أقرأ أيضاً
التاريخ: 14-5-2017
343
التاريخ: 14-5-2017
274
التاريخ: 19-9-2017
405
التاريخ: 14-5-2017
391
|
قال تعالى : {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53) كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى و وَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُو الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ } [الدخان: 43 - 59].
وصف سبحانه ما يفصل به بين الفريقين فقال {إن شجرت الزقوم} وقد مر تفسيره في سورة الصافات {طعام الأثيم} أي الآثم وهو أبو جهل وروي أن أبا جهل أتى بتمر وزبد فجمع بينهما وأكل وقال هذا هو الزقوم الذي يخوفنا محمد به نحن نتزقمه أي نملأ أفواهنا به.
فقال سبحانه {كالمهل} وهو المذاب من النحاس أو الرصاص أو الذهب أو الفضة وقيل هو دردي الزيت {يغلي في البطون كغلي الحميم} أي إذا حصلت في أجواف أهل النار تغلي كغلي الماء الحار الشديد الحرارة قال أبو علي الفارسي لا يجوز أن يكون المعنى يغلي المهل في البطون لأن المهل إنما ذكر للتشبيه به في الذوب أ لا ترى أن المهل لا يغلي في البطون وإنما يغلي ما شبع به {خذوه} أي يقال للزبانية خذوا الأثيم {فاعتلوه} أي زعزعوه وادفعوه بعنف ومنه قول الشاعر :
فيا ضيعة الفتيان إذ يعتلونه *** ببطن الثرى مثل الفنيق المسدم(2)
وقيل معناه جروه على وجهه عن مجاهد {إلى سواء الجحيم} أي إلى وسط النار عن قتادة وسمي وسط الشيء سواء لاستواء المسافة بينه وبين أطرافه المحيطة به والسواء العدل {ثم صبوا فوق رأسه} قال مقاتل إن خازن النار يمر به على رأسه فيذهب رأسه عن دماغه ثم يصب فيه {من عذاب الحميم} وهوالماء الذي قد انتهى حره ويقول له {ذق إنك أنت العزيز الكريم} وذلك أنه كان يقول أنا أعز أهل الوادي وأكرمهم فيقول له الملك ذق العذاب أيها المتعزز المتكرم في زعمك وفيما كنت تقول وقيل إنه على معنى النقيض فكأنه قيل إنك أنت الذليل المهين إلا أنه قيل على هذا الوجه للاستخفاف به وقيل معناه إنك أنت العزيز في قومك الكريم عليهم فما أغنى ذلك عنك {إن هذا ما كنتم به تمترون} أي ثم يقال لهم إن هذا لعذاب ما كنتم تشكون فيه في دار الدنيا .
ثم عقب سبحانه الوعيد بذكر الوعد فقال {إن المتقين} الذين يجتنبون معاصي الله لكونها قبائح ويفعلون الطاعات لكونها طاعات {في مقام أمين} أمنوا فيه الغير من الموت والحوادث وقيل أمنوا فيه من الشيطان والأحزان عن قتادة {في جنات وعيون} أي بساتين وعيون ماء نابعة فيها {يلبسون من سندس واستبرق} خاطب العرب فوعدهم من الثياب بما عظم عندهم واشتهته أنفسهم وقيل السندس ما يلبسونه والإستبرق ما يفترشونه {متقابلين} في المجالس لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض بل يقابل بعضا وقيل معناه متقابلين بالمحبة لا متدابرين بالبغضة {كذلك} حال أهل الجنة {وزوجناهم بحور عين} قال الأخفش المراد به التزويج المعروف يقال زوجته امرأة وبامرأة وقال غيره لا يكون في الجنة تزويج والمعنى وقرناهم بحور عين.
{يدعون فيها بكل فاكهة آمنين} أي يستدعون فيها أي ثمرة شاءوا واشتهوا غير خائفين فوتها آمنين من نفادها ومضرتها وقيل آمنين من التخم والأسقام والأوجاع {لا يذوقون فيها الموت} شبه الموت بالطعام الذي يذاق ويتكره عند المذاق ثم نفى أن يكون ذلك في الجنة وإنما خصهم بأنهم لا يذوقون الموت مع أن جميع أهل الآخرة لا يذوقون الموت لما في ذلك من البشارة لهم بالحياة الهنيئة في الجنة فأما من يكون فيما هو كالموت في الشدة فإنه لا يطلق له هذه الصفة لأنه يموت موتات كثيرة بما يقاسيه من العقوبة {إلا الموتة الأولى} قيل معناه بعد الموتة الأولى وقيل معناه لكن الموتة الأولى قد ذاقوها وقيل سوى الموتة الأولى وقد بينا ما عندنا فيه.
{ووقيهم عذاب الجحيم} أي فصرف عنهم عذاب النار . استدلت المعتزلة بهذا على أن الفاسق الملي لا يخرج من النار لأنه يكون قد وقى النار والجواب عن ذلك أن هذه الآية يجوز أن تكون مختصة بمن لا يستحق دخول النار فلا يدخلها أو بمن استحق النار فتفضل عليه بالعفو فلم يدخلها ويجوز أن يكون المراد و وقاهم عذاب الجحيم على وجه التأبيد أو على الوجه الذي يعذب عليه الكفار.
