أقرأ أيضاً
التاريخ: 24-09-2015
1380
التاريخ: 25-09-2015
2567
التاريخ: 24-09-2015
2092
التاريخ: 26-03-2015
1446
|
وهو
أن يأتي المتكلم إلى المعنى الواحد الذي يمكنه الدلالة عليه باللفظ القليل، فيدل
عليه باللفظ الكثير ليضمن اللفظ معاني أخر يزيد بها الكلام حسناً، لولا بسط ذلك
الكلام بكثرة الألفاظ لم تحصل تلك الزيادة ومما جاء من ذلك في الكتاب العزيز قوله
تعالى: (قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي
يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ
فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا
فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى
السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ
كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي
يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا) فانظر هداك الله إلى هذا البسط
في الآيات الكريمات بالنسبة إلى قوله في غير موضع. من القرآن: (اللَّهُ الَّذِي
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) لتعلم أنه بسط سبحانه الكلام في هذه الآية ليفيد البسط معاني
من تفصيل الأخبار، وإيضاح المعنى وتفسير ذلك الإجمال، وإخراجها مخرج التفريع لمن
جعل لله تبارك وتعالى أنداداً من مخلوقاته فإن قلت التفريع يحصل بقوله: (اللَّهُ
الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ
أَيَّامٍ) فما فائدة البسط؟ قلت فائدته جليلة، فإن
الاستدلال بما قرب من نظر الخصم أوضح من الاستدلال بما بعد، فإن تقدير أقوات
الحيوان البري والبحري، وتخصيص كل صنف بقوت مألوف يميل إليه بطبعه، كاللحوم
للسباع، والحب للبهائم، والأوساخ وما أشبهها للهمج، والبقول وسائر الخضروات لغير
هذه الأصناف، وجميع بعض أصناف الحيوان البهيم البري والبحري، وتركه تلك الأقوات
الموجبة لكفاية ما يخرج من الأرض من جميع الحيوان أقرب لفهم المخاطب، ولاحتمال أن
يقع في بعض النفوس أن هذه الأمور من صنع السموات والأرض، لا من صنع صانعهما كما
يعتقد بعض الناس فاقتضت البلاغة أن يقدم ذكر الأرض لقربها من المخاطب، ولأن
الأنداد منها كالحجارة التي نحتت وعبدت والأنصاب التي نجرت من الأخشاب، والصور
التي اتخذت من المعادن، وليعرف بعظمة قدرته في خلقه الأرض كلها في يومين، ثم ثنى بذكر
الجبال التي تثبت الأرض، وتكون الجواهر المعدنية منها.
ثم
يذكر البركة التي لولاها لما نبت النبات، ولا عاش الحيوان، ولا تنوع الجماد، ولا
حصلت المنافع التي بها قوام الأجسام، ممتناً بذلك على عباده، وحق له الامتنان، ثم
ثلث بذكر تقدير الأقوات، ليحض بذلك على التوكل، ويبعث النفوس على الاشتغال عن
الفكر في التكسب بصالح الأعمال، ثم أخبر أن ذلك كله في يومين آخرين، بقوله سبحانه:
( فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ) يعني. والله أعلم. أنه
أرسى الجبال وبارك في الأرض وقدر فيها أقواتها، مع خلقه لها في أربعة أيام، ثم ختم
بذكر خلق السموات السبع، والعناصر الأربعة، إذ هي سموات بالنسبة إلى المخاطب، غير
أنه أفرد من ذلك السموات السبع بالذكر، منبهاً على فضلها بالنسبة إلى العناصر
وعظمتها، وما تعرف العرب وغيرهم من نجومها، والهداية بها، وأنوائها، وإنزال الغيث
من جهتها، ومقدمات ذلك من الرعد والبرق والرياح، ومنافع النيرين، ثم أخبر سبحانه
أنه خلق ذلك كله في يومين ثم اقتصر عز وجل في هذه الآية الكريمة على ذكر الأفلاك
السبعة دون الفلكين الآخرين، منطقة البروج والأطلس، لكون السبعة هي المعروفة عند
العرب الذين نزل عليهم القرآن وجاء بلسانهم، لأن معرفة الفلكين الآخرين موقوفة على
علوم ليست من علوم العرب، فإن قلت: فالعرب تعرف الأنواء وكواكبها في الفلك الثامن،
فلم اقتصر على ذكر السبعة دونه؟ قلت: إنما عرفت الأنواء بالقمر لحلوله في المنازل،
ومسير القمر أسرع مسير، وهي كثيراً ما تتأمله، لسفرها فيه وسراها، وعرفت الكواكب
السيارة لقرب سيرها بالنسبة، وعرف مسير المنازل أيضاً بحركاتها القسرية وأما حركة
فلكها التي دلت عليها كواكبه الثابتة، فليس من علوم العرب وإن كانت تعرفها، كما
ذكرت تنقل القمر، وقد ذكره الله سبحانه على انفراده، وخصه من بين الأفلاك السبعة
بالذكر لميزته، فقال تعالى: (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ) فأفاد سبحانه بهذا البسط حصول ضروب من البديع في الكلام
لولا البسط لم تحصل، وهي المذهب الكلامي والإدماج والإرداف والتفسير.
