المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

الفقه الاسلامي واصوله
عدد المواضيع في هذا القسم 8200 موضوعاً
المسائل الفقهية
علم اصول الفقه
القواعد الفقهية
المصطلحات الفقهية
الفقه المقارن

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية
{افان مات او قتل انقلبتم على اعقابكم}
2024-11-24
العبرة من السابقين
2024-11-24
تدارك الذنوب
2024-11-24
الإصرار على الذنب
2024-11-24
معنى قوله تعالى زين للناس حب الشهوات من النساء
2024-11-24
مسألتان في طلب المغفرة من الله
2024-11-24



قاعدة « التقية »  
  
1454   01:05 مساءاً   التاريخ: 16-9-2016
المؤلف : الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الكتاب أو المصدر : القواعد الفقهية
الجزء والصفحة : ج1 ص383 – 507 .
القسم : الفقه الاسلامي واصوله / القواعد الفقهية / التقية /


أقرأ أيضاً
التاريخ: 2024-09-06 261
التاريخ: 16-9-2016 1455
التاريخ: 2024-09-06 276
التاريخ: 18-6-2018 1817

[ الكلام يكون في ] التقية وموارد حرمتها وجوازها معناها وموارد حرمتها ووجوبها وجوازها وما يترتب عليها من الاثار الوضعية والتكليفية وما يلحق بها من الاحكام والفروع .

التقية من أقدم ما يعرف أصحابنا بها، كما انها من أكثر ما يشنع عليهم، جهلا بمعناها وموارد حرمتها وجوازها، وغفلة عما يحكم به العقل والنقل.

و يبتني عليها فروع كثيرة في مختلف أبواب الفقه من العبادات وغيرها فلها صلتان بالمذهب:

صلة من ناحية الفقه وقواعدها والفروع الكثيرة المبنية عليها.

وصلة من ناحية العقائد والكلام، حيث ان القول بها صار عند الغافلين عن «مغزاها» و«مواردها» دليلا على ضعف المذهب القائل بها ومبانيه.

ونحن وان كنا نبحث عنها هنا كقاعدة فقهية، ولكن نواصل الجهد في طيات هذه الأبحاث لتوضيحها من الناحية الأخرى، لتبين قيم الإيرادات التي تشبث بها المخالفون هنا، وان هذه المزعومة- كغالب المزعومات الأخر- ناشئة من قلة اتصالهم بنا، وعدم أخذ عقائدنا منا، بل من الكتب المشوهة المملوئة بأنواع التهم المنبعثة عن التعصبات القومية أو المذهبية، أو عن تدخل أعداء الدين في شؤون المسلمين لتفريق كلمتهم وإشاعة البغضاء بينهم ليتنازعوا فيفشلوا وتذهب ريحهم- كما قال اللّه تعالى.

و على كل حال لا بد لنا ان نتكلم هنا في مقامات:

الأول- في معناها اللغوي والاصطلاحي.

الثاني- في حكمها التكليفي من الحرمة والجواز، ومواردهما، وما يدل على كل واحد، من الأدلة العقلية والنقلية، مضافا الى أقسام التقية من «الخوفى» و«التحبيبى».

و ان التاركين للتقية في الصدر الأول وفي أعصار «الأمويين» و«العباسيين»، الذين استشهدوا في هذا السبيل كرشيد الهجري وميثم التمار وأشباههما لما ذا تركوا التقية وتجرعوا جرع الحمام؟

و هل كان هذا واجبا عليهم أو راجحا لهم، وهل يمكن لنا سلوك طريقتهم في أمثال هذه الظروف أم لا؟

الثالث- في حكمها الوضعي من حيث ان العمل المأتي به تقية هل يوجب الاجزاء عن الإعادة والقضاء، في داخل الوقت وخارجه أم لا؟.

الرابع- في أمور هامة مختلفة لها صلة بالبحث مثل انه هل يعتبر‌ في التقية ان تكون من المخالف، أو يشمل الكافر، أو الموافق في المذهب أحيانا.

و انها هل تختص بالأحكام أو تشمل الموضوعات.

و ان المدار فيها على الخوف الشخصي أو النوعي‌

و انه إذا خالف التقية فهل يفسد عمله؟

و ان ترك تسمية القائم باسمه هل هو من باب التقية أو غيرها وهل هو واجب في هذه الأعصار أو لا يجب أصلا؟

وغير ذلك مما يرتبط بهذه المسئلة، نذكرها في طي عشر تنبيهات‌ ونسئل اللّه التوفيق والهداية نحو الحق في جميع الأمور، انه قريب مجيب.

1- معنى التقية لغة واصطلاحا :

الظاهر ان التقية لغة مصدر من اتقى يتقى، لا انها اسم مصدر كما ذكره شيخنا العلامة الأنصاري قدس اللّه سره الشريف.

قال المحقق الفيروزآبادي في «القاموس»: «اتقيت الشي‌ء وتقيته اتقيه واتقيه، تقى وتقية وتقاء ككساء، حذرته، والاسم التقوى قلبوه للفرق بين الاسم والصفة» وظاهره ان اتقى وتقى بمعنى واحد- كما ذكره غيره أيضا- والمصدر منه هو التقية والتقى والتقاء، واسم المصدر هو التقوى- والأمر فيه سهل.

ومن الواضح ان معناه المصطلح في الفقه والأصول والكلام أخص من معناها اللغوي، كما في غيرها من الألفاظ المستعملة في معانيها المصطلحة غالبا.

وقد ورثنا عن الأصحاب في معناها المصطلح عبائر تتقارب مضامينها‌ ولا يدل اختلافها اليسير عن اختلاف منهم في حقيقتها ومفادها، وإليك نص بعض هذه التعاريف:

1- قال المحقق البارع الشيخ الجليل «المفيد» في كتابه «تصحيح الاعتقاد» «التقية كتمان الحق وستر الاعتقاد فيه ومكاتمة المخالفين وترك مظاهرتهم بما يعقب ضررا في الدين والدنيا» «1» .

2- وقال شيخنا الشهيد رحمة اللّه عليه في قواعده :

«التقية مجاملة الناس بما يعرفون وترك ما ينكرون حذرا من غوائلهم».

3- وقال شيخنا العلامة الأنصاري في رسالته المعمولة في المسألة :

«المراد (منها) هنا التحفظ عن ضرر الغير بموافقته في قول أو فعل مخالف للحق».

4- وقال العلامة الشهرستاني قدس سره فيما علقه على كتاب أوائل المقالات للشيخ المفيد أعلى اللّه مقامه:

«التقية إخفاء أمر ديني لخوف الضرر من إظهاره» «2» ولا يخفى ان هذه التعريفات بعضها أوسع من بعض، ولكن- الظاهر انهم لم يكونوا بصدد تعريف جامع لشتات افرادها مانع عن اغيارها، اعتمادا على وضوح معناها ولذا لم يعترض واحد منهم على- الأخر بنقص التعريف من ناحية جمعه أو طرده.

و الذي يهمنا ذكره في المقام ان التقية ديدن كل اقلية يسيطر عليهم‌ الأكثرون ولا يسمحون لهم بإظهار عقائدهم أو العمل على وفقها فيخافون على أنفسهم أو النفيس مما يتعلق بهم، من مخالفيهم المتعصبين، فهؤلاء بنداء الفطرة يلجئون إلى التقية فيما كان حفظ النفس أو ما يتعلق بها أهم عندهم من إظهار الحق، والى ترك التقية وخوض غمرات الموت وتحمل المضار إذا كان إظهاره أهم، حسب اختلاف المقامات وما يتحمل من- الضرر لأجل الاعمال المخالفة للتقية.

كل ذلك مقتبس من حكم العقل بتقديم الأهم على المهم إذا دار الأمر بينهما.

فعندئذ لا تختص التقية بالشيعة الإمامية ولا يختصون بها وان اشتهروا به، وتعم جميع الطوائف في العالم إذا ابتلوا ببعض ما ابتلى به الشيعة في بعض الظروف والأحيان.

فليس ذلك إلا لأنهم كانوا في كثير من الأعصار والأقطار تحت سيطرة المخالفين المجحفين عليهم، وكل جماعة كانت كذلك ظهر في تاريخها التقية أحيانا.

وسيوافيك ان شاء اللّه الايات والاخبار الحاكية عن أمر مؤمن آل فرعون وانه كان في تقية من قومه، وكذلك ما يحكى عن أمر أصحاب الكهف وتقيتهم.

بل ومن بعض الوجوه يعزى التقية إلى شيخ الأنبياء إبراهيم عليه السّلام في احتجاجاته مع عبدة الأصنام، وإلى يوسف عليه السّلام في كلامه لإخوته، كما سيأتي بيان كل منها ان شاء اللّه.

2- حكمها التكليفي :

المعروف بين الأصحاب ان التقية تنقسم بحسب حكمها التكليفي إلى أقسام خمسة: منها ما هو واجب، ومنها ما هو حرام، ومنها ما هو راجح ومنها ما هو مرجوح، ومنها ما يتساوى طرفاه جوازا. وهو موافق للتحقيق.

فلنبدأ بالقسم الجائز منه بالمعنى الأعم ثمَّ نتبعه بما هو حرام، ثمَّ نبين ما هو راجح ومرجوح.

اما الأول [القسم الجائز منه بالمعنى الأعم] :

فلا ينبغي الشك في جوازها إجمالا في بعض الموارد ويدل عليه مضافا الى الإجماع آيات من الذكر الحكيم، واخبار متواترة جدا، ودليل العقل وقضاء الوجدان السليم.

اما الايات:

فمنها قوله تعالى في سورة آل عمران :

{لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [آل عمران: 28]  نهى سبحانه وتعالى عن اتخاذ الكافرين أولياء، والاستعانة بهم في الأمور وبث المودة والإخاء بينهم، ثمَّ أكده بان من فعل ذلك من- المؤمنين فليس من اللّه في شي‌ء، فهو برئ منهم وليسوا في ولاية اللّه ورعايته ونظيره في ذلك قوله تعالى :

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ } [الممتحنة: 1] حيث نهى عن اتخاذ الاعداء أولياء، ثمَّ عقبه بإلقاء المودة إليهم الذي هو كالتفسير له.

ومثله قوله تعالى {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } [المجادلة: 22] ثمَّ استثنى منه مقام التقية بقوله {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً } [آل عمران: 28] ففي هذا المقام إلقاء المودة إليهم واتخاذهم أولياء جائز بعد ان كان منهيا عنه بحسب حكمه الأول، ولا شك ان المراد من «تقاة» هنا التقية وهما بمعنى واحد بل قرء بعضهم كالحسن والمجاهد «تقية».

و قال أمين الإسلام الطبرسي في المجمع عند ذكر الآية: «و المعنى الا ان يكون الكفار غالبين والمؤمنين مغلوبين، فيخافهم المؤمن ان لم يظهر موافقتهم ولم يحسن العشرة معهم، فعندئذ يجوز له إظهار مودتهم بلسانه ومداراتهم تقية منه ودفعا عن نفسه من غير ان يعتقد، وفي هذه الآية دلالة‌ على ان التقية جائزة في الدين عند الخوف على النفس، وقال أصحابنا انها جائزة في الأقوال كلها عند الضرورة، وربما وجبت فيها لضرب من اللطف والاستصلاح، وليس تجوز من الافعال في قتل المؤمن ولا فيما يعلم أو يغلب على الظن انه استفساد في الدين «3» وقال شيخ الطائفة قدس سره في «التبيان» عند ذكر الآية:

«والتقية عندنا واجبة عند الخوف على النفس وقد روى رخصة في جواز الإفصاح بالحق عندها. روى الحسن ان مسيلمة الكذاب أخذ رجلين من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلم فقال لأحدهما أ تشهد ان محمدا رسول اللّه؟ قال: نعم قال:

أفتشهد انى رسول اللّه؟! قال نعم! ثمَّ دعا بالآخر فقال: أ تشهد ان محمدا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلم؟ قال نعم؟ فقال له أتشهد انى رسول اللّه قال: انى أصم! قالها ثلثا كل ذلك يجيبه بمثل الأول فضرب عنقه فبلغ ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلم فقال:

اما ذلك المقتول فمضى على صدقه ويقينه، وأخذ بفضله، فهنيئا له، واما الأخر فقبل رخصة اللّه فلا تبعة عليه» فعلى هذا تكون التقية رخصة والإفصاح بالحق فضيلة، وظاهر‌ أخبارنا يدل على انها واجبة وخلافها خطأ» «4» هذا ولكن سيمر عليك ان شاء اللّه ان موارد وجوبها غير موارد جوازها، وموارد رجحان تركها والإفصاح بالحق، وليس جميع الروايات واردة على مورد واحد ولا تعارض بينها كما يظهر من عبارة شيخ الطائفة (قدس سره الشريف).

و بالجملة لا إشكال في دلالة الآية على جواز التقية إجمالا، بل في الاية تصريح بنفس عنوان التقية فإن «التقية» و«التقاة» بمعنى، بل قد عرفت قراءة التقية في نفس الآية من غير واحد من القراء.

ومنها قوله تعالى في سورة النحل :

{مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [النحل: 106] وقد ذكر المفسرون في شأن نزول الآية أمورا تتقارب معناها وان اختلف أشخاصها وأمكنتها.

و في بعضها انها نزلت في «عمار» و«ياسر أبوه» و«امه سمية» و«صهيب» و«بلال» و«ضباب» ، حيث أخذهم الكفار وعذبوهم واكرهوهم على كلمة الكفر والبراءة من الإسلام ورسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلم.

فلم يعطهم أبو عمار وامه فقتلا وكانا أول شهيدين في الإسلام وأعطاهم عمار بلسانه ما أرادوا منه، فأخبر سبحانه بذلك رسول اللّه فقال قوم كفر عمار، وقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلم ان عمارا ملي‌ء ايمانا من قرنه الى قدمه واختلط - الايمان بلحمه ودمه. ثمَّ جاء عمار الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلم وهو يبكي.

فقال: ما ورائك؟

فقال: شر، يا رسول اللّه، ما تركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير!.

فجعل رسول اللّه يمسح عينيه ويقول ان عادوا لك فعد لهم بما قلت.

فنزلت الآية.

وفي آخر انها نزلت في «عياش ابن أبي ربيعة» أخي أبي جهل من الرضاعة، و«ابى جندل» وغيرهما من أهل مكة حيث أكرههم المشركون فأعطوهم بعض ما أرادوا ثمَّ انهم هاجروا بعد ذلك وجاهدوا فنزلت الآية وفي ثالث انها نزلت في أناس من أهل مكة آمنوا ثمَّ خرجوا نحو المدينة فأدركهم قريش واكرهوهم فتكلموا بكلمة الكفر كارهين، فنزلت الآية.

والأشهر هو الأول.

والآية دالة على جواز التقية بإظهار كلمة الكفر من دون قصده، عند الضرورة، فإن موردها وان كان عنوان الإكراه، ومورد التقية لا يعتبر فيها اكراه وتعذيب بل يكفى فيها خوف الضرر على النفس أو ما يتعلق به وان لم يكن هناك مكره، الا ان الحق عدم الفرق بين العنوانين (الإكراه والتقية) من حيث الملاك والمغزى، فان ملاك الكل دفع الضرر الأهم بارتكاب ترك المهم.

هذا من ناحية العنوان المأخوذ فيها.

ومن ناحية أخرى الآية وان اختصت مفادها بمسألة الكفر والايمان الا ان حكمها جار في غيرها بطريق اولى كما لا يخفى، فاذا جازت التقية في هذه المسألة المهمة جاز في غيرها قطعا مع تحقق شرائطها.

قال المحقق البيضاوي في تفسيره عند ذكر الآية :

«وهو دليل على جواز التكلم بالكفر عند الإكراه وان كان الأفضل ان يتجنب عنه إعزازا للدين كما فعله أبواه (عمار) ثمَّ نقل رواية الحسن السابقة في رجلين أخذهما مسيلمة- الى ان قال- اما الأول فقد أخذ رخصة- اللّه واما الثاني فقد صدع بالحق فهنيئا له»‌

ومنها قوله تعالى في سورة الغافر حاكيا عن مؤمن آل فرعون:

{وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ } [غافر: 28] هذه الآية وما بعدها تحكي عن قصة مؤمن آل فرعون واحتجاجه على قومه نقلها القرآن بلسان القبول والرضا، حتى ان قوله يَكْتُمُ إِيمٰانَهُ أيضا بهذا اللسان، لسان القبول والرضا، فهي دالة على جواز كتمان الايمان عند الخوف على النفس ومثله.

و لا شك ان كتمان الايمان لا يمكن عادة بمجرد عدم الإظهار عن مكنون القلب بل لا يخلو عن إظهار خلافه، لا سيما إذا كان ذلك مدة طويلة كما هو ظاهر حال مؤمن آل فرعون.

فكتمان إيمانه لا يتيسر الا بالاشتراك معهم في بعض أعمالهم وترك بعض وظائف المؤمن الخاصة به، وبالجملة حمل كتمان إيمانه على مجرد‌ عدم إظهار الحق، من دون إظهار خلافه قولا وفعلا شطط من الكلام، لا سيما مع ما حكى عن ابن عباس انه لم يكن من آل فرعون مؤمن غيره وغير امرأة فرعون وغير المؤمن الذي أنذر موسى عليه السّلام.

فاذن ينطبق على عمله عنوان التقية بلا اشكال وتكون الآية دليلا على جوازه إجمالا.

و روى الطبرسي عن ابى عبد اللّه عليه السّلام انه قال: التقية ديني ودين آبائي ولا دين لمن لا تقية له والتقية ترس اللّه في الأرض، لأن مؤمن آل فرعون لو أظهر الإسلام لقتل. «5»

فتحصل من جميع ما ذكرنا ان ظاهر الايات الثلاثة المذكورة أو صريحها جواز التقية عند الخوف إجمالا، ويظهر من غير واحد من الروايات التي سنوردها عليك ان شاء اللّه تفصيلا ان موارد التقية المشار إليها في القرآن لا تنحصر بذلك، بل تشمل فعل أصحاب الكهف، وما فعله شيخ الأنبياء إبراهيم عليه السّلام تجاه قومه عند كسر الأصنام، وما قاله يوسف لإخوته عند أخذ أخيه الصغير عنده وعدم إرساله مع سائر اخوته، انه أيضا كان من باب التقية.

و لكنه مبنى على ما سنشير اليه من عدم حصر التقية في كتمان الحق وإظهار خلافه خوفا على النفس وشبهه بل يشمل ما إذا كان هذا الكتمان لمصالح آخر، فليكن هذا على ذكر منك.

هذا حكم كتاب اللّه وما يستفاد من آيات الذكر الحكيم في المسألة وهي بحمد اللّه جلية من هذه الناحية.

3- التقية في السنة :

لا شك في تواتر الأخبار الدالة على جواز التقية إجمالا في مظان- الخطر، وهي على طوائف مختلفة كل تشير الى بعض خصوصيات البحث وفيها فوائد جمة، وحقائق لطيفة، تكشف عن علل التقية ونتائجها وكيفيتها وحدودها، وأقسامها ومستثنياتها، وموارد حرمتها ووجوب الحذر عنها.

وهي مبثوثة في أبواب كثيرة من أبواب كتاب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، أوردها في الوسائل في المجلد الحادي عشر وغيره ونحن نذكرها في خمس طوائف نجمع ما يشترك منها في معنى واحد في طائفة مستقلة‌

الطائفة الأولى- ما يدل على ان التقية ترس المؤمن وحرزه وجنته وقد ورد روايات عديدة في هذا المعنى:

منها- ما رواه الكليني في الكافي بسنده عن حمد بن مروان‌ عن ابى عبد اللّه عليه السّلام قال كان ابى يقول: واى شي‌ء أقر لعيني من التقية، ان التقية جنة المؤمن «6».

2- ما رواه أيضا في الكافي عن عبد اللّه بن ابى عبد اللّه بن ابى يعفور قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: التقية ترس المؤمن والتقية حرز- المؤمن، الحديث «7»

3- ما رواه أيضا في الكافي عن حريز عن ابى عبد اللّه عليه السّلام قال: التقية ترس اللّه بينه وبين خلقه «8» .

 4- ما رواه سعد بن عبد اللّه في بصائر الدرجات عن جميل بن صالح عن ابى عبد اللّه عليه السّلام قال ان ابى كان يقول: أي شي‌ء أقر للعين من التقية ان التقية جنة المؤمن «9» هذه الروايات بأجمعها دالة على جواز التقية في موارد الخوف لحفظ النفس والاتقاء بها كما يتقي في الحرب عن ضربات العدو بالجنة والترس وأشباههما.

