أقرأ أيضاً
التاريخ: 28-8-2021
![]()
التاريخ: 2025-03-15
![]()
التاريخ: 15/12/2022
![]()
التاريخ: 28-8-2021
![]() |
العربية الفصحى ولا بديل
إنّ الذي جعلنا نُطرس هذه الورقات في حق العربية الفصحى؛ هي تلك الدعوات القديمة التي عادت في ثوب جديد وتقول: من الضروري أن نتحرّر من العربية الفصحى التي أصبحت لا تُقدّم العلم، كما لا تُقدّم التواصل الطبيعي، وأن تدريس الدارجة اليوم أكثر من ضرورة للحاق بالركب وأن اللغة الأم هي تلك الوسيلة اللغوية البسيطة الدارجة، وليست الفصحى المعيارية؛ فالعربية المعيارية الفصيحة لغة ثانيّة؛ وهي لغة قديمة، ويضاف إلـى ذلك ما يقال عن ضعف العربيّة، إلى غير ذلك من التّنادي إلى التعدّد اللغوي الأجنبي الانجذابي الذي يجعلنا ننقطع عن اللغة لغاتنا الوطنية، وعن اللغة المشتركة الجامعة، بدعوى العجز والفقر العلمي... تلك دعوات عقدت سُبل النطاق؛ لتنتهز نهزة المختلس التي تسوي ولا تسوى. ولكن الحقيقة التي لا شية فيها أن معظم تلك الأقوال؛ هي جوالب الأوهام، وليست من إنتاجات الأفهام، وأن زمانها قد ولّى، ولكن مناديها لا يعيش المعاصر فهم في غشاوة قديمة، ولا يدرون بأن العالم قــد تغير. ومع ذلك قد تكون بعض الأقوال سليمة في نواياها من تقعر بعض العروبيين، تقعر يعيش الفراغ الإجرائي التطبيقي والذي يدخل في جعجعة كلام ولذا لا نعدم بعض الأفكار التي هي من الصواب، ولكنّها لم تأت في المحال، ولم تقترح الحلول المنال، بل أريد من ورائها الإقصاء، وتلك غاية ضعيفة، بل حجج واهية، فهي حق أريد به باطل، وكان يجب أن نبني الأقوال على برهان. وكلّ هذا جعلنا نقرع طنبوب الاجتهاد ؛ لكتابة هذا الكلام والبحث عن حلول علميّة لهذه الحالة التي أسود منها المشهدُ اللغوي ونحاول التفصيل على هذا المنوال:
1- حق الاختلاف في المنهج طبيعي للغة : نروم الانطلاق من المقولة التالية: "العاقل هو الذي يتريث، والعالم هو الذي يشك، بينما الجاهل هو الذي يُؤكّد". نحــــن بحاجة إلى الاختلاف أحياناً؛ لمعرفة ما يُخفيه الآخرون في قلوبهم، وقد تجــد مـــا يجعلك في ذهول وقد تجد ما تنحني له احتراماً. وعلى العموم، فهؤلاء القائلون بتخرس الفصحى قد تأخرت ألبابهم عن إدراك غُررها ودورها في الماضي والحاضر، ويرون بأنّ الصفاء اللغوي في هذا الزمان كمن يطلب العنقاء المُجنّحةَ، فلا ينبغي الانتظار في اتخاذ قرار اعتماد تدريس اللهجة، وإلا نكون خارج دائرة الجغرافيّة. ويبدو لنا بأن مثل هذا الكلام لا تصريف له، ولا شك أنّه خديعة واهية يخدع بها الأغتام وسُذج القوم؛ فحججهم داحضة وآراؤهم تبرية. بقدر ما نقول لهم: لا تستعبوا النّاس في لغتهم، ولا تكونوا من الذين يعملون على التعطيل، فهي كلمات كان يجب أن تُقال في منهجيات التطوير وفي أفضل طرائق التحسين وصولاً إلى هدف مشترك؛ وهو خدمة المواطنة اللغوية في صورتها الجامعة.
