استمرّ
تفاعل المفسّرين مع أسباب النزول ، لا سيّما بعد أن فرض تفسير الطبريّ نفسه على
الساحة بالمميزات التي تحلّى بها ، فقد كان تفسيره :
«موسوعة
لم يعرف الناس لها مثيلا ، وبحرا زخّارا يغترف الباحثون منه ...» ، «1»
وعدّ
: «من أمّهات التفاسير المعتمدة في النقل والتفسير بالمأثور» ، «2» لذا فقد حاكته التفاسير التي تلته ، مع
تطوير لما شرع به شكلا ومضمونا ، من ذلك استقرار نقل تلك الأحاديث وفق صيغة «أسباب
النزول».
بموازاة
ذلك كانت أسباب النزول على امتداد العصور تنتشر بشكل كبير ، ممّا أغرقها في بحر من
الأحاديث الموضوعة ، فقد كان باب رواية أسباب النزول مفتوحا منذ رضي العامّة
بقبولها عن التابعين الذين لم يشهدوا الوحي ، فاستمرّ حتى القرن الخامس ، ممّا
أدّى إلى تضخّمها بلا رقيب أو حسيب أو ضابطة واضحة ، لا سيّما وأنّه من المعروف
لدى العامّة أنّ «الكتابة قد توقّفت بعد وفاة الرسول صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ،
وفرض الحظر عليها» ، «3» بل تمّ جمع أحاديث النبي صلّى اللّه عليه وآله
وسلّم وقام الخليفة الأوّل بحرقها ، «4» ولم يتنبّهوا لهذا الخطأ إلّا «أوائل القرن
الثاني ، عند ما كسر هذا السدّ عمر بن عبد العزيز» ، «5» أو ربما في عام (143هـ) كما يذهب إليه
الذهبيّ ، «6» هذا بالنسبة للأحاديث ، وأمّا بالنسبة
لتدوين المعارف ، من قبيل أسباب النزول ، فقد تأخّر تدوينها عن ذلك ، ويمكن أن
نطلّ على هذا الوضع ونتائجه من خلال حركة الواحدي التي مثّلت منعطفا محوريّا.
يصف
الواحدي الأوضاع التي آلت إليها أسباب النزول في عصره ، سواء من حيث رواجها بكثرة
، أم من ناحية تصاعد الوضع فيها ، يقول بعد أن أشار إلى أهميّة أسباب النزول :
«أمّا اليوم فكلّ أحد يخترع شيئا ويختلق إفكا وكذبا ، ملقيا زمامه إلى الجهالة ،
غير مفكّر في الوعيد للجاهل بسبب الآية». «7»
أمّا
عمله في هذا النطاق ، فقد تمثّل في محاولة إقفال باب الاجتهاد في نقل أسباب النزول
، وذلك بعد أن جمع ما يعتقد بأنّه قد نقل فعلا عن الصحابة أو التابعين ، ضمن مصنّف
خاصّ ومستقلّ ، يقول : «وذلك [كثرة ما رووه من الأسباب إفكا وكذبا] الذي حدا بي
إلى إملاء هذا الكتاب الجامع للأسباب ، لينتهي إليه طالبو هذا الشأن ، والمتكلّمون
في نزول القرآن ، فيعرفوا الصدق ويستغنوا عن التمويه والكذب». «8»
وبعد
الواحدي شاع التصنيف في أسباب النزول ضمن مصنّف مستقلّ ، وقد ارتبطت أولى
المحاولات بكتابه هذا ، حيث اختصره الجعبريّ ، وعلّق عليه ابن حجر ، ثمّ شذّبه
السيوطيّ ، كلّ في مصنّف مستقلّ يعنى بخصوص باب أسباب النزول.
______________________
(1). محمّد بكر إسماعيل ، ابن جرير الطبريّ ومنهجه
في التفسير ، ص 74.
(2). الشيخ معرفة
، التفسير والمفسّرون ، ج 2 ، ص 313 ، 314؛ لاحظ : محمّد علي أيازي ، المفسّرون
حياتهم ومنهجهم ، ص 401.
(3). دروس في
نصوص الحديث ، ص 46.
(4). تذكرة
الحفّاظ ، ج 1 ، ص 5.
(5).
المطهّري ، الإسلام وإيران ، ج 3 ، ص 79 ، 80.
(6). تاريخ
الإسلام ، حوادث 142 ه- 160 ه ، ص 12؛ خالد خليفة السعد ، علم أسباب النزول وأهميّته
في تفسير القرآن ، ص 31.
(7). الواحدي
، ص 7.
(8). المصدر
السابق.