نهض فجرُ المدينة ببطءٍ حالم، كطائرٍ يروّض جناحيه قبل الطيران. خرج الناسُ إلى الطرقات يحدّقون في موكبٍ يشقّ الفجر ببريقٍ لامع، تتوه على صفحته الأنوار كما تتوه الفراشات حول نارٍ لا تدرك احتراقها.
كان قارون يتهادى بثيابٍ تشعّ كأنّها لفافة نورٍ من نجمٍ محتبس، وخلفه خزائن تُجرّ على عجلات من ذهب، تتماوج مفاتيحها الدقيقة في الهواء كأصواتٍ تُسمع ولا تُرى.
همس بعض القوم وقد خطفت أبصارَهم الفتنة:
يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم.
كانت كلماتهم تتدحرج كحصى وادٍ جافّ، لكنها أيقظت في القلوب طمعًا لا ينطفئ.
وعند ناصية الطريق، وقف شيخٌ حكيم، تغلّف عمامته نسمةٌ هادئة، وقال بصوتٍ واثق: ثواب الله خيرٌ لمن آمن وعمل صالحًا وما يلقّاها إلا الصابرون.
لكن وقع الخيل، وصفير السلاسل، ورنين المفاتيح غطّى صوته؛ فابتلع الطمعُ الموعظة، كما تبتلع الرمالُ أثر الخطوات.
وما إن هبط الليل بظلاله الثقيلة، حتى بدا كأنّ المدينة تستعدّ لحدثٍ لا يشبه ما قبله. وفي ساعةٍ ينكسر فيها ضوء النجوم، ارتجفت الأرض تحت الأقدام، وانشقّ الصمت بدويّ يشبه انهدام جبل.
خرج الناسُ مذعورين. ورأوا قارون واقفًا على ربوةٍ ترتجف، يتشبث بثيابه كمن يتمسك بحلمٍ أخير. ثم انفتحت الأرض، وابتلعته وكنوزه ودهاليز ماله، في لحظةٍ صامتةٍ لا تُنسى.
عندها قال الذين تمنّوا كنوزه بالأمس وقد انقشع الطمع من صدورهم:
لولا أن منّ الله علينا لخسف بنا ويكأنه لا يفلح الكافرون.
وسقط البريق الذي كان يخدع العيون، وارتفعت البصيرة بعد فوات الفتنة.
ومضت قرون
لكن الحكاية لم تمت.
في بلاد الرافدين، ظهر طاغيةٌ يلمّع صورته بزيف القوة، كما لمّع قارون قديمًا ذهبه. كان الشعب يختنق تحت حصارٍ يأكل الخبز من أفواه الأطفال، بينما هو يركب عربةً مطلية بالذهب، يتجوّل بها متباهياً، كأنّها سفينة نجاةٍ في بحرٍ يتلاطم فيه الجوع.
قصورُه تلمع وسط مدينةٍ أنهكها الألم، وحزبه يجمع النعيم جمعًا، بينما كانت الأمهات يبحثن عن بقايا حليبٍ لطفلٍ يبكي ليلًا.
ظنّ أنّ الذهب يورّث الخلود، وأنّ الموكب اللامع سيحجب عنه يد القدر.
لكن التاريخ لا تُخدعه المرايا.
وحين جاء وقتُ الحساب، تهاوت فصول الزيف واحدًا واحدًا:
انهار سلطانٌ ظنّ أنه جبلٌ لا ينهدم، وتحوّلت عربة الذهب إلى خردةٍ تحت أقدام الحقيقة، وتبعثرت عائلته في المنافي، وسقط حزبه كقصر رمالٍ جرفته أول موجة.
وقف الناس في فراغ ما تركه الطاغية، فعاد صدى الحكمة الأولى يتردد في أعماقهم:
ويكأنّ الله يمهل ولا يهمل ويكأنّ الباطل مهما تجبّر، فإن سقوطه حتميّ.
ومن يومها صار العراقي يعرف معنى الآية:
تلك الدارُ الآخرةُ نجعلُها للذين لا يريدون علوًّا في الأرض ولا فسادًا.
وعرف أنّ الذهب مهما لمع، لا يحمي صاحبه من لحظة الحق.
وأنّ الطغاة، مثل قارون، يسقطون جميعًا في الحفرة نفسها:
ثقلُ الذهب وثقلُ الظلم وثقلُ الغرور.
وأنّ كل بريقٍ بلا عدلٍ
ليس نعمة
بل بوّابة سقوط.







وائل الوائلي
منذ 10 ساعات
"المهمة".. إصدار قصصي يوثّق القصص الفائزة في مسابقة فتوى الدفاع المقدسة للقصة القصيرة
(نوافذ).. إصدار أدبي يوثق القصص الفائزة في مسابقة الإمام العسكري (عليه السلام)
قسم الشؤون الفكرية يصدر مجموعة قصصية بعنوان (قلوب بلا مأوى)
EN