2- مقولات عفا عليها الزمان: بعضها مقولات قديمة قيلت في أربعينيات القرن الماضي، ولبست آنذاك لُبوس اللاتينية التي انحرفت عنها اللغات الأوربية. وبالحق نقو: إنّ اللاتينية هي اللغة الأم بالنسبة للغات المنبثقة عنها: الفرنسية + الإسبانيّة + الإيطاليّة + المالطيّة + البرتغالية. وهذه اللغات لغات أم بالنسبة للناطقين بها في مناطقهم، ولكن اللغة الأم الجامعة المشتركة هي اللاتينية. وكذلك الكلام عن العربيّة فاللغة الأم هي اللغة الفصحى الجامعة، وكانت قبل أن تكون الفصحى أكثر من لغات أمّ في شبه الجزيرة العربيّة، وكل قبيلة كانت لها لغتها الأم، وتوحدت في اللغة الأم؛ وهي الفصحى لغة الشعر الجاهلي، ولغة المكان المقدس (الكعبة الشريفة) وهي لغة التعامل في مكة؛ باعتبارها مجمعاً للدين وللعقائد وللتجارة الداخلية والخارجيّة، ولغة المدينة باسم العصبية العربية (لغة قريش) والتي أصبحت لغة العرب الجامعة، ومن ثم أصبحت لغة الخطاب الرسمي. وهذا الواقع موجود الآن، فالخطاب الرسمي والقوانين تنص على لغة مشتركة جامعة، اللغة الأم. ومع ذلك نقول: إنّ قياس اللاتينية على العربيّة لا يجوز فلكل لغة خصوصياتها، ولذا فالقياس على الخطأ خطأ، وأنّ القطيعة بين اللاتينية وبناتها كانت بفعل ترهُلها، وعدم استجابتها للمراحل اللاحقة فعاشت اللاتينية العزلة التي ولّدت اللاتينيات. وأما العربية عند سلفنا لم يُسجل عليها التاريخ عجزاً، بل كانت تتمتّع بقوة جيّدة فاقت كل اللغات، فإذا أدركها الخلل والنقص فيعود إلى الخلف، دون أن نغفل أنّ اللغات التي لا تنقطع عن أصالتها تحمل الدين، فهل أتاكم نبأ السنسكريتية والعبرية اللتين لم تنقطعا عن ماضيهما إلا في شقهما الأسلوبي تطوراً، وحسب مقتضيات أساليب العصر، وحصل التواصل الفعلي بين لغة الأجداد ولغة الخلف، وهل ذلك غير جائز في العربيّة؟ أليس من الصواب أن تبقى الأصالة متواصلة في ثوب جديد متجدّد دونما حاجة إلى معجم لكلِّ عصر من العصور، أليس في هذا ميزة عقليّة وعلميّة؛ حيث يحصل التركيم اللغوي المؤدّي إلى الإبداع؟ وهل من المعقول أن ننقطع عن ماضينا وفي كل مرة نبدأ من جديد؟
3- مسألة الدّارجة: كلمة حق في غير محلّها، فما هي الدّارجة المطلوبة؟ ونعلم بأن في كلّ حيّ عندنا ،دوارج، علماً أن الدّارجة القريبة للفصحى ثابتة وموجودة في أسلوبها البسيط، وفي اختلاسها عن الأصل، وفي مستوى أُنسها، علماً انه لا توجد لغةً في العالم ليس لها المستوى العلمي المتأدب، وهو الفصحى في العربيّة (مستوى الخطاب العالي + خطاب الانقباض) والمستوى الثاني الأدنى (مستوى خطاب الأُنس) وهو المستوى الدارج البسيط عندنا، ويوجد هذا في أسلوب التواصل، وحتى على مستوى القراءات القرآنية، بل في خطابات النّحاة في عصر التدوين. أيخطر على بال أحدٍ أنّ صاحب الكتاب (سيبويه) كان يستعمل المستوى العلمي الرفيع في تواصله مع اللغويين زملائه وطلابه ومع أهل بيته كلا، وهذا ما لم يثبت عنه. ثمّ من الضروري أن يفرق المتحدّث بين الخطابات حسب المقام، والحال ومقتضى الحال والمتحدّث إليه وهذه سنّة كل اللغات. وقد سألتُ فرنسياً وأنا في قلب باريس: ? Ou se trouve la Bastille فأجابني: che pas بدل أن يقول: Je ne sais pas إذا مسألة المستويات اللغوية ثابتة في كل اللغات، والنّاس تميل إلى مستوى الأنس ليس تخلّياً عن المستوى العالي، بل السرعة والحذر والإشمام ومقتضى الحال استدعت التفريق بين المستويين واستعمال الأخف. ثم هل لغة المخترع أو الأديب هي لغة ابن السوق والإنسان العادي؟ كلاً لكلٌّ له مستوى لغوي ينتهجه.