بل قد يستفاد منها الوجوب واللزوم بنحو من العناية فإن الاستتار بالجنة وما أشبههما في موارده واجب فكذلك الاستتار بالتقية في مظانها فتأمل.

و لو أشكل على دلالتها من هذه الناحية لم يكن هناك اشكال من‌ ناحية الدلالة على الجواز بمعناه الأعم.

الطائفة الثانية - ما دل على انه لا دين لمن لا تقية له ، ولا ايمان لمن لا تقية له وان تسعة أعشار الدين هي التقية الى غير ذلك مما يدل على انها من الدين نفسه وبدونها يكون ناقصا وهي روايات:

5- ما رواه الكليني في الكافي بإسناده عن ابى عمر الأعجمي قال:

قال لي أبو عبد اللّه عليه السّلام: يا أبا عمر! ان تسعة أعشار الدين في التقية ولا دين لمن لا تقية له (الحديث) «10» .

 6- ما رواه الصدوق في علل الشرائع عن ابى بصير قال: قال أبو- عبد اللّه عليه السّلام التقية دين اللّه عز وجل قلت من دين اللّه؟! قال فقال: اى واللّه من دين اللّه (الحديث) «11».

 7- ما رواه الصدوق أيضا في صفات الشيعة عن ابان بن عثمان عن الصادق عليه السّلام انه قال: لا دين لمن لا تقية له ولا ايمان لمن لا ورع له «12».

 8- ما رواه الكليني عن ابن ابى يعفور عن الصادق عليه السّلام في حديث: لا ايمان لمن لا تقية له «13».

الى غير ذلك من الروايات.

وهذه الطائفة دليل على وجوبها إجمالا في مواردها وانه من أهم‌ مسائل الدين وعمدتها في هذه المقامات وسيأتي ان شاء اللّه علة هذا التأكيد الشديد وسره، وانه إذا أخذ بحده وشرائطه كان مما يحكم به صريح الوجدان.

الطائفة الثالثة - ما دل على انها من أعظم الفرائض وان أكرمكم عند اللّه أعملكم بالتقية ، وان الايمان بدونها كجسد لا رأس معه وانه ما شي‌ء أحب الى اللّه وأوليائه من التقية في مواردها، وهي روايات :

9- ما رواه في الكافي عن حبيب بن بشار قال قال أبو عبد اللّه عليه السّلام سمعت ابى يقول: لا واللّه ما على وجه الأرض شي‌ء أحب من التقية، يا حبيب! انه من كان له تقية رفعه اللّه، يا حبيب! من لم تكن له تقية وضعه اللّه، يا حبيب! ان الناس انما هم في هدنة فلو قد كان ذلك كان هذا «14».

و لعل قوله «فلو قد كان ذلك كان هذا» إشارة إلى انه لو كان هناك تقية كانت الهدنة مستمرة باقية، أو انه لو رفعت الهدنة وظهر القائم جاز ترك التقية وفي غيره وجبت التقية، ولو فرض إبهامه لم يضر بدلالة الحديث.

10- ما روى في تفسير الامام الحسن بن على العسكري في قوله تعالى {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البقرة: 25] قال قضوا الفرائض كلها بعد التوحيد واعتقاد النبوة والإمامة قال وأعظمهما فرضان: قضاء حقوق الإخوان في اللّه واستعمال التقية من أعداء اللّه «15».

ومما ينبغي ان يذكر انه روى في هذا الباب (الباب 28 من أبواب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر من كتاب الوسائل) روايتان عن النبي ورواية عن كل واحد من الأئمة عليهم السلام الى الامام الحسن العسكري عليه السّلام يكون المجموع ثلثة عشر رواية كلها عن تفسير الامام وبوساطته عليه السّلام رتبه حسب ترتيب الأئمة عليهم السّلام وكلها تشير الى مطلب واحد وان كان بعبارات مختلفة وتعبيرات شتى، وهو ما مر في الحديث الأخير: ان من أعظم القربات وأشرف أخلاق الأئمة، التقية وقضاء حقوق الاخوة وان تركهما من- الذنوب التي لا تغفر، فراجعها وتأملها، وسنشير الى كل واحد منها في محله المناسب له، والى سر هذا التأكيد البليغ في الأمرين.

11- ما في تفسير الامام الحسن العسكري عليه السّلام أيضا: قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلم مثل مؤمن لا تقية له كمثل جسد لا رأس له «16» .

12- وعنه عليه السّلام أيضا عن أمير المؤمنين عليه السّلام التقية من أفضل أعمال المؤمنين يصون بها نفسه واخوانه عن الفاجرين «17» وفي هذا الحديث دليل على انه لا تشرع لحفظ نفسه فقط بل تشرع لحفظ نفوس الاخوان أيضا، وهل هو فيما إذا كان هناك خوف على نفوس وأشخاص معلومة أو يكفي الخوف على نوع المؤمنين في بعض الأمكنة أو بعض الأحيان وان لم تعرف أشخاصهم، سيأتي الكلام فيه عند ذكر تنبيهات المسئلة ان شاء اللّه فليكن على ذكر منك.

13- وعنه عليه السّلام أيضا عن جده على بن الحسين عليه السّلام يغفر اللّه للمؤمن‌ كل ذنب ويطهره منه في الدنيا والآخرة ما خلا ذنبين: ترك التقية وتضييع حقوق الاخوان «18» .

 14- وعنه عليه السّلام أيضا: قيل: لمحمد بن على عليه السّلام ان فلانا أخذ بتهمة فضربوه مائة سوط، فقال: محمد بن على عليه السّلام: انه ضيع حق أخ مؤمن وترك التقية، فوجه اليه فتاب «19».

وهذه الرواية تدل على ان تركها في موارد وجوابها لا يورث عقاب الآخرة فحسب بل قد يورث

ما رواه على بن محمد الخزار في كتاب «كفاية الأثر» عن- الحسين بن خالد عن الرضا عليه السّلام قال لا دين لمن لا ورع له، ولا ايمان لمن لا تقية له، وان أكرمكم عند اللّه أعملكم عذابا دنيويا أيضا .

15- بالتقية. قيل يا ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلم الى متى؟ قال: الى قيام القائم فمن ترك التقية قبل خروج قائمنا فليس منا (الحديث) «20» .

الطائفة الرابعة - روايات عديدة تحكي عن وقوع التقية في أفعال أنبياء السلف وانهم عملوا بالتقية في غير مورد وهي روايات :

16- ما رواه الصدوق في العلل عن ابى بصير قال: سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول: لا خير فيمن لا تقية له ولقد قال يوسف {أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} [يوسف: 70] وما سرقوا «21» ولا يخفى ان نسبة التقية هنا الى يوسف عليه السّلام انما هو من جهة أمره أو رضاه بقول المؤذن الذي أذن بين اخوة يوسف فقال {أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} وهم ما سرقوا شيئا ولو سرقوا انما سرقوا يوسف من قبل، فهو نوع من التورية وقد صدرت تقية وإخفاء للحق لبعض المصالح التي أوجبت أخذ أخيه «بنيامين».

و غير خفي ان هذه التقية ليست من قسم ما يؤتى به خوفا على النفس، بل قسم آخر يؤتى به لمصالح أخر، وسيأتي الإشارة إلى انها لا تنحصر بما يؤتى به خوفا.

ثمَّ لا يخفى ان هذه التقية وأشباهها ليست في باب الاحكام وتبليغ الرسالة حتى يتوهم عدم جوازها في حق الأنبياء والمرسلين، بل هو في غير باب التبليغ حفظا لبعض المصالح.

17- ما رواه في العلل أيضا عن ابى بصير قال قال أبو عبد اللّه عليه السّلام التقية دين اللّه عز وجل، قلت من دين اللّه؟ قال: فقال اى واللّه من دين اللّه لقد قال يوسف «أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسٰارِقُونَ» واللّه ما كانوا سرقوا شيئا «22» والكلام فيه كما في سابقة .

18- ما رواه الكليني في الكافي عن ابى بصير أيضا قال: قال أبو- عبد اللّه عليه السّلام: التقية من دين اللّه. ثمَّ روى نحو الرواية السابقة، ثمَّ زاد قوله:

ولقد قال إبراهيم عليه السّلام «إِنِّي سَقِيمٌ» والله ما كان سقيما «23» وإطلاق التقية على قول إبراهيم عليه السّلام هنا انما هو بملاحظة أنه أخفى حاله وأظهر غيره لما لا يخفى من المصالح الدينية، كما أشرنا إليه في الروايات السابقة، كما انه ليس من باب التقية في الاحكام وانما هو في الموضوعات فلا ينافي دعوته ورسالته، بل كان ذلك لأداء رسالته وحطم الأصنام وكسرها.

19- ما رواه في «معاني الاخبار» عن سفيان بن سعيد قال سمعت أبا عبد اللّه جعفر بن محمد الصادق عليه السّلام يقول: عليك بالتقية فإنها سنة إبراهيم الخليل عليه السّلام- الى ان قال- وان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلم كان إذا أراد سفرا دارى بعيره وقال: أمرني ربي بمداراة الناس كما أمرني بإقامة- الفرائض ولقد أدبه الله عز وجل بالتقية فقال {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا } [فصلت: 34، 35]. يا سفيان من استعمل التقية في دين الله فقد تسنم الذروة- العليا من القرآن وان عز المؤمن في حفظ لسانه ومن لم يملك لسانه ندم (الحديث) «24» وفي هذه الرواية دلالة على ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلم أيضا كان يتقى في بعض الموضوعات- لا الاحكام ولا في إرشاده وتبليغ رسالته- مداراة للناس، ودفعا للبغضاء والعداوة عن قلوب المؤمنين بالتورية وشبهها وفيها أيضا إشارة إلى تقية إبراهيم عليه السّلام في أمر الأصنام في قوله‌ {إِنِّي سَقِيمٌ } [الصافات: 89] أو قوله {هَذَا رَبِّي} [الأنعام: 76] أو قوله {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا ... } [الأنبياء: 63] وانها كانت من سنته، ومن المعلوم انها داخلة في مفهوم التقية بالمعنى الوسيع والأعم وهو إخفاء أمر لبعض ما هو أهم .

20- ما رواه الكليني عن هشام بن سالم عن ابى عبد اللّه عليه السّلام قال ان مثل ابى طالب مثل أصحاب الكهف أسروا الايمان وأظهر والشرك فآتاهم اللّه أجرهم مرتين «25» وهذه الرواية وان لم تكن من قسم تقية الأنبياء الا انه ذكرناها إلحاقا بها وقد أشير إلى قصة أصحاب الكهف في الكتاب العزيز ولكن لم يصرح فيها بلفظ التقية، ولكن يظهر من قرائن مختلفة مذكورة فيها انهم كانوا يتقون من أصحابهم، وانهم اختاروا الاعتزال عن قومهم وآووا الى الكهف خوفا من ظهور أمرهم وتعذيبهم بيد الملك واتباعه، فلو أظهروا الايمان أخذوا وقتلوا، فأسروا وأظهروا بعض ما أرادوا الى ان وفقهم الله الى الهجرة، فهاجروا من قومهم ليجدوا فراغا يمكن فيه إظهار الإيمان من غير حاجة الى إظهار الشرك والموافقة لهم في أعمالهم.

و قد ورد في الروايات والتواريخ ما يؤيد تقيتهم من قومهم، فعدم ذكر لفظ التقية فيها لا يضر بالاستدلال بعد وضوح المطلب.

و فيها أيضا دلالة على تقية ابى طالب عليه السّلام عم النبي الإكرام صلّى اللّه عليه وآله وسلم وحاميه وناصره بقلبه وبيده وبلسانه، ولا ينافي هذا إظهاره الايمان في غير مورد، طول حياته، كما ورد في الاخبار والسير، فان تقيته كانت غالبية لا- دائمية، وكانت من الأعداء، لأمن المسلمين وأصحاب سيرهم، وفيها أيضا جواب عن مقالة بعض أهل الخلاف وتهمة الشرك- معاذ اللّه- الى ابى طالب عليه السّلام وهذه الطائفة من الاخبار تدل على رجحان التقية أو وجوبها إجمالا في موارد يكون إخفاء الحق فيها واجبا أو راجحا لمصالح مختلفة.

و هناك اخبار أخر كثيرة تدل على وجوبها أو رجحانها في هذه- الموارد سيأتي الإشارة إلى شي‌ء كثير منها في الأبحاث الاتية ان شاء اللّه، وهي بالغة حد التواتر، ومعها لا يبقى شك في أصل الحكم في المسئلة إجمالا.

بقي هنا أمور هامة يجب ذكرها :

الأول- علة هذا التأكيد البليغ في أمر التقية :

لا شك ان الناظر في هذه الاخبار يجد في أول نظره إليها تأكيدا بليغا في التقية قلما يوجد في أشباهها وقد يستوحش منها أو يوجب سوء الظن بها أو ببعضها، كل ذلك جهلا بأسرارها ومواردها ومغزاها ولكن التدبر فيها وفي الظروف التي صدرت لها، وفي القرائن الموجودة في كثير منها يرشدنا الى سر هذه التأكيدات ويرفع النقاب عن وجهها ويفسرها تفسيرا تاما.

والظاهر ان هذا الاهتمام كان لأمرين مهمين.

أحدهما- ان كثيرا من عوام الشيعة، أو بعض خواصها، كانوا يقومون في وجه الحكومات والنظامات الفاسدة الأموية والعباسية بلا عدة وعدة ولا تخطيط صحيح ولا محجة واضحة، فيلقون بأنفسهم إلى التهلكة كأنهم يرون إعلان عقيدة الحق ولو لم يكن نافعا واجبا، وإخفائها ولو لم يجلب الا الوهن والضرر على المذهب ومقدساته حراما، وان كان حافظا‌ للنفوس والاعراض ومفيدا لحفظ المذهب وكيانه.

أو كانوا يرون التقية كذبا ومجرد ذكر كلمة الشرك شركا وكفرا وان كان القلب مطمئنا بالايمان ولذا بكى عمار بعد إظهار كلمة الكفر تقية حتى ظن انه خرج عن الإسلام وهلك.

فنهاهم ائمة أهل البيت (عليهم السلام) عن هذه الاعمال الكاسدة الضئيلة غير المفيدة وعن هذه الآراء الباطلة، ويشهد لذلك ما ورد من أنها الجنة وترس المؤمن وأمثالها.

أضف الى ذلك قول الصادق عليه السلام فيما رواه حذيفة عنه في تفسير قوله تعالى {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195]  ، قال هذا في التقية «26» ولعل الروايات الحاكية عن تقية الأنبياء وجمع من الأولياء ناظرة إلى انها ليست كذبا ممنوعا ولا موجبا للكفر والخروج عن الدين، إذا كانت في مواردها كما تشهد به الرواية التالية.

و هي ما رواه الكليني عن درست الواسطي قال قال أبو عبد اللّه عليه السّلام ما بلغت تقية أحد تقية أصحاب الكهف، ان كانوا ليشهدون الأعياد ويشدون الزنانير فأعطاهم اللّه أجرهم مرتين «27» ثانيهما - ان كثيرا من عوام الشيعة وبعض خواصهم كانوا يتركون العشرة مع غيرهم من المسلمين من أهل السنة لأنهم إن أظهروا عقيدتهم الحق ربما وقعوا في الخطر والضرر وجلب البغضاء والعداوة، وان اخفوه‌ كانوا مقصرين في أداء ما عليهم من إظهار الحق، مرتكبين للاكاذيب ، فيرون الأرجح ترك العشرة معهم وعدم إلقاء أنفسهم في أحد المحذورين، غفلة عن المضار المترتبة على مثل هذا العمل من شق العصا وإسنادهم إلى الخشونة وقلة الأدب والعواطف الإنسانية، وتركهم لجماعة المسلمين وآدابهم.

فندبهم الأئمة عليهم السّلام بالعشرة معهم بالمعروف وحسن المصاحبة والجوار، كيلا يعيروا بتركها ولا يكونوا شينا على أئمتهم، وان اضطروا في ذلك الى التقية أحيانا.

و يشهد لذلك روايات عديدة :

منها- ما رواه في الكافي عن هشام الكندي قال سمعت أبا- عبد اللّه عليه السّلام يقول: إياكم ان تعملوا عملا نعير به فان ولد السوء يعير والده بعمله، كونوا لمن انقطعتم اليه زينا ولا تكونوا عليه شينا، صلوا في عشائرهم، وعودوا مرضاهم، واشهدوا جنائزهم، ولا يسبقونكم إلى شي‌ء من الخير، فأنتم أولى به منهم، واللّه ما عبد اللّه بشي‌ء أحب إليه من الخبإ ، قلت: وما الخبإ؟ قال: التقية «28» وهذه الرواية تنادي بأعلى صوتها بعدم الاعتزال عن القوم ولزوم العشرة معهم بالمعروف والصلاة معهم، وعيادة مرضاهم، وشهادة جنائزهم وغير ذلك من أشباهه كيلا يعيروا بتركه الأئمة عليهم السّلام ولا يجدوا طريقا للإزراء بهم وباتباعهم، ويجوز حينئذ التقية معهم وهذا نوع من التقية التحبيبى.

و منها وما رواه في الكافي أيضا عن مدرك بن الهزهاز عن أبي عبد اللّه عليه السّلام‌ قال: رحم اللّه عبدا اجتر مودة الناس الى نفسه، فحدثهم بما يعرفون وترك ما ينكرون «29» فان الحديث معهم بما يعرفون وترك ما ينكرون من مصاديق التقية وانما يؤتى بذلك تحبيبا.

و منها ما في تفسير الامام الحسن العسكري عليه السّلام قال: وقال الحسن بن على عليه السّلام (بن ابى طالب) ان التقية يصلح اللّه بها امة لصاحبها مثل ثواب أعمالهم، فإن تركها أهلك أمة، تاركها شريك من أهلكهم. الحديث «30» ولعل ارداف التقية بحقوق الاخوان هنا وفي روايات أخر إشارة إلى اشتراكهما في حفظ الأمة ووحدتها وحقوقها وكيانها، وان كان التأكيد في الأول لإخوانهم، الخاصة والثاني للعامة.

و قد ورد في غير واحد من الروايات (مثل الرواية 32 من الباب 24 والرواية 33 من ذاك الباب بعينه) تفسير قوله تعالى في قصة ذي القرنين حاكيا عن القوم الذين وجدهم عند السدين «تَجْعَلَ بَيْنَنٰا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا» وقوله {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} [الكهف: 97] «ان هذا هو التقية فإنها الحصن الحصين بينك وبين أعداء اللّه وإذا عملت بها لم يقدروا على حيلة».

و هذا وان كان ناظرا إلى تأويل الآية وبطنها والعدول عن ظاهرها ببعض المناسبات لكشف ما فيها من المعاني الأخر غير معناها الظاهر، الا‌ انه على كل حال دليل على ان التقية يسد الأبواب على العدو، لا باب المضرة فقط بل باب التعيير واللوم وغيرهما، فهو الحصن الحصين الذي لا يقدرون ظهورها ولا يستطيعون له نقبا.

و يكون فيها أيضا نجاة وصيانة للأئمة عليهم السّلام عن سفلة الرعية التي قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفى صدورهم أكبر، فمعها لا يجدون عذرا الى نيل الاعراض وهتك الحرمة كما ورد في رواية «المجالس» عن الامام على بن محمد عن آبائه (عليهم السلام) قال: قال الصادق عليه السّلام «ليس منا من لم يلزم التقية ويصوننا عن سفلة الرعية» «31» .

2- أقسام التقية وغاياتها :

و قد يتبين مما ذكر ان غاية التقية لا تنحصر في حفظ الأنفس ودفع الخطر عنها أو عن ما يتعلق بها من الاعراض والأموال، بل قد يكون ذلك لحفظ وحدة المسلمين وجلب المحبة ودفع الضغائن فيما ليس هناك دواع مهمة إلى إظهار العقيدة والدفاع عنها.

كما انه قد يكون لمصالح آخر، من تبليغ الرسالة بنحو أحسن كما في قصة إبراهيم واحتجاجه على عبدة الأصنام، أو مصلحة أخرى كما في قصة يوسف مع إخوته.

فهي- بمعناها الوسيع- تكون على أقسام: التقية الخوفى، والتقية التحبيبى، والتقية لمصالح أخر مختلفة.

