أقرأ أيضاً
التاريخ: 10-2-2017
6394
التاريخ: 10-2-2017
1862
التاريخ: 10-2-2017
6199
التاريخ: 13-2-2017
4162
|
قال تعالى : {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء : 17] .
لما وصف تعالى نفسه بالتواب الرحيم ، بين عقيبه شرائط التوبة ، فقال : ﴿إنما التوبة﴾ ولفظة ﴿إنما﴾ يتضمن النفي والإثبات ، فمعناه لا توبة مقبولة ﴿على الله﴾ : أي عند الله إلا ﴿للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب﴾ . واختلف في معنى قوله ﴿بجهالة﴾ على وجوه (أحدها) : أن كل معصية يفعلها العبد جهالة وإن كان على سبيل العمد لأنه يدعو إليها الجهل ويزينها للعبد عن ابن عباس وعطاء ومجاهد وقتادة وهو المروي عن أبي عبد الله (عليه السلام) فإنه قال : كل ذنب عمله العبد وإن كان عالما فهو جاهل حين خاطر بنفسه في معصية ربه فقد حكى الله تعالى قول يوسف لإخوته : {هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ} [يوسف : 89] فنسبهم إلى الجهل لمخاطرتهم بأنفسهم في معصية الله (وثانيها) : إن معنى قوله ﴿بجهالة﴾ أنهم لا يعلمون كنه ما فيه من العقوبة كما يعلم الشيء ضرورة عن الفراء (وثالثها) أن معناه أنهم يجهلون أنها ذنوب ومعاص فيفعلونها إما بتأويل يخطئون فيه وإما بأن يفرطوا في الاستدلال على قبحها عن الجبائي .
وضعف الرماني هذا القول لأنه بخلاف ما أجمع عليه المفسرون ولأنه يوجب أن لا يكون لمن علم أنها ذنوب توبة لأن قوله ﴿إنما التوبة﴾ تفيد أنها لهؤلاء دون غيرهم .
وقال أبو العالية وقتادة : " أجمعت الصحابة على أن كل ذنب أصابه العبد فهو جهالة " (2) وقال الزجاج : " إنما قال الجهالة لأنهم في اختيارهم اللذة الفانية على اللذة الباقية جهال فهو جهل في الاختيار " ، ومعنى ﴿يتوبون من قريب﴾ : أي يتوبون قبل الموت لأن ما بين الإنسان وبين الموت قريب فالتوبة مقبولة قبل اليقين بالموت . وقال الحسن والضحاك وابن عمر : " القريب ما لم يعاين الموت " .
وقال السدي : " هو ما دام في الصحة قبل المرض والموت " . وروي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قيل له : فإن عاد وتاب مراراً ؟ قال : يغفر الله له . قيل : إلى متى ؟ قال : حتى يكون الشيطان هو المسحور . وفي كتاب من لا يحضره الفقيه قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) في آخر خطبة خطبها : " من تاب قبل موته بسنة تاب الله عليه " ثم قال : " وإن السنة لكثيرة من تاب قبل موته بشهر تاب الله عليه " . ثم قال وإن الشهر لكثير من تاب قبل موته بيوم تاب الله عليه ثم قال : " وإن اليوم لكثير من تاب قبل موته بساعة تاب الله عليه " . ثم قال : وإن الساعة لكثيرة من تاب قبل موته وقد بلغت نفسه هذه - وأهوى بيده إلى حلقه - تاب الله عليه " . وروى الثعلبي بإسناده عن عبادة بن الصامت عن النبي هذا الخبر بعينه إلا أنه قال في آخره : " وإن الساعة لكثيرة من تاب قبل أن يغرغر بها تاب الله عليه " . وروى أيضا بإسناده عن الحسن قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) : " لما هبط إبليس ، قال : وعزتك وجلالتك وعظمتك لا أفارق ابن آدم حتى تفارق روحه جسده ! فقال الله سبحانه : وعزتي وعظمتي وجلالي لا أحجب التوبة عن عبدي حتى يغرغر بها " .
