أقرأ أيضاً
التاريخ: 14-2-2017
4020
التاريخ: 1-3-2017
4141
التاريخ: 30-11-2016
9309
التاريخ: 8-12-2016
6159
|
قال تعالى : {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَو تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119) وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُو الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [البقرة: 118، 120].
لما بين سبحانه حالهم في إنكارهم التوحيد وادعائهم عليه اتخاذ الأولاد عقبه بذكر خلافهم في النبوات وسلوكهم في ذلك طريق التعنت والعناد فقال {وقال الذين لا يعلمون} وهم النصارى عن مجاهد واليهود عن ابن عباس ومشركو العرب عن الحسن وقتادة وهو الأقرب لأنهم الذين سألوا المحالات ولم يقتصروا على ما ظهر واتضح من المعجزات {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا} [الإسراء: 90] الآيات إلى آخرها ولأنه وصفهم بأنهم لا يعلمون فبين أنهم ليسوا من أهل الكتاب ومن قال المراد به النصارى قال لأنه قال قبلها {وقالوا اتخذ الله ولدا} وهم الذين قالوا المسيح ابن الله وهذا لا دلالة فيه لأنه يجوز أن يذكر قوما ثم يستأنف فيخبر عن قوم آخرين على أن مشركي العرب قد أضافوا أيضا إلى الله سبحانه البنات فدخلوا في جملة من قال {اتخذ الله ولدا} وقوله {لولا يكلمنا الله} أي هلا يكلمنا معاينة فيخبرنا بأنك نبي وقيل معناه هلا يكلمنا بكلامه كما كلم موسى وغيره من الأنبياء وقوله {أو تأتينا آية} أي تأتينا آية موافقة لدعوتنا كما جاءت الأنبياء آيات موافقة لدعوتهم ولم يرد أنه لم تأتهم آية لأنه قد جاءتهم الآيات والمعجزات.
وقوله {كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم} قيل هم اليهود حيث اقترحوا الآيات على موسى عن مجاهد لأنه حمل قوله {الذين لا يعلمون} على النصارى وقيل هم اليهود والنصارى جميعا عن قتادة والسدي وقيل سائر الكفار الذين كانوا قبل الإسلام عن أبي مسلم {تشابهت قلوبهم} أي أشبه بعضها بعضا في الكفر والقسوة والاعتراض على الأنبياء من غير حجة والتعنت والعناد كقول اليهود لموسى {أرنا الله جهرة} وقول النصارى للمسيح {أنزل علينا مائدة من السماء}، وقول العرب لنبينا (صلى الله عليه وآله وسلّم) حول لنا الصفا ذهبا ولذلك قال الله سبحانه أ تواصوا به وقوله {قد بينا الآيات} يعني الحجج والمعجزات التي يعلم بها صحة نبوة محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) {لقوم يوقنون} أي يستدلون بها من الوجه الذي يجب الاستدلال به فأيقنوا لذلك فكذلك فاستدلوا أنتم حتى توقنوا كما أيقن أولئك والمعنى فيه أن فيما ظهر من الآيات الباهرات الدالة على صدقه كفاية لمن ترك التعنت والعناد فإن قيل لم يؤتوا الآيات التي اقترحوها لتكون الحجة عليهم آكد قلنا الاعتبار في ذلك بالمصالح ولو علم الله سبحانه أن في إظهار ما اقترحوه من الآيات مصلحة لأظهرها فلما لم يظهرها علمنا أنه لم يكن في إظهارها مصلحة .
بين الله سبحانه في الثانية تأييده نبيه محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) بالحجج وبعثه الحق فقال {إنا أرسلناك} يا محمد {بالحق} قيل بالقرآن عن ابن عباس وقيل بالإسلام عن الأصم وقيل على الحق أي بعثناك على الحق كقوله سبحانه خلق الله السموات والأرض بالحق أي على أنهما حق لا باطل وقوله {بشيرا ونذيرا} أي بشيرا من اتبعك بالثواب ونذيرا من خالفك بالعقاب وقوله {ولا تسئل عن أصحاب الجحيم} أي لا تسأل عن أحوالهم وفيه تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) إذ قيل له إنما أنت بشير ونذير ولست تسأل عن أهل الجحيم وليس عليك إجبارهم على القبول منك ومثله قوله {فلا تذهب نفسك عليهم حسرات} وقوله {ليس عليك هداهم} وقيل معناه لا تؤاخذ بذنبهم كقوله سبحانه {عليه ما حمل وعليكم ما حمّلتم} أي فعليه الإبلاغ وعليكم القبول .