ألا يخطر ببالنا لماذا كل اللغات سُميت بلغوي أو بمسرحيّ أو بفنان، ولم تُنسب إلى صاحب السُّوق أو حرفة ساقطة، أو إلى عالم ذرة، أو ميكانيكي، أو صاحب مخترع الطائرة النفاثة؟ لأنّ اللغة في أصلها أسلوب ونمط عيش، وفي ذاتها تحمل ثقافة أمة وحضارة مجتمع، ولا يؤرّخ لها إلا الأديب المبدع. ولهذا نجدها تُنسب إلى المبدعين في المجال الأدبي: لغة قولتير + لغة شكسبير + لغة گوتة + لغة القيدا سيبويه + لغة سي أمحند أو محند + لغة سينج + لغة بوشكين...
4- دعوة اللغة الأم: وهي من الحقوق اللغوية، ويجب التذكير أن الاحتفاء بيوم اللغة الأم حق سنته الأمم المتحدة في 21 فبراير من كلّ سنة؛ وهو تأكيد عالمي على أهمية اللغة الأم التي تستعمل مع المعارف؛ فالكلام يجري جرياً خفيفاً دون تكلّف كما أن بيني وبين ابن لغتنا تكون أبواب النّفس مشرّعةً بين الطرفين، ذلك أن الشخص عندما يتكلّم بلغته الأم يكون صادراً عن صميم أناه، ويكون هـو صفاء ذاته. ويمكن التركيز على أهمية اللغة الأم باعتبارها تندفق مــــن متلاغيها اندفاقاً، فلا يمكن أن تكون مثل اللغة الأجنبية حتى لو أتقنها المتعلّم إتقاناً فتكون شخصيته مفتعلة؛ لأنّه حصلها بالدراسة فقط، أما اللغة الأمّ فجاءت دون ترويض فهي عفويّة متدفقة، وهي صورة عفوية للوعي الجمعي وهي تلك اللغة التي يفكر بها، ويهرع لاستعمالها أثناء الخوف، ويتعامل بها في الحميميات؛ والتي ازدوجت بها شخصية الإنسان، فأصبحت توأمه، وبقية ما أجاده من لغات لا تعدو أن تكون محفوظات يعود إليها عند الحاجة. وعندما يتكلّف الكلام بلغة غريبة عنه يكون كَمَنْ خرج من ذاته، وتلمّس وجهاً آخر أو شاب ذاته الصائبة بعض العكر. أضف إلـ ذلك أنّ الشعب الذي يتكلّم لغته يغدو Homogène وإذا تكلم لغة غيره يصبح Heterogene أو Disparate ؛ لأنّ اللغة هي نفسها الإنسان والوطن والأمة والكيان، وهي الحضارة التي تكمل مسيرة السلف.
ولهذا، فمفهوم لغة الأم غير محدّد في اللغة الشفاهيّة أو اللغة التاريخية، بل في اللغة الوظيفية الرسمية والتواصليّة والتي يقع بها الإبداع. ومن هنا، نربط لغة الأمّ بتلك اللغات الست (6) المقررة لغات الأمم المتحدة، وهي لغات التواصل الدولي ويحصل الاحتفاء بها مرتين مرة تحتفي كل اللغات الست في اليوم المشترك الموافق 21 فبراير ومرة تحتفي كل لغة أممية بيومها الخاص: يوم 20 مارس للغة الفرنسية بيوم الفرنكفونية ويوم 20 أفريل للغة الصينيّة تكريماً لمخترع تلك الحروف التي تحمل رسم الصينية (سائغ جيه) ويوم 23 أفريل للروسية تمجيداً بميلاد شاعرها الكبير ألكسندر بوشكين ويوم 12 أكتوبر ذكرى يوم الثقافة الإسبانية، ويوم 18 ديسمبر تكريماً لذلك اليوم الذي أصبحت فيه العربية لغة رسمية أممية . فاللغة الأم هي اللغة الرسميّة في بلدها وفي الأمم المتحدة أيها الباحثون، وبذا تكون العربية لغة دوليّة ولغة أمّ. فهل من المعقول أن الأمم المتحدة تدعو إلى تخصيص أكثر من 6000 لغة ليكون لها يوم خاص باعتبارها لغات أمّ، علماً أن هناك 100 لغة فقط هي التي لها شأن في العالم وفي التواصــل وفــي التعليم. وهذه اللغات ألـ 100 سوف تتقلّص إلى الحد الأدنى جداً جداً فــــي حـــدود سنة 2050 ، بل إنّ بعضهم يُحدّدها في أربع (4) لغات، والبعض في لغات الأمم المتحدة الست (6) والباقي يدخل في التاريخ. إذا نرجو الحذر في استعمال كلمة اللغة الأم بالمفهوم الغلط.
