أقرأ أيضاً
التاريخ: 16-8-2017
261
التاريخ: 20-8-2017
706
التاريخ: 16-8-2017
246
التاريخ: 23-8-2017
476
|
الحقيقة والمجاز
كثر حديث القدماء عما يسمي الحقيقة والمجاز، فوصفوا الحقيقة بأنها الدلالة الأصيلة للفظ من الألفاظ، وأن المسئول عنها هو الواضع الأول للغة، كما وصفوا المجاز بأنه ما أريد به غير المعني الموضوع له في أصل اللغة. وجعلوا كلا من الحقيقة والمجاز أقساماً منها اللغوي ومنها الشرعي ومنها العرفي خاصاً عاماً (1) .
ويذكر ابن الأثير (2) أن فريقاً من العلماء كالوا يرون أن الكلام كله حقيقة، وأن آخرين كانوا يزعمون أن كله مجاز ولا حقيقة فيه، ثم يبرهن لي حديث مسهب علي فساد هذين المذهبين، وبنتصر للرأي الذي ساد بين الدارسين من جمهور العلماء من أن اللفظ قد يستعمل استعمالا حقيقياً وقد يستعمل استعمالا مجازيا.
ويلخص السيوطي تلك المذاهب المختلفة فينسب «لابن فارس» القول بأن اكثر الكلام حقيقة، وينسب لاين جني رأياً آخر مجمله أن الكلام أكثره مجاز، ثم ينتهي براي اسحاق الاسفراييني وهو من ينكر المجاز ويأباه (3)
ونحن في بحتنا هنا للدلالة الحقيقية أو الدلالة المجازية لا تعرض لتلك الناحية البلاغية، فلا نسلك مثلا مسالك القدماء حين كانوا لا يذكرون شيئاً من المجاز إلا قالوا أنه أبلغ من الحقيقة، وحين كانوا يلتمسون في المجاز عناصر بلاغية أو جمالية أولي بها محال النقد الأدبي. ولكنا ننظر إلي ما يسمي بالحقيقة والمجاز علي أنه مظهر للتطور الدلالي في كل لغة من اللغات.
وأبرز نواحي الضعف في علاج القدماء للحقيقة والمجاز أنهم وجهورا كل عنايتهم إلي نقطة البدء في الدلالة، وركزوا نظرتهم نحو نشأتها، فتصوروا ماصموه بالوضع الأول، وتحدثوا عن الوضع الأصلي، كأنما قد تم هذا الوضع في زمن متعين، وفي عصر خاص من عصور التاريخ. و... يدركوا أن حديثهم عن نشأة الدلالات ليس في الحقيقة إلا خوضاً في النشأة اللغوية للإنسان، تلك التي أصحت من مباحث ماوراء الطبيعة، والتي هجرها اللغويون المحدثون بعد أن يئسوا من إمكان الوصول في شأنها إلي رأي علمي مرجح، وأصبحوا الآن يقنعون ..حث اللغة وتطورها في العمور التاريخية، التي خلفت لنا آثاراً لغوية مدونة أو منقوشة.
ص97
كذلك يبدو من بحوث القدماء من علماء العربية أنهم نظروا إلي كل عصور اللغة علي أنها عصر واحد، ومن هنا ظهرت بعض الألفاظ علي أنها حقيقة بعد أن شاع أمرها وتنوصيت مجازيتها فقال من قال إن الكلام كله حقيقة، وتبين لآخرين من العلماء أن معظم الألفاظ لها تاريخ مجازي، فخيل إليهم أن كل الألفاظ تبدأ مجازية الدلالة وأن لا حقيقة فيها. وكان كذلك الفريق الثالث وهم جمهورالعلماء الذين اعترفوا بكل من الحقيقة والمجاز علي أساس الأصالة والفرعية في دلالة اللفظ.
وبحوث القدماء علي استفاضتها ودفتها وحسن عرضها قد تجاهلت أمراً هاماً هو في الواقع الأساس الأول للحكم علي الدلالة. ذلك هو أثرها في الفرد حين يسمع اللفظ أو يقرؤه ، فهو وحده الذي يستطيع الحكم علي الحقيقة والمجاز.
ذلك لأن الحقيقة لا تعدو أن تكون استعمالا شائعاً مألوفاً للفظ من الألفاظ، وليس المجاز إلا انحرافاً عن ذلك المألوف الشائع، وشرطه أن يثير في ذهن السامع أو القارئ دهشة أو غرابة أو طرافة. وحدود تلك الغرابة أو الطرافة تختلف باختلاف تجارب المرء مع الألفاظ، وباختلاف وسطه الاجتماعي أو التقافي، فقد تضعف تلك الغرابة أو الطرافة في ذهن السامع إزاء استعمال أحد الألفاظ، ويوشك اللفظ حينئذ أن يكون كالحقيقة رغم انحرافه عن المألوف الشائع، وقد تقوي فتحرك من السامع مشاعره وعواطفه فتنال إعجابه أو سخريته علي حد سواء، لأنه مجاز في كلتا الحالين، أو خروج عن المألوف المعروف في دلالة اللفظ.