﴿فأولئك يتوب الله عليهم﴾ أي يقبل توبتهم ﴿وكان الله عليما﴾ بمصالح العباد ﴿حكيما﴾ فيما يعاملهم به .
______________
1. تفسير مجمع البيان ، ج3 ، ص 42-44 .
2. وفي النسختين من نسخنا " فبجهالة " بدل " فهو جهالة " .
{إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} .
السوء العمل القبيح ، والجهالة السفاهة بترك الهدى إلى الضلال ، والمراد بالتوبة
عن قريب أن يتوب المذنب قبل أن يساق إلى الموت ، لأن الموت آت لا ريب فيه ، وكل آت قريب ، أما قوله : إنما التوبة على اللَّه فهو على حذف مضاف كما بينا في فقرة الإعراب ، أي قبول التوبة عليه جل وعلا ، والمعنى المحصل إن من أساء ، ثم ندم وأناب يقبل اللَّه إنابته ، ويصفح عنه ، حتى كأنه لا ذنب له ، بل إن اللَّه سبحانه يثيبه ثوابا حسنا .
وتسأل : إن ظاهر الآية يدل على انه يجب على اللَّه أن يقبل التوبة من النادمين ، مع العلم بأن اللَّه يوجب على غيره ما يشاء ، ولا يوجب أحد عليه شيئا ، إذ ليس كمثله شيء .
الجواب : ليس المراد إن الغير يوجب على اللَّه أن يقبل التوبة . . تعالى اللَّه . .
وإنما المراد إن فضله وكرمه يستوجب هذا القبول ، تماما كما تقول للكريم :
إن كرمك يفرض عليك البذل والعطاء ، ومن ذلك قوله تعالى : { كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ } .
{فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} . ما داموا راغبين رغبة حقيقية في العودة إلى صفوف المؤمنين الأخيار . {وكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} عليم بالتوبة النصوحة والزائفة ، حكيم بقبول الأولى من التائب . .
__________________________
1. تفسير الكاشف ، ج2 ، ص 272-273 .
قوله تعالى : { إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ } التوبة هي الرجوع ، وهي رجوع من العبد إلى الله سبحانه بالندامة والانصراف عن الإعراض عن العبودية ، ورجوع من الله إلى العبد رحمة بتوفيقه للرجوع إلى ربه أو بغفران ذنبه ، وقد مر مرارا أن توبة واحدة من العبد محفوفة بتوبتين من الله سبحانه على ما يفيده القرآن الكريم .
وذلك أن التوبة من العبد حسنة تحتاج إلى قوة والحسنات من الله ، والقوة لله جميعا فمن الله توفيق الأسباب حتى يتمكن العبد من التوبة ويتمشى له الانصراف عن التوغل في غمرات البعد والرجوع إلى ربه ثم إذا وفق للتوبة والرجوع احتاج في التطهر من هذه الألواث ، وزوال هذه القذارات ، والورود والاستقرار في ساحة القرب إلى رجوع آخر من ربه إليه بالرحمة والحنان والعفو والمغفرة .
وهذان الرجوعان من الله سبحانه هما التوبتان الحافتان لتوبة العبد ورجوعه قال تعالى : { ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا } : [ التوبة : 118 ] وهذه هي التوبة الأولى ، وقال تعالى : { فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ } : [ البقرة : 160 ] وهذه هي التوبة الثانية ، وبين التوبتين منه تعالى توبة العبد كما سمعت.
وأما قوله : { عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ } ، لفظة على واللام تفيدان معنى النفع والضرر كما في قولنا : دارت الدائرة لزيد على عمرو ، وكان السباق لفلان على فلان ، ووجه إفادة على واللام معنى الضرر والنفع أن على تفيد معنى الاستعلاء ، واللام معنى الملك والاستحقاق ، ولازم ذلك أن المعاني المتعلقة بطرفين ينتفع بها أحدهما ويتضرر بها الآخر كالحرب والقتال والنزاع ونحوها فيكون أحدهما الغالب والآخر المغلوب ينطبق على الغالب منهما معنى الملك وعلى المغلوب معنى الاستعلاء ، وكذا ما أشبه ذلك كمعنى التأثير بين المتأثر والمؤثر ، ومعنى العهد والوعد بين المتعهد والمتعهد له ، والواعد والموعود له وهكذا ، فظهر أن كون على واللام لمعنى الضرر والنفع إنما هو أمر طار من ناحية مورد الاستعمال لا من ناحية معنى اللفظ.
