تعابير تمثل السواد:       أولا: ان استعمال التعابير المجازية وارادة اللون منها ظاهرة من ظواهر الإعجاز القرآني، وهو من الاتساع الدلالي الذي تميزت به لغة العرب ، إذ يستطيع القارئ الوقوف على ابعاد ما يقرأه من الفالظ وضعت لشـيء ودلت على شيء آخر، فمثلا نلاحظ ان الله عز وزجل يصف الجنة بقوله: {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * مُدْهَامَّتَانِ }[1] ، المراد من هذه الدهمة هي السواد من ريّهما و شدّة خضرتهما؛ لأن الخضـرة إذا اشتدت ضربت إلى السواد[2]، وهذا كناية عن كثافة الاشجار وتشابكها ، وعدم دخول الضوء من خلالها، وقيل هي الخضـرة في تمامها تضـرب الى السواد[3]، وذكر صفات الجنة هو باب من ابواب الترغيب والتحبيب لنيل تلك الجائزة.
      ثانيا: من الالفاظ التي استعملها القرآن لتدل على السواد لفظة(الصـريم) في قوله تعالى: {فَأَصْبَحَتْ كَالصَّريم‏}[4]، فاصل الصـرم هو الحصاد والقطاف في الزرع والصـريم الليل الاسود ، وانشد ابو عمرو بن العلاء:
أَلاَ بَكَرَتْ وَعَاذِلَتِي تَلُومُ      تُهَجِّدُنِي وَمَا انْكَشَفَ الصَّرِيمُ[5]
 
      ويسمى النهار ايضا صريما من باب الاضداد ؛ لان الليل ينصرم عند مجيء النهار ، والنهار ينصرم عند مجيء الليل ، ونرجع الى الاية فالمراد منها ان تلك الجنة اصبحت كالليل المظلم ، وقيل كالرماد الاسود بلغة خزيمة[6]، وهو هنا كناية عن السواد الذي هو لازم الالحتراق ، وهذا من باب اثبات قدرة الله عز وجل.
      ثالثا: ومما يدل على لون السواد لفظة (عبس) وهو تغير لون الوجه وانقباضه كما في قوله تعال: {عَبَسَ وَتَوَلَّى}[7]، أي بسـر وقبض وجهه ، فهذه الالفاظ تدل على تغير لو الوجه وانقباضه لما يصيبه من العوارض التي تكدره كالحزن ، والهم ، والغم، ومن الاصل ذاته يصف الله عز وجل ذلك اليوم بقوله تعالى:{ إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا}[8]، أي مكدرا تعبس فيه الوجوه، ووصف اليوم بالعبوس توسعا لما فيه من الهول والشدة، (و هذه استعارة؛ لأن العبوس من صفة الإنسان القاطب المعبّس. فشبّه سبحانه ذلك اليوم- لقوّة دلائله‏ على عظيم عقابه، و أليم عذابه- بالرجل العبوس‏)[9].
     يقول ابن عباس: يعبس الكافر حتى يسيل من بين عينيه عرق مثل القطر[10]، وهذا يجعل الوجوه تتقلص وتنقبض ، ويتغير شكلها الخارجي ، وهذا فيه من الترهيب ما يحمل النفوس على اتقاء شر ذلك اليوم بالرجوع الى الله عز وجل.
      رابعا: من الالفاظ التي توحي الى السواد لفظة الظل قال تعالى: {انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ}[11]، أي نار لها ثلاث شعب سماها ظلا لسواد نار جهنم ، وقيل هو دخان جهنم له ثلاث شعب تحيط بالكافر شعبة تكون فوقه، وشعبة عن يمينه، وشعبة عن شماله[12].
      خامسا: ومن التي استعملها القرآن للدلالة على اللون الاسود هي لفظة (اغطش) ، في قوله تعالى:{وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا}[13]، أي اظلم الليل[14]، والغطش الظلمة، واغطشه الله اظلمه، واغطش الليل مثله[15]، وهذا في معرض بيان قدرة الله عز وجل ففيه من الترغيب والترهيب ما يحمل النفس على الرجوع الى الله عز وجل.
 
 
[1] سورة الرحمن: 62-64.
[2] الثعلبي: أحمد بن محمد: الكشف و البيان المعروف بتفسير الثعلبي‏، المحقق: ابن عاشور، أبي محمد، مراجعة وتدقيق: الساعدي، نظير، ط1- 1422 هـ. ق‏، الناشر: دار إحياء التراث العربي،بيروت‏ ‏9: 193.
[3] الطبرسي: مجمع البيان6 : 106.
[4] سورة القلم : 20.
[5] استشهد به الطبري في جامع البيان: 29: 38، و الطبرسي في مجمع البيان: 10: 91.
[6] ظ: الطبرسي: مجمع البيان6 : 106.
[7] سورة عبس : 1.
[8] سورة الانسان : 10.
[9] الرضي: تلخيص البيان في مجازات القرآن: 356-357.
[10] ظ: الطبرسي: مجمع البيان6 : 144.
[11] سورة المرسلات : 30.
[12] ظ: الطبرسي: مجمع البيان6 : 144.
[13] سورة النازعات : 29.
[14] ظ: الطبرسي: مجمع البيان6 : 162.
[15] الرازي: مختار الصحاح : 476.