5- العربية لغة قديمة: إنّ العربيّة قدمي قديمة، وهذا ما أكسبها العلم والحضارة فقام فيها فكر الإنسان العربي أولاً، ثمّ فكر الإنسان في عمومه؛ لأن العربيّة خدمتها الحضارة الإنسانيّة. بالفعل قام فيها الفكر الإنساني يسجل حصائله، وينقل موارد المعرفة من جيل إلى جيل، وبكثير من اللغات، وذلك النقل صنع تراثاً إنسانياً ضخماً حمله الحرف العربي في المقام الأول، وأتت مضامينه بشكل لا مثيل له بعض اللغات الأخر، وهذا من مفاخر لغة العرب؛ حيث تضخم التراث العربي الإسلامي بصدق الدّلالة في ضبط علاقة الفكر بالمجتمعات العربية وغير العربيّة، وسجل مختلف التقلبات في المسيرة الطّويلة بين المتناقضات بين الدقة والصرامة وعمق الرؤية. إنها العربية الفصحى؛ اللغة التي استوعبت عقيدة الإسلام تأملاً ونظراً واعتباراً ونقلت الإنسان العالمي بما تفتح لها من أفق مَعرفي عام من شظف حياة العربي البسيطة إلى عمق فكره الحرّ المنفتح المتفاعل أخذاً وعطاء، وما كان ليتسنّى ذلك لو لم تكن العربية الفصحى لغةً حيّةً ومتطوّرة ومتفاعلة مع محيطها، ومستفيدة من الآخر في غير ما ضعف، ومستوعبة للجديد من التفريط في خصائصها. والآن يدعوننا إلى التخلّي عن العربية الفصحى هذا الكنز الكبير، وإلى اتخاذ لغة العوام على أنّها أحسن لسان، أليس هذا من العار والشّنار، وتقولون هذا من المنار. فهل فكرتم في ما هو من المزاد، لا الانتكاسة والعودة إلى ما كان من المراد، ولم يتحقق ذات، زمان، فحملتم الدعوة دون برهان ويا ليتكم بحثتم في المفيد، وصولاً إلى غاية تستزيد. ويا ليتكم عملتم على إحياء العربية من داخلها لا برصف كلمات نقد وتجريح من صنع الآخر، وهي كلمات تعمل على التعطيل ليس إلا، اما ليس لدينا الوقت لمزيد من التأخير، فمتى نلحق الركب بهذه المطبات التـي تعمل على التّعطيل.
واعجباً، نطعن في الفصحى العتيدة، هذا الحصن الذي بقي واقف العولمة، الجارف، بعدما رأينا الخرق يتّسع على الواقع، من تدنّي الهمم، واحتقار الذات، حيث كنا ننظر إلى اللغة أياً كانت على أنّها وسيلة للتواصل لا غير، وننسى أنّ اللغة مفتاح لإصلاح عقولنا، ومادة لنخبة أفكارنا، وإكسير لإشباع حاجتنا، وانتماء اجتماعي وليست مجرد أداة للاتصال، وإنّها وجهة نظر الناطقين بها في طريقة إدراك العالم ووضع متصوّراته الذهنية، فاللغة الفصحى تحمل قيمهم الخصوصية والاجتماعية والثقافية. وهكذا يقولون: تخلّوا عن فصاحة العربية تكونوا متقدمين بلغة الدهماء والغوغاء، يريدوننا أن نتخلّى عن فصاحتها التي أبهرت اللغات، وعن سرّ بقائها حية وعن جمالها وعلمها وأسرارها؛ لتحصل القطيعة والتحنيط، فهل هذا من النّصيحة أم من الخديعة؟ يدعوننا إلى التخلي عن العربية التي تحمل القرآن وهو أسمى كتاب سماوي والذي جعلها ترتقي ولم تكن شيئاً، حتى رفع سمكها وزاد من متانتها، وهي تكبر به وفيه، لما يحمل من أساليب لا مثيل لها في كل اللغات.