كانت اليهود والنصارى يسألون النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) الهدنة ويرونه أنه إن هادنهم وأمهلهم اتبعوه ف آيسه الله تعالى من موافقتهم فقال {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم} وقيل أيضا أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) كان مجتهدا في طلب ما يرضيهم ليدخلوا في الإسلام فقيل له دع ما يرضيهم إلى ما أمرك الله به من مجاهدتهم وهذا يدل على أنه لا يصح إرضاء اليهود والنصارى على حال لأنه تعالى علق رضاءهم بأن يصير (عليه السلام) يهوديا أو نصرانيا وإذا استحال ذلك استحال إرضاؤهم يعني أنه لا يرضي كل فرقة منهم إلا أن يتبع ملتهم أي دينهم وقيل قبلتهم {قل إن هدى الله هو الهدى} أي قل يا محمد لهم أن دين الله الذي يرضاه هو الهدى أي الدين الذي أنت عليه عن ابن عباس وقيل معناه أن هدى الله يعني القرآن هو الذي يهدي إلى الجنة لا طريقة اليهود والنصارى وقيل معناه أن دلالة الله هي الدلالة وهدى الله هو الحق كما يقال طريقة فلان هي الطريقة وقوله {ولئن اتبعت أهواءهم} أي مراداتهم وقال ابن عباس معناه أن صليت إلى قبلتهم {بعد الذي جاءك من العلم} أي من البيان من الله تعالى وقيل من الدين {ما لك} يا محمد {من الله من ولي} يحفظك من عقابه {ولا نصير} أي معين وظهير يعينك عليه ويدفع بنصره عقابه عنك وهذه الآية تدل على أن من علم الله تعالى منه أنه لا يعصي يصح وعيده لأنه علم أن نبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) لا يتبع أهواءهم فجرى مجرى قوله لئن أشركت ليحبطن عملك والمقصود منه التنبيه على أن حال أمته فيه أغلظ من حاله لأن منزلتهم دون منزلته وقيل الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) والمراد أمته .
____________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج1 ، ص365-370.
{ وقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } . ان الذين تمادوا في العتو والعناد ، قالوا لرسول اللَّه ( صلى الله عليه واله وسلم ) : لن نؤمن لك ، حتى يقول اللَّه لنا مشافهة : انك نبي ، أو يرسل إلينا ملكا يخبرنا بذلك ، أو تأتي بما نقترحه عليك من الآيات ، مثل ما حكاه اللَّه عنهم في الآية 90 وما بعدها من الاسراء :
« {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا } [الإسراء: 90] - إلى قوله - {أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ} [الإسراء: 93] .
وقد أجاب اللَّه عن ذلك بقوله : {كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} . أي ان هذا التمادي في اقتراح الأباطيل لا يختص بمن اقترحها على رسول اللَّه ( صلى الله عليه واله وسلم ). فان قوم موسى قالوا له :
{ أَرِنَا اللَّهً جَهْرَةً } . وقالوا أيضا : {اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ} . وقالت النصارى لعيسى : {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ } . . وهذا هو وجه الشبه بين من اقترح على محمد( صلى الله عليه واله وسلم ) ، وبين من اقترح على موسى وعيسى ( عليه السلام ) ، الشبه الذي أشار إليه سبحانه بقوله : { تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ } .
والمعقول الذي تجب إجابته إذا طلب هو ان يؤيد اللَّه رسوله بالبينات والدلائل التي لا تدع مجالا للشك في نفس من خلصت نفسه من الشوائب والكدورات ، وتجرد للحقّ لوجه الحق ، وقد فعل اللَّه ذلك ، وبين الدليل الكافي الوافي على نبوة محمد ، أما طلب الزيادة فتعنت ومكابرة . . وبديهة ان المعاند اللجوج لا تجب إجابته . . بل يهمل ويعرض عنه . . والقوم الموقنون هم الذين يطلبون اليقين من وجهه والطريق الذي من شأنه أن يؤدي إليه .
