أحاديث وروايات المعصومين الاربعة عشر/التوحيد/صفات الله تعالى/الإمام علي عليه السلام
الدقاق، عن الاسدي، عن البرمكي، عن علي
بن العباس، عن إسماعيل بن مهران، عن إسماعيل بن إسحاق الجهني، عن فرج بن
فروة، عن مسعدة ابن صدقة قال:سمعت أبا عبد الله
عليه السلام يقول: بينما أمير المؤمنين عليه السلام يخطب على المنبر بالكوفة إذ قام
إليه رجل فقال:
يا أمير المؤمنين صف لنا ربك تبارك وتعالى
لنزداد له حبا وبه معرفة فغضب أمير المؤمنين عليه السلام ونادى:
الصلاة جامعة، فاجتمع الناس حتى غص المسجد بأهله ثم قام متغير اللون فقال:
الحمد لله الذي لا يفره المنع، ولا يكديه الاعطاء،
إذ كل معط منتقص سواه، الملئ بفوائد النعم وعوائد المزيد، وبجوده ضمن عيالة
الخلق، فأنهج سبيل الطلب للراغبين إليه، فليس بما سئل أجود منه بما لم يسأل وما
اختلف عليه دهر فتختلف منه الحال، ولو وهب ما تنفست عنه معادن الجبال وضحكت عنه أصداف
البحار، من فلز اللجين وسبائك العقيان ونضائد المرجان لبعض عبيده لما أثر ذلك في جوده،
ولا أنفد سعة ما عنده، ولكان عنده من ذخائر الافضال مالا ينفده مطالب السؤال،
ولا يخطر لكثرته على بال لأنه الجواد الذي لا تنقصه المواهب، ولا يبخله إلحاح
الملحين، وإنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له: " كن " فيكون، الذي عجزت الملائكة
على قربهم من كرسي كرامته، وطول ولههم إليه، وتعظيم جلال عزه، وقربهم من غيب
ملكوته أن يعلموا من أمره إلا ما أعلمهم، وهم من ملكوت القدس بحيث هم ومن معرفته
على ما فطرهم عليه أن قالوا: سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.
فما ظنك أيها السائل بمن هو هكذا ؟ سبحانه
وبحمده لم يحدث فيمكن فيه التغيير والانتقال، ولم يتصرف في ذاته بكرور الاحوال،
ولم يختلف عليه حقب الليالي والايام، الذي
ابتدع الخلق على غير مثال امتثله، ولا مقدار احتذا عليه من معبود كان قبله،
ولم تحط به الصفات فيكون بإدراكها إياه بالحدود متناهيا، ومازال ليس كمثله شيء عن صفة
المخلوقين متعاليا، وانحسرت الابصار عن أن تناله فيكون بالعيان موصوفا وبالذات
التي لا يعلمها إلا هو عند خلقه معروفا، وفات لعلوه على الاشياء مواقع رجم المتوهمين،
وارتفع عن أن تحوى كنه عظمته فهاهة رويات المتفكرين، فليس له مثل فيكون ما يخلق
مشبها به، وما زال عند أهل المعرفة به عن الاشباه والاضداد منزها، كذب العادلون
بالله إذ شبهوه بمثل أصنافهم، وحلوه حلية المخلوقين بأوهامهم، وجزوه بتقدير
منتج من خواطر هممهم، وقدروه على الخلق المختلفة القوى بقرائح عقولهم، وكيف
يكون من لا يقدر قدره مقدرا في رويات الاوهام وقد ضلت في إدراك كنهه هواجس الاحلام
؟ لأنه أجل من أن تحده ألباب البشر بالتفكير، أو تحيط به الملائكة على قربهم
من ملكوت عزته بتقدير، تعالى عن أن يكون له كفو فيشبه به، لأنه اللطيف الذي إذا
أرادت الاوهام أن تقع عليه في عميقات غيوب ملكه، وحاولت الفكر المبرات من خطر الوسواس
إدراك علم ذاته، وتولهت القلوب إليه لتحوى منه مكيفا في صفاته، وغمضت مداخل العقول
من حيث لا تبلغه الصفات لتنال علم إلهيته ردعت خاسئة وهي تجوب مهاوي سدف الغيوب
متخلصة إليه سبحانه، رجعت إذ جبهت معترفة بأنه لا ينال بجور الاعتساف كنه معرفته،
ولا يخطر ببال اولي الرويات خاطرة من تقدير جلال عزته، لبعده من أن يكون
في قوى المحدودين لأنه خلاف خلقه، فلا شبه له من المخلوقين، وإنما