6 - العربية الفصحى بفصاحة القرآن: كثير من الذين يجهلون بأن المتحكم في اللغة لا يخلو ثقله من حمولة القرآن، وهذا ما أثبتته الأبحاث التي قمنا بها مع طلابنا ومع تلك الأطاريح التي أنجزناها، فقد أثبتت بأن الحافظين أو الحاملين للقرآن، أو الذين انتموا إلى الكتاب هم المتفوقون في التحصيل وفي كل العلوم، وينبئنا هذا بما نراه في قائمة المتسابقين في مختلف المسابقات، فهم يتصدّرون. ولهذا، فالعهدة في هذا أن يقع الاهتمام بالتحصيل القرآني في بعض أبعاده، ولا يعني هذا الدعوة إلى حفظ أحزابه، بل إلى الاهتمام بأساليبه؛ على أن تكون شواهد في الكتاب المدرسي وأن تكون بعض الأجزاء من المحفوظ الذي يرقي لغة التلميذ/ الطالب. وما نقوله ليس بدعة في المجال ويكفينا الحال بأن متصدّري المسابقات وطنياً ودولياً هم حَفَظَة القرآن، أو بعض أجزائه كما أن المتألّقين في شهادة البكالوريا أغلبهم من الحَفَظَة للقرآن، أو لبعض أجزاء القرآن. ولكن هذا الأمر يَعتوره بعض النقص في التوجيه الإعدادي وفي البكالوريا، فنحن نوجه التلاميذ الطلاب المتفوقين إلى المواد العلميّة ونشترط أعلى العلامات، ونوجه الحاصلين على العلامات الدنيا إلى الآداب أو الحقوق أو علم النفس، فتلك ليست من العدالة اللغويّة ولا المعرفيّة، بل تحمل في ذاتها تحقير هذه المواد، كما تغرس في نفسيّة المتوجهين إليها سقط المادة التي اختارها أو وُجّه إليها. فإذا أردنا للعربية مكاناً أن يقع توجيه المتفوقين، ونشترط العلامات العليا، ومن ثم تأتي النوعية، وعند ذلك لا نشتكي الفقر اللغوي في العربيّة.
7 مهلكة العربيّة: صحيح إنّ هذا الكلام ما كان ليقال لو أن أصحاب العربية في وقتنا الراهن عملوا على تخيّر النصوص المائعة التي تخلب الألباب، وعملوا على وضع دعائم المناخ اللغوي السليم الذي يمكن للفصحى أن تكون لغة الفكر التي تُولّد الأعمال الخالدة كما حصل في سالف الزمان. ولكن الأمر المبكي لمهلكة العربية أنه قبلنا ببعض السلوكات اللغويّة والنصوص العلميّة والأدبية التي بزل فيها الفساد وتركناها على عواهنها دون علاج، وقبلنا بالقول الفاسد "الخطأ المشهور أفضل من الصواب المهجور". ونرى القوم يغمسون ألفاظاً شُعثا غبراً، ويعتثلون أساليب الفساد اللغوي غير المفهوم، ولم يعد للحذاقة والفصاحة وجود؛ فنرى العربيّة في مأزق المهلكة تصيح من التحنيط ومن قلة الاستعمال، وهذا لا يذهب بها بعيداً؛ بل يزيدها تقهقراً. وإننا ندري وندري أننا ندري بأن الخطأ المشهور ليس أفضل من صواب مهجور، حيث اللغة بنت الأمة، وعنوانها وآخرة أوامرها وطبعها الخاص؛ فالخطأ المشهور غلط لا بدّ من تصويبه أو ردّه إلى منواله، ولا ينبغي أن نضع على أعيننا عصاباً يعمش عمى يُحال للفصحى في السر وفي العلن من أبناء جلدتنا؛ حتى يصبح الخطأ عادة في الطباع. ولكن البعض قد يعذر، حيث لم نستذرع آفات المعاجم لتمييز الكلام الفصيح عن الكلام الرغوة في ما نتفوه به من الأساليب التي بَزل فيها الفساد؛ بقدر ما قبلنا العجمة في شوارعنا وقنواتنا ومحلاتنا وفي مدارسنا ، كما قمشنا بعض أساليب العربية من مصانع اللغات الأجنبية، فطارت الفصحى شتاتاً واختلط الكلام الفصيح بغير الفصيح، ولم نعمل بمقولة من يقول : من أراد الفصحى وسعى سعيها فليرجع إلى تلك الحصائد الجميلة، ويرتع في رياضها الزفرة، كما رتع الأوائل الذين يتخيرون الأماكن التي تتنزل فيها كل لفظة ضريبها، لكل عبارة مع لأننا لفقها". طارت الفصحى مع لم نعتمد الصواب اللغوي من خلال لغة القرآن الذي ألبس