المدلول ونوع الدليل :
قدمنا عند تفسير الآية 111 : {قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} ان كل دعوى تحتاج إلى دليل ، وان الدليل يحتاج إلى دليل ، حتى ينتهي إلى أصل عام واضح بذاته ، لا يختلف فيه اثنان ، ونتكلم في هذه الفقرة عن نوع الدليل :
وهو يختلف باختلاف طبيعة الشيء المتنازع عليه ، فإذا أردنا - مثلا - أن نعرف المواد التي يحتوي عليها جرم من الأجرام الطبيعية اعتمدنا التجربة والمختبر ، وإذا أردنا أن نثبت وجود مدبر حكيم وراء الكون رجعنا إلى العقل ، أو معرفة حكم من أحكام الشريعة الاسلامية استندنا إلى الكتاب والسنة ، أو معرفة اللغة ومداليل الألفاظ تحتم الرجوع إلى العرف واصطلاح العرب الأوائل ، وإذا كان هناك مسألة قانونية رجعنا إلى القانون ، أو تاريخية رجعنا إلى علماء الآثار والرواة الثقات . . وهكذا تختلف نوعية الدليل باختلاف طبيعة الحادثة التي يراد إثباتها ، وليس لأحد كائنا من كان أن يقترح من عندياته نوع الدليل ، أو يطلب المزيد من الإثبات بعد أن استكمل الاستدلال جميع العناصر الموجبة لليقين والإقناع .
وعلى هذا ، فإذا قام الدليل الكافي الوافي الذي استدعته طبيعة المدلول ، ثم اقترح مقترح دليلا سواه ، أو المزيد من الاستدلال فهو مكابر لجوج يضرب بطلبه واقتراحه عرض الحائط . . وقد تحدى محمد ( صلى الله عليه واله وسلم ) بالقرآن المشككين والمعاندين وثبت عجزهم وخذلانهم ، وتمت الحجة عليهم ، فإذا طلبوا الزوائد بعد العجز الفاضح كان طلبهم هذا من باب العناد واللجاج ، إذ لو كان غرضهم الحق بما هو حق لاقتنعوا به ، وأذعنوا له بعد أن ظهر بأكمل صوره وأجلاها .
{إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً ونَذِيراً ولا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ } . هذا تحديد لوظيفة النبي ومهمته ، وانه معلم ، لا مسيطر ، ومبين للحق ، لا مكره عليه ، فالآية تجري مجرى قوله تعالى : { وقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ ومَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ} – [الكهف 29] . وفي الآية تسلية للنبي ( صلى الله عليه واله وسلم ) لئلا يضيق صدره بكفر من كفر ، وعناد من عاند .
{ولَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ ولَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ } . قال صاحب مجمع البيان : « سأل اليهود والنصارى محمدا ( صلى الله عليه واله وسلم ) ان يهادنهم ، وأظهروا له انه إذا هادنهم وأمهلهم اتبعوه وآمنوا به فآيسه اللَّه منهم ومن موافقتهم . وهذا يدل على انه لا يصح إرضاء اليهود والنصارى بحال من الأحوال ، لأنه تعالى علق رضاهم بأن يصير يهوديا أو نصرانيا ، وإذا استحال ذلك استحال إرضاؤهم » .
والحقيقة ان أكثر أهل الأديان والأحزاب على هذه النزعة ، ولا خصوصية لليهود والنصارى في ذلك ، بل ان بعض الناس لا يرضى عنك الا إذا جعلت من نفسك عبدا له ، وقد استنكر القرآن الكريم هذه النزعة البغيضة ، ودعا إلى التعايش الديني مع جميع أهل الأديان ، وقدس جميع الرسل والأنبياء ، وذكرهم بكل خير ، وأوجب على أتباعه الاعتراف بهم والايمان بنبوتهم ، وهذا من أقوى البواعث للتآخي بين أهل الملل والنحل ، وتعاون بعضهم مع بعض .
وعلى أية حال ، فان اللَّه خص اليهود والنصارى بالذكر ، كي ييأس النبي ويقنط من متابعتهم له ، كما قال صاحب المجمع .
{ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى} . قدمنا عند تفسير الآية 26 : { يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً ويَهْدِي بِهِ كَثِيراً} فقرة « الهدى والضلال » ان الهدى يطلق على معان :
منها بيان الحق ، ومنها التوفيق إلى الهداية وعمل الخير ، ومنها الثواب الخ . .