يشبه الشيء، بعديله، فأما مالا عديل له فكيف
يشبه بغير مثاله، وهو البدئ الذي لم يكن شئ قبله، والآخر الذي ليس شئ بعده، لا تناله
الابصار في مجد جبروته، إذ حجبها بحجب لا تنفذ في ثخن كثافته. ولا تخرق إلى
ذي العرش متانة خصائص ستراته، الذي صدرت الامور عن مشيته، وتصاغرت عزة المتجبرين دون
جلال عظمته، وخضعت له الرقاب، وعنت له الوجوه من مخافته، وظهرت في بدائع
الذي أحدثها آثار حكمته، وصار كل شئ خلق حجة له ومنتسبا إليه، فإن كان خلقا صامتا
فحجته بالتدبير ناطقة فيه، فقدر ما خلق فأحكم تقديره، ووضع كل شئ بلطف تدبيره موضعه،
ووجهه بجهة فلم يبلغ منه شئ محدود منزلته، ولم يقصر دون الانتهاء إلى مشيته،
ولم يستصعب إذ أمر بالمضي إلى إرادته، بلا معاناة للغوب مسه، ولا مكائدة لمخالف
له على أمره، فتم خلقه وأذعن لطاعته، ووافى الوقت الذي أخرجه إليه، إجابة
لم يعترض دونها ريث المبطئ، ولا أناة المتلكئ، فأقام من الاشياء أودها، ونهي
معالم حدودها، ولاءم بقدرته بين متضاداتها، ووصل أسباب قرائنها، وخالف بين ألوانها،
وفرقها أجناسا مخلتفات في الاقدار والغرائز والهيئات، بدايا خلائق أحكم
صنعها، وفطرها على ما أراد وابتدعها، انتظم علمه صنوف ذرئها، وأدرك تدبيره
حسن تقديرها. أيها السائل اعلم أن من شبه ربنا الجليل بتباين أعضاء خلقه، وبتلاحم
أحقاق مفاصلهم المحتجبة بتدبير حكمته أنه لم يعقد غيب ضميره على معرفته
ولم يشاهد قلبه اليقين بأنه لاند له، وكأنه
لم يسمع بتبرئ التابعين من المتبوعين، وهم يقولون:
" تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين " فمن ساوى ربنا بشئ فقد
عدل به، والعادل به كافر بما نزلت به محكمات آياته، ونطقت به شواهد حجج بيناته، لأنه
الله الذي لم يتناه في العقول فيكون في مهب فكرها مكيفا، وفي حواصل رويات همم النفوس
محدودا مصرفا، المنشئ أصناف الاشياء بلا روية احتاج إليها، ولا قريحة غريزة
أضمر عليها، ولا تجربة أفادها من مر حوادث الدهور، ولا شريك أعانه على ابتداع
عجائب الامور، الذي لما شبهه العادلون بالخلق المبعض المحدود في صفاته، ذي الاقطار
والنواحي المختلفة في طبقاته، وكان عزوجل الموجود بنفسه لا بأداته، انتفى أن يكون
قدروه حق قدره " فقال تنزيها لنفسه عن مشاركة الانداد، وارتفاعا عن قياس المقدرين
له بالحدود من كفرة العباد: " وما قدروا الله حق قدره والارض جميعا قبضته يوم
القيمة والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون " فما ذلك القرآن عليه من صفته
فاتبعه ليوصل بينك وبين معرفته، وائتم به، واستضئ بنور هدايته، فإنها نعمة وحكمة
أوتيتهما، فخذما اوتيت وكن من الشاكرين، وما دلك الشيطان عليه مما ليس في القرآن
عليك فرضه ولا في سنة الرسول وأئمة الهدى أثره فكل علمه إلى الله عزوجل، فإن ذلك
منتهى حق الله عليك. واعلم أن الراسخين في العلم هم الذين أغناهم الله عن الاقتحام
في السدد المضروبة دون الغيوب، فلزموا الاقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب
المحجوب، فقالوا: " آمنا به كل من عند ربنا " فمدح الله عزوجل اعترافهم بالعجز
عن تناول ما لم يحيطوا به علما، وسمى تركهم التعمق فيما لم يكلفهم البحث عنه منهم
رسوخا، فاقتصر على ذلك ولا تقدر عظمة الله سبحانه
على قدر عقلك فتكون من الهالكين.
المصدر : بحار الأنوار
المؤلف : العلامة الشيخ محمد باقر المجلسي
الجزء والصفحة : جزء 4 / صفحة [ 274 ]
تاريخ النشر : 2023-12-15