{فضلا من ربك} أي فعل الله ذلك بهم تفضلا منه لأنه سبحانه خلقهم وأنعم عليهم وركب فيهم العقل وكلفهم وبين لهم من الآيات ما استدلوا به على وحدانية الله تعالى وحسن الطاعات فاستحقوا به النعم العظيمة ثم جزاهم بالحسنة عشر أمثالها فكان ذلك فضلا منه عز اسمه وقيل إنما سماه فضلا وإن كان مستحقا لأن سبب الاستحقاق هو التكليف والتمكين وهو فضل منه سبحانه {ذلك هو الفوز العظيم} أي الظفر بالمطلوب العظيم الشأن.
{فإنما يسرناه بلسانك} أي سهلنا القرآن فالهاء كناية عن غير مذكور والمعنى هونا القرآن على لسانك ويسرنا قراءته عليك وقيل معناه جعلنا القرآن عربيا ليسهل عليك وعلى قومك تفهمه {لعلهم يتذكرون} أي ليتذكروا ما فيه من الأمر والنهي والوعد والوعيد ويتفكروا فيه {فارتقب إنهم مرتقبون} أي فإن أعرضوا ولم يقبلوا فانتظر مجيء ما وعدناك به إنهم منتظرون لأنهم في حكم من ينتظر لأن المحسن يترقب عاقبة الإحسان والمسيء يترقب عاقبة الإساءة وقيل معناه انتظر بهم عذاب الله فإنهم ينتظرون بك الدوائر وقيل انتظر قهرهم ونصرك عليهم فإنهم منتظرون قهرك بزعمهم .
____________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج9 ، ص113-117.
2- وفي نسخة : الفتيق بالتاء ، وهو من الجمال ما ينفتق سمناً . وبالنون : الفحل المكرم لا يؤذى لكرامته على أهله ، ولا يركب . والمسدم : البعير المهمل ، الهائج .
بعد ان ذكر سبحانه المجرمين في الآيات السابقة ، وان موعدهم يوم القيامة - ذكر أحوالهم في هذا اليوم ، وهي :
1 – { إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الأَثِيمِ } . والأثيم من كثرت في الدنيا ذنوبه وآثامه . . . وقد بيّن سبحانه ان طعامه يوم القيامة من شجرة اسمها الزقوم ، ووصف ثمرها بأنه {كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ } . والمهل خثارة الزيت ، والحميم الشديد الحرارة ، وغير بعيد أن يكون هذا كناية عن أليم العذاب وشدته ، وقال الملا صدرا في الأسفار : ان شجرة الزقوم هي الاعتقادات الباطلة والأخلاق السيئة التي تقود صاحبها إلى النار ، وفي بعض الروايات ان البخل شجرة من أشجار النار ، والسخاء شجرة من أشجار الجنة .
2 – { خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ } . أي يقال لملائكة العذاب : سوقوا الأثيم بعنف إلى وسط النار { ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ } . يومئ هذا إلى أن في جهنم ثمارا وحماما وملابس ، وكلها من نار السموم .
3 – {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ } . تقول ملائكة العذاب للطاغية الأثيم : لقد أنكرت يوم البعث ، وزعمت انك صاحب الجلالة والعظمة . . . فذق الآن جزاء تعاظمك وتعاليك . . . ومهما شككت فما أنا بشاك ان الذين يسلبون أقوات العباد ، ويصنعون منها أسلحة جهنمية لقتل الأبرياء الآمنين ونسائهم وأطفالهم ، ولا يرون حقا ولا عدلا إلا فيما يهوون ويشاؤون ، لا أشك أبدا ان هؤلاء يستحقون هذا النوع من العذاب ، بل أشد وأقسى لوكان هناك عذاب فوق هذا العذاب . انظر ج 4 ص 456 فقرة (جهنم والأسلحة الجهنمية) .
وبعد ان بيّن سبحانه أحوال المجرمين أشار إلى أحوال المتقين يوم القيامة بالآيات التالية :
{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ } لا خوف عليهم ولا هم يحزنون { في جَنَّاتٍ وعُيُونٍ } يتنعمون فيها كما يشاؤن {يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ } .
ثيابهم من الحرير الرقيق والسميك ، ويجلسون على أسرّة في اتجاه بعضهم البعض يسمرون شاكرين ذاكرين أنعم اللَّه ورضوانه { كَذلِكَ وزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ } لم يطمثهن قبلهم إنس ولا جان { يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ } . يطلبون فاكهة قائمة دائمة لا يخافون لها نفادا وانقطاعا . {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الأُولى و وَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ } . كل إنسان يموت الموتة الأولى ، وينتقل بعدها إلى الجنة أو النار ، ولا فناء في هذه ولا تلك ، ولكن الفناء أيسر بكثير من حياة وسط الجحيم {فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُو الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } وأي فضل وفوز أعظم من النجاة من عذاب النار وغضب الجبار .
{فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } . ضمير يسرناه للقرآن ، وضمير لعلهم للعرب ، والخطاب في لسانك للرسول الأعظم ( صلى الله عليه واله ) ، والمعنى أنزلناه قرآنا عربيا لينتفع العرب بتعاليمه ويتعظوا بعظاته {فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ } . انتظر قليلا يا محمد ، وسترى ان العاقبة لك عليهم ، وهم أيضا يدعون بأن الدائرة ستدور عليك ، ولكن : (هلك من ادعى وخاب من افترى ، ومن أبدى صفحته للحق هلك) كما قال الإمام علي ( عليه السلام ) .
_________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج7 ، ص15-16.
قوله تعالى: {إن شجرة الزقوم طعام الأثيم} تقدم الكلام في شجرة الزقوم في تفسير سورة الصافات، والأثيم من استقر فيه الإثم إما بالمداومة على معصية أو بالإكثار من المعاصي والآية إلى تمام ثمان آيات بيان حال أهل النار.
قوله تعالى: {كالمهل يغلي في البطون كغلي الحميم} المهل هو المذاب من النحاس والرصاص وغيرهما، والغلي والغليان معروف، والحميم الماء الحار الشديد الحرارة، وقوله: {كالمهل} خبر ثان لقوله: {إن} كما أن قوله: {طعام الأثيم} خبر أول، وقوله: {يغلي في البطون كغلي الحميم} خبر ثالث، والمعنى ظاهر.
قوله تعالى: {خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم} الاعتلاء الزعزعة والدفع بعنف وسواء الجحيم وسطه، والخطاب للملائكة الموكلين على النار أي نقول للملائكة خذوا الأثيم وادفعوه بعنف إلى وسط النار لتحيط به قال تعالى: { وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [التوبة: 49].
قوله تعالى: {ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم} كان المراد بالعذاب ما يعذب به، وإضافته إلى الحميم بيانية والمعنى: ثم صبوا فوق رأسه من الحميم الذي يعذب به.
قوله تعالى: {ذق إنك أنت العزيز الكريم} خطاب يخاطب به الأثيم وهو يقاسي العذاب بعد العذاب، وتوصيفه بالعزة والكرامة على ما هو عليه من الذلة و اللآمة استهزاء به تشديدا لعذابه وقد كان يرى في الدنيا لنفسه عزة وكرامة لا تفارقانه كما يظهر مما حكى الله سبحانه من قوله: {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى } [فصلت: 50] .
قوله تعالى: {إن هذا ما كنتم به تمترون} الامتراء الشك والارتياب، والآية تتمة قولهم له: {ذق} إلخ، وفيها تأكيد وإعلام لهم بخطاهم وزلتهم في الدنيا حيث ارتابوا فيما يشاهدونه اليوم من العذاب مشاهدة عيان، ولذا عبر عن تحمل العذاب بالذوق لما أنه يعبر عن إدراك ألم المؤلمات ولذة الملذات إدراكا تاما بالذوق.
ويمكن أن تكون الآية استئنافا من كلام الله سبحانه يخاطب به الكفار بعد ذكر حالهم في يوم القيامة، وربما أيده قوله: {كنتم به تمترون} بخطاب الجمع والخطاب في الآيات السابقة بالإفراد.
قوله تعالى: {إن المتقين في مقام أمين} المقام محل القيام بمعنى الثبوت والركوز ولذا فسر أيضا بموضع الإقامة، والأمين صفة من الأمن بمعنى عدم إصابة المكروه، والمعنى: أن المتقين - يوم القيامة - ثابتون في محل ذي أمن من إصابة المكروه مطلقا.
وبذلك يظهر أن نسبة الأمن إلى المقام بتوصيف المقام بالأمين من المجاز في النسبة.
قوله تعالى: {في جنات وعيون} بيان لقوله: {في مقام أمين} وجعل العيون ظرفا لهم باعتبار المجاورة ووجودها في الجنات التي هي ظرف، وجمع الجنات باعتبار اختلاف أنواعها أو باعتبار أن لكل منهم وحده جنة أو أكثر.
قوله تعالى: {يلبسون من سندس وإستبرق متقابلين} السندس الرقيق من الحرير والإستبرق الغليظ منه وهما معربان من الفارسية.
وقوله: {متقابلين} أي يقابل بعضهم بعضا للاستيناس إذ لا شر ولا مكروه عندهم لكونهم في مقام أمين.
قوله تعالى: {كذلك وزوجناهم بحور عين} أي الأمر كذلك أي كما وصفناه والمراد بتزويجهم بالحور جعلهم قرناء لهن من الزوج بمعنى القرين وهو أصل التزويج في اللغة، والحور جمع حوراء بمعنى شديدة سواد العين وبياضها أو ذات المقلة السوداء كالظباء، والعين جمع عيناء بمعنى عظيمة العينين، وظاهر كلامه تعالى أن الحور العين غير نساء الدنيا الداخلة في الجنة.
