أقرأ أيضاً
التاريخ: 19-4-2019
1565
التاريخ: 2023-05-25
1290
التاريخ: 28-8-2020
2925
التاريخ: 2023-05-01
1594
|
لا جدال في أن معظم البلاد المستعمرة اليوم آخذ بالنهوض من حيث تراتيبه وعمرانه، أما دوام حياة المستعمرات والاحتفاظ بكيانها فتبع لقوة أهل المستعمرة الأقدمين؛ فإن كانوا من جنس ضعيف التراكيب كالجنس الأحمر والأسود، ضعفت مقاومتهم لهذا الجنس الآري الأبيض الذي جاءهم بكل ضروب القوة، ففني الضعيف في القوي، على نحو ما حدث في كثير من أصقاع إفريقية وأميركا. وإذا كان أهل البلاد المحتلة أو المستعمرة من عنصر راق ذي مدنية معروفة كالهندي، فهناك المشادة بين الدخيل والأصيل؛ لأن سكان البلاد لا تفوتهم فائتة من نيات من نزلوا عليهم، ولا يُرجى بحال من صاحب السلطة القاهرة أن من يستتبع إلا على ما يوافقه؛ ليتسنى له الانتفاع به أطول مدة ممكنة، أو تكون بلاده للمحتل ولأعقابه ملكًا مؤبدًا على وجه الدهر؛ ولذلك نرى هذا المحتل يحاول أن يلقن من يستعمره أو يحميه جماع منازعه ومآتيه، ولا يفتأ يعمل على إدماجه في جملته، وتجنيسه بجنسيته، وإلحاقه بقوميته. يلقنه عظمته وعظمة قومه، ويحاول أن ينسيه ماضيه ويخرجه عن مميزاته، يتصرف بقلبه وروحه على ما يهوى، والغالب ألا يترك له من موارد الحياة إلا سِدادًا من عوز وما يمسك عليه الرمق. وفي النادر أن أمة ذات سلطان أمة لا حول لها ولا طول، وما عُهد ذلك لغير الأمة العربية، على ما أكد ذلك العارفون من الغربيين اليوم. ولا يستغربن أحد ما يشاهد من غارات الدول المستعمرة ما دمنا موقنين أن المدنية الحديثة هي ابنة «المادة»، والإنصاف يقل في أهل المادة، وهم يحتقرون في سبيلها المثل العليا والأخلاق الفاضلة، وتقبل أذهانهم كل وسيلة ما دامت الغاية جمع المال، كما قال أحد كتاب الأميركان وساغ بعد هذا أن يُقال: إنه ليس من العدل في قليل ولا كثير ما أوردته الشعوب اللاتينية من المبررات للاستيلاء على شمالي إفريقية مثلًا. يقول تولستوي (1) (إن عاطفة الوطنية في زماننا هذا هي عاطفة غير طبيعية، خارجة عن الصواب ومضرة، وهي علة أكثر أمراضنا الاجتماعية التي يئن منها النوع البشري، ومن المدهش أن تكون الوطنية هي سبب التسليح العام والحروب المهلكة للإنسان، وكان من قانون التجنيد العام في النصف الثاني من القرن التاسع عشر في أوروبا أن خضعت هذه لرقّ أخبث من الرق القديم ولم تقف قحة الحكومات وقسوتها وجنونها عند هذا الحد، بل تنازعت لاغتصاب ممالك آسيا وإفريقية وأميركا مسوقة بعوامل الهوى والصلف والجشع ، وأعقب ذلك تفاقم سوء الظن والعداوة بينها، وصاروا يعتبرون ما ينال الأمم المقهورة من الخراب والدمار أمرًا عاديا، ويهتمون بالبحث عن شيء واحد فقط، وهو لأي الحكومات الحق في أن تستولي على أرض غيرها وتبيد سكانها. إن جميع الحكومات لا تسيء إلى الأمم المقهورة، وتظلمها، بل يعتدي بعضها على بعض، وترتكب جرائم الغش والغدر والرشوة والخداع والتجسس والسرقة والقتل، هذا ترى الأهالي يشجعونها على ذلك كله ويبتهجون إذا كانت حكومتهم لا غيرها هي المرتكبة لأمثال هاتيك الجرائم. وقد بلغت العداوة بين مختلفي الشعوب