من المجموع ما هذا لفظه:
قيل: بينا عمر بن عبد العزيز جالس في مجلسه، دخل حاجبه ومعه امرأة أدماء طويلة حسنة الجسم والقامة، ورجلان متعلقان بها، ومعهم كتاب من ميمون بن مهران، إلى عمر، فدفعوا إليه الكتاب، ففضه فإذا فيه:
بسم الله الرحمن الرحيم، إلى أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز، من ميمون ابن مهران، سلام عليك ورحمة الله وبركاته، أما بعد: فإنه ورد علينا أمر ضاقت به الصدور، وعجزت عنه الأوساع ، وهربنا بأنفسنا عنه، ووكلناه إلى عالمه، يقول عز وجل: ﴿ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الامر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم﴾ وهذه المرأة والرجلان أحدهما زوجها والاخر أبوها، وإن أباها يا أمير المؤمنين زعم أن زوجها حلف بطلاقها أن علي بن أبي طالب عليه السلام خير هذه الأمة، وأولاها برسول الله صلى الله عليه وآله، وأنه يزعم أن ابنته طلقت منه، وأنه لا يجوز له في دينه أن يتخذه صهرا، وهو يعلم أنها حرام عليه كأمه، وأن الزوج يقول له: كذبت وأثمت، لقد بر قسمي وصدقت مقالتي، وإنها امرأتي على رغم أنفك وغيظ قلبك، فارتفعوا إلي يختصمون في ذلك، فسألت الرجل عن يمينه، فقال: نعم قد كان ذلك، وقد حلفت بطلاقها أن عليا عليه السلام خير هذه الأمة وأولاهم برسول الله صلى الله عليه وآله، عرفه من عرفه، وأنكره من أنكره، فليغضب من غضب، وليرض من رضي، وتسامع الناس بذلك، فاجتمعوا له، فإن كانت الأسن مجتمعة، فالقلوب شتى، وقد علمت يا أمير المؤمنين اختلاف الناس في أهوائهم، وتسرعهم إلى ما فيه الفتنة، فأحجمنا عن الحكم لتحكم بما أراك الله وإنهما تعلقا بها، وأقسم أبوها أن لا يدعها معه، وأقسم زوجها أن لا يفارقها ولو ضربت عنقه إلا أن يحكم عليه بذلك حاكم لا يستطيع مخالفته والامتناع منه، فرفعناهم إليك يا أمير المؤمنين أحسن الله توفيقك وأرشدك.وكتب في أسفل الكتاب:
إذا ما المشكلات وردن يوما * فحارت في تأملها العيون وضاق القوم ذرعا عن نباها * فأنت لها أبا حفص أمين ... فيها فأنت بها عليم * وربك بالقضاء بها مبين لأنك قد حويت العلم طرا * وأحكمك التجارب والشؤون وخلفك الاله على الرعايا * فحظك فيهم الحظ الثمين .قال: فجمع عمر بني هاشم وبني أمية وأفخاذ قريش، فقال عمر لابي المرأة: ما تقول أيها الشيخ؟ فقال: يا أمير المؤمنين هذا الرجل زوجته ابنتي وجهزتها إليه أحسن ما يجهز به مثلها حتى إذا أملت خيره ورجوت صلاحه حلف بطلاقها كاذبا، ثم أراد الإقامة معها، فقال له عمر: يا شيخ لعله لم يطلق امرأته فكيف حلف؟ قال الشيخ: سبحان الله إن الذي حلف عليه لأبين حنثا وأوضح كذبا من أن يختلج في صدري منه شك مع سني وعلمي، لأنه زعم أن عليا خير هذه الأمة بعد نبيها صلوات الله عليه، وإلا فامرأته طالق ثلاثا، فقال للزوج: ما تقول؟ أهكذا حلفت؟ قال: نعم، فقيل: إنه لما قال: نعم، كاد المجلس يرتج بأهله، وبنو أمية ينظرون إليه شزرا ، إلا أنهم لم ينطقوا بشيء، كل ينظر إلى وجه عمر، فأكب عمر مليا ينكت الأرض بيده والقوم صامتون ينظرون ما يقول، ثم رفع رأسه وأنشأ يقول:إذا ولي الحكومة بين قوم * أصاب الحق والتمس السدادا وما خير الامام إذا تعدى * خلاف الحق واجتنب الرشادا .ثم قال للقوم: ما تقولون في يمين هذا الرجل؟ فسكتوا، فقال:
سبحان الله قولوا، فقال رجل من بني أمية: هذا حكم في فرج، ولسنا نجترئ على القول فيه وأنت عالم بالقول فيهم مؤتمن لهم وعليهم، قال عمر: قل ما عندك، فإن القول ما لم يكن يحق باطلا أو يبطل حقا جائز علي في مجلسي قال: لا أقول شيئا، فالتفت إلى رجل من أولاد عقيل بن أبي طالب، فقال له: ما تقول فيما حلف به هذا الرجل؟ فاغتنمها، فقال: يا أمير المؤمنين إن جعلت قولي حكما وحكمي جائزا قلت، وإن يكن غير ذلك، فالسكوت أوسع لي وأبقى للمودة، قال: قل وقولك حكم وحكمك ماض، فلما سمع ذلك بنو أمية، قالوا: ما أنصفتنا يا أمير المؤمنين إذ جعلت الحكم إلى غيرنا ونحن من لحمتك وأولي رحمك، فقال عمر: اسكتوا عجزا ولؤما، عرضت ذلك عليكم آنفا فما اهتديتم له، قالوا: لأنك ما أعطيتنا ما أعطيت العقيلي، ولا حكمتنا كما حكمته، قال عمر: إن كان أصاب وأخطأتم وحزم وعجزتم وأبصر وعميتم فما ذنب عمر؟ لا أبا لكم، أتدرون ما مثلكم؟ قالوا:
لا ندري، قال: لكن العقيلي يدري، ثم قال: ما تقول يا رجل؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين مثلهم كما قال الأول:
دعيتم إلى أمر فلما عجزتم * تناوله من لا يداخله عجز فلما رأيتم ذلك أبدت نفوسكم * نداما وهل يغني من الحذر الحرز . فقال عمر: أحسنت وأصبت، فقل فيما سألتك عنه، قال: يا أمير المؤمنين بر قسمه ولم تطلق امرأته، قال: وإني علمت ذلك، قال: نشدتك الله يا أمير المؤمنين ألم تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال لفاطمة صلوات الله عليها وهو عندها في بيتها عائد له: (يا بنية ما علتك؟) قالت: (الوعك يا أبتاه) وكان علي عليه السلام غائبا في بعض حوائج النبي عليه السلام، فقال لها: (أتشتهين شيئا؟) قالت: (نعم أشتهي عنبا وأنا أعلم أنه عزيز وليس وقت عنب) قال: (إن الله قادر على أن يجيئنا به) ثم قال: (اللهم ائتنا به مع أفضل أمتي عندك منزلة) فطرق علي عليه السلام الباب ودخل ومعه مكتل قد ألقى عليه طرف ردائه، فقال له النبي عليه السلام: (ما هذا يا علي؟) قال: (عنب اشتريته لفاطمة) فقال: (الله أكبر الله أكبر، اللهم كما سررتني بأن خصصت عليا بدعوتي، فاجعله شفاء ابنتي) ثم قال: (كلي على اسم الله يا بنية) فأكلت، وما خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى استقلت وبرأت.
فقال عمر: صدقت وبررت، أشهد لقد سمعته ووعيته، يا رجل خذ بيد امرأتك، فإن عرض لك أبوها فاهشم أنفه.
ثم قال: يا بني عبد مناف والله ما نجهل ما يعلم غيرنا، ولا بنا عمي في ديننا، ولكنا كما قال الأول:
تصيدت الدنيا رجالا بفخها * فلم يدركوا خيرا بل استقبحوا الشرا وأعماهم حب الغنى وأصمهم * فلم يدركوا إلا الخسارة والوزرا .قيل: فكأنما ألقم بني أمية حجرا، ومضى الرجل بامرأته.
وكتب عمر إلى ميمون بن مهران: سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد: فإني فهمت كتابك وورد الرجلان والمرأة، وقد صدق الله يمينه وأبر قسمه، وأثبته على نكاحه، فاستيقن ذلك واعمل عليه، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته .
المؤلف : رضي الدين علي بن طاووس
المصدر : الملاحم والفتن (التشريف بالمنن في التعريف بالفتن)
الجزء والصفحة : ص 382