وغير خفي أنها بأجمعها تشترك في معنى واحد وملاك عام وهو إخفاء العقيدة أو إظهار خلافها لمصلحة أهم من الإظهار فالأمر في جميعها دائر بين ترك الأهم والمهم، والعقل والنقل يحكمان بفعل الأول وترك- الثاني، من غير فرق بين ان تكون المصلحة التي هي أهم حفظ النفوس أو الاعراض والأموال، أو جلب المحبة ودفع عوامل الشقاق والبغضاء أو غير ذلك مما لا يحصى.

3- موارد وجوبها :

قد ظهر مما ذكرنا أيضا انها تجب في مواضع كثيرة، بينما هي جائزة بالمعنى الأخص في موارد اخرى، وضابط الجميع ما عرفت وهي :

ان المصلحة التي تنحفظ بفعل التقية ان كانت مما يجب حفظها ويحرم تضييعها، ووجبت التقية، وان كانت مساوية لمصلحة ترك التقية جازت (الجواز بالمعنى الأخص) وان كان احد الطرفين راجحا فحكمها تابع له.

ثمَّ ان كشف موارد الوجوب عن غيرها يعلم بمراجعة مذاق الشرع وأهمية بعض المصالح ورجحانها على بعض في نظره، كما يمكن كشف بعضها بمراجعة العقل أيضا كما في موارد حفظ النفوس إذا كانت التقية بمثل ترك المسح على الرجلين والاكتفاء بالمسح على الخفين مثلا، وأشباهه.

فالروايات الدالة على ان التقية من الدين ، وان تاركها يعاقب عليه، وان تركها مثل ترك الصلاة، وأمثال هذه التعبيرات ناظرة إلى موارد- الوجوب، والمصالح المهمة التي لا يمكن تركها والإغماض عنها.

و ما يدل على انها داخلة في قوله تعالى ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ (مثل الرواية 2 من الباب 24 في أبواب الأمر بالمعروف و9 من ذاك الباب بعينه) وانه إذا عمل بالتقية «فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وبَيْنَهُ عَدٰاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ» وأمثال هذه التعبيرات يدل على موارد رجحانها واستحبابها.

الى غير ذلك مما يظهر للمتأمل في الأبواب المشتملة على اخبار التقية فإن ألسنتها مختلفة غاية الاختلاف كل يشير الى مورد، فلا يجوز- الحكم على جميعها بشي‌ء واحد كما هو أظهر من ان يخفى فمثل المداراة التي أمر بها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلم (الواردة في الرواية 16 من الباب 24) وما ورد فيها من أنه أدبه اللّه بالتقية بقوله عز وجل «ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ.»* داخل في قسم المستحب.

وكذا ما ورد في ذيل هذا الحديث بعينه من قوله :

«من استعمل التقية في دين اللّه فقد تسنم الذروة العليا من القرآن وان عز المؤمن في حفظ لسانه» لعله أيضا إشارة الى هذه الموارد ولا أقل من انه أعم من موارد الوجوب والاستحباب.

وسيأتي موارد رجحان ترك التقية وجواز الإظهار أيضا.

تنبيه :

ولعلك بالنظر الدقيق فيما عرفت لا تشك في ان وجوب التقية أو- جوازها فيما مر من مواردها ليس امرا تعبديا ورد في الاخبار المروية من طرق الخاصة وروايات ائمة أهل البيت (عليهم السلام)، بل يدل عليه الأدلة الأربعة: كتاب اللّه عز وجل، وقد أوعزنا الى موارد الدلالة من الكتاب العزيز، والإجماع القاطع، والأحاديث المتواترة، التي نقلنا شطرا منها واستغنينا بها عن غيرها اختصارا للكلام، وحكم العقل القاطع مع صريح الوجدان.

بل لا يختص ذلك بقوم دون قوم، وملة دون اخرى، وان اختص هذا الاسم والعنوان ببعضهم، كما انها لا تختص بالمليين وأرباب الديانات بل تعم غيرهم أيضا.

فهل ترى أحدا من العقلاء يوجب إظهار العقيدة في موارد لا فائدة في إظهارها، أو يجد فيها نفعا قليلا مع المضرة القاطعة الكثيرة الموجودة في إظهارها ضررا في النفوس أو الاعراض أو الاهداف المهمة التي يعيش بها، ولها.

و الانصاف ان ما يلهج به لسان قوم من مخالفينا في المذهب من حرمة التقية بنحو مطلق من دون استثناء، لا يتجاوز عن آذانهم حتى انه لا يوجد في أعمالهم أثرا منه، وانما هو لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درت به معايشهم وأغراضهم، واما عند العمل، هم وغيرهم سواء في الأخذ بحكم- العقل وصريح الوجدان بإخفاء العقيدة في ما لا نفع في إظهارها بل تكون فيها مضرة بالغة الخطورة، سموه تقية أو لم يسموه.

و لكن سيأتي ان هناك موارد يحرم التقية فيها بل يجب فيها التضحية والتفدية وبذل الأموال والأنفس والثمرات.

كما انه قد يرجح ذلك على الإخفاء وتكون التقية مرجوحة، وتركها راجحا وفضلا.

كل ذلك منوط بالظروف الخاصة وما فيها من الشرائط والجهات، ومن هنا قد يجد الفقيه البارع المجاهد، العارف بزمانه، الخبير بمواضع احكام اللّه، ظرفا خاصا منطبقا لمورد الحرمة أو الكراهة فيحكم علانية بحرمة التقية والجهاد بالأموال والأنفس ورفض المدارة فيها، ولا يريد رفضها مطلقا وانما يريد في تلك الظروف المعينة بما فيها من المصالح.

فلا شك انه حكم خاص بذاك الظرف والزمان، وما أشبهه من الظروف والأزمنة وليس حكما دائميا وفي جميع الشرائط والظروف كما هو أوضح من ان يخفى وان ينكر.

[الثاني] في أي موقف تحرم التقية ؟

قد مر في أول البحث عن هذه القاعدة ان التقية- كما أشار إليه غير واحد من أعاظم المحققين- تنقسم بالأحكام الخمسة، وقد أشرنا أخيرا إلى موارد وجوبها ورجحانها وجوازها إجمالا.

كما أنه أشرنا إلى الضابطة التي تكون مقياسا لكشف موارد حرمتها وهي كل مورد تكون المصلحة المرتبة على ترك التقية أعظم من فعلها، مما لا يرضى الشارع المقدس بتركها أو يستقل العقل في الحكم بحفظها.

و‌ قد أشير الى غير واحد من هذه الموارد في روايات الباب وهي أمور:

1- لا يجوز التقية في فساد الدين :

إذا استلزم التقية فسادا في الدين وتزلزلا في أركان الإسلام، ومحوا للشعائر، وتقوية للكفر، وكل ما يكون حفظه أهم في نظر الشارع من حفظ النفوس أو الأموال والاعراض، مما يشرع لها الجهاد أيضا، والدفاع عنها ولو بلغ ما بلغ.

ففي كل ذلك لا شك في حرمتها ولزوم رفضها ولكن تشخيص ذلك مما لا يمكن للمقلد غالبا بل يكون بأيدي الفقهاء والمجتهدين لاحتياجه الى مزيد تتبع في أدلة الشرع والاطلاع على مذاق الشارع ومغزى احكامه.

و يشهد لهذا- مضافا الى انه من الأمور التي دليلها معه- ومبنى على قاعدة عقلية واضحة وهو ترجيح جانب الأهم إذا دار الأمر بينه وبين- المهم، غير واحد من الاخبار:

منها ما رواه في «الكافي» عن مسعدة بن صدقة عن ابى عبد اللّه عليه السّلام في حديث: ان المؤمن إذا أظهر الايمان ثمَّ ظهر منه ما يدل على نقضه خرج مما وصف وأظهر، وكان له ناقضا، الا ان يدعى انه انما عمل ذلك تقية، ومع ذلك ينظر فيه، فان كان ليس مما يمكن ان تكون التقية في مثله لم يقبل منه ذلك، لان للتقية مواضع من أزالها عن مواضعها لم تستقم له، وتفسير ما يتقى مثل ان يكون قوم سوء ظاهر حكمهم وفعلهم على غير الحكم الحق وفعله، فكل شي‌ء يعمل المؤمن بينهم لمكان- التقية مما لا يؤدى الى الفساد في الدين فإنه جائز «32» فإن قوله عليه السّلام في ذيل تفسير موارد التقية، وما يجوز مما لا يجوز، «مما لا يؤدى الى الفساد في الدين» يدل بمفهومه على عدم جواز التقية إذا أدت الى ذلك.

و منها- ما رواه «الكشي» في رجاله عن درست بن ابى منصور قال كنت عند ابى الحسن موسى عليه السّلام وعنده «الكميت بن زيد» فقال‌ للكميت أنت الذي تقول:

فالآن صرت إلى أمية- والأمور لها الى مصائر؟! قال: قلت ذلك وما رجعت عن إيماني، وانى لكم لموال ولعدوكم لقال، ولكني قلته على التقية، قال اما لئن قلت ذلك ان التقية تجوز في شرب الخمر! وهذا يدل على اعتراض الامام عليه السلام على «كميت» في شعره الذي معناه «الان رجعت الى أمية وامورها الا الى ترجع» فإنه مدح بالغ لهم ودليل على رجوعه إليهم بعد ان كان معروفا بالموالاة لأئمة أهل- البيت عليهم السلام.

و لكن الكميت الناصر لأهل البيت عليه السّلام بقلبه وبلسانه اعتذر بأنه انما قالها بلسانه تقية وحفظا لظواهر الأمور، واما الامام عليه السّلام لم يقنع بعذرة فأجابه بأن باب التقية لو كان واسعا بهذه الواسعة لجاز في كل شي‌ء تقية حتى في شرب الخمر، مع انه لا يجوز.

فهو دليل على عدم جواز التقية بمثل هذا المدح البالغ لبني أمية الجائرة أو إظهار المحبة لهم، وهذا من مثل الكميت الشاعر البارع المشهور بحبه للأئمة عليه السّلام قد يوجب تقوية لدعائم الكفر والضلال وتأييد لبقية احزاب الجاهلية وأشياعهم، فلا يجوز له، ولو جاز انما جاز في شرائط وو ظروف بالغة الخطورة لا في مثل ما قال الكميت فيه، فلذا واجهه عليه السّلام بالعتاب.

و إذا لم تجز التقية بمثل هذا البيت من الشعر لم تجز في أشباهه مما تقوى به كلمة الكفر واعلام الضلال ويخفى به الهدى ويشتبه به الحق بالباطل‌ على كثير من الناس، لا سيما من الذين يكون كلامهم وفعلهم مما يستند اليه الناس في أعمالهم، فالتقية في هذه الموارد حرام، ولكن تشخيص هذه الظروف من غيرها- كما أشرنا إليه آنفا- موكول الى نظر الفقيه غالبا.

و منها- ما رواه الطبرسي في «الاحتجاج» عن ابى محمد الحسن بن على العسكري عليه السّلام في حديث ان الرضا عليه السّلام جفا جماعة من الشيعة وحجبهم فقالوا يا بن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلم ما هذا الجفاء العظيم والاستخفاف بعد الحجاب الصعب؟ قال: لدعواكم أنكم شيعة أمير المؤمنين عليه السّلام وأنتم في أكثر أعمالكم مخالفون ومقصرون في كثير من الفرائض، وتتهاونون بعظيم حقوق إخوانكم في اللّه وتتقون حيث لا تجب التقية، وتتركون التقية حيث لا بد من التقية «33» وهذه الرواية وان لم يصرح فيها باستثناء ما يلزم منه فساد الدين الا ان القدر المتيقن منه هو ذلك، إذ لا يوجد هناك أمر أهم منه يجوز لأجله ترك التقية، اللهم الا ان يقال ان المراد منه التزامهم التقية فيما ليس هناك خوف وتركهم لها فيما يكون هناك خوف فهي ناظرة إلى تخطئتهم في المصاديق لا في المستثنيات الحكمية فتأمل.

منها- ما رواه الشيخ في التهذيب عن أبي حمزة الثمالي قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام- الى ان قال: وايم اللّه لو دعيتم لتنصرونا لقلتم لا نفعل إنما نتقي! ولكانت التقية أحب إليكم من آبائكم وأمهاتكم ولو قد قام القائم ما احتاج الى مسائلتكم عن ذلك ولا قام في كثير منكم حد النفاق! «34» .

ودلالته على لزوم ترك التقية فيما وقع الدين في الخطر واستنصر الامام عليه السّلام عن الناس غير خفية على احد وان من لزوم التقية في هذه الموارد إذا قام- القائم عليه السّلام اقام فيه حد المنافق فاذن كانت التقية في هذه الموارد من أشد المحرمات وآكدها .

و على كل حال لا ينبغي الريب في وجوب رفض التقية والتمسك بها إذا خيف على أساس الدين واحكامه ومحو آثاره التي جاهد في تحكيم دعائمها المهاجرون الأولون والذين اتبعوهم بإحسان (رضى اللّه عنهم ورضوا عنه) وافتدوا بأموالهم وأنفسهم في طريقها طلبا لمرضاة اللّه، فكيف يجوز التقية المستتبعة لهدمها والقضاء عليها، فهل يكون هذا الا تضادا ظاهرا وتحكما باتا؟!

2- لا تجوز التقية في الدماء :

- إذا بلغت التقية الدم فالواجب رفضها وعدم الخوض فيها كما إذا أمر الكافر أو الفاسق بقتل مؤمن ويعلم أو يظن انه لو تركه قتل نفسه فلا يجوز القتل تقية وحفظا للنفس، لأن المؤمنين تتكافى دمائهم، وانما جعلت التقية لحق الدماء وحفظ النفوس فاذا بلغت الدم فلا معنى لتشريعها، وكانت ناقضة للغرض، لان حفظ دم واحد لا يوجب جعل دم الأخر هدرا؛ ولا يجوز في حكمة الحكيم هذا.

و قد صرح به في غير واحد من احاديث الباب:

منها- ما رواه محمد بن يعقوب الكليني في «الكافي» عن محمد بن مسلم عن ابى جعفر الباقر عليه السّلام قال انما جعل التقية ليحقن بها الدم فاذا بلغ الدم فليس تقية «35».

ومنها- ما رواه الشيخ في «التهذيب» عن أبي حمزة الثمالي قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام لم تبق الأرض الا وفيها عالم يعرف الحق من الباطل وقال: انما جعلت التقية ليحقن بها الدم فاذا بلغت التقية الدم فلا تقية «36» .

3- يحرم التقية في شرب الخمر، وشبهها :

قد ورد في روايات مختلفة تحريم التقية في أمور هامة منها شرب الخمر، والنبيذ، والمسح على الخفين ومتعة الحج فلنذكر ما ورد فيها ثمَّ نبين وجهها.

منها- ما رواه في «الكافي» عن ابى عمر الأعجمي عن ابى عبد اللّه- عليه السّلام في حديث قال: والتقية في كل شي‌ء إلا في النبيذ والمسح على الخفين. «37»

و منها- ما رواه فيه أيضا عن زرارة قال: قلت له في مسح الخفين تقية؟ فقال: ثلاثة لا اتقى فيهن أحدا: شرب المسكر والمسح على الخفين ومتعة الحج، قال زرارة: ولم يقل الواجب عليكم ان لا تتقوا فيهن أحدا. «38»

و لعل الوجه في حرمة التقية في هذه الأمور ان موضوعها منتف فيها فإنها شرعت لحفظ النفوس إذا كان هناك مظنة للخطر والضرر، ومن المعلوم انه لا يكون إلا في الأعمال الخاصة التي لم يصرح به في كتاب الله أو السنة القطعية، فإذا كان هناك تصريح بها فهو عذر واضح لفاعلها وان خالف سيرة القوم وطريقتهم فيها.

فحرمة شرب المسكر، الخمر والنبيذ وشبههما مما صرح به كتاب اللّه، فلو خالفه احد واعتقد جواز شربها جهلا، أو تعنتا لا تجوز التقية منه فيها، لظهور الدليل ووضوح العذر وقيام الحجة فليس هناك مساغ للتقية ولا مجوز لها.

و كذلك متعة الحج، فقد قال اللّه تبارك وتعالى {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196]  {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 196] وهو دليل على جواز التمتع أو وجوبها، وقد ورد في السنة النبوية أيضا الأمر بها، وقد رواه الفريقان في كتبهم، بل ما نقل عن «عمر» في قوله متعتان كانتا محللتان على زمن النبي انا احرمهما، أيضا دليل على تشريع متعة الحج على لسان النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلم وفي عهده صلّى اللّه عليه وآله وسلم.

وهذا كاف في ترك التقية فيها لعدم الخوف بعد إمكان الاستناد الى القرآن والسنة الثابتة.

وهكذا ترك المسح على الخفين والاقتصار على المسح على البشرة فإنه أيضا موافق لظاهر كتاب اللّه أو صريحه فقد قال تعالى {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6] ومن الواضح ان المسح بالرأس والرجل لا يكون الا بالمسح عليهما نفسها لا على القلنسوة أو الخف مثلا، ومن عمل به انما عمل بكتاب اللّه ولا خوف له في ذلك في اجواء الإسلام وبين المسلمين، ولو خالف فيه من خالف‌ وقد تحصل مما ذكرنا ان نفى التقية فيها انما هو من باب التخصص والخروج الموضوعي، لا من باب التخصيص والخروج الحكمي.

و اما احتمال كونها من باب التخصيص بان يكون المراد نفى جوازها، لو فرض هناك خوف وقوع النفس في الخطر وكان المقام بالغ الخطورة، نظرا إلى أهمية هذه الأحكام أعني حكم تحريم الخمر؛ ومشروعية متعة الحج، وعدم جواز المسح على الخفين، فهو ممنوع جدا.

لان مثل المسح على البشرة أو متعة الحج ليس أهم من جميع الأحكام الإسلامية حتى ينفرد بهذا الاستثناء كما لا يخفى.

بل الإنصاف ان الروايات ناظرة الى ما ذكرنا من عدم الحاجة والضرورة غالبا إلى التقية في هذه الأمور بعد وضوح مأخذها من كتاب الله والسنة القاطعة.

فعلى هذا لو أغمضنا النظر عن هذه الغلبة وكان هناك ظروف خاصة لا يمكن فيها إظهار هذه الأحكام، لغلبة الجهل والعصبية على أهلها وكان المقام بالغ الخطورة، الخطر على النفوس أو الأموال والاعراض ذات الأهمية فلا ينبغي الشك في جواز التقية في هذه الأمور أيضا.

أ رأيت لو كان هناك حاكم مخالف جائر يرى المسح على الخفين لازما أو يحرم متعة الحج ويقتل من لا يعتقد بذلك بلا تأمل، فهل يجوز ترك التقية فيها واستقبال الموت؟ كلا لا أظن أن يلتزم به احد، وكذلك المضار التي دون القتل مما يكون في مذاق الشارع أهم من رعاية هذه الاحكام في زمن محدود، لا يجب تحملها ورفض التقية فيها.

ومما ذكرنا يظهر ان ما استنبطه «زرارة» في الرواية السابقة‌ من انه عليه السّلام لم يقل الواجب عليكم ان لا تتقوا فيهن أحدا بل قال لا اتقى فيهن أحدا، وكأنه حسب ذلك من مختصات الامام عليه السّلام ممنوع أيضا.

فإن الحكم عام لكل احد بعد وضوح مأخذ هذه الاحكام في الكتاب والسنة، وعدم الاضطرار إلى التقية فيها، فاستنباطه هذا في غير محله وان كان هو من فقهاء أهل البيت وامنائهم عليه السّلام فان الجواد قد يكبو، والعصمة تخص بأفراد معلومين عليهم آلاف الثناء والتحية.

و يدل على ما ذكرنا ما رواه الصدوق في «الخصال» بإسناده عن على عليه السّلام في حديث الأربعمائة قال ليس في شرب المسكر والمسح على الخفين تقية. «39»

فإن ظاهره عدم جواز التقية فيها على احد، وكذلك ما مر سابقا من رواية أبي عمر الأعجمي عن الصادق عليه السّلام والتقية في كل شي‌ء إلا في النبيذ والمسح على الخفين، فان ظاهره أيضا عموم الحكم لكل احد.

ومما يؤيد ما ذكرنا من جواز التقية في هذه الأمور أيضا إذا اضطر إليها ولو نادرا ما رواه الشيخ في «التهذيب» عن ابى الورد قال قلت لأبي- جعفر عليه السّلام ان أبا ظبيان حدثني انه رأى عليا عليه السّلام أراق الماء ثمَّ مسح على الخفين فقال كذب أبو ظبيان اما بلغك قول على عليه السّلام فيكم: سبق الكتاب الخفين فقلت هل فيهما رخصة؟ فقال لا الأمن عدو تتقيه أو ثلج تخاف على رجليك. «40»

وفيها أيضا إشارة الى ما ذكرنا من انه بعد ورود المسح على الرجلين في آية المائدة في الكتاب العزيز لم يجز لأحد المسح على الخفين.