والحكومات في الأيام الأخيرة مبلغًا عظيمًا جدًّا، حتى علم كل إنسان أن الحكومات طرا تقف بلا سبب معقول ناشبة أظفارها مكشرة عن أنيابها، رجاء أن تخور قوى إحداهن فتفترسها الأخرى وتمزقها شر ممزق بلا كبير عناء ومخاطرة. وقد انحطت الأمم النصرانية بالوطنية إلى أسفل دركات الوحشية فأصبح سكان أوروبا وأميركا حتى غير المجبرين على الحرب يودون المذابح ويسرون للقتل، ومع أنهم مقيمون في ديارهم آمنون في أوطانهم بعيدون عن كل خطر، وكان شأنهم عند نشوب كل حرب شأن الرومانيين النظارة في المصارعة، يبتهجون بالذبح ويصيحون صيحة الظمآن لسفك الدماء، مشيرين بالإجهاز على المهزوم ...) استراحت الأقطار التي سقطت في أيدي الدول المستعمرة من فوضى الأحكام، ودخلت على الجملة في طور تنظيم ونظام، وتلقف أهلها ما طاب لهم تلقفه من الحضارة العصرية، ولكن أتبقى لهم خيرات بلادهم، وتبقى عليهم الدول الفاتحة مشخصاتهم وخصائصهم؟ هذه هي المسألة المهمة في المستعمرات؛ ذلك لأن الغربي مجهز بالصفات التي تؤهله للكفاح في سبيل الرزق، وهو معتز بعز الحكم في قومه. والوطني قد ضعفت فيه هذه الأجهزة إلى حد غير قليل، وفترت فيه بعض الفتور الحرارة الضرورية لمحاكاة غيره في جهاده بما هجم عليه من مغريات الحضارة الحديثة، ومن الفتنة بمذاهب غيره في الحياة، فكان بين أمرين لا ثالث لهما؛ إما قبول مدنية الغرب بما فيها من منافع ومضار، أو المجاهرة بالعصيان عليها، وفي كليهما الانقراض والفناء. نحن نعلم أن من أهم الأسباب التي تدعو الدول الصناعية إلى ركوب مراكب الأخطار في الاستعمار هو جلب الغذاء لبلادها والاستئثار بالمواد الأولية لمصانعها، وإيجاد مصارف لصناعاتها، ومخارج لبضائعها، وأن أرض الأوروبيين ضاقت بهم، ولا سيما بعد منتصف القرن التاسع عشر؛ وعلمتهم حضارتهم أن لا يقنعوا في طلب الربح، وأن يتوسعوا كل التوسع في مطامعهم. ونعلم أن الشرق مهمل متسع الرحاب، يعول أهله ويعول أضعاف أهله، إذا حسن استثماره، ونعلم أن هذه المدنية الحديثة حملت في مطاويها من الجشع والأثرة ما لا نسبة بينه وبين دعوى نعومتها ونعمها، وأنها مزجت أحيانًا بكثير من العنف والخسف وقست قلوب دعاتها فما رجعوا في عملهم إلى عاطفة، ولا حفلوا تعاليم المسيح في الحب والسلام. ولو ظل الغرب نصرانيا بالمعنى الذي نفهمه من هذا الدين لما تعدى سلطانه ما وراء حدوده، ثم لما كانت هذه الحضارة الغنية بجميع مظاهرها، وكيف نطلب الرحمة ممن لا يرحم نفسه، ولا يتراحم وأقرب الناس إليه؟ تكثر روابط الأمم الغربية بعضها مع الآخر، فهم أبناء عناصر متشاكلة متقاربة، وأصحاب مذاهب ترجع في جوهرها إلى أصل واحد، ومع هذا رأيناهم كيف عامل بعضهم بعضًا في الحرب العالمية الأخيرة؛ تعاملوا – شهد الله بقسوة ما شهدها الإنسان في قرون الهمجية الأولى. وبعد، فمن العبث أحيانًا مطالبة من يعتز بقوته بأداء الحق كله، لا سيما إذا كان بذل مالا ورجالًا حتى تمت له الغلبة على ما طمح إليه، وتوطد سلطانه في أرض استنفضها واستقراها واستنبتها، والفتح الحديث لا يُراد منه أولا وبالذات غير فائدة القوي قبل الضعيف. وهذه سنة الكون منذ دحيت الأرض وسار