ولما كان نجاح التوبة إنما هو لوعد وعده الله عباده فأوجبها بحسبه على نفسه لهم قال هاهنا : { إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ } فيجب عليه تعالى قبول التوبة لعباده لكن لا على أن لغيره أن يوجب عليه شيئا أو يكلفه بتكليف سواء سمي ذلك الغير بالعقل أو نفس الأمر أو الواقع أو الحق أو شيئا آخر ، تعالى عن ذلك وتقدس بل على أنه تعالى وعد عباده أن يقبل توبة التائب منهم وهو لا يخلف الميعاد ، فهذا معنى وجوب قبول التوبة على الله فيما يجب ، وهو أيضا معنى وجوب كل ما يجب على الله من الفعل.
وظاهر الآية أولا أنها لبيان أمر التوبة التي لله أعني رجوعه تعالى بالرحمة إلى عبده دون توبة العبد وإن تبين بذلك أمر توبة العبد بطريق اللزوم فإن توبة الله سبحانه إذا تمت شرائطها لم ينفك ذلك من تمام شرائط توبة العبد ، وهذا أعني كون الآية في مقام بيان توبة الله سبحانه لا يحتاج إلى مزيد توضيح.
وثانيا : أنها تبين أمر التوبة أعم مما إذا تاب العبد من الشرك والكفر بالإيمان أو تاب من المعصية إلى الطاعة بعد الإيمان فإن القرآن يسمي الأمرين جميعا بالتوبة قال تعالى : { الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ } : [ المؤمن : 7 ] يريد : { لِلَّذِينَ آمَنُوا } بقرينة أول الكلام فسمى الإيمان توبة ، وقال تعالى : { ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ } : [ التوبة : 118 ].
والدليل على أن المراد هي التوبة أعم من أن تكون من الشرك أو المعصية التعميم الموجود في الآية التالية : {وليست التوبة ...} « إلخ » فإنها تتعرض لحال الكافر والمؤمن معا ، وعلى هذا فالمراد بقوله : { يَعْمَلُونَ السُّوءَ } ما يعم حال المؤمن والكافر معا فالكافر كالمؤمن الفاسق ممن يعمل السوء بجهالة إما لأن الكفر من عمل القلب ، والعمل أعم من عمل القلب والجوارح ، أو لأن الكفر لا يخلو من أعمال سيئة من الجوارح فالمراد من الذين { يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ } الكافر والفاسق إذا لم يكونا معاندين في الكفر والمعصية.
وأما قوله تعالى : { بِجَهالَةٍ } فالجهل يقابل العلم بحسب الذات غير أن الناس لما شاهدوا من أنفسهم أنهم يعملون كلا من أعمالهم الجارية عن علم وإرادة ، وأن الإرادة إنما تكون عن حب ما وشوق ما سواء كان الفعل مما ينبغي أن يفعل بحسب نظر العقلاء في المجتمع أو مما لا ينبغي أن يفعل لكن من له عقل مميز في المجتمع عندهم لا يقدم على السيئة المذمومة عند العقلاء فأذعنوا بأن من اقترف هذه السيئات المذمومة لهوى نفساني وداعية شهوية أو غضبية خفي عليه وجه العلم ، وغاب عنه عقله المميز الحاكم في الحسن والقبيح والممدوح والمذموم ، وظهر عليه الهوى وعندئذ يسمى حاله في علمه وإرادته « جهالة » في عرفهم وإن كان بالنظر الدقيق نوعا من العلم لكن لما لم يؤثر ما عنده من العلم بوجه قبح الفعل وذمه في ردعه عن الوقوع في القبح والشناعة ألحق بالعدم فكان هو جاهلا عندهم حتى إنهم يسمون الإنسان الشاب الحدث السن قليل التجربة جاهلا لغلبة الهوى وظهور العواطف والإحساسات النيئة على نفسه ، ولذلك أيضا تراهم لا يسمون حال مقترف السيئات إذا لم ينفعل في اقتراف السيئة عن الهوى والعاطفة جهالة بل يسمونها عنادا وعمدا وغير ذلك.