4- لا تجوز التقية في غير الضرورة :

- قد صرح في غير واحد من الروايات الواردة عن المعصومين عليهم السلام بأنه لا تجوز التقية في غير الضرورة، ومعلوم ان ذلك أيضا ليس من قبيل الاستثناء من الحكم والتخصيص. بل من قبيل الخروج الموضوعي والاستثناء المنقطع، المسمى بالتخصص، فإنه إذا لم يكن هناك ضرورة لم يكن هناك تقية. لأخذ الخوف في موضوعها كما عرفت في أول البحث عن هذه القاعدة.

وإليك بعض ما ورد في هذا الباب أيضا :

منها- ما رواه الكليني عن زرارة عن ابى جعفر عليه السّلام قال: التقية في كل ضرورة وصاحبها اعلم بها حين نزل به. «41»

منها- ما رواه الكليني أيضا في الكافي عن إسماعيل الجعفي ومعمر بن يحيى ومحمد بن مسلم وزرارة جميعا قالوا سمعنا أبا جعفر عليه السّلام يقول: التقية في كل شي‌ء يضطر اليه ابن آدم فقد أحله الله له. «42»

منها- ما رواه في «المحاسن» عن عمر بن يحيى عن ابى جعفر عليه السّلام قال: التقية في كل ضرورة «43» والذي تجب الإشارة إليه هنا ان هذه الروايات الثلث المروية‌ بطرق متعددة معتبرة كلها أو جلها، تدل على عموم التقية لجميع الضرورات ولكل ما يضطر إليه الإنسان ويمكن الاعتماد عليها كما سيأتي الاستناد إليها في بعض الفروع الهامة المترتبة عليها، وان كنا في غنى عنها من بعض الجهات بالدليل العقلي وصريح الوجدان الدال على وجوب ترجيح الأهم على المهم عند الدوران، وبالعمومات الدالة على رفع ما اضطروا اليه، أو انه ما من شي‌ء حرمة اللّه الا وقد أحله لمن اضطر اليه.

هذا ولكن سيأتي ان شاء اللّه انا لسنا في غنى منها من جميع الجهات لحل بعض المعضلات بها مما لا يمكن بغيرها (فتدبر).

حكم التقية في إظهار كلمة الكفر والبراءة :

اتفق النص والفتوى على جواز التكلم بكلمة الكفر والبراءة باللسان مع حفظ الايمان بالقلب والجنان، عند الخطر على النفس والخوف، ولكن اختلفوا في ان الراجح ترك التقية هنا وتحمل الضرر ولو بلغ ما بلغ، أو ان الراجح فعل ما يندفع به الضرر والخطر.

يظهر في ذلك اضطرابا في اخبار الباب والفتاوى في بدء النظر، ولكن سيأتي بعد ذكر الجميع والتكلم فيها ان الحق فيه التفصيل بحسب الازمان والأشخاص والظروف، ولعله الطريق الوحيد للجمع بينها.

ولنتكلم أولا في جواز ذلك (بالمعنى الأعم) ثمَّ لنتكلم في الراجح منهما وفيما تمسك به أصحاب الأئمة عليه السّلام الأولون، المطيعون الصادرون بأمرهم، الناصرون لهم بالأيدي والألسن والقلوب الذين افتدوا بأنفسهم في هذه السبيل ولم يظهروا كلمة البراءة والكفر ابدا.

فنقول ومنه سبحانه نستمد التوفيق:

يدل على الجواز إجمالا أحاديث كثيرة :

1- ما مر عند سرد الايات الدالة على جواز التقية في مظانها في تفسير قوله تعالى «إِلّٰا مَنْ أُكْرِهَ وقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمٰانِ» من فعل عمار، وما روته العامة والخاصة في هذا المجال، من ان أبويه لم يظهرا كلمة الكفر فقتلا وان عمارا أظهر ونجى، ثمَّ اتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلم باكيا فقال جمع من الصحابة: كفر عمار، ولكن جعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلم يمسح عينيه ويقول له، ان عادوا لك فعد لهم بما قلت، فنزلت الآية «مَنْ كَفَرَ بِاللّٰهِ مِنْ بَعْدِ إِيمٰانِهِ إِلّٰا مَنْ أُكْرِهَ وقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمٰانِ».

2- ما روته العامة والخاصة في كتبهم- وقد مر ذكره أيضا عند ذكر الايات أيضا- من حديث رجلين من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلم أحدهما مسيلمة الكذاب فقال لأحدهما: أشهد انى رسول اللّه فشهد ونجا واما الأخر فقد ابى وقتل، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلم في حقهما: اما الأول فقد أخذ رخصة اللّه واما الثاني فقد صدع بالحق فهنيئا له.

و في هذه الرواية وان لم يكن ذكر عن البراءة عن الرسول صلّى اللّه عليه وآله وسلم ولكن الشهادة برسالة مسيلمة كانت من كلمة الكفر نفسه فيدل على الجواز في غيره بطريق اولى فتدبر.

3- وفي معناهما ما رواه الكليني في «أصول الكافي» عن عبد اللّه بن عطا قال: قلت: لأبي جعفر عليه السّلام رجلان من أهل الكوفة أخذا فقيل لهما ابرئا عن أمير المؤمنين عليه السّلام فبرئ واحد منهما وابى الآخر فخلى سبيل الأول الذي برى وقتل الأخر فقال: اما الذي برئ فرجل فقيه في دينه واما الذي لم يبرئ فرجل تعجل إلى الجنة «44».

وسنتكلم ان شاء اللّه في دلالتها على رجحان ترك التقية أو فعلها.

4- ما رواه الكليني عن مسعدة بن صدقة قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام ان الناس يروون ان عليا عليه السّلام قال على منبر الكوفة أيها الناس انكم ستدعون إلى سبي فسبوني ثمَّ تدعون الى البراءة منى فلا تبروا منى.

فقال ما أكثر ما يكذب الناس على عليه السّلام ثمَّ قال: انما قال: انكم ستدعون إلى سبي فسبوني ثمَّ تدعون الى البراءة منى وانى لعلى دين محمد صلّى اللّه عليه وآله وسلم ولم يقل: ولا تبرأوا منى، فقال له السائل أ رأيت ان اختار القتل دون البراءة، فقال: واللّه ما ذلك اليه؛ وما له الا ما مضى عليه عمار بن ياسر، حيث أكرهه أهل مكة وقلبه مطمئن بالإيمان منزل اللّه عز وجل «إِلّٰا مَنْ أُكْرِهَ وقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمٰانِ» فقال له النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلم: يا عمار ان عادوا فعد، فقد انزل اللّه عذرك، وأمرك ان تعود ان عادوا «45».

وظاهر هذه الرواية في بدء النظر وجوب التقية هنا أيضا، ولكن بعد التأمل يظهر أنها ناظرة إلى نفى الحرمة فقط- لا سيما بالنسبة إلى البراءة عن على عليه السّلام والأئمة من ولده عليهم السلام التي رووا حرمتها وان جاز السب، وسيأتي الكلام فيها عن قريب ان شاء اللّه.

هذا مضافا الى ان قوله عليه السّلام «و اللّه ما ذلك عليه» ونقله حديث عمار دليل على انه بصدد نفى الحرمة لا إثبات وجوب التقية هناك، ولذا كان فعل أبوي عمار أيضا جائزا كما يظهر من قصتهم.

5- ما رواه محمد بن مسعود العياشي في تفسيره عن ابى بكر الحضرمي عن ابى عبد اللّه عليه السّلام في حديث انه قيل له: مد الرقاب أحب إليك أم البراءة‌ من على عليه السّلام فقال الرخصة أحب الى، أما سمعت قول اللّه عز وجل في عمار «إِلّٰا مَنْ أُكْرِهَ وقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمٰانِ» «46» وسيأتي ان دلالته على رجحان الرخصة معارض بغيره وطريق الجمع بينهما.

6- ما رواه العياشي أيضا عن عبد اللّه بن عجلان عن ابى عبد اللّه عليه السّلام قال سئلته وقلت له: ان الضحاك قد ظهر بالكوفة ويوشك ان ندعى إلى البراءة فكيف نصنع قال فابرء منه، قلت أيهما أحب إليك؟ قال: ان تمضوا على ما مضى عليه عمار بن ياسر أخذ بمكة فقالوا له: ابرء من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلم فبرء منه فانزل اللّه عز وجل عذره «إِلّٰا مَنْ أُكْرِهَ وقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمٰانِ» «47» وظاهره أيضا وان كان الوجوب بادي الأمر، الا ان الأمر هنا في مورد توهم الخطر للروايات الدالة بظاهرها على المنع عن البراءة، فلا يدل على الوجوب، ويؤيده استشهاده بقضية عمار الذي قتل أبواه ولم يظهرا كلمة الكفر ولم يقدح في أمرهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلم فهو على كل حال دليل على مجرد الرخصة والجواز لا غير.

7- ما رواه الطبرسي في الاحتجاج عن أمير المؤمنين عليه السّلام في احتجاجه على بعض اليونان قال :

«و آمرك ان تستعمل التقية في دينك فان اللّه عز وجل يقول «لٰا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكٰافِرِينَ أَوْلِيٰاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ومَنْ يَفْعَلْ ذٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّٰهِ فِي شَيْ‌ءٍ إِلّٰا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقٰاةً» وقد أذنت لكم في تفضيل أعدائنا إن ألجأك الخوف اليه. وفي إظهار البراءة ان حملك الوجل عليه وفي ترك الصلوات المكتوبات ان خشيت على حشاشة نفسك الآفات والعاهات، فان تفضيلك أعدائنا عند خوفك لا ينفعهم ولا يضرنا، وان إظهارك براءتك منا عند تقيتك لا يقدح فينا ولا ينقصنا، ولئن تبرء منا ساعة بلسانك وأنت موال لنا بجنانك لتبقى على نفسك روحها التي بها قوامها ومالها الذي به قيامها، وجاهها الذي به تمسكها، وتصون من عرف بذلك أوليائنا وإخواننا فإن ذلك أفضل من ان تتعرض للهلاك، وتنقطع به عن عمل في الدين، وصلاح إخوانك المؤمنين، وإياك ثمَّ إياك ان تترك التقية التي أمرتك بها، فإنك شائط بدمك ودماء إخوانك، معرض لنعمتك ونعمتهم للزوال، مذل لهم في أيدي أعداء دين اللّه، وقد أمرك اللّه بإعزازهم، فإنك إن خالفت وصيتي كان ضررك على إخوانك ونفسك أشد من ضرر الناصب لنا الكافر بنا «48» قال الفيروزآبادي في القاموس «و يونان بالضم قرية ببعلبك، واخرى بين برذعة وييلقان ».

ولعل هذا الحديث انما صدر منه عليه السّلام ولم يخلص الشامات وضواحيها عن الشرك وسيطرة الروم بعد، فإن التقية بترك الصلاة (المراد به ترك صلاة المختار، لا المضطر الذي يمكن أداها بمجرد الإيماء والإشارة) لا يكون بين المسلمين بل يكون بين الكفار قطعا.

ثمَّ ان ظاهر قوله «فان ذلك أفضل من ان تتعرض للهلاك إلخ» وان كان ظاهرا في أفضلية التقية من تركها في أمثال المقام بادي الأمر، الا ان قوله بعد ذلك في ذيل الحديث «إياك ثمَّ إياك إلخ» وقوله «كان ضررك على إخوانك ونفسك أشد من ضرر الناصب لنا الكافر بنا» دليل واضح على وجوب التقية هنا وان «أفعل التفضيل» هنا للتعين مثل واولى الأرحام بعضهم اولى ببعض في كتاب اللّه، ومثل قوله في روايات يوم الشك «أحب من ان يضرب عنقي».

فعلى هذا تتم دلالة الرواية على الوجوب، في موارد البراءة وإظهار كلمة الكفر وغيرهما، ولكن إرسالها يسقطها عن الحجية فان الطبرسي (رحمه اللّه) نقلها عن أمير المؤمنين عليه السلام بدون ذكر السند، ونقلها في تفسير العسكري لا يجعلها حجة بعد الكلام المعروف حول التفسير المزبور (فتأمل).

ولو تمت حجيتها سندا مع وضوحها دلالة أشكل العمل بها، بعد معارضتها بالروايات الكثيرة المستفيضة أو البالغة حد التواتر على جواز ترك التقية هنا، فلا بد من حملها على التفصيل الاتى أو على بعض الظروف الخاصة.

هذا وقد يظهر من غير واحد من احاديث الباب التفصيل بين «السب» والبراءة بالجواز في الأول والمنع عن الثاني وإليك بعض ما ورد في الباب.

1- ما رواه الشيخ في «مجالسه» عن محمد بن ميمون عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عليهم السلام قال قال: أمير المؤمنين عليه السّلام ستدعون إلى سبي فسبوني وتدعون الى البراءة منى فمدوا الرقاب فإني على‌ الفطرة «49».

وهذا صريح في التفصيل بين السب والبراءة بجواز التقية في الأول والمنع عن الثاني.

2- ما رواه الشيخ عن على بن على أخي دعبل الخزاعي عن على بن موسى الرضا عن أبيه عن آبائه عن على بن ابى طالب عليهم السلام انه قال: انكم ستعرضون على سبي فإن خفتم على أنفسكم فسبوني، الا وانكم ستعرضون على البراءة منى فلا تفعلوا فإني على الفطرة «50».

والحديث مثل سابقة في الدلالة على التفصيل وظاهره حرمة البراءة.

3- ما رواه الرضى قدس سره في «نهج البلاغة» عن أمير المؤمنين- عليه السّلام انه قال: اما انه سيظهر عليكم بعدي رجل رحب البلعوم، مندحق البطن، يأكل ما يجد ويطلب ما لا يجد، فاقتلوه ولن تقتلوه، الا وانه سيأمركم بسبي والبراءة مني فأما السب فسبوني فإنه لي زكاة ولكم نجاة، واما البراءة فلا تبرأوا مني فإني ولدت على الفطرة، وسبقت بالايمان والهجرة «51».

ويعارض هذه الروايات ما مر في رواية مسعدة بن صدقه (2/ 29)، ولكن الإنصاف انه يمكن حمل هذه الروايات على ذاك الزمان العنود وفي تلك الافاق الكاسفة نورها الظاهرة غرورها، التي كان من الواجب كفاية- على الأقل- إظهار كلمة الحق والافتداء بالأنفس لئلا تنمحي آثار‌ النبوة، لاجتماع أعداء أهل البيت على محو آثار الوصي عليه السّلام بل النبي- صلّى اللّه عليه وآله وسلم إذا قدروا عليه، فأجيز لهم بارتكاب الدرجات الخفيفة من المنكر تقية- وهي السب- ونهوا عن الشديدة وهي البراءة، ولو ابتلينا- لا سمح اللّه- بأزمنة في مستقبل الأيام وظروف تشبه زمن أمير المؤمنين عليه السّلام وما أرادوا من محو آثاره عليه السّلام بعد شهادته كان القول بوجوب مد الأعناق (بعد ضرب أعناق الأعداء ونشر كلمة الحق وابطال الباطل) قويا فتدبر.

فهذا طريق الجمع بين روايات الباب التي تدل أكثرها على الجواز وبعضها على الحرمة في خصوص البراءة، ولا يمكن تخصيصها في خصوص مورد البراءة، لصراحة بعضها في جوازها بالخصوص، أو جواز ما لا يتفاوت من البراءة فراجع.

واما الكلام في المقام الثاني أعني ترجيح احد الجانبين، ترك التقية في إظهار كلمة الكفر، وفعلها ، فالذي ينبغي ان يقال فيه ان:

الذي يظهر من رواية الحسن التي مرت سابقا الحاكية لفعل رجلين في عصر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلم الذي أخذهما مسيلمة الكذاب ان الراجح ترك التقية وان التارك لها صدع بالحق فهيئنا له، وان الأخذ بالتقية أخذ برخصة اللّه فحسب.

وكذلك الروايات الثلث الناهية عن البراءة، الإمرة بافتداء النفوس واستقبال المنية في هذا السبيل، فإنها أيضا تدل على تقديم ترك التقية إذا جاوز الأمر عن السب وانتهى الى البراءة، وفي حكمها كلمات الكفر فتدبر.

هذا مضافا الى عمل جمع من بطانة أهل البيت وخواص أصحاب على عليه السّلام وغيره من الأئمة الطاهرين (عليهم صلوات اللّه وسلامه)، مثل «حجر بن عدى» وستة أو عشرة أشخاص أخر من أصحاب على عليه السّلام الذين قتلوا في «مرج عذراء» «52» ولم يتبرأو أو مثل «ميثم التمار» و«رشيد البحري» و«عبد اللّه بن عفيف الأزدي، وعبد اللّه بن يقطر»، و«سعيد بن جبير»، وجمع ممن قتلوا دون الحسين عليه السلام.

وترجمة كثير من هؤلاء نقلها الموافق والمخالف.

فقد قال «الذهبي» في ترجمة «حجر» انه كان يكذب زياد بن أبيه على المنبر وحصبه «53» مرة فكتب فيه الى معاوية. فسيره زياد إلى معاوية وجاء الشهود شهدوا عند معاوية عليه وكان معه عشرون رجلا فهم معاوية بقتلهم واخرجوا الى «عذراء» وقيل ان رسول معاوية جاء إليهم لما وصلوا الى عذراء يعرض عليهم التوبة والبراءة من على عليه السّلام فأبى عن ذلك عشرة وتبرء عشرة. فقتلوا» «54» وفي محكي «إعلام الورى» قال: دخل معاوية على عائشة فقالت ما حملك على قتل أهل عذراء، حجر وأصحابه، فقال يا أم المؤمنين انى رأيت قتلهم صلاحا للأمة، وبقائهم فسادا للأمة، فقالت سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلم‌ قال سيقتل بعذراء أناس يغضب اللّه لهم وأهل السماء! وقد ارخ قتلهم بسنة «51» أو (53) وقد تضمن «تاريخ ابن الأثير»، وكتاب «ابى الفرج الكبير» ما لا مزيد عليه من ترجمته وكيفية قتله. «55»

وعلى كل حال، هؤلاء أو كثير منهم كانوا من حملة علوم الأئمة أو رسلا منهم الى قومهم، فهم على كل حال من بطانة أهل البيت عليه السّلام فهل كانوا جاهلين بمواقف احكام الشرع ووظائفهم تجاه الحوادث الواقعة فلو كان ترك التقية مرجوحا أو مساويا لفعلها كيف آثروها على غيرها.

ويظهر من غير واحد من الأحاديث الواردة في ترجمة «ميثم التمار» و«عمرو بن الحمق الخزاعي» وأمثالهما ان أمير المؤمنين عليا عليه السّلام أخبرهم بقتلهم في سبيله واثنى عليهم وبكى على بعضهم، وفي كل ذلك تحريض وتشويق لغيرهم على فعلهم، وهي ترك التقية ولو لم يكن راجحا لما صح ذلك.

بل يظهر من غير واحد من الروايات ثناء سائر الأئمة عليه السّلام عليهم بما يظهر منه إمضاء عملهم إمضاء باتا.

وقد ذكر في ترجمة عمرو بن الحمق الخزاعي ما قاله الحسين عليه السّلام في كتابه إلى معاوية يجيبه عن كتابه إليه جوابا يظهر فيه سيئ أفعاله وشرور اعماله بأوضح البيان وأشد الحجة، فقال في حق عمرو بن الحمق وحجر بن عدى وأصحابه:

« الست القاتل حجر بن عدى أخا كندة والمصلين العابدين الذين كانوا ينكرون الظلم ويستعظمون البدع ولا يخافون في اللّه لومة لائم ثمَّ قتلتهم ظلما وعدوانا من بعد ما كنت أعطيتهم الايمان المغلظة والمواثيق المؤكدة لا تأخذهم بحدث كان بينك وبينهم.

أو لست قاتل عمرو بن الحمق صاحب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله العبد الصالح الذي أبلته العبادة فنحل جسمه واصفر لونه بعد ما آمنته وأعطيته من عهود اللّه ومواثيقه ما لو أعطيته طائرا لنزل إليك من رأس الجبل ثمَّ قتلته جرئة على ربك واستخفافا بذلك العهد. «56»

بل يظهر مما روته عائشة في حق حجر وأصحابه ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلم أيضا أسف عليهم وغضب لهم وعظمهم.