قوله تعالى: {يدعون فيها بكل فاكهة آمنين} أي آمنين من ضررها.
قوله تعالى: {لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى و وقاهم عذاب الجحيم} أي إنهم في جنة الخلد أحياء بحياة أبدية لا يعتريها موت.
وقد استشكل في الآية بأن استثناء الموتة الأولى من قوله: {لا يذوقون فيها الموت} يفيد أنهم يذوقون الموتة الأولى فيها، والمراد خلافه قطعا، وبتقرير آخر الموتة الأولى هي موتة الدنيا وقد مضت بالنسبة إلى أهل الجنة، والتلبس في المستقبل بأمر ماض محال قطعا فما معنى استثناء الموتة الأولى من عدم الذوق في المستقبل؟.
وهنا إشكال آخر لم يتعرضوا له وهو أنه قد تقدم في قوله تعالى: {رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} [غافر: 11] ، إن بين الحياة الدنيا والساعة موتتين: موتة بالانتقال من الدنيا إلى البرزخ وموتة بالانتقال من البرزخ إلى الآخرة، والظاهر أن المراد بالموتة الأولى في الآية هي موتة الدنيا الناقلة للإنسان إلى البرزخ فهب أنا أصلحنا استثناء الموتة الأولى بوجه فما بال الموتة الثانية لم تستثن؟ وما الفرق بينهما وهما موتتان ذاقوهما قبل الدخول في جنة الخلد؟.
وأجيب عن الإشكال الأول بأن الاستثناء منقطع، والمعنى: لكنهم قد ذاقوا الموتة الأولى في الدنيا وقد مضت فعموم قوله: {لا يذوقون فيها الموت} على حاله.
وعلى تقدير عدم كون الاستثناء منقطعا {إلا} بمعنى سوى و{إلا الموتة الأولى} بدل من {الموت{ وليس من الاستثناء في شيء، والمعنى: لا يذوقون فيها سوى الموتة الأولى من الموت أما الموتة الأولى فقد ذاقوها ومحال أن تعود وتذاق وهي أولى.
وأجيب ببعض وجوه أخر لا يعبأ به، وأنت خبير بأن شيئا من الوجهين لا يوجه اتصاف الموتة بالأولى وقد تقدم في تفسير قوله: {إن هي إلا موتتنا الأولى} الآية، وجوه في ذلك.
وأما الإشكال الثاني فيمكن أن يجاب عنه بالجواب الثاني المتقدم لما أن هناك موتتين الموتة الأولى وهي الناقلة للإنسان من الدنيا إلى البرزخ والموتة الثانية وهي الناقلة له من البرزخ إلى الآخرة فإذا كان {إلا} في قوله: {إلا الموتة الأولى} بمعنى سوى والمجموع بدلا من الموت كانت الآية مسوقة لنفي غير الموتة الأولى وهي الموتة الثانية التي هي موتة البرزخ فلا موت في جنة الآخرة لا موتة الدنيا لأنها تحققت لهم قبلا ولا غير موتة الدنيا التي هي موتة البرزخ، ويتبين بهذا وجه تقييد الموتة بالأولى.
وقوله: {و وقاهم عذاب الجحيم} الوقاية حفظ الشيء مما يؤذيه ويضره، فالمعنى: وحفظهم من عذاب الجحيم، وذكر وقايتهم من عذاب الجحيم مع نفي الموت عنهم تتميم لقسمة المكاره أي إنهم مصونون من الانتقال من دار إلى دار ومن نشأة الجنة إلى نشأة غيرها وهو الموت ومصونون من الانتقال من حال سعيدة إلى حال شقية وهي عذاب الجحيم.
قوله تعالى: {فضلا من ربك ذلك هو الفوز العظيم} حال مما تقدم ذكره من الكرامة والنعمة، ويمكن أن يكون مفعولا مطلقا أو مفعولا له، وعلى أي حال هو تفضل منه تعالى من غير استحقاق من العباد استحقاقا يوجب عليه تعالى ويلزمه على الإثابة فإنه تعالى مالك غير مملوك لا يتحكم عليه شيء، وإنما هو وعده لعباده ثم أخبر أنه لا يخلف وعده، وقد تقدم تفصيل القول في هذا المعنى في الأبحاث السابقة.
وقوله: {ذلك هو الفوز العظيم} الفوز هو الظفر بالمراد وكونه فوزا عظيما لكونه آخر ما يسعد به الإنسان.
قوله تعالى: {فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون} تفريع على جميع ما تقدم من أول السورة إلى هنا وفذلكة للجميع، والتيسير التسهيل، والضمير للكتاب والمراد بلسان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) العربية.
والمعنى: فإنما سهلنا القرآن - أي فهم مقاصده - بالعربية لعلهم - أي لعل قومك - يتذكرون فتكون الآية قريبة المعنى من قوله: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } [الزخرف: 3] .
