الطالقاني، عن أحمد الهمداني، عن
المنذر بن محمد، عن جعفر بن سليمان، عن عبد
الله بن المفضل، عن أبان بن عثمان، عن ابن تغلب،
عن ابن جبير، عن ابن عباس قال: لما أصاب آل يعقوب ما أصاب الناس من ضيق الطعام
جمع يعقوب بنيه فقال لهم: يا بني إنه بلغني أنه يباع بمصر طعام طيب، وأن صاحبه
رجل صالح لا يحبس الناس، فاذهبوا إليه واشتروا منه طعاما فإنه سيحسن إليكم إن شاء
الله، فتجهزوا وساروا حتى وردوا مصر فادخلوا على يوسف عليه السلام فعرفهم وهم له
منكرون، فقال لهم: من أنتم ؟ قالوا: نحن
أولاد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن، ونحن من جبل كنعان، قال يوسف: ولد
كم إذا ثلاثة أنبياء، وما أنتم بحلماء، ولا فيكم وقار ولا خشوع، فلعلكم جواسيس لبعض
الملوك جئتم إلى بلادي ؟ ! فقالوا: أيها الملك لسنا بجواسيس ولا أصحاب الحرب، ولو
تعلم بأبينا إذا لكرمنا عليك، فإنه نبي الله وابن أنبيائه، وإنه لمحزون، قال لهم
يوسف: فمما حزنه وهو نبي الله وابن أنبيائه، والجنة مأواه، وهو ينظر إليكم في مثل
عددكم وقوتكم ؟ فلعل حزنه إنما هو من قبل سفهكم وجهلكم وكذبكم و كيدكم ومكركم ؟ قالوا:
أيها الملك لسنا بجهال ولا سفهاء ولا أتاه الحزن من قبلنا، ولكن كان له ابن كان
أصغرنا سنا يقال له يوسف فخرج معنا إلى الصيد فأكله الذئب، فلم يزل بعده كئيبا حزينا
باكيا، فقال لهم يوسف عليه السلام: كلكم من أب واحد ؟ قالوا: أبونا واحد وامهاتنا
شتى، قال: فما حمل أباكم على أن سرحكم كلكم إلا حبس منكم واحدا يأنس به
ويستريح إليه ؟ قالوا: قد فعل، قد حبس منا واحدا هو أصغرنا سنا، قال: ولم أختاره لنفسه
من بينكم ؟ قالوا: لأنه أحب أولاده إليه بعد يوسف. فقال لهم يوسف عليه السلام:
إني أحبس منكم واحدا يكون عندي وارجعوا إلى أبيكم واقرؤوه مني السلام وقولوا
له: يرسل إلي بابنه الذي زعمتم أنه حبسه عنده ليخبرني عن حزنه ما الذي أحزنه ؟
وعن سرعة الشيب إليه قبل أوان مشيبه ؟ وعن بكائه وذهاب بصره، فلما قال هذا اقترعوا
بينهم فخرجت القرعة على شمعون، فأمر به فحبس، فلما ودعوا شمعون قال لهم:
يا إخوتاه انظروا ماذا وقعت فيه، واقرؤوا والدي مني السلام ; فودعوه وساروا حتى
وردوا الشام ودخلوا على يعقوب عليه السلام وسلموا عليه سلاما ضعيفا، فقال لهم: يا
بني ما لكم تسلمون سلاما ضعيفا ؟ ومالي لا أسمع فيكم صوت خليلي شمعون ؟ قالوا: يا
أبانا إنا جئناك من عند أعظم الناس ملكا، لم ير الناس مثله حكما وعلما وخشوعا وسكينة
ووقارا، ولئن كان لك شبيه فإنه لشبيهك، ولكنا أهل بيت خلقنا للبلاء أتهمنا الملك
وزعم أنه لا يصدقنا حتى ترسل معنا بابن يامين برسالة منك يخبره عن حزنك وعن سرعة
الشيب إليك قبل أوان المشيب، وعن بكائك وذهاب بصرك، فظن يعقوب أن ذلك مكر منهم
فقال لهم: يا بني بئس العادة عادتكم، كلما خرجتم في وجه نقص منكم واحد، لا ارسله
معكم، فلما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم من غير علم منهم أقبلوا إلى
أبيهم فرحين قالوا: يا أبانا ما رأى الناس مثل هذا الملك أشد اتقاء للإثم منه، رد
علينا بضاعتنا مخافة الاثم، وهي بضاعتنا ردت إلينا، ونمير أهلنا، ونحفظ أخانا
ونزداد كيل بعير ذلك كيل يسير ; قال يعقوب: قد علمتم أن ابن يامين أحبكم إلي بعد