كل ذلك دليل على رجحان فعلهم ورضا الرسول صلى اللّه عليه- وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام بعملهم، وكيف يصح ذلك مع كونه مرجوحا؟! ولكن قد عرفت ان الظاهر من غير واحد من روايات الباب رجحان الأخذ بالرخصة، والتقية في هذه الموارد، مثل الرواية 4 من الباب 29 «57» الحاكية عن فعل الرجلين أخذا بالكوفة، ان الذي برئ رجل فقيه في دينه، والرواية 2 من الباب 29 ورواية العياشي (12 من 29) ورواية أخرى عنه (13 من 29) ورواية الطبرسي في الاحتجاج (11 من 29) الى غير ذلك مما قد يعثر عليه المتتبع.

طريق الجمع بين احاديث هذا الباب :

والانصاف ان أقرب طريق للجمع بينهما هو ما أشرنا إليه من التفصيل بحسب الازمان والأشخاص، فالذي هو علم للأمة، ومقياس للدين، وبه يقتدى الناس ويعرف قربه من أهل البيت عليهم السلام يرجح له استقبال الحتوف وتحمل المضار البالغة حد الشهادة في سبيل اللّه، بل قد يجب له إذا كان ترك ذلك ضررا على الدين ومفسدة للحق وتزلزلا في أركان الإسلام.

ففي مثل عصر بنى أمية، ولا سيما البرهة المظلمة التي كانت في زمن معاوية بعد شهادة أمير المؤمنين عليه السلام وما شاكله، الذي أراد المشركون وبقية الأحزاب الجاهلية، وأغصان الشجرة الخبيثة الملعونة في القرآن، ليطفؤا نور اللّه بأفواههم ويأبى اللّه الا ان يتم نوره، وجهدوا في إخفاء فضل أوصياء رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلم لينقلب الناس على أعقابهم خاسرين.

ففي مثل هذه الأعصار لم يكن بدا من رجال يقومون بالحق ويتركون التقية ويظهرون آيات اللّه وبيناته، ويصكون على جباه الباطل والظلم والطغيان.

ولو لا مجاهدة هؤلاء بأموالهم وأنفسهم أو شك ان لا يبقى من الإسلام إلا اسمه ولا من القرآن وصاحبه الذي لا يفارقه إلا رسمه وذكره، فكانوا هم الحلقة الواسطة بين الجيل الماضي والجيل الاتى من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان

ولو لا جهاد أمثال حجر، وميثم، وعمرو بن الحمق، وعبد اللّه بن غفيف‌ وعبد اللّه بن يقطر، وسعيد بن جبير، لاندرست آثار النبوة وآثار الأئمة الطاهرين من أهل بيته (عليهم الاف السلام والتحية)، لغلبته الباطل على اجواء الحكومة الإسلامية وركوب رقاب الناس بالظلم والعدوان، وسيطرته على مراكز الدعوة- والناس على دين ملوكهم- قال المحقق شيخنا العلامة الأنصاري ما لفظه: «و المكروه منها (من التقية) ما كان تركها وتحمل الضرر اولى من فعله كما ذكر ذلك بعضهم في إظهار كلمة الكفر وان الاولى تركها ممن يقتدى به الناس إعلاء لكلمة الإسلام» (انتهى).

ولا يختص بتلك الأعصار بل كل زمان كان الأمر فيه مثل عصر، الأمويين وأشباههم كان الحكم فيه هو الحكم فيه من دون اى تفاوت.

واما في الأعصار المتأخرة كعصر الصادقين والرضا عليهم السلام وما ضاهاه الذي لم يكن الأمر بتلك المثابة كان الاولى فيه ارتكاب التقية كما يظهر من كثير من احاديث الباب (إلا في موارد تستثنى).

فاذن لا يبقى تعارض بين الأحاديث المروية عن أمير المؤمنين عليه السّلام الإمرة بترك التقية في العصر المتصل بزمانه الذي ظهر على الناس رجل رحب البلعوم، الى أخر ما ذكره من علائمه وآثاره كان الراجح أو الواجب ترك التقية، واليه يشير ما روى عنه عليه السّلام.

اما في مثل أعصار الصادقين والأعصار المتأخرة عنها كانت الرخصة أحب إليهم لعدم وجود خطر من هذه الناحية على الإسلام والمسلمين.

ولكن لا ينافي ذلك عدم جواز ذلك في تلك الأعصار أيضا على بعض الأشخاص لخصوصيات فيهم.

واما في زماننا هذا يتفاوت الحال بالنسبة إلى الأشخاص والظروف والحالات وتجاه ما يحدث من الحوادث والهنات، فقد يجب أو يرجح ان يستن بسنة أصحاب أمير المؤمنين وخواص بطانته عليه السّلام.

واخرى يجب أو يرجح الاقتداء بأصحاب الصادقين عليهما السلام ومن المأسوف عليه انى لم أجد أكابر المحققين من أصحابنا تعرضوا لهذه المسئلة تعرضا واسعا، ولم يبينوها تبينا يؤدى حقها، بل مروا عليها عاجلا، راعيا جانب الاختصار، مع انها من الأهمية بمكان لا ينكر!.

نسأل المولى سبحانه التوفيق لأداء ما هو الواجب علينا في زماننا هذا، وان يكشف لنا النقاب عن وجه معضلاتها: ويهدينا سبل الحق، وينتصف لنا من الاعداء ويظهرنا عليهم ويشفي صدور قوم مؤمنين (آمين يا رب العالمين).

بعض ما تستحب فيها التقية وضابطتها :

بقي هنا شي‌ء وهو انك قد عرفت انه من المظان التي يستحب فيها التقية، موارد العشرة مع العامة بالمعروف وقد عرفت دليله، وان كثيرا من الروايات الواردة في الباب 26، من أبواب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر من الجلد 11 من الوسائل لا سيما الرواية والرواية 2 و4 من هذا الباب، والرواية 16 من 24، والروايات الكثيرة الواردة في أبواب الجماعة والدخول في جماعتهم تدل على ذلك.

ولكن ذكر شيخنا العلامة الأنصاري في كلام له: «و اما المستحب من التقية فالظاهر وجوب الاقتصار فيه على مورد النص وقد ورد النص‌ بالحث على المعاشرة مع العامة وعيادة مرضاهم وتشييع جنائزهم والصلاة في مساجدهم والأذان لهم فلا يجوز التعدي عن ذلك الى ما لم يرد النص من الأفعال المخالفة للحق كذم بعض رؤساء الشيعة للتحبب إليهم» انتهى كلامه.

ويرد عليه انه لا خصوصية في هذه الأمور بعد التعليلات الواردة فيها لو ما يشبه التعليل، وبعد كونها داخلة في قاعدة «الأهم والمهم، والأخذ بالأهم من المصالح والمفاسد» كما لا يخفى.

الى هنا ينتهى كلامنا في حكم التقية بحسب التكليف فلنشرع في بيان حكمها الوضعي وصحة الأعمال المأتي بها تقية أو فسادها .

المقام الثاني حكم العبادات والأعمال الصادرة تقية :

هل يجوز الاكتفاء بالأعمال الصادرة على خلاف الواقع تقية أم لا؟

وقبل كل شي‌ء لا بد من بيان الأصل الاولى في المسئلة كي يرجع اليه عند إعواز الدليل على احد الطرفين فنقول ومن اللّه التوفيق:

الظاهر ان الأصل هنا هو الفساد إذا كان أدلة الجزئية والشرطية في الجزء أو الشرط الذي أخل به تقية مطلقة.

توضيح ذلك: إذا عمل بالتقية في الأحكام كالصلاة متكتفا (اى قابضا لليد) أو الوضوء مع المسح على الخفين، أو في الموضوعات كالإفطار في يوم الشك خوفا من سلطان جائر حكم بأنه يوم عيد مع عدم ثبوته أو اليقين بأنه من رمضان، فلا شك في انه أخل ببعض الاجزاء أو الشرائط أو بعض الموانع المعتبرة عدمها في صلاة المختار أو وضوئه أو صيامه.

فلو كان دليل وجوب المسح على البشرة مثلا عاما شاملا لحالتي الاختيار والاضطرار، بحيث لم يختص وجوبه بالأول فقط، كان مقتضى الدليل الحكم بفساد مثل هذا الوضوء وكذا الصلاة التي تؤتى معه.

فهو وان كان معذورا من جهة التقية في ترك الوضوء الواجب عليه الا ان معذوريته تكليفا لا تمنع عن فساد عمله، ولزوم الإعادة في الوقت أو القضاء خارجه، وضعا.

الا ان يدل دليل على اجزاء هذا العمل وصحته، بحيث كان حاكما على‌ أدلة الجزئية والشرطية والمانعية.

فالأصل الاولى في جميع هذه الاعمال هو الفساد ما لم يثبت خلافه.

وهل يجوز التمسك بحديث الرفع لإثبات أصل ثانوي على الصحة لأن المقام داخل في قوله صلّى اللّه عليه وآله وسلم «و ما أكرهوا عليه وما اضطروا اليه» قد يقال انه كذلك وانه بناء على شمول الحديث للأحكام الوضعية ترتفع الجزئية وما شاكلها لصدق الاضطرار على موارد التقية بلا اشكال، بل صدق الإكراه عليها أيضا أحيانا.

ولكن الإنصاف انه محل للإيراد صغرى وكبرى:

اما الصغرى فلان عنوان الإكراه غير صادق هنا مطلقا، لأنه لا بد فيه من توعيد وتخويف غير موجود في موارد التقية عادتا، لأن المأخوذ في مفهومها هو الاختفاء، وهو لا يساعد الإكراه الذي يخالط العلم بالشي‌ء.

واما الاضطرار فهو مختص بالتقية الصادرة خوفا لا في أمثال التقية التحبيبى، أو مثل تقية إبراهيم مقدمة لكسر الأصنام وإيقاظ عبدتها عن نومتهم، بما هو مذكور في كتاب اللّه العزيز، وأمثالها. فهذا الدليل لو تمَّ لكان أخص من المدعى.

واما الكبرى فهي متوقفة على شمول حديث الرفع للآثار الوضعية وعدم اختصاصه برفع المؤاخذة، مضافا الى ان الجزئية والشرطية- كما ذكر في محله- ليستا من الأحكام الوضعية وكذا المانعية، بل هي انتزاعات عقلية عن الأمر بالجزء والشرط وترك المانع فتدبر.

والعجب من العلامة الأنصاري قدس سره انه ذكر في رسالته هنا ان «الانصاف ظهور الرواية في رفع المؤاخذة» فأسقط دلالتها على المطلوب.

ولكن قال في «الفرائد» بعد ذكر الاحتمالات الثلث فيها، ان رفع المؤاخذة أظهر، نعم يظهر من بعض الاخبار الصحيحة عدم اختصاص الموضوع عن الأمة بخصوص المؤاخذة ثمَّ ذكر رواية المحاسن المعروفة، في الإكراه على الخلف بالطلاق والعتاق وصدقة ما يملك فجعلها شاهدة على عدم اختصاص الحديث برفع خصوص المؤاخذة.

اللهم الا ان يقال انه قد رجع عن عقيدته في الرسالة، والأمر سهل.

هذا ولكن ذكرنا في محله من أصل البراءة ان الرفع هنا مقابل الوضع وهو وضع الفعل على عاتق المكلف فكان الفعل الواجب أو ترك الحرام وضع على المكلف في عالم الاعتبار، وله ثقل، فالموضوع هو نفس الافعال أو التروك، لا التكليف من الوجوب أو الحرمة، بل التكليف هو نفس الوضع لا الموضوع، واما الموضوع عليه فهو المكلف (تدبر جيدا).

فمتعلق الرفع أيضا الأفعال الخارجية التي لها ثقل في عالم الاعتبار، فهو كناية عن نفى التكاليف كما ان الوضع كناية عن التكليف. والحاصل ان نائب الفاعل في رفع أو وضع عنه (لا وضع عليه الذي هو بمعنى التكليف) هو نفس الافعال، فرفعها كناية عن عدم التكليف بها، فعلى هذا يمكن ان يقال:

ان المسح على البشرة إذا اضطر الى تركه للتقية، بنفسها مرفوعة عن عاتق المكلف فليس مأمورا به وكذا أشباهه فنفس الاجزاء والشرائط وترك الموانع داخله تحت حديث الرفع، ترتفع عن المكلف عند اضطراره الى تركها، فلا مانع من شمول الحديث بنفسها لها ويكون حديث المحاسن‌ مؤيدا له. وتتمة الكلام في محله.

ولكن قد عرفت ان حديث الرفع لو تمَّ لم يشمل إلا موارد الاضطرار من التقية لا جميع أقسامها على اختلافها.

فتلخص مما ذكر ان شمول حديث الرفع لجميع موارد المسئلة مشكل.

هذا تمام الكلام في تأسيس الأصل في المسئلة وقد تحصل منه ان الأصل الاولى هو الفساد الا ان يدل حديث الرفع أو دليل خاص من عمومات التقية وغيرها على الصحة.

هل هناك عموم أو إطلاق يدل على الاجزاء؟

لا ينبغي الشك في انه إذا أمر الشارع المقدس بإتيان عبادة على وفق التقية انه يوجب الاجزاء، كما إذا قال امسح على الخف عند التقية، أو صل متكتفا، أو شبه ذلك.

وفي الحقيقة هذا داخل في المأمور به بالأمر الاضطراري، نظير الصلاة مع الطهارة المائية، وقد حقق في محله ان الأوامر الاضطرارية تدل على الاجزاء بلا اشكال ولا يجب اعادتها بعدها.

نعم، الكلام هنا فيما إذا كان التقية في بعض الوقت أو في تمام الوقت كالكلام هناك إذا كان الاضطرار (كفقدان الماء) في خصوص الوقت أو تمامه.

فان كان هناك إطلاق يدل على جواز العمل بالتقية لو اضطر إليها، ولو في بعض الوقت، اجزئه ولا تجب الإعادة في الوقت إذا ارتفع سبب التقية، واما لو لم يكن هناك عموم أو إطلاق كذلك، لم يجز الاكتفاء به بل لا بدان يكون العذر شاملا ومستوعبا لجميع الوقت، كما ذكر مثل ذلك كله في التيمم وسائر الابدال الاضطرارية.

وعليه يبتني جواز البدار في أول الوقت وعدمه؛ إذا كان مصاحبا للعذر في أوله مع رجاء زواله في آخره.

هذا كله إذا ورد الدليل على جواز العمل بالتقية في العبادة بعنوانها العام، أو في خصوص عبادة معينة كالصلاة مثلا، فإنها- على كل حال- أخص من أدلة تلك العبادة أو كالأخص.

واما إذا ورد الأمر بها بعنوان غير عنوان العبادة بل بعنوان عام، كقوله: «التقية في كل ما يضطر إليه الإنسان» فإن ذلك لا يدل على الاجزاء، ولا يدخل تحت أدلة الأوامر الاضطرارية، فإن غاية ما يستفاد من ذلك، جواز العمل على وفق التقية ولو استوجب ارتكاب ما هو محرم بالذات.

فهو كالدليل الدال على «ان كل شي‌ء حرمه اللّه فقد أحله لمن اضطر- إليه» فإنه لا يدل على أزيد من الحكم التكليفي وجواز العمل عند الضرورة، ولا دلالة له على الحكم الوضعي من حيث الصحة والفساد.

وللمحقق الأجل شيخنا العلامة الأنصاري (قدس سره) في المقام كلام لا يخلو عن نظر:

قال في رسالته المعمولة في المسئلة في ملحقات مكاسبه: «اللازم ملاحظة أدلة الاجزاء أو الشرائط المتعذرة لأجل التقية، فإن اقتضت مدخليتها‌ مطلقا فاللازم الحكم بسقوط الأمر عن المكلف حين تعذرها، ولو في تمام الوقت، كما لو تعذرت الصلاة في تمام الوقت الا مع الوضوء بالنبيذ- الى ان قال- فهو كفاقد الطهورين.

وان اقتضت مدخليتها في العبادة بشرط التمكن منها دخلت في مسئلة اولى الاعذار في انه إذا استوعب العذر الوقت، لم يسقط الأمر رأسا وان كان في جزء من الوقت، كان داخلا في مسئلة جواز البدار لهم وعدمه». (هذا محصل كلامه).

والحق ان يقال: انه لا بد من ملاحظة أدلة جواز التقية فإن كانت ناظرة إلى العبادات كان حاكما عليها ولا يلاحظ النسبة بينهما كما عرفت، وكان كالأوامر الاضطرارية الواردة في اجزاء العبادات وشرائطها.

وان لم تكن كذلك بل كانت دالة على جواز التقية مطلقا بعنوان الاضطرار فلا دلالة لها على الاجزاء، نعم لو كان في أدلة الاجزاء والشرائط قصورا بحيث كانت مختصة بحال الاختيار فقط كان العمل مجزيا لسقوط الجزء والشرط حينئذ واما لو كانت مطلقة- كما هو الغالب فيها- فلا وجه للاجزاء وإذ قد تبين ذلك فلنرجع إلى إطلاقات أدلة التقية وملاحظة حالها وانها من اى القسمين، وكذلك الأدلة الخاصة الواردة فيها وملاحظة حدودها وخصوصياتها.

فنقول: يدل على الاجزاء روايات:

1- ما رواه الكليني (قدس سره) في الكافي عن ابى عمر الأعجمي عن ابى عبد اللّه عليه السّلام في حديث: والتقية في كل شي‌ء إلا في النبيذ والمسح‌ على الخفين (و قد نقلناه سابقا عن الوسائل الحديث 3 من الباب 25 من أبواب الأمر بالمعروف).

وهو دليل عام ناظر الى العبادات أيضا بقرينة استثناء المسح على الخفين فإنه إخراج ما لولاه لدخل، فهو شاهد على كون العام بعمومه ناظرا إلى الأعمال العبادية التي تصدر عن تقية ولكن في سند الحديث ضعف ظاهر لجهالة حال ابى عمر الأعجمي بل لم يعرف اسمه وكأنه لا رواية للرجل إلا في هذا الباب فقط.

2- ما رواه في الكافي أيضا بسند صحيح عن زرارة قال: قلت له في مسح الخفين تقية؟ فقال: ثلاثة لا اتقى فيهن أحدا شرب المسكر ومسح الخفين ومتعة الحج (الحديث 5 من الباب 25).

فان مفهومها جواز التقية في غيرها من العبادات، وحيث ان اثنين منها من العبادات تدل على جريان التقية في غيرها مطلقا حتى العبادات فتكون ناظرة إليها أيضا فيثبت المقصود وهو تحصيل عموم يدل الأمر بها حتى في العبادات يستكشف منه الاجزاء.

وقد مر في باب التقية المحرمة معنى استثناء هذه الثلاثة ومعنى استنباط زرارة من اختصاصه الثلاثة به عليه السّلام دون غيره، وانه في غير محله، ومخالف لغيره من الأحاديث فراجع هناك.

3- ما عن الخصال بإسناده عن على عليه السّلام في حديث الأربعمائة قال: ليس في شرب المسكر والمسح على الخفين تقية «58».

ودلالته كسابقة من حيث المفهوم وغيره .

4- ما روى في الجلد 8 من الوسائل من أبواب أقسام الحج عن درست الواسطي عن محمد بن فضل الهاشمي قال دخلت مع إخواني على ابى عبد اللّه عليه السّلام فقلنا انا نريد الحج وبعضنا صرورة فقال: عليك بالتمتع ثمَّ قال انا لا نتقي أحدا بالتمتع بالعمرة إلى الحج واجتناب المسكر والمسح على الخفين معناه لا نمسح «59».

وهو أيضا دليل أو مشعر بجواز التقية في غير هذه الثلث.

5- ما رواه في الوسائل في المجلد 5 في الباب 56 من أبواب صلاة الجماعة عن سماعة قال: سألته عن رجل كان يصلى فخرج الامام وقد صلى الرجل ركعة من صلاة فريضة قال: ان كان اماما عدلا فليصل اخرى وينصرف ويجعلها تطوعا وليدخل مع الإمام في صلوته كما هو، وان لم يكن امام عدل فليبن على صلاته كما هو ويصلى ركعة أخرى ويجلس قدر ما يقول اشهد ان لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له واشهد ان محمدا عبده ورسوله ثمَّ ليتم صلوته معه على قدر ما استطاع فإن التقية واسعة وليس شي‌ء من التقية الا وصاحبها مأجور عليها ان شاء اللّه «60».

وهذه من أقوى الروايات دلالة على جواز التقية في العبادات و- الاكتفاء بها كما في الأوامر الاضطرارية مثل التيمم ونحوه.

