التفسير بالمأثور/النبوة/الإمام الصادق (عليه السلام)
أبي، عن النضر، عن يحيى الحلبي، عن
هارون بن خارجة، عن أبي عبد الله عليه السلام
قال: لما عملت بنو إسرائيل بالمعاصي وعتوا عن أمر ربهم أراد الله أن يسلط
عليهم من يذلهم ويقتلهم، فأوحى الله إلى أرميا يا أرميا ما بلد انتخبته من بين البلدان
وغرست فيه من كرائم الشجر فأخلف فأنبت خرنوبا ؟ فأخبر أرميا أحبار بني إسرائيل
فقالوا له: راجع ربك ليخبرنا ما معنى هذا المثل، فصام أرميا سبعا فأوحى الله
إليه: يا أرميا أما البلد فبيت المقدس، وأما ما أنبت فيه فبنو إسرائيل الذين أسكنتهم
فيها، فعملوا بالمعاصي، وغيروا ديني، وبدلوا نعمتي كفرا، فبي حلفت لامتحننهم
بفتنة يظل الحكيم فيها حيران، ولأسلطن عليهم شر عبادي ولادة وشرهم طعاما،
فليتسلطن عليهم بالجبرية فيقتل مقاتليهم، ويسبي حريمهم، ويخرب بيتهم الذي يعتزون
به، ويلقي حجرهم الذي يفتخرون به على الناس في المزابل مائة سنة، فأخبر أرميا
أحبار بني إسرائيل فقالوا له: راجع ربك فقل له: ما ذنب الفقراء والمساكين والضعفاء
؟ فصام أرميا سبعا ثم أكل أكلة فلم يوح إليه شئ، ثم صام سبعا وأكل أكلة ولم
يوح إليه شئ، ثم صام سبعا فأوحى الله إليه: يا أرميا لتكفن عن هذا أو لأردن وجهك
إلى قفاك، قال: ثم أوحى الله إليه: قل لهم: لأنكم رأيتم المنكر فلم تنكروه، فقال
أرميا: رب أعلمني من هو حتى آتيه وآخذ لنفسي وأهل بيتي منه أمانا، قال: ايت موضع
كذا وكذا، فانظر إلى غلام أشدهم زمانة، وأخبثهم ولادة، وأضعفهم جسما، وأشرهم غذاء
فهو ذاك، فأتى أرميا ذلك البلد فإذا هو بغلام في خان زمن ملقى على مزبلة وسط الخان،
وإذا له أم تزبي بالكسر، وتفت الكسر في القصعة، وتحلب عليه خنزيرة لها، ثم
تدنيه من ذلك الغلام فيأكله، فقال أرميا: إن كان في الدنيا الذي وصفه الله فهو هذا،
فدنا منه فقال له: ما اسمك ؟ فقال: بخت نصر، فعرف أنه هو، فعالجه حتى برئ، ثم قال
له: أتعرفني قال: لا، أنت رجل صالح، قال: أنا أرميا
نبي بني إسرائيل، أخبرني الله أنه سيسلطك على
بني إسرائيل فتقتل رجالهم، وتفعل بهم كذا وكذا قال: فتاه في نفسه في ذلك الوقت. ثم
قال أرميا: اكتب لي كتابا بأمان منك، فكتب له كتابا، وكان يخرج في الجبل
ويحتطب ويدخله المدينة ويبيعه، فدعا إلى حرب بني إسرائيل وكان مسكنهم في بيت
المقدس، وأقبل بخت نصر فيمن أجابه نحو بيت المقدس، وقد اجتمع إليه بشر كثير، فلما
بلغ أرميا إقباله نحو بيت المقدس استقبله على حمار له ومعه الامان الذي كتبه له
بخت نصر، فلم يصل إليه أرميا من كثرة جنوده وأصحابه، فصير الامان على قصبة أو خشبة
ورفعها، فقال: من أنت ؟ فقال: أنا أرميا النبي الذي بشرتك بأنك سيسلطك الله على
بني إسرائيل وهذا أمانك لي، قال: أما أنت فقد آمنتك، وأما أهل بيتك فإني أرمي
من ههنا إلى بيت المقدس فإن وصلت رميتي إلى بيت المقدس فلا أمان لهم عندي، وإن لم
تصل فهم آمنون، وانتزع قوسه ورمى نحو بيت المقدس فحملت الريح النشابة حتى علقتها في
بيت المقدس، فقال: لا أمان لهم عندي، فلما وافى نظر إلى جبل من تراب وسط المدينة وإذا
دم يغلي وسطه، كلما ألقي عليه التراب خرج وهو يغلي، فقال: ما هذا ؟ فقالوا: هذا نبي
كان لله فقتله ملوك بني إسرائيل ودمه يغلي، وكلما ألقينا عليه التراب خرج يغلي، فقال
بخت نصر: لاقتلن بني إسرائيل أبدا حتى يسكن هذا الدم، وكان ذلك الدم دم يحيى بن
زكريا عليه السلام، وكان في زمانه ملك جبار يزني بنساء بني إسرائيل، وكان يمر بيحيى
بن زكريا عليه السلام فقال له يحيى: اتق الله أيها الملك لا يحل لك هذا، فقالت
له مرأة من اللواتي كان يزني بهن حين سكر: أيها الملك اقتل يحيى، فأمر أن يؤتى
برأسه فأتوا برأس يحيى عليه السلام في الطست، وكان الرأس يكلمه ويقول
له: يا هذا اتق الله لا يحل لك هذا، ثم غلى الدم في الطست حتى فاض إلى الأرض فخرج
يغلي ولا يسكن، وكان بين قتل يحيى وخروج بخت نصر مائة سنة، ولم يزل بخت نصر يقتلهم،