أخيكم يوسف وبه انسي، وإليه سكوني من بين جماعتكم، فلن ارسله معكم حتى تؤتون موثقا
من الله لتأتنني به إلا أن يحاط بكم، فضمنه يهودا فخرجوا حتى وردوا مصر فدخلوا
على يوسف عليه السلام فقال لهم: هل بلغتم رسالتي ؟ قالوا: نعم وقد جئناك بجوابها
مع هذا لغلام فسله عما بدالك، قال له يوسف: بما أرسلك أبوك إلي يا غلام ؟ قال:
أرسلني إليك يقرؤك السلام ويقول: إنك أرسلت إلي تسألني عن حزني، وعن سرعة الشيب
إلي قبل أوان المشيب، وعن بكائي وذهاب بصري، فإن أشد الناس حزنا وخوفا أذكرهم للمعاد،
وإنما أسرع الشيب إلي قبل أوان المشيب لذكر يوم القيامة، وأبكاني وبيض عيني الحزن
على حبيبي يوسف، وقد بلغني حزنك بحزني واهتمامك بأمري، فكان الله لك جازيا ومثيبا
; وإنك لن تصلني بشئ أنا أشد فرحا به من أن تعجل علي ولدي ابن يامين، فإنه أحب
أولادي إلي بعد يوسف، فأونس به وحشتي، وأصل به وحدتي، تعجل علي بما أستعين به علي
عيالي. فلما قال هذا خنقت يوسف عليه السلام العبرة ولم يصبر حتى قام فدخل البيت وبكى
ساعة ثم خرج إليهم وأمر لهم بطعام، وقال: ليجلس كل بني ام على مائدة، فجلسوا وبقي
ابن يامين قائما، فقال له يوسف: مالك لم تجلس ؟ فقال له: ليس لي فيهم ابن أم، فقال
له يوسف: أفما كان لك ابن ام ؟ فقال له ابن يامين: بلى، فقال له يوسف: فما فعل ؟
قال: زعم هؤلاء أن الذئب أكله، قال: فما بلغ من حزنك عليه ؟ قال: ولد لي اثنا عشر ابنا
كلهم اشتق له اسما من اسمه، فقال له يوسف عليه السلام: أراك قد
عانقت النساء وشممت الولد من بعده ؟ ! فقال له ابن
يامين: إن لي أبا صالحا وإنه قال لي: تزوج لعل الله عزوجل يخرج منك ذرية يثقل الارض
بالتسبيح، فقال له يوسف: تعال فاجلس على مائدتي، فقال إخوة يوسف: لقد فضل الله
يوسف وأخاه حتى أن الملك قد أجلسه معه على مائدته، فأمر يوسف أن يجعل صواع الملك
في رحل ابن يامين. فلما تجهزوا " أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون * قالوا وأقبلوا
عليهم ماذا تفقدون * قالوا نفقد صواع الملك ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم
* قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الارض وما كنا سارقين " وكان الرسم
فيهم والحكم أن السارق يسترق ولا يقطع " قالوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين * قالوا
جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه كذلك نجزي الظالمين * فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه
ثم استخرجها من وعاء أخيه " فحبسه، فقال إخوته لما أصابوا الصواع في وعاء ابن يامين:
" إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم قال أنتم شر
مكانا والله أعلم بما تصفون * قالوا يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا
مكانه إنا نريك من المحسنين * قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده
إنا إذا لظالمون * فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا قال كبيرهم إلى تعلموا أن أباكم
قد أخذ عليكم موثقا من الله ومن قبل ما فرطتم في يوسف فلن أبرح الارض حتى يأذن
لي أبي أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين * ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إن