والمراد بالهدى هنا الإسلام الذي أوحاه اللَّه إلى نبيه محمد ( صلى الله عليه واله وسلم ) ، وما عداه هوى ، لا هدى . . والمعنى قل يا محمد لليهود والنصارى : ان ما أنا عليه هو الحق ، وما أنتم عليه باطل وضلالة ، فكيف أترك الحق ، واتبع الضلال ؟ .
أعداء الدين والمبدأ :
أخبر اللَّه جل وعز نبيه الكريم بأن اليهود والنصارى لن يرضوا عنه ، حتى يتبع ملَّتهم ، ومع علمه سبحانه بعصمة نبيه محمد ( صلى الله عليه واله وسلم ) ، وانه لن يتبع أهواءهم بحال فقد وجه إليه هذا التحذير : {ولَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ ولا نَصِيرٍ}.
وذكر المفسرون لصحة هذا النهي والتحذير وجهين : الأول ان المعصية ممكنة الصدور من النبي ذاتا ، ممتنعة عرضا ، أي انه يترك المعصية مع قدرته على فعلها ، والا لم يكن له فضل في تركها ، وجاء النهي والتحذير بالنظر إلى ما هو ممكن بالذات ، بغض النظر عما هو ممتنع بالعرض ، أي بلحاظ العصمة .
الوجه الثاني : ان الخطاب هنا من باب « إياك أعني واسمعي يا جارة » .
أي هو موجه للنبي في الظاهر ، وللناس في الواقع .
وقد تصورت وجها ثالثا : وهو ان النبي ربما دار في خلده أن يتقرب من اليهود إلى حد ما . . عسى أن يهتدوا ، أو يستعين بهم على ما يبتغيه من الخير ، أو يخفف من غلوائهم ، ويكفّ بعض شرورهم . . فبين اللَّه له ان أعداء الدين والمبدأ لا يرضيهم منك شيئا إلا أن تترك ما أنت عليه من الحق ، وتتبع ما هم عليه من ضلال . . ثم نهاه عن مهادنتهم والتقرب منهم ، لأن ذلك يساعدهم ، ويشد من عضدهم من حيث لا يريد ، وهذه التقوية والمساندة محرمة عليك يا محمد ، وعلى غيرك ، تماما كما يحرم اتّباع دينهم . . هذا ، إلى أن اليهود قد جبلوا على الشر والفساد ، ومعاندة الحق وأهله ، والإساءة إلى من أحسن إليهم ، ولا تجدي معهم أية محاولة للسلم ، وكيف الأذى . . وخير الأجوبة ان للَّه أن يأمر وينهى المعصوم كما يأمر وينهى غير المعصوم ، بالنظر لجلاله سبحانه ، وإذا كان من فرق بين المعصوم وغيره فهو بالنسبة إلى غيره تعالى لا بالنسبة إليه .
ثم ان هذا النهي والتحذير يدمغ من يتملق لأعداء الدين والوطن متذرعا انه يريد استغلالهم لمصلحة المؤمنين . . ولكن العكس هو الصحيح فان عدو الدين والمبدأ والوطن لا يسالم إلا على أساس التجارة والمساومة ، وان يكون هو الرابح دائما وشعاره الوحيد خذ ولا تعط ، فان لم تستطع فخذ أكثر مما تعطي . . ولقد بين اللَّه جل وعز حقيقة هؤلاء التجار بأوضح بيان وأبلغه ، حيث قال : {ولَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ }[ 96 البقرة] .
_____________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج1 ، ص189-192.
قوله تعالى: {وقال الذين لا يعلمون} هم المشركون غير أهل الكتاب و يدل عليه المقابلة السابقة في قوله تعالى: و قالت اليهود ليست النصارى على شيء، {وقالت النصارى ليست اليهود على شيء} ، و هم يتلون الكتاب كذلك، قال الذين لا يعلمون مثل قولهم الآية.
ففي تلك الآية ألحق أهل الكتاب في قولهم بالمشركين و الكفار من العرب، و في هذه الآية ألحق المشركين و الكفار بهم، فقال: وقال الذين لا يعلمون لو لا يكلمنا الله أو تأتينا آية، كذلك قال الذين من قبلهم - و هم أهل الكتاب و اليهود من بينهم - حيث اقترحوا بمثل هذه الأقاويل على نبي الله موسى (عليه السلام)، فهم والكفار متشابهون في أفكارهم و آرائهم، يقول هؤلاء ما قاله أولئك و بالعكس، تشابهت قلوبهم.
