أكّد عضو مجلس إدارة العتبة العبّاسية المقدّسة الدكتور عباس رشيد الموسويّ، أنّ للطالبات الخرّيجات اليوم كلّ الفضل بمحاولةِ تصحيحِ المسار التربويّ، من خلال تسجيلهنّ مواقف نبيلة بالوقوف في وجه التحدّيات السلوكيّة الخطيرة.
جاء ذلك خلال كلمة الأمانة العامّة للعتبة العبّاسية المقدّسة التي ألقاها في حفل التخرّج المركزيّ لطالبات الجامعات العراقيّة دفعة (بنات الكفيل الرابعة) الذي أُقِيم في مجمّع العميد التربويّ والتعليميّ التابع للعتبة العبّاسية المقدّسة، وفيما يلي نصّ الكلمة كاملةً:
ما أحوجنا أيّتها الفضلياتُ إلى تجمّعٍ كهذا، في نهايةِ كلِّ عامٍ دراسيٍّ لبناتِنا حيناً وأبنائِنا حيناً آخر، لنُوصلَ به رسائلَ طمأنةٍ إلى أهلينا العراقيّين الذين عصفتْ بهم رياحُ التغييرِ التي طالت كلَّ شيء، وتسبّبتْ في تصدّعِ الأسسِ المتينةِ التي بُنِي عليها المجتمع، وانحسرَ بسببها كثيرٌ من مفاهيم القِيَم والمبادئ، وعُوِّض عنها بمظاهرَ دخيلةٍ على المجتمع زحفت بقوّةٍ في محاولةٍ منها للقضاءِ شيئاً فشيئاً على مضامينِ الوقارِ والهيبةِ والكرامة.
وما أحوجنا إليكم؛ فأنتم في كلّ مرّةٍ تقفون مصدّاً آمناً لتهشيم الصورة النمطيّة عن مراسيم تخرّج طلبة الجامعات العراقيّة، في أذهان أهلينا العراقيّين تلك الصورة التي حملت أشكالاً شتّى من الإساءات جرّاء اصطناعِ فرحٍ يَهدُّ القِيمَ، ويهدمُ منظومةَ الأخلاقِ، يمتزجُ ببذخٍ غيرِ مسؤولٍ وسلوكيّاتٍ مستهجنةٍ، جعلت بعض الناس يقصرُ تصوّرَهُ عن الحياة الجامعيّة على هذه المشاهد الاحتفاليّة الصاخبة، وما يجري فيها من تصرّفاتٍ وسلوكيّاتٍ غير لائقة، لا شكّ أنّها علقت في الأذهان، وتركت آثارَها على صورةِ الخرّيجِ نفسهِ، وقلّلت من قيمة ما يحملُهُ من شهادة..
لا أحد غير الطالبِ نفسِه بمقدورِهِ أن يغيّرَ تلك الصورةَ، ويكسرَ النمطَ السائدَ، لا سيّما أنّ ما حملَهُ مشهدُ حفلاتِ التخرّجِ الجامعيّةِ من صخبٍ وضجيجٍ لمّا يزلْ يستعمرُ مساحاتٍ شاسعةً من صفحاتِ التواصلِ الاجتماعيّ، ولمّا يزلِ الضغطُ على أزرارِ المشاركةِ والإعجابِ والتعليقِ يُعيدُه إلى السطحِ كلّما تقادمَ عليه الزمن، ليسجّلَ عبرَ الساعاتِ والأيّامِ استعادةً مكرورةً لها، وحضوراً فاعلاً، وكأنّما ليس هناك من هدفٍ وراء ذلك سوى السعيِ إلى تكريسِ تلك السلوكيّات في الحرم الجامعيّ، وجعْلِها تقليداً سنويّاً لا يُمكن تجاوزُه حتّى في أحلكِ الظروف أو أصعبِها!
نعم لقد أصبحت حفلاتُ التخرّجِ تلك مادّةً إعلاميّةً تتلاقفُها المواقعُ، وغدتْ تعكس صورةً غيرَ واقعيّةٍ عن المستوى الثقافيّ والوعي الحضاريّ للطالب الجامعيّ على نحوٍ لا يليق به، ولا يليق بسمعةِ الحرم الجامعيّ وقدسيّتِهِ.
وأيضاً لا أحدَ بمقدورِهِ إنكارَ أنّ ما حصلَ ويحصلُ في حفلاتٍ أصدقُ ما يُقال فيها أنّها حفلاتُ تبرّجٍ لا حفلاتُ تخرّجٍ، وأنّه حقّاً وصدقاً يُعدّ أمراً مثيراً للقلقِ، أنْ تُنْتهك على هذا النحو حرمةُ الجامعةِ، وتُمَسَّ كرامةُ طالبِ العلمِ، وأن لا يبقى من الحرم إلّا رسمُه، ولا يبقى من العلم إلّا اسمُه..
لقد رسّخت الحواضنُ الإسلاميّة فينا حقيقةَ أنّ الحياةَ الحرّةَ الكريمةَ أسُّها المتينُ، وقوامُها المكينُ هو الأخلاقُ، وأنّ على إنسانِ هذه الحياةِ أن يكون متعلِّماً بعد ذلك، وبدونِ الأخلاقِ سيكون هناك هيكلٌ وقوامٌ خاوٍ على عروشِهِ، فإنْ أنتَ فتّشتَ باطنَهُ وجدتَهُ أجوفَ، فإن اعترضَتْـــهُ المواقفُ والتجاريبُ بدا منه ما لا يُعجبُ ولا يُسِرُّ..