وقيل: المراد من تيسير الكتاب بلسان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إجراؤه على لسانه وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب ليكون آية لصدق نبوته، وهو بعيد من سياق الفذلكة.
قوله تعالى: {فارتقب إنهم مرتقبون} كأنه متفرع على ما يتفرع على الآية السابقة، ومحصل المعنى أنا يسرناه بالعربية رجاء أن يتذكروا فلم يتذكروا بل هم في شك يلعبون وينتظرون العذاب الذي لا مرد له من المكذبين فانتظر العذاب إنهم منتظرون له.
فإطلاق المرتقبين على القوم من باب التهكم، ومن سخيف القول قول من يقول إن في الآية أمرا بالمتاركة وهي منسوخة بآية السيف.
__________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج18، ص121-124.
شجرة الزقوم!
تصف هذه الآيات أنواعاً من عذاب الجحيم وصفاً مرعباً يهز الأعماق، وهي تكمل البحث الذي مرّ في الآيات السابقة حول يوم الفصل والقيامة، فتقول: {إن شجرة الزقوم طعام الأثيم} فهؤلاء المجرمون هم الذين يأكلون هذا النبات المر القاتل، والخبيث الطعام النتن الرائحة.
«الزّقوم» كما قلنا في تفسير الآية (62) من سورة الصافات ـ على قول المفسّرين وأهل اللغة، اسم شجرة لها أوراق صغيرة وثمرة مرّة خشنة اللمس منتنة الرائحة، تنبت في أرض تهامة من جزيرة العرب، كان المشركون يعرفونها، وهي شجرة عصيرها مرّ، وإذا أصابت البدن تورّم(2).
ويعتقد البعض أنّ الزقوم في الأصل يعني الإبتلاع(3)، ويقول البعض: إنّها كلّ طعام خبيث في النّار(4).
وجاء في حديث أنّ هذه الكلمة لما نزلت في القرآن قال كفار قريش: ما نعرف هذه الشجرة، فأيّكم يعرف معنى الزقوم؟ وكان هناك رجل من أفريقية قال: هي عندنا التمر والزبد ـ وربَّما قال ذلك استهزاء ـ فلما سمع أبو جهل ذلك قال مستهزئاً: يا جارية زقمينا، فأتته الجارية بتمر وزبد، فقال لأصحابه: تزقموا بهذا الذي يخوفكم به محمّد(5).
وينبغي الالتفات إلى أنّ «الشجرة» تأتي في لغة العرب والاستعمالات القرآنية بمعنى الشجرة أحياناً، وبمعنى مطلق النبات أحياناً.
و«الأثيم» من مادة إثم، وهو المقيم على الذنب، والمراد هنا الكفار المعاندون المعتدون، المصرون على الذنوب والمعاصي المكثرون منها.
ثمّ تضيف الآية: {كالمهل يغلي في البطون كغلي الحميم}.
«المهل» ـ على قول كثير من المفسّرين وأرباب اللغة ـ الفلز المذاب، وعلى قول آخرين ـ كالراغب في المفردات ـ هو دُرْدِيُّ الزيت، وهوما يترسب في الإناء، وهو شيء مرغوب فيه جداً، لكن يبدو أنّ المعنى الأوّل هو الأنسب.
«والحميم» هو الماء الحار المغلي، وتطلق أحياناً على الصديق الوثيق العلاقة والصداقة، والمراد هنا هو المعنى الأول.
على أي حال، فعندما يدخل الزقوم بطون هؤلاء، فإنّه يولد حرارة عالية لا تطاق، ويغلي كما يغلي الماء، وبدل أن يمنحهم هذا الغذاء القوة والطاقة فإنّه يهبهم الشقاء والعذاب والألم والمشقة.
ثمّ يخاطب سبحانه خزنة النّار، فيقول: {خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم}.
«فاعتلوه» من مادة العَتْل، وهي الأخذ والسحب والإلقاء. وهوما يفعله حماة القانون والشرطة مع المجرمين المتمردين، الذي لا يخضعون لأي قانون ولا يطبقونه.
«سواء» بمعنى الوسط، لأنّ المسافة إلى جميع الأطراف متساوية، وأخذ أمثال هؤلاء الأشخاص وإلقاؤهم في وسط جهنم باعتبار أنّ الحرارة أقوى ما تكون في الوسط، والنّار تحيط بهم من كلّ جانب.
ثمّ تشير الآية التالية إلى نوع آخر من أنواع العقاب الأليم الذي يناله هؤلاء، فتقول: {ثمّ صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم}(6) وبهذا فإنّهم يحترقون من الداخل، وتحيط النّار بكلّ وجودهم من الخارج، وإضافة إلى ذلك يصب على رؤوسهم الماء المغلي في وسط الجحيم.
وقد ورد نظير هذا المعنى في الآية (19) من سورة الحج حيث تقول: {يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ } [الحج: 19].