العربية أبهى حلّة وصانها من العبث، وصفاها من الأكدار، وحفظها من الهجر، ولذا فارتباطها به حتم لازم. ولا بد من توجيه الكلام للمبدعين، فأين تلك الأقلام المضيفة على هذي السلف أقلام تقول: أنا العربية ولا فخر أين من يُعيد للعربيّة قبعتها العالية كما قال فيكتور هوجو / Victor Hugo : "أنا الذي ألبس الأدب الفرنسي القبعة الحمراء". نريد مبدعين منتجين ينحون أو يواصلون مسيرة الكبار الذين يعملون من أجل لغاتهم، دون احتقار بامتلاك الفصحى صحيحة في معاييرها وهي المنوال، ولا يكون بالدوارج التي لا تنتقل من جيل إلى جيل ولو بسلطان اللغة تنتقل بالصفاء اللغوي، وباللغة الأدبيّة كما قال (جون غرومان): أحاول أن تكون لغتي فرنسية خالصة مُصفاة، وهناك شيء شغلني باستمرار هو: ما هي المعاني والظلال التي تعبّر عنها مختلف التراكيب اللغويّة؟ فأنا أعمل على إدراك عبقريّة اللغة الفرنسية والبنية الذهنية لهذه اللغة وليست الفرنسيّة إذا ما أقصينا لغات أهل الجنوب وأصحاب الأقدام السوداء ولغات كل المتعلّمين الذين درسوا اللاتينية في المدارس وأولئك الذين درسوا الإنجليزيّة واستعمالات الذين درسوا الفلسفة الألمانية، وأيضاً مستعملي اللغة العامية المسماة (الارغو/ Largo) لغة الشارع... وإذا أقصينا كلّ هذه اللغات وجدنا الفرنسيّة.
8- احذروا الهجين اللغوي: يؤكّد الراسخون الذَّابرون في العلم بأسرار العربية إذا بدأ الهجين فشا، وإذا شاع انتشر في جسم اللغة انتشار النار في البترول، فلا يبقى لها من الصفاء والنّصاعة إلاّ ما يُبقيه الوشم في ظاهر اليد. وإن الهجين اللغوي ينقل العربية إلى أرض يباب لا تنتج أكلها كل حين. وكما يمس الأمر الدارجة؛ فهي ناقصة ولا يمكن أن تكون مُبلّغة وواضحة وعلمية؛ بقدر ما تحمل في متنها من ضعف وقلة حيلة وندرة في الأساليب، فلا هي تحمل المعنى المُعبّر، ولا تستطيع التعبير عن الجانب الأدبي أو العلمي، فلا خير في لغة لا يدلّ فيها الكلام على المعنى كما قال (عمرو بن بحر الجاحظ) "لا خير في كلام لا يدلّ على معناها، ولا يشير إلى مغزاها، ولا إلى الصمود الذي إليه قصدت والغرض الذي إليه نزلت".
9- تمسكوا بالفصحى: وأحسنُ مبدأ في التمسك بالفصحى هو قرع الاجتهاد لإبادة الفساد اللغوي، وسدّ الثّقوب والهنات؛ لأنّ المأساة تبدأ من مستصغر الأمور فعلينا رمي الحجر في بركة اللحن لعلّه يعود إلى الصواب، وإن تلك الأحجار كما في البركة تتسع دائرتها على التوام؛ فتأخذ حجمها في كل زمان. وسيكون ذلك هو الرأي الراجح القارح الذي يستعيب هذا الصدع، فلا خير في كلام يُزجيه قائله قضيباً عارياً عن الحسّ اللغوي، لا ترى فيها عوجاً ولا نبُواً. وإنّه ليس من باب التذكير بأنّ العربية لغةً حملت عراس الألفاظ الأبكار؛ والتي أخرست بدائع العبارات التي جعلت الخزامى في أنف كل عربي مُفوَّهاً بليغاً عارفاً بأسرار البلاغة، وفي تنضيد الألفاظ، وهي لغة مرصعة متتابعة كما رصعت حبّات الجلبان في سنيفها ورأسها الطباع، وعمودها السماع العربية لغة بزت كل اللغات وتدنصرت، وبقيت صامدة رغم الكثير من الهزات ألا يوجد ما يعضدها ويدفع بها إلى الأمام، ونحن أباعد عنها، والغرباء يعشقونها، وتقول فيها المستشرقة الألمانية زيغرد هونكه : كيف يستطيع الإنسان أن يُقاوم جمال هذه اللغة ومنطقها السليم وسحرها الفريد؟ فجيران العرب أنفسهم في البلدان التي فتحوها سقطوا صَرْعَى سحر تلك اللغة..." وقال المستشرق الألماني (أوجست فيشر / August Fisher): "وإذا أستثنينا الصين فلا يوجد شعب آخر يحق له الفخر بوفرة كتب علوم لغته غير العرب". وقال بروكلمان: بلغت العربية بفضل القرآن من الاتساع مدى لا تكاد تعرفه أيّة لغة أخرى من لغات الدنيا. وقال الفرنسي وليام مرسيه William Marçais العبارة العربية كالعود، إذا نقرت على أحد أوتاره رنت لديك جميع الأوتار، وخفقت ثم تُحَرَّكَ اللغة في أعماق النفس من وراء حدود المعنى المباشر موكباً من العواطف والصور". وقال الفرنسي لويس ماسينيون / Massignon "اللغة العربيّة هي التي أدخلت في الغرب طريقة التعبير العلمي، والعربية من أنقى اللغات؛ فقد تفرّدت في طرائق التعبير العلمي والفني". وإنّ هؤلاء قالوا هذا الكلام لأنهم أدركوا بحصافة ألبابهم أنّ العربية الفصحى لا بديل لها، فهي الجامعة التي يعلو شأنها. ولا تكون الدوارج بديلاً عنها لفقرها وضعفها وتعدّدها.
لا بديل عن الفصحى؛ لأنّ الفصيح من الكلام هو "... ما وافق لغة العرب ولم يخرج عما عليه أهل الأدب، ولتصحيح ذلك وضع النّحو، ولجمعه وضعت الكتب في اللغة، وذُكر المستعملُ منها، والشاذ والمهمل، وحق من نشأ في العرب أن يستعمل الاقتداء بلغتهم، ولا يخرج عن جملة ألفاظهم ، ولا يقنع من نفسه لمخالفتهم فيُخطئونه ويُلحنوه، واللحن ما خالف اللغة العربيّة، وخرج عن استعمال أهلها، وما بنى عليه إعرابها، وهو مصعب عند الأدباء في الجملة وعلى من يأخذ نفسه بالإعراب، ويتكلّم بالغريب من لغة الإعراب أعيب، ويروى أن عمر بن الخطاب عنه كان يضرب على اللحن "فأما العرب فإذ لحن الواحد منهم... سقطت عند أهل اللغة منزلته ودفعت ورفضت لغته". بالفعل فإنّ عسل الاستعمال يكمن في الفصحى وبالفصحى نطرس معالي الكلام؛ رغبة في بلوغ الكمال والجمال. حتى إن بعض العرب يوصون أبناءهم قائلين يا بني أصلحوا ألسنتكم، فإن الرجل تنوبه الثانية فيتجمل فيها، فيستعير من جيرانه دابة، ولكن لا يجد من يعيره لسانه.
10- ما هي وصفة ازدهار العربية الفصحى؟ تفرض العربية وجودها بقوة متكلميها وإرادتهم الأجواء والبيانات التعليمية التي تُدرك محورية إصلاح تربوي تعليمي يقرّر اصطناع المعارف الضرورية لتضميد عجين الثقافة العربيّة، وبناء صرح لغوي مرصوص لا يتوصله أي متزيّد مرتاب عن طريق تلك النصوص المتخيّرة التي تُضيف ولا تُنيف. علينا الاستهداء بالطرائق التعليمية الناجحة التي ترشدنا إلى كيفية الحفاظ على صيانة لغتنا الفصحى، وأن نسير على مناهج علمائنا الذين أُوتُوا الكلمة وفصل الخطاب، وعلى خيرة الخبراء المهرة الذين حولوا وجهاتهم للتقنية الرقمية لا تند عنهم صغيرة ولا كبيرة إلا أحاطوا بها علماً وذلك ما يجب تشجيهم والشدّ على عضدهم لمزيد من علميّة العربيّة، دون إغفال أفكار فقهاء اللغة الذين أيقظوا أوطابَ الفصحى، فنستفيد من منتوجهم والذين يضيفون عليها سهو له فهمها أو اختراع مناهج توظيفها، نعمل على تطوير مناهجهم. وعلينا أن نكثر من الندوات العلمية والملتقيات الفكرية، ومن تأسيس المجامع اللغوية ومن المؤسسات الترجميّة وأن نجعل العربيّة تستفيد من شعرائها المفلّقين، ومن خطبائها، ومن أساتذتها المبرزين ومن صحافييها اللوذعَيين، ومن حرفييها الماهرين، ومن مهندسيها الحاذقين، وعلينا العمل بالمشاريع الجماعيّة بدل الركون إلى جهود الأحاد، وأن تتولّى المؤسساتُ العلميّة واللغوية استعمال قوة القانون في تطبيق العربيّة تعليماً وتعلّماً واستعمالاً. وكلّ هذا لا يمكن أن يكون ذا جدوى إلا إذا استحكم فينا التخطيط المرحلي المبني على التقويم ثم التقييم، ويكون متبوعاً بالثواب العقاب.