فنحن مثلا حين نقرا ما يروي عن المعظم عيسي بن الملك العادل حين قال في صفة مشروب يعالج به داء الذنوب:
شراب مركب نافع، لشاربه يوم الفزع الأكبر شافع ، يؤخذ من مستحكم مرير الصبر، وما احلولي من لذيذ الذكر، فيفر بلان بغربال التفكر الهري، وبدافان بمائ العين النظري، ثم يصي المجموع بلباب العلم التجري، ثم يمجن بعسل المحبة الإلهية].
أقول إن المرء عادة حين يقرأ مثل هذه القطعة لايكاد بتمالك نفسه من الابتسام أو الضحك، لأن ما يثيره استعمال ألفاظها قد جاوز الحدود المألوفة لها مجاوزة كبيرة جعلت من المجاز فكاهة وسخرية، ومع ذلك فقد يقف الصوفي من مثل هذه القطعة موقفاً مبايناٌ، فيتبين فيها نواحي من الجمال، وتحل من نفسه ومن قلبه محل الرضا والإعجاب.
ص98
ومن خلال هذه النظرة الفردية للالفاظ يستطيع الباحث أن يتبين ما يمكن أن يسمي بالحقيقة العامة أو المجاز العام في بيئة ...ممينة، وفي جيل معين من الناس. فرغم اختلاف الأفراد إزاء كل لفظ ...نري قدراً كبيراً من الاشتراك بينهم، وذلك القدر المشترك في فهم الدلالات هو الذي يكون الحقيقة العامة أو المجاز العام.
فهناك لفظ مجازي لدي فلان من الناس بلغت به المجازية حدود الإسرافف وأوشكت أن تصبح هزؤا وسخرية، ولكنه لدي آخر من نفس البيئة معتدل المجازية لا إصراف فيه ولا مغالاة. وإذا تنبعنا هذا اللفظ لدي مجموعة كبيرة من الأفراد فقد نراهم جميعاً يشتركون إذاء اللفظ في قدر من المجازية، ولا يختلفون إلا في نسبتها أو درجتها، ويقال حينئذ إن مثل هذا اللفظ من المجاز العام في تلك البيئة . وهو وأمثاله من الألفاظ المسئول عما يسمي بالمجاز في لغة من اللغات. ومثل هذا يمكن أن يقال عن الألفاظ. الحقيقية الدلالة.
فاللفظ قد يشيع استعماله في جيل من الأجيال للدلالة علي أمر معين، وكلما ذكر اللفظ. خطرت نفس الدلالة في الأذهان دون غرابة أو دهشة، وهو من أجل هذا مما يسمي بالحقيقة. فإذا انحرف به الاستعمال في بحال آخر، فأثار في الذهن غرابة أو طرافة قيل حينئذ إنه من المجاز. وتلزمه تلك الغرابة أو الطرافة في الاستعمال زمناً ما بعده قد يفقدها، ويصبح من الألفة والذ...يوع بحيث تنسي مجازيته ويصير من الحقيقة.
وينحرف الناس عادة باللفظ من مجاله المألوف إلي آخر غير مألوف حين تموز هم الحاجة في التعبير، وتتزاحم المعاني في إذهانهم أو التجارب في حياتهم، ثم لا يعفهم ما ادخروه من ألفاظ، وما تملوه من كلمات! فهما قد يلجئون إلي تلك الذخيرة اللفظية المألوفة، مستعينين بها علي التعبير عن تجاربهم الجديدة لأدني ملابسة أو مشابهة أو علافة بين القديم والجديد.
وتظل هذه الظاهرة تلازمنا طول الحياة، إذ يلجأ الطفل الصغير إلي ذلك المجاز الضروري، كما يلجأإليه الكبير. فالطفل قد يري ثقباً في رأس الأبرة التي بيد أمه وهي تخيط له الثياب، فلا يتردد في أن يقول «عين الإبرة صغيرة». أي أ.. عمد إلي لفظ مألوف له منذ كان لا يستطيع النطق بكلمة واحدة من لغة أبويه، وانحرف به عن ذلك المجال المألوف حين دعته الضرورة إلي ذلك. و كذلك الكبير قد يري الراديو للمرة الأولي ، ثم يشهد من يجربه أمامه فلا يتردد في التساؤل عن «الزر» الخاص بعلو الصوت أو انخفاضه، وعن «الزر» الخاص بتغيير الموجات، أي أنه ينتقل
ص99
بكلمة «الزر» من مجالها المألوف الي آخر جديد.
وقد لا تدعو الضرورة إلي مثل ذلك الانحراف بالألفاظ، ومع هذا أو رغم هذا يلجأ كثير من الناس في حياتهم العادية إلي الخروج بالألفاظ عن مألوفها رغبة في التغيير، وفراراً من الاستعمال الشائع وما قد يصاحبه من ملل أو سأم، رغبة في زيادة التوضيح والتجلية للدلالة. ويتم كل هذا في حياة الناس العادية، ومنه يتكون نوع من المجاز الذي لا ينتمي إلي فرد معين يقدر ما ينتمي إلي بيئة معينة أو وسط معين خاص.