وبعد كلّ أنواع العذاب الجسمي هذه، تبدأ العقوبات الروحية والنفسية، فيقال لهذا المجرم المتمرد العاصي الكافر: {ذق إنّك أنت العزيز الكريم} فأنت الذي كنت قد قيدت البؤساء فباتوا في قبضتك تظلمهم كيف شئت، وتعذبهم حسبما تشتهي، وكنت تظن أنّك قوي لا تقهر، وعزيز لا يمكن أنّ تُهان ويجب على الجميع احترامك وتقديرك.
نعم، أنت الذي ركبك الغرور فلم تدع ذنباً لم ترتكبه، ولا موبقة لم تأتها، فذق الآن نتيجة أعمالك التي تجسدت أمامك، وكما أحرقت أجسام الناس وآلمت أرواحهم، فليحترق الآن داخلك وخارجك بنار غضب الله والماء المغلي الذي يصهر ما في بطونهم والجلود.
وجاء في حديث أنّ النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) أخذ يوماً بيد أبي جهل وقال: «أولى لك فأولى» فغضب أبو جهل وجرَّ يده وقال: بأي شيء تهددني؟ ما تستطيع أنت وصاحبك أن تفعلا بي شيئاً، إنّي لمن أعز هذا الوادي وأكرمه.
والآية ناظرة إلى هذا المعنى، فتقول: عندما يلقونه في جهنم يقولون له: ذق يا عزيز مكّة وكريمها(7).
ويضيف القرآن الكريم في آخر آية ـ من الآيات مورد البحث ـ مخاطباً إيّاهم: (إن هذا ما كنتم به تمترون) فكم ذكّرناكم بحقّانية هذا اليوم وحقيقته في مختلف آيات القرآن وبمختلف الأدلة؟!
ألم نقل لكم: {كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} [ق: 11].
ألم نقل: { كَذَلِكَ النُّشُورُ} [فاطر: 9].
ألم نقل: {وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } [التغابن: 7].
ألم نقل: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ } [ق: 15].
وخلاصة القول: قد قلنا لكم الحقيقة وأوضحناها بطرق مختلفة، لكن لم تكن لكم آذان تسمعون بها.
وقوله تعالى : {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى مَقَام أَمِين( 51 ) فِى جَنَّت وَعُيُون( 52 ) يَلْبَسُونَ مِن سُندُس وَإِسْتَبْرَق مُتَقَبِلِينَ( 53 ) كَذلِكَ وَزَوَّجْنَهُم بِحُور عِين( 54 ) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَكِهَة آمِنِينَ( 55 ) لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الاْولَى و وَقَهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ( 56 ) فَضْلاً مِن رَبِّكَ ذلِكَ هُو الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}
المتقون ومختلف نعم الجنّة:
لما كان الكلام في الآيات السابقة عن العقوبات الأليمة لأهل النّار، فإنّ هذه الآيات تذكر المواهب والنعم المعدة لأهل الجنّة، لتتضح أهمية كلّ منهما من خلال المقارنة بينهما.
وقد لخصت هذه المواهب في سبعة أقسام:
الأولى: هي {إن المتقين في مقام أمين}(8) على هذا فلا يصيبهم أي إزعاج أو خوف، بل هم في أمن كامل من الآفات والبلايا، من الغم والأحزان، ومن الشياطين والطواغيت.
ثمّ تطرقت الآيات إلى النعمة الثانية فقال: (في جنات وعيون).
إن التعبير بالجنات يمكن أن يكون إشارة إلى تعدد الحدائق والبساتين التي يتمتع بها كلّ فرد من أهل الجنّة، فهي تحت تصرفه، أو تكون إشارة إلى مقاماتهم المختلفة ودرجاتهم المتفاوتة، لأنّ حدائق الجنّة وبساتينها غير متساوية، بل تختلف باختلاف درجات أصحاب الجنّة.
وتشير الثالثة إلى ملابسهم الجميلة، فتقول: { يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ } [الدخان: 53].
«السندس» يقال للأقمشة الحريرية الناعمة الرقيقة، وأضاف البعض قيد كونها مذهَّبة.
و«الإستبرق» هي الأقمشة الحريرية السميكة، ويعتقد بعض المفسّرين وأهل اللغة أنها معربة من الكلمة الفارسية (أستبر) أو(ستبر) أي السميك. ويحتمل أن يكون أصلها عربياً مأخوذاً من البرق أي التلألؤ، حيث أنّ لهذه الأقمشة بريقاً خاصّاً.
طبعاً، ليس في الجنّة حرّ شديد أو برد قارص ليتوقاه أهل الجنّة بارتداء هذا الملابس، بل هذه إشارة إلى الألبسة المتنوعة المعدة لهم.
وكما قلنا سابقاً، فإنّ كلماتنا وألفاظنا ـ هذه التي وضعت لرفع حاجات الحياة اليومية في دنيانا ـ عاجزة عن وصف مسائل ذلك العالم الكامل العظيم، بل هي قادرة على الإشارة إليها وحسب.
واعتقد البعض أنّ اختلاف هذه الألبسة إشارة إلى تفاوت مقامات القرب بين أصحاب النعيم.