وكان يدخل قرية قرية فيقتل الرجال والنساء والصبيان وكل حيوان والدم يغلي حتى
أفنى من ثم، فقال: بقي أحد في هذه البلاد ؟ قالوا: عجوز في موضع كذا وكذا، فبعث
إليها فضرب عنقها على الدم فسكن، وكانت آخر من بقي. ثم أتى بابل فبنى بها مدينة
وأقام وحفر بئرا فألقى فيها دانيال وألقى معه اللبوة، فجعلت اللبوة تأكل طين البئر
ويشرب دانيال لبنها، فلبث بذلك زمانا، فأوحى الله إلى النبي الذي كان ببيت المقدس
أن اذهب بهذا الطعام والشراب إلى دانيال واقرأه مني السلام، قال: وأين دانيال
يا رب ؟ فقال: في بئر بابل في موضع كذا وكذا. قال: فأتاه فأطلع في البئر
فقال: يا دانيال، قال: لبيك صوت غريب، قال: إن ربك يقرؤك السلام وقد بعث إليك بالطعام
والشراب، فدلاه إليه، قال: فقال دانيال: الحمد لله الذي لا ينسى من ذكره،
الحمد لله الذي لا يخيب من دعاه، الحمد لله الذي من توكل عليه كفاه، الحمد لله
الذي من وثق به لم يكله إلى غيره، الحمد لله الذي يجزي بالإحسان إحسانا، الحمد لله
الذي يجزي بالصبر نجاة، الحمد لله الذي يكشف ضرنا عند كربتنا والحمد لله الذي هو
ثقتنا حين ينقطع الحيل منا، والحمد لله الذي هو رجاؤنا حين ساء ظننا بأعمالنا.
قال: فأري بخت نصر في نومه كأن رأسه من حديد، ورجليه من نحاس، وصدره من ذهب،
قال: فدعا المنجمين فقال لهم: ما رأيت ؟ فقالوا: ما ندري ولكن قص علينا ما رأيت
في المنام، فقال: وأنا أجري عليكم الارزاق منذ كذا وكذا ولا تدرون ما رأيت في المنام
؟ فأمر بهم فقتلوا، قال: فقال له بعض من كان عنده: إن كان عند أحد شئ فعند صاحب
الجب، فإن اللبوة لم تتعرض له، وهي تأكل الطين وترضعه، فبعث إلى دانيال فقال: ما
رأيت في المنام ؟ فقال: رأيت كأن رأسك من حديد، ورجليك من نحاس، و صدرك من ذهب
قال: هكذا رأيت فما ذاك ؟ قال: قد ذهب ملكك وأنت مقتول إلى ثلاثة أيام يقتلك رجل من
ولد فارس، قال: فقال له: إن علي لسبع مدائن، على باب كل مدينة حرس، وما رضيت بذلك
حتى وضعت بطة من نحاس على باب كل مدينة لا يدخل غريب إلا صاحت عليه حتى يؤخذ، قال:
فقال له: إن الامر كما قلت لك، قال: فبث الخيل وقال: لا تلقون أحدا من الخلق إلا
قتلتموه كائنا من كان، وكان دانيال جالسا عنده، وقال: لا تفارقني هذه الثلاثة الايام،
فإن مضت قتلتك، فلما كان في اليوم الثالث ممسيا أخذه الغم فخرج فتلقاه غلام
كان اتخذه ابنا له من أهل فارس وهو لا يعلم أنه من أهل فارس فدفع إليه سيفه
وقال له: يا غلام لا تلقى أحدا من الخلق إلا وقتلته وإن لقيتني أنا فاقتلني، فأخذ
الغلام سيفه فضرب به بخت نصر ضربة فقتله. فخرج أرميا على حماره ومعه تين قد تزوده وشيء
من عصير، فنظر إلى سباع البر و سباع البحر وسباع الجو تأكل تلك الجيف ففكر في نفسه
ساعة ثم قال: " أنى يحيي هذه الله بعد موتها وقد أكلتهم السباع ؟ فأماته الله
مكانه وهو قول الله تبارك وتعالى: " أو كالذي
مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله
مائة عام ثم بعثه " أي أحياه، فلما رحم الله بني إسرائيل وأهلك بخت نصر رد
بني إسرائيل إلى الدنيا وكان عزير لما سلط
الله بخت نصر على بني إسرائيل هرب ودخل في عين
وغاب فيها وبقي أرميا ميتا مائة سنة، ثم أحياه الله فأول ما أحيا منه عينيه في مثل
غرقئ البيض، فنظر فأوحى الله تعالى إليه: " كم لبثت قال لبثت يوما " ثم
نظر إلى الشمس وقد ارتفعت فقال: " أو
بعض يوم " فقال الله تبارك وتعالى: " بل لبثت مائة عام
فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه " أي لم يتغير " وانظر إلى حمارك
ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم
نكسوها لحما " فجعل ينظر إلى العظام البالية المنفطرة
تجتمع إليه، وإلى اللحم الذي قد أكلته السباع يتألف إلى العظام من ههنا وههنا
ويلتزق بها حتى قام وقام حماره فقال: " أعلم أن الله على كل شئ قدير ".
المصدر : بحار الأنوار
المؤلف : العلامة الشيخ محمد باقر المجلسي
الجزء والصفحة : جزء 14 / صفحة [356]
تاريخ النشر : 2024-05-26