البشر على سطحها. ثم إن الأمم الكبرى هي أيضًا تحت وصاية طبقتين متغلبتين فيها طبقة رجال الجندية وطبقة الممولين أو طبقة أرباب الصولة في الدولة، وأصحاب الأموال في الأمة، ولا يلذ لهاتين الطبقتين إلا أن ينعما الحين بعد الآخر بانتصارات جديدة، وأن يستنزف الأفراد ثروة الجماعات يهنئون بما جمعوا من القريب والبعيد. قالوا: إن بعض المستعمرات لا يفي دخلها بخرجها، أو لا توازي كل هذا العناء للاحتفاظ بها، نشاهد الدول متماسكة فيها، ومتمسكة بحقوقها عليها؛ لئلا تستهدف لغضب أصحاب السيطرتين الماديتين الجندية والمالية، وإن أغضبت أهل المذاهب الاشتراكية والشيوعية وغيرها من أصحاب النزعات السياسية الهدامة الدائبة على تمزيق نظم حكم الجمهور (الديمقراطية)، وهو يرجع في جوهره إلى الاستبداد يومًا بعد يوم؛ ولذلك قالوا: إن هذا الضرب من الحكم أفلس وخابت الآمال فيه، وإن كانت مظاهره مجالس نيابية وأنظمة دستورية ووزارات مسؤولة عن أعمالها. ولقد ادعى بعض الدول لتبرير مقامها في بلدان الشرق أن غايتها هي حماية الأقلية من ظلم الأكثرية، وهي دعوى اخترعوها في العهد الذي قويت فيه نغمة الاستعمار، ولإثباتها قد يثيرون ثائرة التعصب المذهبي في الناس؛ ليتخذوا من فريق على فريق نصيرا، يلقون العداوة والبغضاء بين أبناء الوطن المشترك، بواسطة غلاة دعاتهم ومبشريهم؛ ليحصل التوازن بزعمهم بين أهل التعاليم المختلفة، وما رأينا بلادًا قط حكمت بغير رأي سوادها الأعظم، وما كان لنا أن نقول اليوم مثلا لرومانيا ويوجوسلافيا، وفيهما مئات الألوف من عنصر واحد ودين ،واحد، أن تعاملا المسلمين في بلادهما، وهم عشرات الألوف، بما يريدون لا بما يريد السواد الأعظم من مواطنيهم. فرق الاستعمار بين أجزاء القلوب في الشعب الواحد؛ فرق بين البربر والعرب وهم متحدون في دينهم ولسانهم، وفرق بين المسلم والنصراني في كل مكان، وفرق بين المسلم والوثني والبرهمي، وضرب الأخ بأخيه والابن بأبيه، وباعد بين الأحمر والأسود، والأسود والأبيض، على حين رأينا البلاد التي نجت من تأثيرات الاستعمار كجمهورية ليبريا المؤلفة من مليون ومائتي ألف مسلم وثلاثمائة ألف نصراني وخمسمائة أوربي عاش أهلها كأبناء بيت واحد، ما فرق الدين ولا الجنس بينهم في المسائل الوطنية. رأينا من هذه الدول من إذا كان لها مأرب في أمر لا تعدم حيلة مؤلفة من ألف برهان لبلوغ غرضها، ونحن نضرب لذلك مثلا بدولتين وهما من أكثر الدول اتصالا بالشرق والإسلام، ومن أعرقها في الحضارة، عنينا بهما فرنسا وإنجلترا؛ فقد رأينا فرنسا لما بدا لها أن تضرب جارتها إنجلترا في هندها عملت لمصر في القرن الماضي كل ما يستقيم به أمرها، ولم تعمل لأهل شمالي إفريقية شيئًا منه، وفكرت فقط في مصلحتها، وأبقت سكان البلاد في دائرة معينة لا تريدهم أن يتعدوها. ورأينا إنجلترا تأخذ أوائل هذا القرن بيد مصر أيضًا فتصلح إدارتها، وتنمي زراعتها، وتنظم ماليتها، حتى إذا تمت لأبناء النيل أدوات التفوق، قالت بريطانيا: إنها تخاف على الأجانب إذا على غاربها، وقالت غير ذلك من الحجج والحقيقة أن مصر طريق الهند، وتخاف أن تجعل باب الوصول إليها يشرف