قوله تعالى: {قد بينا الآيات لقوم يوقنون} جواب عن قول الذين لا يعلمون إلخ، والمراد أن الآيات التي يطالبون بها مأتية مبينة، و لكن لا ينتفع بها إلا قوم يوقنون بآيات الله، و أما هؤلاء الذين لا يعلمون، فقلوبهم محجوبة بحجاب الجهل، مؤوفة بآفات العصبية والعناد، وما تغني الآيات عن قوم لا يعلمون.
ومن هنا يظهر وجه توصيفهم بعدم العلم، ثم أيد ذلك بتوجيه الخطاب إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و الإشعار بأنه مرسل من عند الله بالحق بشيرا و نذيرا، فلتطب به نفسه، و ليعلم أن هؤلاء أصحاب الجحيم، مكتوب عليهم ذلك، لا مطمع في هدايتهم و نجاتهم.
قوله تعالى: {ولا تسئل عن أصحاب الجحيم}، يجري مجرى قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 6](2).
قوله تعالى: و{لن ترضى عنك اليهود ولا النصارى}، رجوع إلى الطائفتين بعد الالتفات إلى غيرهم، وهو بمنزلة جمع أطراف الكلام على تفرقها وتشتتها، فكأنه بعد هذه الخطابات والتوبيخات لهم يرجع إلى رسوله ويقول له: هؤلاء ليسوا براضين عنك، حتى تتبع ملتهم التي ابتدعوها بأهوائهم و نظموها بآرائهم، ثم أمره بالرد عليهم بقوله: {قل إن هدى الله هو الهدى} أي إن الاتباع إنما هو لغرض الهدى و لا هدى إلا هدى الله و الحق الذي يجب أن يتبع و غيره - و هو ملتكم - ليس بالهدى، فهي أهواؤكم ألبستموها لباس الدين و سميتموها باسم الملة، ففي قوله: {قل إن هدى الله} إلخ، جعل الهدى كناية عن القرآن النازل، ثم أضيف إلى الله فأفاد صحة الحصر في قوله: {إن هدى الله هو الهدى} على طريق قصر القلب (3)، و أفاد ذلك خلو ملتهم عن الهدى، و أفاد ذلك كونها أهواء لهم، و استلزم ذلك كون ما عند النبي علما، و كون ما عندهم جهلا، و اتسع المكان لتعقيب الكلام بقوله: {ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم}، ما لك من الله من ولي و لا نصير، فانظر إلى ما في هذا الكلام من أصول البرهان العريقة، و وجوه البلاغة على إيجازه، و سلاسة البيان و صفائه(4).
_____________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج1 ، ص220-222.
2-في الاية تسلية لرسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) اي لا تسأل عن اصحاب الجحيم الذين وردوها بسوء اختبارهم فلا يضيق صدرك بعد ان بلغت وأتممت الحجة عليهم قال تعالى : {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 272].
والآية مطابقة للارتكاز العقلائي فانما بعض الله المرسلين مبشرين ومنذرين والمعلم غير مسؤول عن سوء اختبار العبد بعد بذل جهده في التربية والتعليم واتمام الحجة .
وانما كان الاية المباركة تسلية من الله لحبيبه (صلى الله عليه واله وسلم) لسعه صدره ورحمته ورأفته على الخلق وحرصه على نجاتهم . قال تعال مخاطبا رسوله الكريم {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا } [الكهف: 6] وقال : {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ } [الشعراء: 3] وقال تعالى : {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } [التوبة: 128].
3- توضيح :
القصر في اللغة الحبس وفي الاصطلاح تخصيص شيء بشيء اي تخصيص موصوف بصفة او صفة بموصوف بطريق مخصوص من النفي والاستثناء والعطف وانما والتقديم وتوسط ضمير الفصل وتعريف المسند اليه او تعريف المسند بلام الجنس . وقصر القلب هو التخصيص بشيء وقصر الحكم عليه لمن يعتقد العكس اي عكس الحكم الذي أثبته المتكلم . وانما سمي قصر قلب لان فيه قلب اي تبديل حكم المخاطب كله بغيره .
مثلا نقول لمن اعتقد ان عمرا شاعر ولا يشاركه احد في هذه الصفة (ان الشاعر هو زيد) فصدرت الكلام ب(ان) المؤكدة وقصرت الحكم على زيد بضمير الفصل .