وتظل الألسنة والأسماع تتلقفه حتي بذبع ويشيع وبصيح من المألوف أو مما يسمي بالحقيقة.
وهناك نوع آخر من المجاز بتميز بالطرافة، وتصادف من جمهور الناس الإعجاب. وينظر إليه علي أنه نوع من الابتكار والاختراع، وذلك هو ماتتفتق عند فرائح الأدباء والشعراء والصفوة من أصحاب البلاغة واللسن، حين يعمدون إلي الألفاظ فينحرفون بها عن عمد وقصد إلي مجال آخر، وتلك هي الصفة التي يتنافس فيها أصحاب الشعر والأدباء، وتقاس بها مهارتهم وقدرتهم.ويظل هذا الاستعمال الأدبي محل محل الإعجاب والثنائ زميناً أطول، ولكن مصيره مع هذا إلي الشيوع والألفة في زمن ما عنده يصبح من الحقيقة، ويفقد ما لازمه من الطرافة والجدة، ونراه قديماً بالياً في عصر من العصور. ولا يكون الحكم صحيحاً علي الحقيقة والمجاز في الألفاظ إلا إذا اقتصر علي بيئة معينة وجيل خاص، فالمجاز القديم مصيره إلي الحقيقة، والحقيقة القديمة قد يكون مصيرها إلي الزوال والاندثار، وتبقي الألفاظ إذا قدر لها البقاء تنتقل
من مجال إلي آخر جيلا بعد جيل، وذلك هو التطور الدلالي. فكثير من الدلالات التي كانت سائدة شائعة في العصر الجاهلي قد أصابها البلي، ولم نعد نراها إلا في المعاجم كرموز متحفية تشبه ما نراه في المتاحف من قطع خزفية لم تعد صالحة الاستعمال. أي أن أسمي درجات الجدة والطرافة في الاستعمال هو ما يسمي بالمجاز، ثم نتقلص تلك الجدة مع الزمن ويؤول أمرها إلي الألفة والذيوع، وتصبح ما نسميه بالحقيقة التي قد ينتهي أمرها إلي الاندثار والزوال بتطور الحياة الاجتماعية للإنسان.
تلك هي الظاهرة التي جهلها أو تجاهلها الزمخشري حين عرض للحقيقة والمجاز في معجمه أساس البلاغة. ففي رأيه أن «الكتابة والقراءة ، والخلق والهجاء»
ص100
كلها من المجاز، ويقول إن الدلالة الحقيقة للفعل «كتب» هو في مثل «كتب السقاء أي خرزه بسيرين» أي بمعني الضم والجمع، أما الكتابة المألوفة فدلالتها مجازية، وكان أيضاً يقول إن الدلالة الحقيقة للقراءة هي الجمع والضم، وإن الدلالة الحقيقة للفعل «خلق» هي التي في مثل [خلق الحذاء الأديم والخياط الثوب قدره قبل القطع]، «ومن المجاز خلق الله الخلق» !! وكان يزعم أن معني «هجا الحروف يهجوها عددها، ومنها عن طريق المجاز [الهجاء بمعني تعدد المعايب] !!
هو إذن يفترض أن العرب قد عرفوا من «الكتابة» خزر السقاء قبل أن يعرفوها بمدلوها الشائع الآن، وتلك قضية ليس من اليسير البر...نة عليها حتي مع علنا بشيوع الأمية لدي العرب القدماء. ومع هذا فإذا سلمنا جدلا بصحة تلك الأصالة والفرعية في دلالة «الكتابة» ، فمن الواجب ألا يفوتنا أن الدلالة الحقيقة قد تتعدد، أي أن اللفظ يتحرف من مجاله الحقيقي إلي مجال مجازي ثم يشيع ذلك المجاز حتي يصبح مألوفاً، ويعد حينئذ من الحقيقة ، وتظل تلك الدلالة القديمة ملازمة للفظ في حدود ضيقة، ويكون للفظ دلالتان أو استعمالان
وكلاهما من الحقيقة ، غير أن إحدي الدلالتين تكون أكثر شيوعا من الأخري، بل قد يصل الأمر إلي أن تصبح الدلالة القديمة من الندرة وقلة الاستعمال بحيث تسترعي الانتباه، وتكاد تعد بمثابة المجاز حين تقارن بالدلالة الجديدة الشائعة المألوفة. ومثلهما حينئذ كمثل الشيخ والشاب كلاهما معروف موجود في بيئته غير أن أحدهما في طريقه إلي الزوال والآخر في عنفوانه. ومن القادر أن يكون للفظ الواحد دلالتان مشهورتان بنفس النسبة في وسط من الأوساط.
ص101
_______________
(1) شروح التلخيص ج 4 ص 24.
(2) المثال السائر ص 24.
(3) الزهر ج 1 ص 207.
|
|
للتخلص من الإمساك.. فاكهة واحدة لها مفعول سحري
|
|
|
|
|
العلماء ينجحون لأول مرة في إنشاء حبل شوكي بشري وظيفي في المختبر
|
|
|
|
|
قسم العلاقات العامّة ينظّم برنامجاً ثقافياً لوفد من أكاديمية العميد لرعاية المواهب
|
|
|