فتبين بذلك أن الجهالة في باب الأعمال إتيان العمل عن الهوى وظهور الشهوة والغضب من غير عناد مع الحق ، ومن خواص هذا الفعل الصادر عن جهالة أن إذا سكنت ثورة القوى وخمد لهيب الشهوة أو الغضب باقتراف للسيئة أو بحلول مانع أو بمرور زمان أو ضعف القوى بشيب أو مزاج عاد الإنسان إلى العلم وزالت الجهالة ، وبانت الندامة بخلاف الفعل الصادر عن عناد وتعمد ونحو ذلك فإن سبب صدوره لما لم يكن طغيان شيء من القوى والعواطف والأميال النفسانية بل أمرا يسمى عندهم بخبث الذات ورداءة الفطرة لا يزول بزوال طغيان القوى والأميال سريعا أو بطيئا بل دام نوعا بدوام الحياة من غير أن يلحقه ندامة من قريب إلا أن يشاء الله.
نعم ربما يتفق أن يرجع المعاند اللجوج عن عناده ولجاجه واستعلائه على الحق فيتواضع للحق ويدخل في ذل العبودية فيكشف ذلك عندهم عن أن عناده كان عن جهالة ، وفي الحقيقة كل معصية جهالة من الإنسان ، وعلى هذا لا يبقى للمعاند مصداق إلا من لا يرجع عن سوء عمله إلى آخر عهده بالحياة والعافية.
ومن هنا يظهر معنى قوله تعالى : { ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ } أي إن عامل السوء بجهالة لا يقيم عاكفا على طريقته ملازما لها مدى حياته من غير رجاء في عدوله إلى التقوى والعمل الصالح كما يدوم عليه المعاند اللجوج بل يرجع عن عمله من قريب فالمراد بالقريب العهد القريب أو الزمان القريب وهو قبل ظهور آيات الآخرة وقدوم الموت.
وكل معاند لجوج في عمله إذا شاهد ما يسوؤه من جزاء عمله ووبال فعله ألزمته نفسه على الندامة والتبري من فعله لكنه بحسب الحقيقة ليس بنادم عن طبعه وهداية فطرته بل إنما هي حيلة يحتالها نفسه الشريرة للتخلص من وبال الفعل ، والدليل عليه أنه إذا اتفق تخلصه من الوبال المخصوص عاد ثانيا إلى ما كان عليه من سيئات الأعمال قال تعالى : { وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ } : [ الأنعام : 28 ].
والدليل على أن المراد بالقريب في الآية هو ما قبل ظهور آية الموت قوله تعالى في الآية التالية : { وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ } إلى قوله : { قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ }.
وعلى هذا يكون قوله : { ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ } كناية عن المساهلة المفضية إلى فوت الفرصة.
ويتبين مما مر أن القيدين جميعا أعني قوله : { بِجَهالَةٍ } ، وقوله : { ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ } احترازيان يراد بالأول منهما أن لا يعمل السوء عن عناد واستعلاء على الله ، وبالثاني منهما أن لا يؤخر الإنسان التوبة إلى حضور موته كسلا وتوانيا ومماطلة إذ التوبة هي رجوع العبد إلى الله سبحانه بالعبودية فيكون توبته تعالى أيضا قبول هذا الرجوع ، ولا معنى للعبودية إلا مع الحياة الدنيوية التي هي ظرف الاختيار وموطن الطاعة والمعصية ، ومع طلوع آية الموت لا اختيار تتمشى معه طاعة أو معصية ، قال تعالى : { يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً } [ الأنعام : 158 ] وقال تعالى : { فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ } : [ المؤمن : 85 ] إلى غير ذلك من الآيات.
