطريق الجنوبي، وهو ما سبق ان تحدثنا عنه، اشتدت موجة هذه الهجرات، ولا شك ان دول الجنوب كمعين وسبأ كانت لها قبل هذه الاحداث مستوطنات وربما نقاط عسكرية على امتداد الطريق بين اليمن وفلسطين بحيث يمكن القول ان شمال غرب الجزيرة العربية كان يوما خاضعا برمته لسيطرة دولة معين؛ ففي قرية العلا الواقعة في ديدان القديمة، والتي سميت فيما بعد (قرح)، تم العثور على نقوش عديدة بالخط واللغة المعينية وبها اسماء تسعة من ملوك دولة معين، ورد أيضاً في هذه النقوش الحديثة مرة اخرى عن (الكبراء) (جمع كبير) الذين تولوا الحكم في هذه المناطق باسم دولة معين، وكانت مدين التي اشتهرت في اخبار العرب أيضاً احدى المستعمرات المعينية في الشمال، وورد ذكرها باسم (مصران) او (معين مصران) في نقوش دولة معين والألواح الاشورية التي ترجع الى القرنين الثامن والتاسع قبل الميلاد. وكانت (مصران) هذه منطقة واسعة ربما كانت تضم يثرب والتيماء في نطاقها وبناء على قول بلين المؤرخ الروماني، كانت ثمة مستوطنات إغريقية على السواحل الشمالية والوسطى للبحر الاحمر، وهي المستوطنات التي تحدث عنها غلازر المستكشف والباحث المتخصص في تاريخ العرب بالتفصيل في كتابه. ويمكن من هنا الحصول على مصدر لتفسير التأثيرات الإغريقية التي تلاحظ في اللغة العربية، وبالإضافة الى ذلك كانت ثمة صلات تربط بين المهاجرين العرب في مناطق اخرى من الحدود الشمالية وبين العنصر اليوناني.

وفي عصر دولة معين سيطر على الشمال الغربي من الجزيرة العربية قوم آخرون من سامي هم الأنباط. وبمرور الزمن أقاموا دولة عظيمة في مدينة البطراء وفرضوا سيطرتهم على الطريق التجاري الشمالي الممتد من الخليج الفارسي الى البحر المتوسط.