ثمّ إنّ كون أهل الجنّة متقابلين مع بعضهم البعض، وزوال أي تفاوت وتكبر لأحد على آخر، إشارة إلى روح الأُنس والأخوة التي تسود مجالسهم، تلك المجالس والحلقات التي لا يرى فيها إلاّ الصفاء والمودّة وتسامي الروح.
وتصل النوبة في النعمة الرابعة إلى أزواجهم، فتقول: {كذلك وزوجناهم بحور عين}.
«الحور» جمع حوراء وأحور، وتقال لمن اشتد سواد عينه، واشتد بياض بياضها. و«العين» جمع أعين وعيناء، أي أوسع العين، ولما كان أكثر جمال الإنسان في عينيه، فإنّ الآية تصف عيون الحور العِين الجميلة الساحرة. وقد ذكرت محاسنهن الأُخرى بأسلوب رائع في آيات أُخرى من القرآن.
ثمّ تناولت الآية الأُخرى النعمة الخامسة لأصحاب الجنّة فقالت: {يدعون فيها بكل فاكهة آمنين} فلا توجد في الجنّة تلك هنا المشكلات والصعوبات التي كانوا يعانونها في تناول فاكهة الدنيا، فإنّها قريبة منهم وفي متناولهم، وعلى هذا فليس هناك بذل جهد لاقتطاف الأثمار من الأشجار العالية، إذ { قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} [الحاقة: 23].
وإليهم يرجع اختيار الفاكهة التي يشتهونها: {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ } [الواقعة: 20].
ولا أثر هنا للأمراض والإضطرابات التي قد تحدث في هذه الدنيا على أثر تناول الفواكه، وكذلك لا خوف من فسادها وقلتها، فهم في راحة وأمن واطمئنان من الجهات.
وعلى أية حال، فإذا كان الزقوم طعام أهل النّار الذي يغلي في بطونهم كغلي الحميم، فإنّ طعام الجنّة هي الفواكه اللذيذة الخالية من كلّ أذى وإزعاج.
خلود الجنّة ونعمها هي النعمة السادسة من نعم الله سبحانه على المتقين، لأنّ الذي يقلق فكر الإنسان عند الوصال واللقاء هو خوف الفراق، ولذلك تقول الآية:
{لا يذوقون فيها الموت إلاّ الموتة الأولى}.
والطريف أنّ القرآن الكريم قد بيّن كون نعم الجنّة خالدة بتعابير مختلفة، فيقول تارة: {خالدين فيها}(9) ويقول أُخرى: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود: 108].
أمّا لماذا عُبر بـ (الموتة الأولى) فسيأتي بيانه في التأملات، إن شاء الله تعالى.
وأخيراً يبيّن القرآن الكريم السابع من النعم وآخرها، فيقول: {و وقاهم عذاب الجحيم} فإنّ كمال هذه النعم إنما يتم عندما يخلو فكر أصحاب الجنّة من احتمال العذاب، وعدم انشغالهم به، لئلا يقلقوا فيتكدر صفوهم فلا تكمل تلك النعم حينئذ.
وهذا التعبير يشير إلى أنّ المتقين إن كانوا خائفين مما بدر منهم من هفوات، فإنّ الله سبحانه سيعفو عنها بلطفه وكرمه، ويطمئنهم بأنّ لا يدعوا للخوف إلى أنفسهم سبيلاً. وبتعبير آخر، فإنّ غير المعصومين مبتلون بالهفوات شاؤوا أم أبوا، وهم في خوف وقلق منها ماداموا غير مطمئنين بشمول العفو الإلهي لهم، وهذه الآية تمنحهم الإطمئنان والراحة والأمان من هذه الجهة.
وهنا يطرح سؤال، وهو: إنّ بعض المؤمنين يقضون مدّة في الجحيم بذنوب اقترفوها، ليتطهروا منها، ثمّ يدخلون الجنّة، فهل تشملهم الآية المذكورة؟
ويمكن القول في معرض الإجابة عن هذا السؤال، بأنّ الآية تتحدث عن المتقين ذوي الدرجات السامية، والذين يردون الجنّة من أوّل وهلة، أما الفئة الأُخرى فهي ساكتة عنهم.
ويحتمل أيضاً أنّ هؤلاء عندما يدخلون الجنّة فلن يخشوا بعد ذلك العودة إلى النّار، بل يبقون من الأمن الدائم، وهذا يعني أنّ الآية أعلاه ترسم صورة هؤلاء وحالهم بعد دخولهم الجنّة.
وأشارت آخر آية ـ من هذه الآيات ـ إلى جميع النعم السبعة، وكنتيجة لما مر تقول: {فضلاً من ربك ذلك هو الفوز العظيم} (10).
صحيح، إنّ المتقين قد عملوا الكثير من الصالحات والحسنات، إلاّ أنّ من المسلّم أن تلك الأعمال جميعا لا تستحق كلّ هذه النعم الخالدة، بل هي فضل من الله سبحانه، إذ جعل كلّ هذه النعم والعطايا تحت تصرفهم ووهبهم إيّاها.