فأما
المذهب الكلامي ففي قوله تعالى: (ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ)
فإنها نتيجة قوله تعالى: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ) إلى قوله سبحانه: (قَالَتَا
أَتَيْنَا طَائِعِينَ) فإن تقدير الكلام في ذلك والله أعلم. لا تطيع السماء والأرض
إلا رب العالمين، فإنهما عبارة عن العالمين، وقد أطاعت الله سبحانه فهو رب
العالمين، والإدماج: إدماج الإرداف في المذهب الكلامي، لأنه وهو أعلم أن يقول: ( قُلْ
أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ) بالقادر المطلق، فعدل عن
اللفظ الخاص إلى لفظ هو ردفه حيث قال: بالذي فعل وصنع وعدد من قدرته ما لا يقدر
عليه غيره، والتعليق في كونه تبارك وتعالى علق فن الفخر بفن العتاب، إذ وصف نفسه
صادقاً بما هو أهله، وأثنى على ذاته بما يستحقه في ضمن العتب الموبخ، والتقريع
المثرب حيث قال: أئنكم لتكفرون، وتجعلون، والتفسير في قوله ذلك رب العالمين
فإنه أتى بهذه الجملة مفسرة لذلك الإجمال الذي في قوله تعالى: الذي خلق
وفعل وصنع، فأتى بالصفات قبل ذكر الموصوف، ولما أراد تبيين ذكر الموصوف وتعريفه
قال سبحانه: ذلك رب العالمين فهذه فائدة البسط والإطناب في الكلام
الذي عدل فيه عن الإيجاز والاختصار.
ومما
جاء من ذلك في السنة النبوية قوله صلى الله عليه[وآله] وسلم: إن الدين
النصيحة قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولنبيه ولأئمة
المسلمين وعامتهم وحاصل هذا الكلام إذا ورد من طريق الاختصار أن يقول بعد
تخصيص الله تعالى بالذكر وكتابه ونبيه أن يقول: وللمسلمين فإنها لفظة جامعة للأئمة
وللعامة، فبسط هذه اللفظة ليفرد الأئمة بالذكر من جملة المسلمين، ولم يمكن
الاقتصار على الأئمة فيكون المعنى ناقصاً، إذ تمامه لا يكون إلا بذكر عامة
المسلمين، فأتى بذلك البسط ليفيد تتميم المعنى بعد تخصيص من يجب تخصيصه بالذكر،
والله أعلم.
ومن
شواهد البسط الشعرية للمتقدمين قول امرئ القيس [كامل]:
نظرت
إليك بعين جازئة ... حوراء حانية على طفل
فإن
حاصل البيت تشبيه عين هذه الموصوفة بعين الظبية، فبسط الكلام ليزيده البسط معنى لولاه
لم يوجد فيه، فإن لنظر الظبية إلى خشفها عاطفة عليه بحنو واشفاق من الحسن ما ليس
لمطلق نظرها أو لنظرها في غير هذه الحالة.
ومن
أمثلته للمحدثين قول ابن المعتز في الخيري [منسرح]:
قد
نفض العاشقون ما صنع الـ... ـدهر بألوانهم على ورقه
فإن
حاصل هذا المعنى الإخبار بصفرة الخيري فبسط هذا اللفظ الذي لو اقتصر عليه حصل به
المراد، لما في البسط من إدماج الغزل في الوصف بغير لفظ التشبيه، ولا قرينته
المعتادة، إذ هو من قسمي التشبيه اللذين بأداة وبغير أداة، بل تشبيه لا ظاهر ولا
مقدر يفهم من فحوى الخطاب، إذ مفهوم اللفظ أن صفرة الخيري تشبه صفرة ألوان
المهجورين.
من
هذا الباب أيضاً قول البحتري وقد تقدم في باب حسن الإتباع [كامل]:
أخجلتني
بندى يديك فسودت ... ما بيننا تلك اليد البيضاء
صلة
غدت في الناس وهي قطيعة ... عجباً وبِرُّ راح وهو
جفاء
فإن
حاصل البيتين أنك قطعتني عنك خجلاً من كثرة عطائك، فبسط هذا الكلام لتحصل زيادات
من البديع لولا البسط ما حصلت كالطباق في البيت الأول، بذكر السواد والبياض،
والمقابلة في البيت الثاني بذكر الصلة والقطيعة، والغدو والرواح، والبر والجفاء،
وعلى هذا فاعتبر ما تسمعه من الكلام الذي يقع فيه مثله، وقسه عليه.
والفرق
بين البسط والاستقصاء أن الاستقصاء هو حصر كل ما يتفرع من المعنى ويتولد عنه،
ويكون من سببه ولوازمه، بحيث لا يترك فيه موضعاً قد أخلقه بجدة الآخذ له، فيستدركه
ليستحقه بذكره، والبسط نقل المعنى من الإيجاز إلى الإطناب بسبب بسط العبارة عنه،
وإن لم يستقص كل ما يكون من لوازمه، والله أعلم.