عليه غيرها. كان لفرنسا وإنجلترا في باب سياسة الاستعمار والتعليم في البلاد التي احتلتاها طريقتان متشابهتان، لم تعودا عليهما بعد تجارب طويلة بفوائد تستحق ما بذل فيها من العناء، ورأينا عدولًا من الفرنسيس والإنجليز ممن لا يتأثرون بمؤثرات الأحزاب ولا المذاهب، ينقدون في الأسفار والصحف هاتين الطريقتين في الاستعمار؛ فقد دارت سياسة فرنسا في الجزائر مثلا على محورين نزع الأرضين من مالكيها الأصليين وإعطاؤها للمستعمرين(2)؛ حتى يضطر أبناء البلاد إلى التشرد في الصحراء، وتلقين العرب تعليمًا إفرنسيا ليمسوا فرنسيسًا قلبًا وقالبا، فلم تنجع الطريقة الأولى ولا الثانية؛ ذلك لأن ما أُعطي من الأرض للمستعمرين امتلكه أناس من الأفاقين والمتشردين ممن لا يعرفون من الزراعة إلا بقدر ما نعرف من اللغة السنسكريتية، وضعفت آمال أهل البلاد في إبقاء أملاكهم لهم، فتراخوا في تعهدها فخسرت الدولة والبلاد من وجهتين؛ من غباوة الآخذ ومن إهمال المعطي، وانبعثت العداوة تأجج بين المستعمر والمستعمر، وحدثت حوادث تندى لها الجباه لخلوها من روح العدل. وبنزع الأملاك من أصحابها نتج بؤس عظيم كان باعثًا على القلق (3)؛ ذلك لأن سكان البلاد، وهم ستة أضعاف الأوروبيين النازلين عليهم من الفرنسيس والطليان والإسبان وغيرهم، لم يبق لهم غير نصف مجموع الأرض في البلاد والنصف الآخر وهو الأعمر والأمرع أصبح ملك المستعمرين (الأوروبيون في الجزائر 925 ألفًا، والمسلمون زهاء ستة ملايين، والأوروبيون في تونس نحو 180 ألفًا، والمسلمون زهاء مليونين). ويقول ثلاثة من المؤرخين المشهورين (جسل ومارسيه وإيفر) في كتابهم تاريخ الجزائر»: إن مجموع الأرض المستعمرة التي انتقلت إلى أيدي المستعمرين في الجزائر يبلغ. 1600000 هكتار، أي اثنين من خمسة من الأرض القابلة للفلاحة، ومن فساد الرأي بل من قلة الإنسانية تقليل مساحة الأرض التي يملكها الوطنيون لتجعل ملكًا للمستعمرين. ا.هـ. أما «الفرنسة» من طريق المدرسة وغيرها فلم تأتِ أيضًا بثمرة جنية؛ لأن من تعلموا على الأساليب الفرنسية البحتة من الوطنيين تلقوا تربية لا تتفق وعقليتهم؛ فلم ينفعوا أنفسهم ولا غيرهم، وغاية ما كان ممن أخذوا بهذه التربية أن خرجوا من عاداتهم وأهملوا مقدساتهم، وأصبحوا كالعقعق حاول تقليد الحجل في مشيته فنسي مشيته الطبيعية، وأكد الباحثون في شئون الجزائريين من علماء الغرب أن هذه الثقافة لم تورث من أخذوا بمذاهبها إلا نفاقًا وشعوذة واستهزاء بكل ،قديم، وأنها أقبستهم أبشع ما في المدنية الحديثة من النقائص كالسكر ونحوه. ومن الصعب أن يغير شعب تركيبه العقلي ليختار تركيبا آخر، ومن الثابت أن حضارتين مختلفتين إذا وضعت إحداهما بجانب الأخرى تعارضتا ولم تلتئما، والشعوب الفاتحة التي أثرت في غيرها من الأمم نجحت بمعالجة شعوب كان لها من العواطف والأفكار والأوضاع والمعتقدات مثل ما للداخلين عليهم؛ فالشرقيون يؤثرون في الشرقيين ،أمثالهم، وما أثر الغربيون قط فيهم مثل هذا التأثير، وهذا سر النفوذ العظيم الذي بسطه العرب في الشرق، ولا يزال لهم حظ منه في إفريقية والصين؛ فقد نجحوا في كل مكان ببث أهم عناصر