هذه الروايات الثلث يمكن استفادة حكم العبادات عنها بالخصوص واما ما يدل على عنوان عام يدخل العبادات تحته بعمومها وإطلاقها فهو أيضا‌ كثير منها :

6- ما رواه أيضا في الكافي عن زرارة عن زرارة عن ابى جعفر عليه السلام قال: التقية في كل ضرورة وصاحبها اعلم بها حين تنزل به (الحديث 1 من الباب 25).

7- ما رواه أيضا في الكافي عن زرارة ومحمد بن مسلم وغيرهما قالوا سمعنا أبا جعفر عليه السّلام يقول: التقية في كل شي‌ء يضطر اليه ابن آدم فقد أحله اللّه له (الحديث 2 من الباب 25).

8- ما رواه في المحاسن عن عمر بن يحيى بن سالم (أو معمر بن يحيى) عن ابى جعفر عليه السّلام قال التقية في كل ضرورة (الحديث 8 من الباب 25).

9- ما رواه عن مسعدة بن صدقة عن ابى عبد اللّه عليه السّلام في حديث قال: وكل شي‌ء يعمله المؤمن بينهم لمكان التقية مما لا يؤدى الى الفساد في الدين فإنه جائز (الحديث 6 من 25).

دل هذه الروايات الأربع على ان التقية تجري في كل ما يضطر إليه الإنسان، وظاهرها وان كان الجواز من حيث الحكم التكليفي والجواز في مقابل الحرمة الموجودة في الشي‌ء بعنوانه الاولى، الا ان عمومها يدل على جريانها في العبادات أيضا، لا سيما ان التقية فيها من أظهر مصاديقها ومن أشدها وأكثرها ابتلاء، والجواز التكليفي بإتيان العبادة على وجه التقية لدفع ما يترتب على تركه من الضرر وان كان لا ينافي وجوب إعادتها في الوقت أو خارجه إذا ارتفع العذر، ولكن هذا أمر يحتاج الى البيان لغالب الناس والتوجيه اليه، وسكوت هذه العمومات وسائر أدلة وجوب التقية‌ أو جوازها في مواردها، عن الإشارة إلى وجوب القضاء أو الإعادة مما يوجب الاطمئنان بجواز الاكتفاء بما يؤتى تقية، ولو لم تكن العمومات السابقة.

والحاصل ان هذه الروايات المطلقة والروايات السابقة- بعد معاضدة بعضها ببعض- تؤسس لنا أصلا عاما وهو جواز الاكتفاء بالعبادات التي يؤتى بها تقية في مواردها، كما في الأوامر الواقعية الاضطرارية.

وهناك روايات أخر واردة في أبواب الصلاة أو غيرها تدل أو تشير إلى صحة العمل على وجه التقية في موردها بالخصوص.

وفي مجموع هذه غنى وكفاية على ما نحن بصدده من صحة العبادات في حال التقية من غير حاجة الى الإعادة والقضاء.

وهناك مسئلة مهمة تكون كالتتمة لهذه المسئلة نفردها بالبحث لمزيد الاهتمام بها وهي حال الصلاة التي يؤتى بها تحبيبا وتوسلا الى حفظ الوحدة مع المخالفين في المذهب وحكم الاكتفاء بها.

حكم الصلاة التي يؤتى خلف المخالف والمعاند في المذهب تحبيبا وحفظا للوحدة :

لا اشكال ولا كلام في جواز الصلاة خلف المخالف في المذهب عند الخوف وجواز الاعتداد بها، وهل يجب فيها ملاحظة عدم المندوحة وعدم إمكان الصلاة في زمان أو مكان آخر، فيه كلام سيأتي ان شاء اللّه في تنبيهات التقية.

إنما الكلام في انه هل يجوز الصلاة خلفهم عند عدم الخوف أيضا بل من باب حسن العشرة معهم، والتحبب إليهم، كما هو كذلك في عصرنا هذا غالبا، لا سيما في مواسم الحج فان عدم الحضور في جماعتهم ليس مما يخاف منه على نفس أو مال أو عرض، ولكن الدخول معهم في صلوتهم أوفق بالاخوة الإسلامية وأقرب الى حسن العشرة.

ظاهر طائفة كثيرة من الاخبار رجحان ذلك والندب اليه مؤكدا، بل لعلها متواترة في هذا المضمون.

وهل ينوي الاقتداء بها أو ينوي منفردا ويقرأ في نفسه مهما أمكن‌ ويأتي بما يأتي به المنفرد ولكن يأتي بالأفعال معهم للغايات المذكورة، ثمَّ لو قلنا بأنه ينوي الاقتداء فهل يعتد بتلك الصلاة أو يصلى صلاة اخرى قبلها أو بعدها على وفق مذهبه.

ولو قلنا انه لا ينوي الاقتداء بل يصلى صلاة المنفرد فهل يعتد بها إذا أخل ببعض الاجزاء أو الشرائط حفظا لظاهر الجماعة أو يختص الاعتداد بها بما كان حافظا لجميع الاجزاء والشرائط؟

لا بد لنا قبل كل شي‌ء من ذكر الأخبار الواردة في المسئلة المتفرقة في أبواب الجماعة، ثمَّ استكشاف الحق في جميع ذلك منها.

وهي روايات:

1- ما رواه الصدوق في الفقيه عن زيد الشحام عن الصادق عليه السّلام قال يا زيد خالقوا الناس بأخلاقهم صلوا في مساجدهم وعودوا مرضاهم واشهدوا جنائزهم وان استطعتم ان تكونوا الأئمة والمؤذنين فافعلوا، فإنكم إذا فعلتم ذلك قالوا هؤلاء الجعفرية، رحم اللّه جعفرا ما كان أحسن ما يؤدب أصحابه وإذا تركتم ذلك قالوا هؤلاء الجعفرية فعل اللّه بجعفر، ما كان اسوء ما يؤدب أصحابه «61».

لا شك ان المراد بالصلاة في مساجدهم الصلاة معهم وبجماعتهم لا الصلاة منفردا في المساجد التي يجتمعون فيها، واما دلالتها على جواز الاعتداد بتلك الصلاة فليس إلا بالإطلاق المقامى، ولكن يمكن عدم كونها بصدد البيان من هذه الجهة.

2- ما رواه الصدوق أيضا عن حماد عن ابى عبد اللّه عليه السّلام انه قال: من صلى معهم في الصف الأول كان كمن صلى خلف رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلم في الصف الأول «62».

3- ما عن الكافي عن الحلبي عن ابى عبد اللّه عليه السلام قال من صلى معهم في الصف الأول كان كمن صلى خلف رسول اللّه صلى اللّه- عليه وآله «63».

4- ما رواه الشيخ في التهذيب عن إسحاق بن عمار قال: قال لي أبو عبد اللّه عليه السلام: يا إسحاق أ تصلي معهم في المسجد؟ قلت: نعم قال: صل معهم فإن المصلي معهم في الصف الأول كالشاهر سيفه في سبيل اللّه «64».

وظاهر هذه الأحاديث الثلث المتقارب مضمونها رجحان الصلاة معهم مع نية الاقتداء بهم، كما ان ظاهرها جواز الاكتفاء بها وعدم وجوب إعادتها الا ان يدل عليه دليل من الخارج.

والحاصل انا لو خلينا وهذه الروايات حكمنا بجواز الدخول معهم في صلوتهم ونية الاقتداء بهم والاعتداد بتلك الصلاة مهما كانت مخالفة لما عليه مذهبنا؛ وكان وجه التشبيه بالصلاة خلف رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلم من حيث أثرها في عز المسلمين وشوكتهم وقص ظهور الاعداء ولذا شبه بمن يشهر سيفه في سبيل اللّه.

الا انه قد يدعى مخالفة أمثال هذه الظهورات لما عليه الطائفة كما‌ ستعرف دعواه فيما سيمر عليك ان شاء الله من كلام «الحدائق».

5- ما رواه في «المحاسن» عن عبد الله بن سنان قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: أوصيكم بتقوى اللّه عز وجل ولا تحملوا الناس على أكتافكم فتذلوا، ان اللّه تبارك وتعالى يقول في كتابه {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83] ، ثمَّ قال: عودوا مرضاهم، واشهدوا جنائزهم، واشهدوا لهم وعليهم، وصلوا معهم في مساجدهم «65».

6- ما رواه على بن جعفر في كتابه عن أخيه موسى بن جعفر عليه السّلام قال: صلى حسن وحسين خلف مروان ونحن نصلي معهم! «66»

7- ما رواه احمد بن محمد بن عيسى في نوادره عن سماعة قال: سألته عن مناكحتهم والصلاة خلفهم، فقال: هذا أمر شديد لم تستطيعوا ذلك قد انكح رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلم وصلى على عليه السّلام ورائهم.

وهذه الروايات الثلث أيضا ظاهرة في جواز الصلاة معهم تحبيبا وحفظا لوحدة الأمة أو شبه ذلك (نعم يمكن ان يكون رواية على بن جعفر ناظرا الى حال الخوف على النفس وشبهه) كما ان ظاهرها نية الاقتداء والاعتداد بتلك الصلاة وعطف الصلاة على النكاح دليل آخر على ان المراد الإتيان بالصلاة الواجبة الواقعية معهم والاكتفاء به.

كما ان قوله عليه السّلام هذا أمر شديد لم تستطيعوا ذلك أيضا ناظر الى هذا المعنى إذ لو كان المراد إتيان الصلاة منفردا في نفسه وإظهار كونها جماعة مع عدم القصد إليها، أو الإتيان بها واعادتها بعد ذلك أو فعلها‌ قبلها، لم يكن امرا شديدا لا يستطيعون، بل هما من الأمور السهلة التي يستطيع عليها كل احد.

8- ما رواه الصدوق مرسلا قال: قال الصادق عليه السّلام إذا صليت معهم غفر لك بعدد من خالفك «67».

ودلالتها على أصل الجواز كغيرها ظاهرة، الا ان إطلاقها من حيث الاكتفاء بها وكونها بصدد البيان من هذه الجهة قابل للتأمل والكلام.

الى غير ذلك مما يطلع عليه الخبير المتتبع.

هذا ويظهر من غير واحد من الروايات الواردة في الباب 6 من أبواب الجماعة انه لا يحتسب بتلك الصلاة بل يصلى قبلها أو بعدها فتكون الصلاة الفريضة ما يصلى قبلها أو بعدها وتكون الصلاة معهم مستحبا أو واجبا للتقية تحبيبا أو خوف أو إليك بعض هذه الروايات:

(1) ما رواه الصدوق في «الفقيه» عن عمر بن يزيد عن ابى عبد اللّه عليه السلام انه قال: ما منكم احد يصلى صلاة فريضة في وقتها ثمَّ يصلى معهم صلاة تقية وهو متوضئ إلا كتب اللّه له بها خمسا وعشرين درجة فارغبوا في ذلك «68».

و لو كان الاقتداء بهم جائزا لم يكن وجه في الترغيب إلى الصلاة فرادى قبل ذلك في بيته، فهذا الترغيب دليل على عدم جواز الاعتداد بتلك الصلاة. اللهم الا ان يقال ان هذا النحو من الجمع مندوب اليه ولا دلالة في الحديث على وجوبه، فلا ينافي جواز الاقتداء بهم في صلوتهم‌ ولو تحبيبا لهم، ولكن هذا الحمل لا يخلو عن بعد فتأمل.

2- وما رواه أيضا عن عبد اللّه بن سنان عن ابى عبد اللّه عليه السّلام انه قال ما من عبد يصلى في الوقت ويفرغ ثمَّ يأتيهم ويصلى معهم وهو على وضوء الا كتب اللّه له خمسا وعشرين درجة «69».

3- وما رواه هو أيضا عن عبد اللّه بن سنان عن ابى عبد اللّه عليه السّلام انه قال أيضا ان على بابى مسجدا يكون فيه قوم مخالفون معاندون وهم يمسون في الصلاة فأنا أصلي العصر ثمَّ اخرج فأصلي معهم؛ فقال اما تحب ان تحسب لك بأربع وعشرين صلاة «70».

4- ما رواه الشيخ عن نشيط بن صالح عن ابى الحسن الأول عليه السّلام قال: قلت له الرجل منا يصلى صلوته في جوف بيته مغلقا عليه بابه ثمَّ يخرج فصلى مع جيرته تكون صلوته تلك وحده في بيته جماعة؟ فقال الذي يصلى في بيته يضاعف اللّه له ضعفي أجر الجماعة، تكون له خمسين درجة، والذي يصلى مع جيرته يكتب له أجر من صلى خلف رسول اللّه- صلى اللّه عليه وآله ويدخل معهم في صلوتهم فيخلف عليهم ذنوبه ويخرج بحسناتهم «71».

والذي يظهر بالتأمل فيها انه أراد بما اجابه إمضاء فعل السائل بفعل الصلوتين وانه يوجر أجران على كل واحد، فلو كان الاعتداد بصلاة المخالف أو المعاند جائزا لم يحتج الى مثل ذلك ولا سيما انه كان في شدة‌ حتى أغلق عليه بابه عند الصلاة وحده فتدبر.

ويمكن ان يكون المراد جواز الاعتداد بكل من الصلوتين وان الأول له ضعف أجر الجماعة وان ثواب الثاني ثواب من صلى خلف رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلم.

الى غير ذلك مما يدل على هذا المعنى.

هذا مضافا الى الروايات الكثيرة الدالة على عدم جواز الصلاة خلف المخالف والمعاند وغيرهما الواردة في الباب 10 و11 و12 فلعل الجمع بين مجموع هذه الروايات والطائفة الأولى الدالة بإطلاقها على جواز الاقتداء معهم والدخول في جماعتهم هو الحمل على ما إذا صلى صلوته قبله أو بعده إذا قدر عليه ولم يكن هناك خوف.

وبالجملة القول بجواز الاكتفاء بتلك الصلاة إذا صلاها معهم تحبيبا ولم يكن هناك تقية من غير هذه الناحية مشكل، وان كان ظاهر إطلاق الطائفة الاولى من الروايات ذلك.

هذا ولكن لا شك في جواز الدخول معهم في صلوتهم على ما يدل عليه الطائفة الاولى وغيرها فما يظهر من بعض احاديث الباب من عدم الاقتداء معهم وارائتهم كأنه يصلى معهم ولا يصلى، لا بد من حملها على ما لا ينافي ذلك فراجع وتدبر.

ثمَّ انه لا يخفى ان جميع ما ذكرنا انما هو في التقية بعنوان التحبيب أو حفظ الوحدة، أما التقية خوفا فلا إشكال في الاكتفاء بما يؤتى معها، وهل يعتبر فيها عدم المندوحة يعني عدم إمكان الصلاة صحيحة تامة في غير ذاك الوقت أو غير ذاك المكان فيه كلام يأتي ان شاء اللّه في تنبيهات المسئلة.

تنبيهات :

بقي هنا مسائل هامة ترتبط بالتقية أو تلحق بها نذكرها طي تنبيهات :

1- هل تختص التقية بما يكون عن المخالف في المذهب :

لا شك في ان أكثر روايات الباب ناظرة إلى حكم التقية عن المخالفين وقد يوجب هذا توهم اختصاص حكمها بهم فقط ولا تجري في غيرهم.

قال العلامة الأنصاري في رسالته المعمولة في المسألة ما هذا نصه:

«و يشترط في الأول (يعني الأدلة الدالة على اذن الشارع بالتقية) ان يكون التقية من مذهب المخالفين لأنه المتيقن من الأدلة الواردة في الاذن في العبادات على وجه التقية لأن المتبادر من التقية التقية من مذهب المخالفين فلا يجري في التقية عن الكفار أو ظلمة الشيعة. لكن في رواية مسعدة بن صدقه الاتية ما يظهر منه عموم الحكم لغير المخالفين مع كفاية عمومات التقية في ذلك».

وأشار بقوله «في رواية مسعدة بن صدقة الاتية» الى ما رواه عن ابى- عبد اللّه عليه السّلام في تفسير ما يتقى فيه «ان يكون قوم سوء ظاهر حكمهم وفعلهم‌ على غير حكم الحق وفعله فكل شي‌ء يعلمه المؤمن بينهم لمكان التقية مما لا يؤدى الى الفساد في الدين فهو جائز» «72».

أقول- لا ينبغي الشك في عدم اختصاص التقية لغة ولا اصطلاحا ولا دليلا بخصوص ما كان في قبال المخالفين في المذهب من العامة، لما قد عرفت من انها هي إخفاء العقيدة أو عمل ديني لما في إظهاره من الضرر، وان ملاكها في الأصل قاعدة الأهم والمهم وترجيح المحذور الأخف لدفع محذور الأهم، وانها قاعدة عقلية تشهد به جميع العقلاء على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم، ولو أنكره بعض باللسان لبعض الدواعي فهو مؤمن به بالجنان ويظهر في اعماله وأحواله عند اضطراره اليه.

ومن الواضح انه ليس في شي‌ء من ذلك اختصاص بالمخالفين، بل لا فرق في ذلك بينهم وبين الكافرين أو ظلمة الشيعة، بل ما يبتلى به كثير من الناس ولا سيما الضعفاء في قبال ظلمة الشيعة أكثر وأهم مما يبتلى به تجاه غيرهم، وان لم يكن ذلك في العبادات بل كان في غيرها.

هذا مضافا الى ورود كثير من روايات الباب بل بعض الايات من الذكر الحكيم في التقية من الكافرين وأشباههم مثل ما ورد في إبراهيم عليه السلام وتقيته من قومه، وتقية مؤمن آل فرعون، وما ورد في تقية عمار ياسر من مشركي مكة وغير واحد من المسلمين الأولين منهم أيضا.

وما ورد في حق رجلين أخذهما مسيلمة الكذاب وأجبرهما على الشهادة بنبوته فأظهر واحد الكفر ونجى ولم يظهر الأخر فقتل فبلغ الخبر النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلم فاستصوب فعل كل واحد لما فيه من مصلحة خاصة.

وقد مر جميع هذه الروايات والايات في أوائل البحث في القاعدة فراجع.

بل لفظ التقية، أو التقاة المذكورة في كتاب اللّه في مورد واحد فقط انما هي في قبال المشركين فاذن لا يبقى شك في عموم الحكم ولا نحتاج الى خصوص رواية مسعدة بن صدقة أو إطلاقات الباب وعموماتها.

فاذن لا يبقى شك في عمومية الحكم للكفار وظلمة الشيعة بل قد مر انه قد يتقى منهم في عصرنا هذا بما لا يتقى من أهل السنة.

ومنه يظهر أيضا انه لا فرق في ذلك بين ان يكون ذلك مذهبا منهم أو لا، مثلا ترك حج التمتع ليس مذهبا لجميع فرق العامة وكذا التكتف في الصلاة وقد يجوز علمائهم تركهما، ولكن قد يكون هناك بعض العوام لا يرخصون ذلك ويرون فيه «رفضا»! في عقيدتهم، بل قد يكون هناك عادة خاصة دينية عندهم يراها العوام لازمة أو دليلا على العقيدة بمذهبهم، مما لا يمكن مراعاتها الا بترك بعض الواجبات أو تغيير فيها أو فعل بعض المحرمات فلا شك ان كل ذلك جائز عند الاضطرار إليها من باب التقية وطبقا لادلتها.

2- هل التقية تجري في الاحكام والموضوعات معا ؟

لا إشكال في جريان أحكام التقية في الأحكام، كالمسح على الخفين أو التكتف (القبض على إليه) في الصلاة أو غير ذلك مما لا يحصى.

انما الكلام في جريانها في الموضوعات كالحكم بهلال شوال أو ذي الحجة بالنسبة إلى الصيام والحج، وكثيرا، ما يتفق ذلك من ان حاكمهم يحكم بهلال شوال أو ذي الحجة فيفطرون الصيام ويحجون البيت، وهناك أناس من أصحابنا لو لم يتبعوهم في هذا الحكم يتحملون منهم أشد المشاق، فهل يجوز متابعتهم في تشخيص هذه الموضوعات والعمل معهم وان لم يثبت هذه الموضوعات عندنا بطرق صحيحة أو ثبت خلافها أحيانا، وهل تجرى هنا أدلة التقية أم لا؟.

لا شك ان موضوعات احكام الشرع التي نتكلم فيها على قسمين:

قسم يكون من الموضوعات الشرعية التي يكون بيانها بيد الشارع‌ المقدس كوقت المغرب وانه استتار القرص أو ذهاب الحمرة المشرقية.

وقسم يكون من الموضوعات الخارجية المحضة كالهلال ورؤيته.

لا إشكال في القسم الأول لأنه يعود بالأخرة إلى اختلاف في الحكم.