4- هي قضية شرطية وصدق القضية الشرطية انما هو لصدق الملازمة لا بتحقق الموضوع وانطباق الجزاء على الشرط المذكور فيها بالنسبة الى مورد الخطاب او المخاطب فيكون مفادها ان متابعة الهوى والآراء الزائفة توجب الخذلان من الله تعالى . وما ورد ان القران انزل ب(اياك أعني واسمعي يا جارة ) ناظر الى هذا المعنى والآية الكريمة نظير قوله تعالى { لئن أشركت ليحبطن عملك} [الزمر: 65] بمعن (ان الشرك يوجب حبط العمل ) لا ان الرسول (صلى الله عليه واله) من الممكن ان يتبع اهواء الذين لا يعلمون او ان يشرك بالله .
حجج اُخرى
بمناسبة ذكر حجج اليهود في الآيات السابقة، تتحدث الآية عن حجج مجموعة اُخرى من المعاندين ويبدو أنهم المشركون العرب فتقول: {وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ}.
هؤلاء الجاهلون ـ أو الذين لا يعلمون ـ بتعبير الآية، طرحوا طلبين بعيدين عن المنطق، طلبوا:
1 ـ أن يكلمهم الله: {لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللهُ}.
2 ـ أن تنزل عليهم آية: {أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ}.
والقرآن يجيب على هذه الطلبات التافهة قائلا: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الاْيَاتِ لِقَوْم يُوقِنُونَ}.
لو أن هؤلاء يستهدفون حقاً إدراك الحقيقة، ففي هذه الآيات النازلة على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) دلالة واضحة بينة على صدق أقواله، فما الداعي إلى نزول آية مستقلة على كل واحد من الأفراد؟! وما معنى الإصرار على أن يكلمهم الله مباشرة؟!
مثل هذا الطلب تذكره الآية 52 من سورة المدثر: {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً} [المدثر: 52].
مثل هذا الطلب لا يمكن أن يتحقق، لأن تحققه ـ إضافة إلى عدم ضرورته ـ مخالف لحكمة الباري سبحانه، لما يلي:
أوّلا: إثبات صدق الأنبياء للناس كافة أمر ممكن عن طريق الآيات التي تنزل عليهم.
ثانياً: لا يمكن للآيات والمعاجز أن تنزل على أي فرد من الأفراد، فذلك يتطلب نوعاً من اللياقة والإِستعداد والطّهارة الرّوحية. فالأسلاك الكهربائية تتحمل من التيّار ما يتناسب مع ضخامتها. الأسلاك الرقيقة لا تتحمل التّيار العالي، ولا يمكن أن تتساوى بالأسلاك الضخمة القادرة على توصيل التّيارات العالية . والمهندس يفرّق بين الأسلاك التي تستقبل التّيارات العالية من المولدات مباشرة، والأسلاك التي تنقل التيّار الواطيء داخل البيوت.
الآية التالية تخاطب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وتبين موقفه من الطلبات المذكورة وتقول: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً}.
فمسؤولية الرّسول بيان الأحكام الإِلهية، وتقديم المعاجز، وتوضيح الحقائق، وهذه الدعوة ينبغي أن تقترن بتبشير المهتدين وإنذار العاصين وهذه مسؤوليتك أيّها الرّسول، وأما الفئة التي لا تذعن للحق بعد كل هذه الآيات فانت غير مسؤول عنها: {وَلاَ تُسْئَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ}.
إرضاء هذه المجموعة محال
{وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُو الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ}
الآية السابقة رفعت المسؤولية عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) إزاء الضالين المعاندين. والآية أعلاه تواصل الموضوع السابق وتخاطب الرّسول بأن لا يحاول عبثاً في كسب رضا اليهود و النصارى لأنه: {وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارى حَتَّى تَتَّبعَ مِلَّتَهُمْ}.
واجبك أن تقول لهم: {إِنَّ هُدى اللهِ هُوَ الهُدى}، هدى الله هو الهدى البعيد عن الخرافات وعن الأفكار التافهة التي تفرزها عقول الجهّال، ويجب إتباع مثل هذا الهدى الخالص.
ثم تقول الآية: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلاَ نَصِير}.
_____________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج1 ، ص296-301.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|