مدنيتهم، وهي الدين واللسان والأوضاع، بدون كبير عناء والإسلام ينتشر كل يوم في إفريقية من دون أن تبذل همة في سبيل نشره، ويخفق المبشرون من الأوروبيين في سبيل دعوتهم إلى دين إخفاقًا شقيًّا، هذا رأي لبون، ثم يعود فيقول: إن السياسة التي اتَّبعت لفرنسة المسلمين واستتباعهم استتباعًا أدبيا كانت في شدتها قريبة الشبه بالطرق التي اتبعتها أميركا مع الزنوج في بلادهم؛ فقد كانت تسلبهم أرضهم التي كانوا يصيدون فيها تاركة لهم حريتهم المطلقة أن يموتوا جوعًا. وأفرطت فرنسا في تلقين لغتها وفي حرصها على حمل من نزلت عليهم أن يهجروا لغتهم وعاداتهم؛ فخرج من تخرجوا بأساتذة مدارسها بتربية مخلطة خلاسية ليسوا عربا ولا إفرنجا، ولا يُعقل أن ترقى أمة بغير لغتها، ومن أراد الخير لشعب كان جديرا بأن ينهضه داخل حدود عقليته، لا أن يفرض عليه تربية تخالف عاداته ومزاجه، ومتى حمله على تناسي ما يلائمه، وأعطاه ما لا يوائمة، كان في عمله الغبن الذي لا ينكر محله. يقول المؤرخ إيفر (4) : إن الرأي القائل منذ سنة 1830 بتمثيل الجزائريين قد أخفق، وإذا كان من اللائق العدول عن فكرة تبديل العقلية الأهلية في الجزائر تبديلا من أساسها، فليس من الوهم في شيء البحث عن تنشئة المسلمين في حجر مدنيتهم الخاصة، ولكن هذا عمل يحتاج إلى صبر، ولا تظهر نتائجه إلا بعد مدد طويلة. .ا.هـ. وجمهور العقلاء من الفرنسيس والعرب على أن الواجب تلقين لغتين العربية والفرنسية بدرجة واحدة في شمال إفريقية. وجرت إنجلترا في الهند على مثل الطريقة الفرنسية في سياسة التعليم وكان حكامها من قبل يتحامون تعليم الهنود الألسن الأوربية والأفكار الغربية؛ لما وَقَرَ في نفوسهم من احترام المدنية القديمة (5)، ومنذ سنة 1836م فتحت إنجلترا المدارس والجامعات وأسست الأندية والجمعيات تبذل فيها أموال الهند لتعليم أبنائها لغة الإنجليز وتاريخهم وطرائق تفكيرهم، وتلقينهم أساليب من التربية الغربية يصعب تطبيقها، وأنست إنجلترا من اغترفوا من مناهل تلك المدارس كثيرًا من مقدساتهم وعاداتهم، وغاية ما ربحت ممن علمت أن أخذت منهم إلى دواوين الحكومة وأعمال السكك الحديدية ودور البريد والبرق وغيرها ألوفًا من المستخدمين يكلفها الواحد منهم أقل من عشرين ضعفًا مما يكلفها الإنجليزي الذي كان عليها أن تأتي به من الجزائر البريطانية. وتلقفت تلك الطبقة من الهنود تربية خرجت بها عما غُرس في دمائها من معتقدات، وما عتم مواطنوها أن أضمروا لها الكراهة لانطواء الفئة المتعلمة على الرياء والمكر والخديعة؛ ولأنها تدأب على رفع القضايا المزورة والاعتداء على أبناء جلدتها، وما عرفت بغير القحة والبخل والانحلال لا تحسب لغير أرباب الصولة من رؤسائها حسابًا، لكن إذا آنست من الأخلاق، ثم هي منهم ضعفا انقلبت عليهم كل الانقلاب. ومع كل هذه العناية التي بذلتها إنجلترا في مائة سنة لنشر ثقافتها في الهند لا يتجاوز من يتكلمون الإنجليزية من الهنود مليوني إنسان من أصل ثلاثمائة وخمسة وخمسين مليونًا، وكلما حاولت إنجلترا أن تطبعهم بطابعها زادوا لها جفاء، وحاولوا نزع أيديهم من يدها. يقول (6) كبلنغ شاعر الاستعمار الإنجليزي الشرق شرق، والغرب غرب، ولا شيء يجمع بينهما، فهما ضدان لا يأتلفان، ومن المتعذر أن تنشأ بين ابن الشرق وبين ابن الغرب ألفة حقيقية ومودة ثابتة أو ثقة تامة؛ فإنهما يتكلمان لغتين متباينتين كل التباين، ولا يستطيعان أبدًا أن يتفاهما، وعدم الألفة وقلة الوئام هما الأصل في ارتخاء علائق الشرقيين والغربيين على مدى الأيام. ا.