ابنك سرق وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين * واسأل القرية التي كنا فيها
والعير التي أقبلنا فيها وإنا لصادقون " فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا ذلك له قال:
إن ابني لا يسرق " بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل عسى الله أن يأتيني بهم
جميعا إنه هو العليم الحكيم " ثم أمر بنيه بالتجهيز إلى مصر، فساروا حتى أتوا مصر
فدخلوا على يوسف ودفعوا إليه كتابا من يعقوب يستعطفه فيه ويسأله رد ولده عليه، فلما
نظر فيه خنقته العبرة ولم يصبر حتى قام فدخل البيت فبكى ساعة ثم
خرج إليهم فقالوا له: " يا أيها العزيز مسنا وأهلنا
الضر وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين
" فقال لهم يوسف: " هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون * قالوا
أئنك لانت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله
لا يضيع أجر المحسنين * قالوا تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين * قال
لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين ". ثم أمرهم بالانصراف
إلى يعقوب وقال لهم " اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا وأتوني
بأهلكم أجمعين " فهبط جبرئيل على يعقوب عليه السلام فقال: يا يعقوب ألا اعلمك
دعاء يرد الله عليك به بصرك، ويرد عليك ابنيك ؟ قال: بلى، قال: قل ما قاله أبوك
آدم فتاب الله عليه، وما قاله نوح فاستوت به سفينته على الجودي ونجا من الغرق وما
قاله أبوك إبراهيم خليل الرحمن حين ألقي في النار فجعله الله عليه بردا وسلاما، فقال
يعقوب: وما ذاك يا جبرئيل ؟ فقال: قل: " يا رب أسألك بحق محمد وعلي وفاطمة والحسن
والحسين أن تأتيني بيوسف وابن يامين جميعا وترد علي عيني " فما استتم يعقوب هذا
الدعاء حتى جاء البشير فألقى قميص يوسف عليه فارتد بصيرا، فقال لهم: " ألم
أقل لكم إني أعلم من الله مالا تعلمون *
قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين
* قال سوف أستغفر لكم ربي إنه هو الغفور الرحيم " فروي في خبر عن الصادق عليه
السلام أنه قال: أخرهم إلى السحر، فأقبل يعقوب إلى مصر وخرج يوسف ليستقبله فهم بأن
يترجل ليعقوب ثم ذكر ما هو فيه من الملك فلم يفعل، فنزل عليه جبرئيل عليه السلام
فقال له: يا يوسف إن الله عز وجل يقول لك: ما منعك أن تنزل إلى عبدي الصالح ؟
ما كنت فيه ؟ ابسط يدك، فبسطها فخرج من بين أصابعه نور، فقال: ما هذا يا جبرئيل ؟ فقال:
هذا إنه لا يخرج من صلبك نبي أبدا عقوبة بما صنعت بيعقوب إذ لم تنزل إليه فقال
يوسف: " ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين * ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا
" فقال يوسف ليعقوب: " يا أبت هذا
تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا " إلى قوله: " توفني مسلما وألحقني بالصالحين
" فروي في خبر عن الصادق عليه السلام أنه قال: دخل يوسف السجن وهو ابن اثنتي
عشرة سنة، ومكث فيه ثمان عشرة سنة، وبقي بعد خروجه ثمانين سنة، فذلك مائة سنة
وعشر سنين.
المؤلف : العلامة الشيخ محمد باقر المجلسي
المصدر : بحار الأنوار
الجزء والصفحة : جزء 12 / صفحة [256]