هذا إضافة إلى أنّ هؤلاء لم يكونوا قادرين على كسب كلّ هذه الحسنات ولا على فعل الحسنات لولم يشملهم فضل الله وتوفيقه ولطفه، فهو الذي منحهم العقل والعلم، وهوالذي أرسل الأنبياء والكتب السماوية، وهو الذي غمرهم بتوفيق الهداية والعمل.
نعم، إنّ استغلال هذه المنح العظمى، والوصول إلى كلّ تلك العطايا والثواب، إنّما تمّ بفضله سبحانه إذ وهبهم إيّاها، ولم يكن هذا الفوز العظيم ليحصل إلاّ في ظل لطفه وكرمه.
وقوله تعالى : {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ( 58 ) فَارْتَقِبْ إِنَّهُم مُرْتَقِبُونَ}:
ارتقب فإنهم مرتقبون!
قلنا: إنّ سورة الدخان بدأت ببيان عظمة القرآن وعمقه، وتنتهي بهذه الآيات التي تبيّن كذلك التأثير العميق لآيات القرآن الكريم، لتنسجم بذلك بداية السورة مع نهايتها، وما هو مبيَّن أيضاً بين البداية والنهاية هو التأكيد على مواعظ القرآن ونصحه.
تقول الآية الأولى: {فإنّما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكّرون} فمع أنّ محتواه عميق جداً، وأبعاده مترامية، لكنه بسيط واضح، يفهمه الجميع، وتقتبس من أنواره كلّ الطبقات، أمثاله جميلة رائعة، وتشبيهاته واقعية بليغة، وقصصه حقيقية تربوية، دلائله واضحة محكمة، وبيانه مع عمقه بسيط سهل، مختصر عميق المحتوى، وهو في الوقت نفسه ذو حلاوة وجاذبية، ينفذ إلى أعماق قلوب البشر، فينبه الغافلين، ويعلم الجاهلين، ويذكر من كان له قلب.
وقد ذكر بعض المفسّرين تفسيراً آخر لهذه الآية، يكون معنى الآية طبقاً له: إنّك وإن كنت أُميّاً لم تدرس وتتعلم، لكنك تستطيع أن تقرأ بكلّ يسر وسهولة هذه الآيات العميقة الغنية المحتوى، والتي تبين الوحي والإعجاز الإلهي. غير أنّ التّفسير الأوّل أنسب.
وهذه الآية ـ في الواقع ـ شبيهة بالآية التي تكررت عدّة مرات في سورة القمر: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر: 17] ؟!
لكن لما كان هناك جماعة لم يذعنوا لأمر الله، ولم يسلموا ويستسلموا رغم ذكر كل هذه الأوصاف، فقد هددتهم الآية الأخيرة وحذرتهم فقالت: {فارتقب إنّهم مرتقبون} فانتظر ما وعدك الله بالنصر على الكفار، ولينتظروا الهزيمة والخسران..
انتظر نزول عذاب الله الأليم على هؤلاء المعاندين الظالمين، ودعهم ينتظرون هزيمتك وعدم تحقق أهدافك السامية، ليعلم أي الإنتظارين هو الصحيح؟
بناء على هذا، ينبغي أنّ لا يستفاد أبداً من الآية أنّ الله سبحانه يأمر نبيّه أن يكف كلياً عن إبلاغهم رسالته، وينهي نشاطه وفعالياته وجهاده، ويكتفي بأنّ يكون منتظراً للنتيجة، وإنّما هو نوع تهديد لأُولئك المتعصبين عسى أن يستيقظوا من سباتهم، وينتبهوا من غفلتهم.
_____________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج12، ص471-481.
2 ـ مجمع البيان، تفسير روح البيان، تفسير روح المعاني.
3 ـ لسان العرب مادة «زقم».
4 ـ مفردات الراغب مادة (زقم).
5 ـ تفسير القرطبي، المجلد 8، صفحة 5529 ذيل الآية (62) من سورة الصافات.
6 ـ {عذاب الحميم} من قبيل الإضافة البيانية، أي إنّ هذا الماء المحرق عذاب يصب على
هؤلاء.
7 ـ تفسير المراغي، المجلد 25، صفحة 135 ذيل الآيات مورد البحث، وتفسير روح المعاني،
والتّفسير الكبير للفخر الرازي.
8 ـ ممّا يستحق الإنتباه أنّ (أمين) قد ذكر وصفاً للمقام، فكأن مقام أهل الجنّة أمين بنفسه ولا
يخون أهل الجنّة مطلقاً، ومثل هذه التعبيرات تأتي عادة للتأكيد والمبالغة.
9 ـ ورد هذا التعبير في آيات كثير من القرآن، ومن جملتها: آل عمران ـ 15، 136، النساء ـ
13، 122، المائدة ـ 85، وغيرها.
10- احتملت عدة احتمالات في اعراب (فضلا) احدها : انها مفعول مطلق لفعل محذوف ، والتقدير : فضلهم فضلا والاخر : انه مفعول لاجله او انها حال .
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|