هـ. وقال أحد المفكرين من ساسة الإنجليز: سيبقى الشعب الهندي على الدوام شاهدًا ناطقا بالماضي غير ممسوس بيد الغرب إلا مسًا خفيفًا. وقال أحد الباحثين من الفرنسيس: إن قوة الحكومة البريطانية في الهند نشأت من كونها تحكم عناصر مختلفة من السيخيين والمسلمين والماهراتيين والهندوسيين والبرمانيين، وكلهم يتحاسدون ويتخالفون في الجنس والعادات والديانات. وفي الثورات العديدة التي قام بها الهنود في أزمان مختلفة، وفي العصيان المدني الذي قاموا به في هذه السنين الأخيرة، وما لاقته إنجلترا من الخسائر المادية، بحيث كان نشوزهم من العوامل الكبرى في إفقار إنجلترا الغنية دليل محسوس على فساد تلك الطريقة في تنشئة الهنود واستثمارهم وأدركت إنجلترا، وقد حسبت الهند مزرعتها ودكانها وبيتها، أنها لم تستطع أن تنفذ إلى قلوب أهلها، وتلقنهم حبها وجميل صداقتها؛ وذلك لأن الهنود موقنون أن كل عناية إنجلترا مصروفة لإغناء الأفراد وإفقار الجماعات، وأن الهندي مهما بلغ من ثقافته ومقامه محتقر في نظر الإنجليزي: لا يؤاكله، ولا يجالسه ولا يزامله ولا يعاشره، ولا يكاد يضمه وإياه نادٍ، ولا قطار، ولا فندق، ولا مطعم. هذه سياسة إنجلترا في الهند بلاد المتناقضات في غناها وفقرها، وعلمها وجهلها، وتنوع طبقاتها ودياناتها ولغاتها. أما سياسة هولاندة فقد زعم بعضهم أن فيها بعض الرفق بالمستعمرين من الجاويين، ومنه الابتعاد عن هذه الفوارق المنفرة (7) على ما هو حال الإنجليز مع الهنود؛ فالهولنديون يختلطون بالوطنيين ويمتزجون بهم «وارتضوا أن يزوجوهم ويتزوجوا منهم، وهذا في الحق صنع جميل، وعمل يدل على الرأفة التي تشبعت بها عقول المستعمرين الهولانديين دون سواهم. وليست مسألة الاختلاط الجنسي كل ما أخذ الهولانديون أنفسهم به من التقرب إلى سكان الجزيرة، بل إن هناك مسألة قل أن أخذ بها الإنجليز والأميركيون، وقلَّ إن آمنوا بأنها دليل واضح على حسن الطوية وسلامة الضمير، تلك هي أنك ترى الجاويين يخالطون الهولانديين في النوادي والمجتمعات، وترى أنهم في هذا الاختلاط لا يبدون أقل شأناً ولا أيسر احترامًا فيها من أفرادهم من الأجانب، فجميعهم في هذه الحلبة إخوان وعلى قدم المساواة.» فالاستعمار الهولاندي لطيف الملمس من هذه الجهة، ولكن «مهما قال القائلون في ارتقاء زراعة جاوة وسمطرة وكثرة سكانهما والعناية بصحتهم وراحتهم، فإن هذه البلاد تديرها في كل مظاهرها الأيدي الهولاندية، والوطنيون عملة بأجور قليلة، وموارد الثروة فيها تنتهي إلى خزائن الهولانديين وجيوبهم، والهولنديون ينظرون إلى جاوة كما ينظر الإنجليزي إلى الهند يغتني من خيراتها أغنياؤهم، وقد جعلوا منها ذلك المصدر الذي لا ينتهي خيره، ولن تخبو شعلة حياته.» وعاملت هولاندة