واما القسم الثاني الذي هو محل الكلام فعلا فهو أيضا على أقسام:

تارة نعلم خطائهم فيها، واخرى نشك، ومنشأ الخطاء قد يكون في كشف الواقع بطرقها الخارجية المعمولة، واخرى في اعمال طريق شرعي معتبر عندهم باطل عندنا كالركون الى بعض الشهود من غير الفحص عن حالهم، لعدم وجوبه عندهم مع وجوبه عندنا.

لا ينبغي الإشكال في القسم الأخير أيضا لأنه أيضا راجع الى التقية في الاحكام وجوازها لعله مما لا كلام فيه فتدبر.

يبقى الكلام في الموضوعات الخارجية المحضة سواء علمنا بخطائهم فيها أو شككنا ولم يثبت عندنا.

والكلام هنا أيضا تارة يكون من حيث الحكم التكليفي واخرى من حيث الحكم الوضعي:

اما من ناحية الحكم التكليفي فلا إشكال في جواز العمل مثلهم عند الضرورة واجتماع شرائط التقية وسيأتي ان بعض الأئمة عليهم السلام بأنفسهم ووقعوا في الضرورة من هذه الناحية أحيانا وعملوا بالتقية كإفطار الصادق عليه السّلام صوم آخر يوم من رمضان (أو يوم الشك) خوفا من منصور عند حكمه بشوال لما كان في مخالفة الجبار العنود من الخوف على النفس‌ النفيس المقدسة، كما ورد في بعض الروايات وسيأتي الإشارة اليه ان شاء اللّه عن قريب.

ويجرى هنا جميع ما دل على جواز التقية عند الضرورة، ودليل العقل.

انما الكلام في الناحية الثانية وهي صحة العمل إذا اتى به في غير محله تقية منهم، واجزائه عن الواقع الصحيح.

فهل تشمله الإطلاقات السابقة الدالة على الاجتزاء بالعمل مثل قوله عليه السّلام في رواية أبي عمر الأعجمي والتقية في كل شي‌ء إلا في النبيذ والمسح على الخفين «73».

وظاهره صحة العبادات التي يؤتى بها على وفق التقية، إلا في الموارد المستثناة التي مر الكلام فيها.

وكذا قوله في رواية زرارة ثلثة لا اتقى فيهن أحدا شرب المسكر ومسح الخفين ومتعة الحج «74».

وهكذا الرواية 18 من الباب 38 من أبواب الوضوء.

والرواية 5 من الباب 3 من أقسام الحج.

نعم ظاهر قوله عليه السّلام في حديثه مع منصور لأن أفطر يوما واقضيه أحب الى من ان يضرب عنقي دليل على عدم الاجزاء بذاك الصوم ولزوم قضائه ولكن سيأتي ان شاء اللّه في ذيل البحث وجهة، بحيث لا يبقى شك من هذه الناحية.

وعلى كل حال الإنصاف ان الإطلاقات بأنفسها، أو لا أقل بإلغاء الخصوصية عن موارد الاحكام وتنقيح المناط فيها، يشمل ما نحن فيه فالعمل على طبق موازين التقية هنا مجز ورافع للتكليف، لا سيما بالنسبة إلى الحج وثبوت الهلال فيه الذي يمكن القول باستقرار السيرة فيها في جميع الأعصار.

قال الفقيه المحقق النابه صاحب الجواهر في كلام له في كتاب الحج ما نصه:

« بقي هنا شي‌ء مهم تشتد الحاجة اليه وكأنه أولى من ذلك كله بالذكر وهو انه لو قامت البينة عند قاضي العامة وحكم بالهلال على وجه يكون التروية عندنا عرفة عندهم، فهل يصح للامامى الوقوف معهم ويجزى لأنه من أحكام التقية ويعسر التكليف بغيره، أو لا يجزى لعدم ثبوتها في الموضوع الذي محل الفرض منه، كما يومئ اليه وجوب القضاء في حكمهم بالعيد في شهر رمضان الذي دلت عليه النصوص التي منها «لأن أفطر يوما ثمَّ اقضيه أحب الى من ان يضرب عنقي». لم أجد لهم كلاما في ذلك ولا يبعد القول بالاجزاء هنا إلحاقا له بالحكم، للحرج، واحتمال مثله في القضاء وقد عثرت على الحكم بذلك منسوبا للعلامة الطباطبائي، ولكن مع ذلك فالاحتياط لا ينبغي تركه واللّه العالم» انتهى كلامه قدس سره الشريف «75».

وكلامه وان كان متينا من حيث النتيجة ولكن فيه مواقع للنظر.

منها- انه لا وجه لقياس مسئلة القضاء عند حكمهم بالعيد في‌ شهر رمضان بمسئلة الوقوف أو سائر المناسك في الحج كما سنتلو عليك منه ذكرا.

ومنها- ان مجرد الحرج لا يدل على الصحة وتمامية العمل بل غاية ما يدل عليه هنا هو الجواز التكليفي وعدم الحرمة كما لا يخفى.

ومنها- ان قوله «احتمال مثله في القضاء» مدفوع بان مجرد احتمال تحقق الخلاف في ثبوت الهلال في السنين الاتية لا يوجب سقوط التكليف بالحج الذي هو في ذمته.

والانصاف انه لا ينبغي الإشكال في أصل المسئلة والمستند هو عمومات أدلة التقية الظاهرة في الاجزاء في العبادات وغيرها بالشرح الذي عرفته، ولا سيما في مثل الحج الذي استقر سيرة الأصحاب خلفا عن سلف على العمل بحكمهم بالهلال مهما كان من غير نكير، ولم يسمع منهم وجوب الإعادة أو تغيير الوقوفات، بل لم يتعرضوا لهم في كتبهم الفقهية كما عرفت الإشارة إليه في كلام الجواهر.

وما قد يتراءى من بعض الاعلام واتباعهم من المعاصرين أو ممن قارب عصرنا بالاحتياط في بعض السنين الذي وقع الاختلاف فيها في رؤية الهلال، فالظاهر انه أمر مستحدث لم يسمع به من قبل، ان هذا الا اختلاق!

بقي هنا شي‌ء :

وهو انهم ذكروا مسئلة الإكراه في إفطار الصيام وحكم الأكثرون فيها بالصحة وحكى عن الشيخ قدس سره الفساد، ومما أيد به القول‌ بالفساد ووجوب القضاء انه تجب القضاء في الإفطار تقية وهي من مصاديق الإكراه.

قال شيخنا الأجل في الجواهر عند ذكر الإكراه في إفطار الصيام بعد ما عرفت من الأقوال وبعد التصريح بعدم الخلاف في الصحة في خصوص ما إذا وجر في حلق الصائم شي‌ء ما نصه:

الاولى الاستدلال (على الفساد ووجوب القضاء في الإكراه) بما دل على حكم اليوم الذي يفطر للتقية إذ هو في معنى الإكراه كمرسل رفاعة عن الصادق عليه السّلام انه قال: دخلت على ابى العباس بالحيرة فقال: يا أبا- عبد اللّه عليه السّلام ما تقول في الصيام اليوم فقلت ذلك الى الامام ان صمت صمنا وان أفطرت أفطرنا فقال يا غلام على بالمائدة فأكلت معه وانا أعلم واللّه انه من شهر رمضان، فكان إفطاري يوما وقضائه أيسر على من ان يضرب عنقي ولا أعبد اللّه» وفي آخر «أفطر يوما من شهر رمضان أحب الى من ان يضرب عنقي» حيث أطلق عليه اسم الإفطار «76».

وذكر في أواخر كلامه في المسألة إمكان الفرق بين مسئلتى الإكراه والتقية وتضعيف خبر القضاء فيها بالإرسال وتخصيص دليل القضاء بالإكراه، ثمَّ رجع منه وذكر ان الأحوط سلك الجميع في مسلك واحد للشك في شمول إطلاقات أدلة التقية لمثل ذلك الذي مرجعه في الحقيقة إلى الموضوع مصداقا أو مفهوما لا الى الحكم.

والانصاف ان الروايات الواردة في هذا الباب التي رواها في الوسائل في الباب 57 من أبواب ما يمسك الصائم، منه ما لا يدل على شي‌ء‌ مثل ما رواه الصدوق قدس سره عن عيسى بن ابى منصور انه قال: كنت عند ابى عبد اللّه عليه السلام في اليوم الذي يشك فيه فقال: يا غلام اذهب فانظر أ صام السلطان أم لا فذهب ثمَّ عاد فقال لا فدعا بالغداء فتغدينا معه «77».

فإن غاية ما يدل عليه هو جواز الإفطار واما القضاء فهو ساكت عنه بالمرة.

وهكذا الرواية الثانية والثالثة والسادسة من هذا الباب.

وما يدل على فساد الصوم وان جاز الإفطار، ولازمه القضاء كما هو ظاهر، مثل رواية أبي العباس التي مر ذكرها في كلام الجواهر وهي الرواية الرابعة من هذا الباب وكذلك الخامسة منها وفي ذيلها فكان إفطاري يوما وقضائه أيسر على من ان يضرب عنقي ولا يعبد اللّه. ولكنهما ضعيفا السند بالإرسال.

ويستشم ذلك من الرواية الثامنة فراجع.

وقد يتوهم من بعضها صحة الصوم وهي الرواية السابعة منها التي رواها الشيخ عن ابى الجارود قال سألت أبا جعفر عليه السّلام انا شككنا سنة في عام من تلك الأعوام في الأضحى فلما دخلت على ابى جعفر عليه السّلام وكان بعض أصحابنا يضحى فقال الفطر يوم يفطر الناس والأضحى يوم يضحى الناس والصوم يوم يصوم الناس.

بدعوى ان ظاهرها كون ذلك اليوم الذي يفطر فيه الناس يوم فطر حقيقة وإذا كان كذلك لم يجب قضائه قطعا، ولكن حملها على هذا المعنى بعيد جدا والأظهر انها تدل على حكم ظاهري في المسألة الذي لا اشكال‌ فيه وهو جواز الإفطار من باب التقية، واما إجزائه عن القضاء فهو ما ليس بصدد بيانه، ولو فرض له ظهور في ذلك فهو لا يقاوم ما مضى وما يأتي من سائر الأدلة الدالة على الفساد.

والذي لا بد من ذكره في المقام ان إطلاقات الاجزاء في التقية والعبادات التي يؤتى على طبقها لا قصور لها في شمول الموضوعات، فكما تكون دليلا على صحتها في الأحكام كذلك تدل على صحتها في الموضوعات كما في مناسك الحج ووقوفاته.

ولكن تختص مسئلة الإفطار في الصيام بخصوصية وهي ان البحث عن أجزاء الاعمال الصادرة عن تقية انما هو في الموارد التي يكون هناك عمل عبادي ولكن اتى به على وجه التقية وعلى وفق مذهب المخالفين، اما إذا ترك العمل، لاقتضاء مذهبهم تركه فلا وجه لسقوط القضاء عن المكلف.

وان شئت قلت: الاعمال الصادرة عن تقية ابدال اضطرارية عن التكاليف الواقعية كالصلاة مع التيمم التي تكون بدلا عن الصلاة مع الوضوء، واقتضائها الاجزاء ليس الا من هذه الناحية، ومن الواضح ان ترك العمل كالإفطار استنادا الى عدم وجوبه لا يمكن ان يكون بدلا عن الواجب فلا يسقط الواجب به كما لا يخفى.

ويشبه هذا من بعض الجهات ما ذكره في باب أصالة الصحة وانها لا تجري إلا فيما إذا صدر عن المكلف عمل شككنا في صحته وفساده فلو شككنا في أصل العمل لم تجري القاعدة لعدم إحراز عمل هناك حتى يحمل على الصحيح.

ان قلت- ان التقية كما تقتضي في المقام ترك الأداء كذلك تقتضي ترك القضاء.

قلت- إذا كان هناك شرائط التقية موجودة بالنسبة إلى القضاء قلنا به، كما إذا كان المكلف معاشرا معهم طول السنة وعلم من فعله انه قصد القضاء، وهو فرض نادر جدا بل لعله لا يوجد له مصداق، فاذا لم يكن تقية في القضاء وجب فعله.

3- هل يعتبر فيها عدم المندوحة أم لا؟

قد وقع الكلام بينهم في اعتبار عدم المندوحة وما يكون به الفرار، في التقية، وآثارها التي منها صحة الأعمال المأتي على طبقها على أقوال:

أولها- انه غير معتبر مطلقا، كما حكى عن الشهيدين والمحقق الثاني في البيان والروض وجامع المقاصد.

ثانيها- انه معتبر مطلقا، كما حكى عن صاحب المدارك.

ثالثها- التفصيل بين ما كان متعلق التقية مأذونا فيه بالخصوص وورد فيه دليل خاص مثل القبض في الصلاة (اى التكتف فيها) فهو صحيح مجز سواء كان هناك مندوحة أم لا، وبين ما كان الدليل عليه هو عمومات التقية الدالة على انها في كل ضرورة واضطرار، كالوضوء بالنبيذ أو الصلاة الى غير القبلة وأشباههما، فحينئذ لا يصح العمل الا عند عدم المندوحة، لعدم صدق الضرورة بدونه، وهذا القول أيضا محكي عن المحقق الثاني قدس سره.

وقد يقال برجوع هذا القول الى قول صاحب المدارك حيث ان نفى اعتبار عدم المندوحة في الشق الأول انما هو باعتبار جميع الوقت، لا بالنسبة إلى خصوص الوقت الذي يؤدي الصلاة فيه مثلا، ومن المعلوم ان صاحب المدارك القائل باعتباره مطلقا لا يقول به في جميع الوقت لأنه مما لم يقل به احد فيما نعلم. والأمر سهل.

وهناك قول رابع وهو التفصيل الذي اختاره شيخنا الأعظم العلامة الأنصاري قدس سره وحاصله:

ان هناك صور ثلث:

الأول: ما إذا كان المتقى قادرا على الامتثال الواقعي من دون تعويض في الزمان والمكان كما إذا كان عمله في الظاهر على وفق مذهب المتقى منه، مع إتيانه بالعمل الصحيح الاختياري واقعا، كمن يقرأ (مثلا) خلف امامهم سرا وهو يريهم انه لا يقرأ، من دون اى محذور. فهذا مما لا يصح التقية فيه لوجود المندوحة بلا حاجة الى تغيير زمانه أو مكانه الثاني: ما إذا كان في ضرورة بالنسبة الى بعض الوقت دون تمامه، فلو أراد الصلاة مثلا في أول وقتها لم يمكنه إلا بالتقية. فهذا صحيح مجز، ولا يعتبر عدم المندوحة في تمام وقتها.

الثالث: ما إذا كان في ضرورة بالنسبة إلى مكان خاص دون جميع الأمكنة، كمن لا يقدر على ترك التقية في مسجد النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلم أو المسجد الحرام مع قدرته على العمل الصحيح التام في غيرهما، وهذا أيضا مجز فلا يعتبر عدم المندوحة في كل مكان.

ولكن نحن نقول أولا: انه لا يخفى ان هذه الأقوال كلها تختص بالتقية الخوفية ولا تجري في التقية المداراتية حيث لا يعتبر فيها تغيير الزمان أو المكان، بل الظاهر من أخبارها انها انما شرعت لجلب قلوبهم، واتفاق كلمة المسلمين، ومثل هذا لا يعتبر فيه عدم المندوحة بلا اشكال.

فهل ترى ان قوله عودوا مرضاهم واشهدوا جنائزهم، أو قوله:

من صلى معهم في الصف الأول كان كمن صلى خلف رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلم أو قوله: كمن أول داخل وآخر خارج. الى غير ذلك مما قد مضى عند سرد الاخبار، محمول على ما إذا كان مضطرا اليه ولم يقدر على الفرار؟

فهذا مما لا ينبغي الكلام فيه.

نعم لو قلنا باجزاء العمل في مثل هذا النوع من التقية أمكن استثناء الصورة الاولى من الصور الثلاث التي ذكرها العلامة الأنصاري قده، وهو ما إذا قدر على العمل التام في مكانه وزمانه بعينه مع عدم اى محذور، لانصرافها الى غيرها.

ثانيا- في التقية الخوفية لا ينبغي الريب في عدم اعتبار نفى المندوحة في تمام الوقت لا للإجماع، لعدم اعتباره في هذه المسئلة، ولا لعمومات التقية لظهورها في الاضطرار المطلق وهو لا يحصل إلا في تمام الوقت كما في غيره من ذوي الأعذار، بل لخصوص الروايات الكثيرة الإمرة بالصلاة معهم وغيرها تقية، فإنها مطلقة بلا اشكال، وحملها على خصوص المضطر في تمام الوقت حمل على فرد نادر جدا.

وكذا إذا كان قادرا على العمل الصحيح في غير ذاك المكان فإنه أيضا لا يجب الأخذ فيها بالمندوحة وترك الصلاة في مسجد النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلم مثلا والصلاة في ربعه وقافلته خارجا، يدل على ذلك وعلى ما قبله روايات كثيرة:

منها: ما عن احمد بن ابى نصر البزنطي عن ابى الحسن عليه السّلام قال قلت انى ادخل مع هؤلاء في صلاة المغرب فيعجلوني الى ما ان أؤذن وأقيم ولا اقراء الا الحمد، حتى يركع أ يجزينى ذلك؟ قال: نعم يجزيك الحمد وحدها «78».

وحملهما على صورة الاضطرار بترك السورة في تمام الوقت كما ترى ومنها ما عن بكير بن أعين قال سألت أبا عبد اللّه: عن الناصب يؤمنا ما تقول في الصلاة معه؟ فقال اما إذا جهر فأنصت للقراءة واسمع ثمَّ اركع واسجد أنت لنفسك «79».

ومنها ما عن زرارة عن ابى جعفر عليه السّلام قال: لا بأس بأن تصلى خلف الناصب ولا تقرء خلفه فيها يجهر فيه فان قرائته يجزيك إذا سمعتها «80».

ولا ينبغي في لزوم حملهما على التقية كما ان الظاهر وجود المندوحة في غالب هذه الموارد بان يصلى بعده أو قبله في داره.

ومنها ما عن ابى بصير ليث المرادي قال قلت لأبي جعفر عليه- السلام: من لا اقتدى الصلاة؟ قال افرغ قبل ان يفرغ فإنك في حصار فان فرغ قبلك فاقطع القراءة واركع معه «81».

وظاهرها الاجزاء والاكتفاء بتلك الصلاة مطلقا ولو قدر على أدائها في ذاك الموضع كما هو الغالب، وقوله «افرغ» يعنى من القراءة.

و منها ما ورد في أبواب صلاة «الجمعة» عن حمران عن ابى- عبد اللّه عليه السّلام في حديث قال في كتاب على عليه السلام إذا صلوا الجمعة في وقت فصلوا معهم ولا تقومن من مقعدك حتى تصلى ركعتين أخريين، قلت: فأكون قد صليت أربعا لنفسي لم أقتد به؟

 فقال نعم «82».

ودلالتها على الاجزاء كإطلاقها من حيث وجود المندوحة في مكان آخر وعدمه مما لا اشكال فيه.

ومنها ما رواه حمران بن أعين أيضا قال: قلت لأبي جعفر عليه.

السلام: جعلت فداك انا نصلي مع هؤلاء يوم الجمعة وهم يصلون في الوقت كيف نصنع؟ فقال: صلوا معهم. فخرج حمران إلى زرارة فقال له: أمرنا أن نصلي معهم بصلوتهم فقال زرارة: هذا ما يكون إلا بتأويل.

فقال له حمران: قم حتى نسمع منه، قال: فدخلنا عليه فقال له زرارة: ان حمران أخبرنا عنك انك أمرتنا أن نصلي معهم فأنكرت ذلك فقال لنا: كان الحسين بن على عليه السّلام يصلى معهم الركعتين فاذا فرغوا قام فأضاف إليها ركعتين «83».

وإطلاق صدرها بجواز الصلاة معهم الدال على عدم وجوب اضافة الركعتين مقيد بما في ذيلها أو يحمل الثاني على خصوص ما إذا قدر على اضافة ركعتين أخريين فإن ذلك من قبيل ما يكون فيه المندوحة من دون حاجة الى تغيير المكان والزمان وان كان التقية موجودا بالنسبة إلى القراءة في الأوليين.

فتلخص من جميع ذلك، ولو بإلغاء الخصوصية عن مورد الروايات عدم اعتبار نفى المندوحة من ناحية تغيير المكان أو الزمان في التقية سواء كانت في الاجزاء كمورد الروايات أو الكل. وان كان إطلاقات التقية المقيدة بالضرورة كدليل العقل غير دالة عليه.