نعم، فبينَ عامٍ وآخرَ يجترحُ الطلبةُ أساليبَ جديدةً لا عهدَ للحياةِ الجامعيّةِ بها، ومنها ما يخدشُ الحياءَ، ويمسُّ العفةَ، ويُذْهبُ الهيبةَ، ويُهشّمُ الوقارُ، ويقتلُ الرجولةَ، وينتهكُ حرمةَ الأنوثةِ.
يحصلُ كلُّ هذا في زمنٍ يبحثُ فيه أهلونا العراقيّون عن ضوءٍ في نهايةِ النفقِ السياسيّ المُظلِم، يتوقون ويتطلّعون بشغفٍ وحرقةٍ إلى جيلِ مستقبلٍ موعودٍ لعلّ بارقةَ أملٍ فيه، أو في غيره، وإذا هم يرون ما يسوؤُهم ويسمعون ما ينوؤُهم، فيزدادُ منسوبُ الإحباطِ لديهم، ويَتَوَارَون مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّروا بِه، ومن قتامةِ المشهد، ومن بؤسِ تفاصيلِه؛ حين تتجلّى لهم الذوات التي يعوّلون عليها في مَسْكِ زمامِ البلاد، ونظمِ أمورِهِ، وقد أطلّوا عليهم بصورٍ غيرِ صورِهم، رجالُ الغد بثيابِ النساء والراقصات العاريات، يرتدون حيناً أقنعةَ مصّاصي الدماء، وحيناً يستبدلون صنعَ اللهِ أحسنِ الخالقين بأشكالٍ ما أنزَلَ بها من سلطان!!
بناتنا الخرّيجات: اليوم ونحن نشاهدُ التصاعدَ المخيفَ في إفرازاتِ المشهدِ الجامعيّ، التي بدأت تهدّدُ منظومةَ القيمِ الأخلاقيّةِ التي لها في نفوسِنا ما يُشبهُ القداسةَ
علينا أن ندعوَ القائمين على هذا الشأنِ، إلى أن يُحِدّوا من تسارُعِهِ المخيفِ فيضعوا المحدّداتِ الأخلاقيَّةَ والقيودَ الاجتماعيّةَ التي تضبطُ جموحَهُ، وتُحِدُّ من إفرازاتِه التي لا يجمعُها والوسطَ الجامعيَّ أيُّ جامع..
ونذكّر هنا بإجراءٍ صنعَه المختصّون بالشأن الطبّي قديماً، فهم حين رأوا ما أفرزه الميدانُ الطبّي من تطوّراتٍ؛ دعتْهم الحاجةُ إلى إيجادِ نُظُمٍ وقوانينَ وعلمٍ للأخلاق الطبّيةِ، بوصفه اعتراضاً على جموعِ التطوّرِ العلميِّ الطبيِّ الحديثِ، وشططِهِ العلميّ الذي اجتاح كرامةَ الإنسانِ وأسهمَ في استباحةِ جسدِه..
وفي ظلِّ غيابِ الوعيِ المؤسّساتيّ والمتابعةِ الموضوعيّةِ، ننتظر ذلك اليومَ الذي تأخذ فيه إدارةُ الجامعاتِ دورَها الرقابيَّ المهنيَّ والوظيفيَّ والأخلاقيَّ والتربويَّ والعلميَّ، للإعلان عن ضوابطَ وأنظمةٍ وتعليماتٍ تُـــقَنَّنُ وفقَ إجراءاتٍ منضبطةٍ ذاتِ سلوكٍ تعبيريِّ حقيقيّ، تضبطُ أخلاقيّاتِ الحرمِ الجامعيّ، وتكبحُ جُماحَ ما تسلّلَ إليه من عاداتٍ وتقاليدَ دخيلةٍ، للحيلولةِ دونَ انتهاكِ حرمةِ دُورِ العلم، والمحافظةِ على كرامةِ طلّابِها.
ففضلاً عن كونِ تلك المظاهرِ تسجّلُ خرقاً للنظام، وإفشاءً لروحِ الفوضى وعدمِ الانضباط، وفضلاً عن كونها تشكّل انعطافةً حادّةً في الذوق العامّ والعُرف الاجتماعيّ والدينيّ، كذلك فيها مأخذٌ يصيب رؤيةَ الجامعةِ في مقتل؛ إذ لا شكَّ ولا ريبَ أنّ كثيراً منها يقفُ بالضدّ من رؤيةِ ورسالةِ وأهدافِ الجامعةِ العراقيّةِ؛ ففي اللّحظةِ التي يُرادُ فيها للجامعةِ أن تطرحَ نتاجَها وحصادَها وقد استوى على سُوقِهِ في المجتمع، ذلك المنتجُ الذي يُفتَرضُ أنّه سيتطابق مع رؤيةِ ورسالة وأهداف الجامعة ويعبّرُ عنها خيرَ تعبير؛ وإذا به يُناقضُ تلك الرؤيةَ ولا يترجمُها من قريبٍ أو من بعيد؛ حيث تُحدّثُنا الأخبارُ عن تراجعِ المستوياتِ العلميّةِ لبعض مؤسّساتنا وخروجِها عن التصنيفِ العالميّ للجامعات الرصينةِ، وافتقارِها لأدنى معاييرِ جودةِ التعليم، ولعلّ في بعض ما نرى ونسمعُ في تلك المحافلِ ما يجعلُ الخبرَ يُطابِقُ المخبرَ..
ويبقى لكنّ ولزملائِكنّ، ولآخرين فضلُ محاولةِ تصحيحِ المسار، وإيقادُ الضوءِ في نهايةِ النفق، أنتنّ هنا لتسجيلِ موقفٍ نبيلٍ بالوقوف في وجه تلك التحدّياتِ السلوكيةِ الخطيرةِ، وتلك المظاهرِ التي بدأتْ تجتاحُ الحرمَ الجامعيّ.