وبالجملة يعود المعنى إلى أن الله سبحانه إنما يقبل توبة المذنب العاصي إذا لم يقترف المعصية استكبارا على الله بحيث يبطل منه روح الرجوع والتذلل لله ، ولم يتساهل ويتسامح في أمر التوبة تساهلا يؤدي إلى فوت الفرصة بحضور الموت.
ويمكن أن يكون قوله : { بِجَهالَةٍ } قيدا توضيحيا ، ويكون المعنى : { لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ } ولا يكون ذلك إلا عن جهل منهم فإنه مخاطرة بالنفس وتعرض لعذاب أليم ، أو لا يكون ذلك إلا عن جهل منهم بكنه المعصية وما يترتب عليها من المحذور ، ولازمه كون قوله : { ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ } إشارة إلى ما قبل الموت لا كناية عن المساهلة في أمر التوبة فإن من يأتي بالمعصية استكبارا ولا يخضع لسلطان الربوبية يخرج على هذا الفرض بقوله : { ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ } لا بقوله : { بِجَهالَةٍ } وعلى هذا لا يمكن الكناية بقوله : { ثُمَّ يَتُوبُونَ } عن التساهل والتواني فافهم ذلك ، ولعل الوجه الأول أوفق لظاهر الآية.
وقد ذكر بعضهم : أن المراد بقوله : { ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ } أن تتحقق التوبة في زمان قريب من وقت وقوع المعصية عرفا كزمان الفراغ من إتيان المعصية أو ما يعد عرفا متصلا به لا أن يمتد إلى حين حضور الموت كما ذكر.
وهو فاسد لإفساده معنى الآية التالية فإن الآيتين في مقام بيان ضابط كلي لتوبة الله سبحانه أي لقبول توبة العبد على ما يدل عليه الحصر الوارد في قوله : { إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ } إلخ والآية الثانية تبين الموارد التي لا تقبل فيها التوبة ، ولم يذكر في الآية إلا موردان هما التوبة للمسيء المتسامح في التوبة إلى حين حضور الموت ، والتوبة للكافر بعد الموت ، ولو كان المقبول من التوبة هو ما يعد عرفا قريبا متصلا بزمان المعصية لكان للتوبة غير المقبولة مصاديق أخر لم تذكر في الآية.
قوله تعالى : { فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً } الآيتان باسم الإشارة الموضوع للبعيد لا يخلو من إشارة إلى ترفيع قدرهم وتعظيم أمرهم كما يدل قوله : { يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ } على المساهلة في إحصاء معاصيهم على خلاف ما في الآية الثانية : { وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ } إلخ.
وقد اختير لختم الكلام قوله : { وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً } دون أن يقال : وكان الله غفورا رحيما للدلالة على أن فتح باب التوبة إنما هو لعلمه تعالى بحال العباد وما يؤديهم إليه ضعفهم وجهالتهم ، ولحكمته المقتضية لوضع ما يحتاج إليه إتقان النظام وإصلاح الأمور وهو تعالى لعلمه وحكمته لا يغره ظواهر الأحوال بل يختبر القلوب ، ولا يستزله مكر ولا خديعة فعلى التائب من العباد أن يتوب حق التوبة حتى يجيبه الله حق الإجابة .
___________________________
1. تفسير الميزان ، ج4 ، ص 202-206 .
شرائط قبول التوبة :
يشير سبحانه إِلى شرائط قبول التوبة إذ يقول : {إنّما التوبة على الله للذين يعملون السّوء بجهالة} .
وهنا يجب أن نرى ماذا تعني «الجهالة» هل هي الجهل وعدم المعرفة بالمعصية ، أم هي عدم المعرفة بالآثار السيئة والعواقب المؤلمة للذنوب والمعاصي ؟
إِنّ كلمة الجهل وما يشتق منها وإِن كانت لها معان مختلفة ، ولكن يستفاد من القرائن أنّ المراد منها في الآية المبحوثة هنا هو طغيان الغرائز ، وسيطرة الأهواء الجامحة وغلبتها على صوت العقل والإِيمان ، وفي هذه الصورة وإِن لم يفقد المرء العلم بالمعصية ، إِلاّ أنّه حينما يقع تحت تأثير الغرائز الجامحة ، ينتفي دور العلم ويفقد مفعوله وأثره ، وفقدان العلم لأثره مساو للجهل عملا.