- وأخيراً: الآن وصلنا إلى حرف النّهاية، وحطّ الزورق شراعه، ولم يبقَ عندنا ما نقول؛ فقد تعب الكلام من الكلام. وما قلته كلام بسيط، ولكنّه أني معيش ونعتبره من شعاع شمس المعرفة باللغة العربيّة، ونرجو أننا قد أصبنا كبدَ الظَّبي في ما أومأنا إليه من معلومات؛ وقد اجتلبناها من معادنها الأصلية، وأخذناها من الحذاقين الذين مخضوا أوطاب الفصحى، ومَخرُوا عُباب الأولين، وهذا عربون حبي للدفاع عن هذه اللغة التي نراها تعلّق عليها المُضايقات، وترمى بالترك ونشدان غيرها من الأجنبيات ونتناسى أنّه ما افتخرت أمة إلا بلغتها، وما أمة في العالم بغير لغاتها. ألم يقل (مصطفى صادق الرافعي) في كتابه وحي القلم: "ما ذَلّت لغةً شعب إلاّ ذُلّ، ولا انحطّت إلا كان أمره في ذهاب وإدبار. ومن هذا يفرض الأجنبي المستعمر لغته فرضاً على الأمّة المُستعمرة، ويركبهم بها ويُشعرهم عَظَمَته فيها، ويَستَلْحِقُهُم من ناحيتها، فيحكم عليهم أحكاماً ثلاثة في عمل واحدٍ: أمّا الْأَوَّلُ: فَحَبْس لغتهم في لغتِهِ سجناً مؤيّداً. وأمّا الثّاني: فالحكم على ماضيهم بالقتل مَحواً ونسياناً. وأمّا الثالث: فتقييد مستقبلهم في الأغلال التي صنَعَهَا، فَأُمرهم من بعدها لأمره تبع. فهل نقبل بأن نضيع؟ ألا يأتي يوم يُقال عنا: ابكوا على لغتكم كالأمهات، فلم تكونوا رجالاً لتحافظوا عليها. ويل لذلك اليوم الذي تصيح فيه النّاس: وا مُصيبتاه من جيل ترك لغته والتجأ إلى لغة ليست لغته وهي لا تقبله حتى لو أبدع فيها، وعمل على تطويرها، فيبقى منفياً فيها، ويتأسف ذات زمان، ويكون قد فاته الوقت، ويقول: ليتني قدّمتُ جهدي في ترقية مواطنتي اللغوية ولا يسجل على التاريخ أنني أنكرتُ تاريخي وهويتي. وهكذا نقول: ويلٌ لجيل يستبدل الذي هو أعلى بالذي هو أدنى ويعجبنا في هذا تلك المقولة الخالدة لمالك حداد الذي قال عنه الأديب الفرنسي (لوي أراجون Louis Aragon) "إن أعذب الشعر هو ما نظمه (مالك حداد) فردّ عليه أنا أرطن ولا أتكلّم، إنني معقود اللسان، نعم يا أراجون إنني لا أغني ولو كنت أعرف الغناء لقلت شعراً عربياً. وهذه مأساة لغتي، لقد شاء أن تكون في لساني آفة، وفي لساني عاهة، ولا تكلمني يا صديقي إذا لم يطربك صداحي".
|
|
علماء يطورون أداة ذكاء اصطناعي.. تتنبأ بتكرار سرطان خطير
|
|
|
|
|
ناسا تكشف نتائج "غير متوقعة" بشأن مستوى سطح البحر في العالم
|
|
|
|
|
المجمع العلمي يقيم دورتين لتعليم أحكام التلاوة لطلبة العلوم الدينية في النجف
|
|
|