المسلمين، وهم كثرتها الغامرة، معاملة لا تحرجهم لئلا تخرجهم، تقربهم من مناحيها في أناة ورفق، ولا تقطع عنهم التعليم ولا تفيضه فيهم. أما سياسة سائر الدول المستعمرة، كألمانيا وروسيا أمس والبلجيك وإيطاليا اليوم فمتشابهة، كانت روسيا في معاملة المسلمين قاسية على نحو ما كان المغول في معاملة الروس أيام استيلائهم عليهم في القرون الوسطى. كتب كاستلنو في تاريخه الذي قدمه للقيصر إسكندر الأول بشأن وقائع الروس في القريم لما أخذوها من العثمانيين: «إن الحملة لم تول روسيا شرفًا، فإن بلاد القريم أُحرقت ودمرت، وربما كان مثل هذا العمل يغتفر على عهد البربر لما فطروا عليه من الجهل، ولكن إحراق المدن في القرن الثامن عشر، وتخريب أهم المصانع والآثار، وتدمير المعابد وإبادة المدارس العامة، وإدخال الظلام على العقول بإحراق كتب الأمة التي تريد الانتفاع بها في إنارة أفكارها، وإلقاء الشيوخ والنساء والأولاد طعامًا للنار، لا يُقصد منه الحرب بل إهلاك شعب عن بكرة أبيه.» هذا وحكومة البلاشفة اليوم تريد المسلمين على أن يبدلوا أوضاعهم وعاداتهم ليحاكوا سائر مواطنيهم. وأساءت ألمانيا بسياستها العسكرية؛ فأبادت قبائل الهروروس برمتها ليحل محلهم البيض؛ لأن من قواعد المدنية الغربية قرض الزنوج، وبلغ عدد من يموت من العملة السود في الترنسفال 28 في المائة، يموت نصفهم بأمراض الكبد والنوام. أما البلجيك فاستعمارهم ثقيل الوطأة موفور الظلم للإنسان. واستعمار الأميركان كاستعمارهم جزائر الفيليبين فإنهم يراعون فيه مصلحة السكان، وقد عاونوا مسلمي تلك الجزائر على النهوض، وهم فيما قيل: نحو مليونين من الأنفس، فأخرجوهم من الوحشية إلى ساحة المدنية. ولطالما كانت إسبانيا مدة حكمها (8) الطويل على تلك الجزائر ترهقهم وتذلهم وتحملهم على انتحال الكثلكة، فلما عصوها دمرت مساجدهم ومصانعهم، وتعلم نحو ثلثهم في عهد الأميركان فأنشأوا المدارس والمساجد وتمتعوا بحرياتهم كلها، والأمريكان سكان الولايات المتحدة الشمالية هم الشعب الوحيد الذي لا ينفق على المبشرين في بلاد المتوحشين، وينفقون عليهم في بلاد المتمدنين، أما الأمم المستعمرة الأخرى فتجعل التبشير بالدين مقدمة لاستعمار ما تريد من البلاد، وقد تقول بدين العقل وحده، وتتخذ من المبشرين أداة لبلوغ أغراضها، حتى قالوا: إن بضاعة التبشير لا تروج في أرضها وإنما صنعت لتصدر إلى بلاد أخرى.
......................................
1- الآفات الاجتماعية وعلاجها لتولستوي تعريب محمد رضا.
2- النفسية السياسية لجستاف لبون.
3- يقظة الإسلام والعرب لأوجين يونغ Eugene Jung: Le réveil de l'Islam et des Arabes.
4- معلمة الإسلام، الجزائر.
5- تاريخ المدنية الحديث لسنيوبوس.
6- الهند الإنجليزية تعريب: عبد الوهاب الإنكليزي، نُشرت في المجلد الخامس من مجلة المقتبس.
7- رحلة محمد علي إلى جاوة.
8- من مقالة لزكي علي في جريدة البلاغ المصرية، عدد 3198 (1352هـ / 1933م).
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
اتحاد كليات الطب الملكية البريطانية يشيد بالمستوى العلمي لطلبة جامعة العميد وبيئتها التعليمية
|
|
|