وأمّا إِذا لم يكن الذنب عن جهل وغفلة ، بل كان عن إِنكار لحكم الله سبحانه وعناد وعداء ، فإِن إرتكاب مثل هذا الذنب ينبئ عن الكفر ، ولهذا لا تقبل التوبة منه ، إِلاّ أن يتخلّى عن عناده وعدائه وإِنكاره وتمرده .
وفي الحقيقة إِنّ هذه الآية تبيّن نفس الحقيقة التي يذكرها الإِمام السجاد(عليه السلام)في دعاء أبي حمزة ببيان أوضح إِذ يقول : «إِلهي لم أعصك حين عصيتك وأنا بربوبيتك جاحد ولا بأمرك مستخف ، ولا لعقوبتك متعرض ، ولا لوعيدك متهاون ، لكن خطيئة عرضت وسولت لي نفسي وغلبني هواي» (2) .
ثمّ إنّ الله سبحانه يشير إِلى شرط آخر من شروط قبول التوبة إِذ يقول : (ثمّ يتوبون من قريب).
هذا وقد وقع كلام بين المفسّرين في المراد من «قريب» فقد ذهب كثيرون إِلى أنّ معناه التوبة قبل أن تظهر آثار الموت وطلائعه ، ويستشهدون لهذا الرأي بقوله تعالى : (وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إِذا حضر أحدهم الموت) الذي جاء في مطلع الآية اللاحقة ، ويشير إِلى أن التوبة لا تقبل إِذ ظهرت علامات الموت.
ولعل استعمال لفظة «قريب» إِنّما هو لأجل أن نهاية الحياة الدنيوية مهما بعدت فهي قريبة.
ولكن بعض المفسرين ذهب إِلى تفسير لفظة «من قريب» بالزمان القريب من وقت حصول المعصية ، فيكون المعنى أن يتوبوا فوراً ، ويندموا على ما فعلوه بسرعة ، ويتوبوا إِلى الله ، لأنّ التوبة الكاملة هي التي تغسل آثار الجريمة وتزيل رواسبها من الجسم والروح بشكل مطلق حتى لا يبقى أي أثر منه في القلب ، ولا يمكن هذا إِلاّ إِذا تاب الإِنسان وندم قبل أن تتجذر المعصية في كيانها ، وتتعمق آثارها في وجوده فتكون له طبيعة ثانية ، إِذ في غير هذه الصورة ستبقى آثار المعصية في زوايا الروح الإِنسانية ، وتعشعش في خلايا قلبه ، فالتوبة الكاملة ـ إِذن ـ هي التي تتحقق عقيب وقوع الذنب في أقرب وقت ، ولفظة «قريب» أنسب مع هذا المعنى من حيث اللغة والفهم العرفي.
صحيح أنّ التوبة التي تقع بعد زمن طويل من إرتكاب المعصية تقبل أيضاً ، إِلاّ أنّها ليست التوبة الكاملة ، ولعل التعبير بجملة «على الله» (أي على الله قبولها) كذلك إِشارة إِلى هذا المعنى ، لأن مثل هذا التعبير لم يرد في غير هذا المورد من القرآن الكريم ، ومفهومه هو أن قبول التوبة القريبة من زمن المعصية حق من حقوق العباد ، في حين إن قبول التوبة البعيدة عن زمن المعصية تفضل من الله وليس حقاً.
ثمّ أنّه سبحانه ـ بعد ذكر شرائط التوبة ـ يقول : (فأُولئك يتوب عليهم وكان الله عليماً حكيماً) مشيراً بذلك إِلى نتيجة التوبة التي توفرت فيها الشروط المذكورة.
_________________
1. تفسير الأمثل ، ج3 ، ص68-70 .
2. بحار الأنوار ، ج95 ، ص 88 .
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|