4- هل المدار على الخوف الشخصي أو النوعي؟

إذا كانت التقية من القسم الخوفى فهل المدار فيها على الخوف الشخصي أو النوعي بعد الفراغ عن كون المناط في الخوف وجود احتمال الضرر، احتمالا معتدا به حتى وان لم يظن به، بل وان شك أو كان احتماله مرجوحا مع كونه مما يعتنى به العقلاء فان عنوان الخوف عرفا صادق في جميع ذلك، وان كان قد يتفاوت بتفاوت المحتملات شدة وضعفا.

والحق في المقام ان يقال:

ان المتقى تارة يخاف على نفسه أو عرضه أو ماله، أو على شي‌ء من ذلك يتعلق بمن له علقة، أو على فرد معين أخر لا علقة له به.

واخرى على فرد أو جماعة غير معينة من أهل الحق قد يحصرون في أيدي أعدائهم فيعاقبون من جراء العمل الذي ترك فيه التقية غيرهم.

اما الأول فلا إشكال في جريان أحكام التقية فيه، بل هو من أظهر‌ مصاديق التقية ويؤيده الروايات المعبرة فيها بأنها جنة أو ترس أو شبه ذلك.

وقد وقع التصريح به أيضا في عدة روايات:

منها: ما رواه اعمش عن جعفر بن محمد عليه السّلام في حديث شرائع الدين قال: ولا يحل قتل احد من الكفار والنصاب في التقية إلا قاتل أو ساع في فساد وذلك إذا لم تخف على نفسك ولا على أصحابك، واستعمال التقية في دار التقية واجب الحديث «84».

والقدر المتيقن منه هو الخوف الشخصي على الأصحاب فتدبر.

ومنها- رواية المنصوري عن عم أبيه عن الامام على بن محمد عن آبائه عليهم السلام قال: قال الصادق عليه السّلام: ليس منا من لم يلزم التقية ويصوننا عن سفلة الرعية «85».

ومنها- قول أمير المؤمنين عليه السّلام الذي ورد في تفسير الامام الحسن العسكري عليه السّلام قال: التقية من أفضل أعمال المؤمن يصون بها نفسه واخوانه عن الفاجرين وقضاء حقوق الإخوان أشرف أعمال المتقين الحديث «86».

ويدل عليه أيضا الروايات الكثيرة الواردة في الباب 28 من أبواب الأمر بالمعروف التي قرنت فيهما التقية بقضاء حقوق الاخوان، ومن المحتمل ان يكون مراعاة التقية شطرا من حقوق الاخوان فتكون المقارنة بينهما من هذه الناحية لوجوب حفظهم بها، وبعبارة أخرى تجب التقية لحفظ حقوق أخيه‌ كما تجب لحفظ نفسه وحقوقه، وان سبق منا احتمال أخر في بيان هذه المقارنة وان الأول ناظر إلى مناسبة الإنسان مع أعدائه والثاني إلى مناسبته مع أحبائه.

وكذلك ما دل على ان ترك التقية من مصاديق إلقاء النفس في التهلكة، وهو كثير. فكما أن إلقائه بنفسه في التهلكة حرام كذلك إلقاء أخيه المؤمن بالهلاك أو بإطلاق «أنفسكم» وشموله للغير أيضا.

واما القسم الثاني وهو الخوف على النوع بان يكون ترك التقية مستلزما للضرر في زمان آخر على أقوام اخرين احتمالا معتدا به، كما إذا تركها في بلاده عند بعض أهل الخلاف، وخاف منه الضرر على بعض إخوانه إذا رجعوا الى بلادهم، سواء كان ذلك بالنسبة إلى فرد أو افراد.

والظاهر جواز ذلك أيضا اما أولا فلما عرفت مرارا من ملاك التقية وانه من باب مراعاة الأهم وتقديمه على المهم.

واما ثانيا فلصدق الضرورة عليه فيشمله عمومات التقية الدالة على جوازها في كل ضرورة.

واما ثالثا فلدلالة غير واحد من اخبار أبواب التقية عليه بل على ما هو أوسع منه:

«منها»: ما روى في تفسير الامام الحسن العسكري عليه السّلام عن الحسن بن على عليه السّلام قال: ان التقية يصلح اللّه بها امة لصاحبها مثل ثواب أعمالهم فإن تركها أهلك أمة، تاركها شريك من أهلكهم الحديث. «87»

«و منها»: ما رواه الشيخ في مجالسه بسنده عن المنصوري عن عم‌ أبيه عن الامام على بن محمد عليه السّلام عن آبائه عليه السّلام قال: قال سيدنا الصادق عليه السّلام عليكم بالتقية فإنه ليس منا من لم يجعلها شعاره ودثاره مع من يأمنه لتكون سجية مع من يحذره. «88»

بل مفاده أوسع مما نحن بصدده لدلالته على وجوب رعايتها عند شدة التقية مع من يأمنه إذا كان مقدمة لأن يعتادها مع من يحذره ويكون تركها سببا لاضاعتها في موارد لزومها ووجوبها فتأمل.

ولا يعارضه ما عن على بن موسى الرضا عليه السّلام في حديث حيث جفى جماعة من الشيعة وحجبهم لتقيتهم حيث لا تجب التقية «89» كما هو واضح.

5- إذا خالف التقية في موارد وجوبها :

إذا خالف التقية في موارد وجوبها فهل يكون العمل المخالف له صحيحا وان كان عاصيا، كما إذا صلى منفردا فيما إذا اقتضت التقية الجماعة مع من لا يراه صالحا لها، أو يفسد مطلقا، أو يفصل بين مواردها.

اختار شيخنا العلامة الأنصاري التفصيل بين ما إذا كان العمل المخالف له امرا متحدا مع العبادة كالسجدة على التربة الحسينية مع اقتضائها تركه (و مثله الوقوف بعرفات وصوم يوم الشك إذا خالف اعتقاده لاعتقاد مخالفه في تعيين يوم عرفة ويوم العيد). وبين ما إذا كان خارجا عنه كترك القبض على اليد في الصلاة إذا اقتضت التقية فعلها.

فاختار الفساد في الأول والصحة في الثاني.

والظاهر ان الوجه فيه دخول المسألة في مسألة اجتماع الأمر والنهى ففي الأول يكون السجدة أو نفس الوقوف والصيام محرما منهيا عنه لا يصلح للتقرب المعتبر في صحة العبادة، بخلاف الثاني فإن الحرام‌ أمر خارج عن عبادته مثل النظر إلى الأجنبية حال الصلاة.

هذا والمسألة مبنية على ان أوامر التقية هل هي كاوامر الابدال الاضطرارية تدل على جزئية ما يؤتى تقية وشرطيته وبدليته عن المأمور به الواقعي، أو انها ليست كذلك بل تدل على أمر واجب في نفسه.

فعلى الأول كان العمل المخالف لها فاسدا مطلقا لعدم الإتيان بالمأمور به في ذاك الحال والرجوع الى غير ما هو مأمور به، على الثاني لم يكن فاسدا، إلا إذا دخل في مسألة اجتماع الأمر والنهى وقلنا ببطلان العبادة مع الاتحاد بالحرام.

وحيث ان شيخنا العلامة قدس اللّه سره اختار الثاني ذهب الى التفصيل هنا.

ويرد عليه أولا: انه إذا قلنا بأن إيجاب الشي‌ء للتقية لا يجعله معتبرا في العبادة فلو تركه لم يكن عمله فاسدا فعلى هذا لو ترك المسح على الخفين في حال التقية (و لم يكن في تركه محذور آخر) لم يكن وضوئه باطلا.

وقد أجاب هو نفسه عن هذا الاشكال بما حاصله: ان المسح على البشرة ينحل إلى أمرين أحدهما نفس المسح والأخر مباشرته للبشرة، فإذا تعذر الثاني لم يسقط الأول ففي الحقيقة هذا ميسوره بعد ترك المباشرة، للتقية، ثمَّ أيد ذلك بما ورد في رواية عبد الأعلى مولى آل سام الواردة في حكم الجبيرة قال قلت: لأبي عبد اللّه عليه السلام عثرت فانقطع ظفري فجعلت على إصبعي مرارة فكيف اصنع بالوضوء؟ قال: يعرف هذا وأشباهه من كتاب اللّه عز وجل قال اللّه تعالى مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ، امسح عليه. «90»

فان المستفاد منها ان سقوط المباشرة لليد لا يوجب سقوط المسح على المرارة، وانه يستفاد من ضم قاعدة نفى الحرج بحكم وجوب الوضوء، حكم الجبيرة.

وفيه: ان ما افاده قدس سره لا يكفي في حل الإشكال فإن المسح على الخف ليس ميسورا للمسح على الرجل قطعا بل هو أمر مباين له عرفا كالمسح على شي‌ء آخر خارجي ويشهد لذلك ما ورد في ذم الماسحين على الخف عن الصادق عليه السّلام إذا كان يوم القيامة ورد اللّه كل شي‌ء إلى شيئه ورد الجلد الى الغنم فترى أصحاب المسح اين يذهب وضوئهم؟! «91» فإنها تنادي بأعلى صوته ان المسح على الخف كالمسح على ظهر الغنم في الحقيقة ولا يرتبط بالإنسان أبدا.

واما رواية عبد الأعلى فلا بد من توجيهه بما لا ينافي ما ذكر من عدم فهم الميسور عرفا في باب المسح وانه ليس المسح على الجبيرة الا كالمسح على أمر خارجي فتدبر.

وأوضح إشكالا منه مسألة الحج والوقوفين في أيام يراه المخالف أيامهما وليس بذلك في الواقع أو في ظاهر الشرع، فإنه لا يمكن ان يقال فيه: ان أصل الوقوف مطلوب ووقوعه في يوم عرفة أو ليلة العاشر مطلوب آخر، فاذا تعذر واحد وجب الأخر أخذا بالميسور، ولازم ذلك صحة عمل‌ من ترك الوقوف حينئذ واتى بسائر الواجبات اللهم الا ان يقال بعدم صدق ميسور الحج عليه حتى عند التقية مضافا الى ركنيتهما فتأمل.

وثانيا: انه لا وجه للتفصيل الذي ذكره بين موارده، مثل السجدة على التربة الحسينية وترك القبض على اليد إذا اقتضت التقية خلافهما، وذلك لان نفس التقية واجبة واما تركها الخاص والاشتغال بضدها ليس محرما فان ضد الواجب ليس بحرام، هذا محصل ما أورده بعضهم عليه.

ولكن يمكن الذب عنه بان ترك التقية بنفسه حرام كما يظهر من الرواية 26 من الباب 24 والرواية 9 من الباب 25 من أبواب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر:

ففي الأولى منهما عن الحسين بن خالد عن الرضا عليه السّلام لا ايمان لمن لا تقية له. فمن ترك التقية قبل خروج قائمنا فليس منا؛ وفي الثاني عن الرضا عليه السلام أيضا انه جفى جماعة من الشيعة وحجبهم فقالوا يا بن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلم ما هذا الجفاء العظيم والاستخفاف بعد الحجاب الصعب؟ قال- الى ان قال: وتتركون التقية حيث لا بد من التقية- اللهم الا ان يقال ان المذمة فيهما لترك الواجب لا الفعل الحرام، وهذا مضافا الى ان الفعل الذي يؤتى به على وجه مخالف للتقية بنفسه مصداق لإلقاء النفس في التهلكة وهو حرام وقد مر في غير واحد من روايات التقية ان النهى عن تركها بملاك انه مصداق لقوله تعالى {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } [البقرة: 195] .

إذا عرفت ذلك فلنعد إلى أصل المسألة ونرى ان الحق فيها ما ذا؟

فنقول: ظاهر إطلاقات الباب صحة العمل إذا اتى به على وجه التقية والأدلة الخاصة أعني الاخبار الواردة في موارد خاصة منها أيضا‌ كالصريح في صحة الأعمال المؤداة على وجهها ولكن القدر المتقين بل ظاهرها ان ذلك انما يكون إذا عمل على وفقها لا ما إذا ترك العملين فترك المسح على البشرة والخف معا.

ومن الواضح انه لا دليل لنا على صحة الأعمال المذكورة غير هذه فاذا قصرت عن إثبات صحتها بدونه فلا بد من الحكم بالفساد، فكان نتيجة ذلك امرا يشبه البدلية.

وان شئت قلت: انه وان لم يكن في اخبار الباب ما يدل على بدلية العمل تقية عن العمل الواقعي كالابدال الاضطرارية وليس فيها دلالة على ان المسح على الخف بدل عن المسح على البشرة، بدلية التيمم عن الوضوء، ولكن إذا لم يكن هناك دليل على اجزاء العمل الا في هذه الصورة كان أثره اثر البدلية ونتيجتها.

ومن المعلوم ان ذلك انما يتصور إذا كانت التقية بترك شي‌ء من اجزاء الواجبات أو شرائطها واما إذا كانت بإضافة شي‌ء عليها كالقبض على اليد، وتركه، فالأدلة الدالة على المأمور به الواقعي بإطلاقها تشمله ويصح العمل اللهم الا ان يكون نفس العمل على هذا الوجه مصداقا لإلقاء النفس في التهلكة فكان حراما لا يصلح للتقرب به فيبطل من هذه الجهة.

6- في حكم الأعمال التي لها بقاء من حيث الأثر بعد ما زالت التقية :

إذا توضأ (مثلا) تقية فلا شك في جواز الصلاة معه ما دامت أسبابها باقية، واما إذا زالت وانقضى مورد التقية فهل تجوز الأعمال المشروطة بالوضوء؟

وان شئت قلت: ان الوضوء تقية هل هو مبيح ما دامت عواملها، أو رافع للحديث بحيث لا يحتاج إلى إعادة الوضوء إلا إذا تجدد شي‌ء من الاحداث ولا فرق في ذلك بين العمل الذي توضأ له وغيره بعد فرض الكلام في ارتفاع أسباب التقية بقاء.

وكذلك الكلام فيما إذا اتى ببعض العقود أو الإيقاعات على وجه التقية فهل يجوز ترتيب الأثر عليها بعد زوالها أم لا؟

والفرق بين ما نحن فيه وبين العبادات التي يؤتى بها تقية التي‌ قد عرفت اجزائها عن المأمور به الواقعي مما لا يخفى، فان هذه أسباب شرعية لها دوام بحسب الاثار التي تترتب عليها، بخلاف مثل الصوم والصلاة وسائر العبادات.

وإذ قد عرفت ذلك فاعلم ان مقتضى القاعدة الأولية هو الفساد وعدم ترتب الأثر في جميع موارد التقية إلا ما خرج بالدليل وقد مرت الإشارة إليها في المباحث السابقة.

فهل هناك دليل على الصحة أم لا؟

قد يقال: نعم، ويستدل له تارة بالأوامر الخاصة واخرى بالأوامر العامة.

توضيح ذلك:

اما الأوامر الخاصة الواردة في موارد التقية كالأمر بالوضوء ربما يستفاد منها الصحة وعدم وجوب اعادته مطلقا وذلك لان رفع الحدث من آثار امتثال الأمر بالوضوء من غير مزيد وهو هنا موجود، ولذا كل مورد ورد فيه الأمر به كان رافعا له فهل تجد موردا وحدا أمر فيه بالوضوء ولا يكون رافعا؟

وما يتراءى من كون الوضوء مبيحا في دائم الحدث لا رافعا، مع ورود الأمر به، فإنما هو من جهة دوام الحدث وتجددها لا من حيث قصور الوضوء في رفعه.

فتحصل من ذلك ان كل مورد ورد فيه أمر خاص ببعض الأسباب الشرعية عند التقية، سواء كان من العبادات كالوضوء والغسل، أو من العقود كالنكاح، أو من الإيقاعات كالطلاق فامتثال هذا الأمر دليل على‌ وجود المؤثر واقعا فيترتب عليه جميع آثارها ولو بعد زوال أسباب التقية.

واما الاخبار العامة الدالة على ان التقية جائزة في كل ضرورة وان التقية في كل شي‌ء إلا في النبيذ والمسح على الخفين، وقد مرت في محلها فهي تدل على جوازها مطلقا، وجواز كل شي‌ء بحسبه؛ فجواز الوضوء رفعه للحدث وجواز البيع صحته وترتب الملك عليه وجواز الطلاق تأثيره في البينونة وكذا غيرها.

هذا ولكن يمكن الخدشة في الجميع اما الأخير فلان ظاهر الأدلة العامة هو الجواز التكليفي ونفى الحرمة، لا الجواز الوضعي فالاستدلال بها على آثارها الوضعي مشكل جدا.

واما الأوامر الخاصة فالقول بانصرافها عن ما نحن فيه قوى جدا وان هي إلا كالأوامر الاضطرارية إذا زالت الاعذار كالمتيمم بعد ما وجد الماء.

هذا مضافا الى ما قد عرفت من ان التقية أمر عقلائي قبل ان تكون شرعية، ولا شك ان العقلاء لا يعاملون معاملة الصحة مع هذه الأسباب إلا عند بقاء عوامل التقية واما بعد ارتفاعها فيرجعون إلى أسبابها الواقعية الاختيارية.

و الحاصل ان الحكم ببقاء الاثار بعد زوال التقية مشكل جدا.

7- هل هي واجب نفسي أو غيري

هل التقية في موارد وجوبها واجب نفسي يترتب على تركه العقاب وغيره من آثاره أو واجب غيري مقدمي بماله من الاثار المختلفة.

الذي يستفاد بادي الأمر من أدلتها هو الثاني فإنها شرعت لحقن الدماء وحفظا عن الضرر الديني أو الدنيوي من غير علة، والدليل العقلي الدال عليه أيضا لا يقتضي أزيد من المقدمية، وكذا ما دل على ان تركها داخل في إلقاء النفس في التهلكة فتجب مقدمة لحفظ النفس عنها.

هذا ولكن الإنصاف أنها واجب نفسي بماله من الأثر وذلك لأمرين:

أولا ان الظاهر من إطلاقات الأدلة وجوبها النفسي عند خوف الضرر سواء ترتب على تركها ضرر أم لا، وما ذكر فيها من حقن الدماء وغير ذلك فإنما هو من قبيل الحكمة لا العلة ولذا ورد فيها الوعيد بالعذاب لمن تركها، مثل ما ورد في تفسير الامام الحسن العسكري عليه السّلام في حديث:

«..فأعظم فرائض اللّه عليكم بعد فرض موالاتنا ومعاداة أعدائكم استعمال التقية على أنفسكم وأموالكم ومعارفكم وقضاء حقوق اعوانكم وان اللّه يغفر كل ذنب بعد ذلك ولا يستقصي، واما هذان فقل من ينجو منهما الا‌ بعد مس عذاب شديد» «92».

وكذا ما دل على انه مثل تضييع حقوق الاخوان مثل ما ورد في ذلك المصدر بعينه من قول على بن الحسين عليه السلام يغفر اللّه للمؤمن كل ذنب ويطهره منه في الدنيا والآخرة ما خلا ذنبين: ترك التقية وتضييع حقوق الاخوان.

وما رواه ابن إدريس في آخر السرائر عن مولانا على بن محمد عليه السّلام قال: لداود الصرمي: لو قلت ان تارك التقية كتارك الصلاة لكنت صادقا «93» الى غير ذلك مما يطلع عليه المتتبع.

فان ذلك كله ظاهر في وجوبها النفسي.

وثانيا: ان ترك التقية- وهو ضد فعلها- بنفسه إلقاء النفس في التهلكة، لا انه مقدمة لها ومن المعلوم ان ذلك بنفسه حرام فترك التقية بنفسها حرام يترتب عليها العقاب ويوجب الفسق، وان شئت قلت:

فعلها عين مصداق حفظ النفس وتركها عين مصداق إضاعتها وإلقائها في الهلاكة وليس هنا من المقدمية عين ولا اثر فتدبر.

8- هل هناك قسم ثالث للتقية؟

قد عرفت في المباحث السابقة ان التقية على ضربين: خوفي وتحبيبى ، والأول ما يكون الغرض منها حفظ النفوس والاعراض والدين بخلاف الثاني فإن الغاية فيه هو جلب المودة وجمع الكلمة وائتلاف الفرقة وتوحيد صف المسلمين على اختلاف مذاهبهم في مقابل أعداء الإسلام، أعداء الحق، وقد عرفت ان لكل مقاما يختص به.

وقد يقال ان هنا قسما ثالثا لها وهو ما يقابل الإشاعة واذاعة السر وانه حكم سياسى شرع لحفظ المذهب ولو لم يكن هناك خوف على احد، أو مجال لجلب المودة وتوحيد الكلمة.

وقد عقد له في الوسائل بابا يخصه وأورد فيه اخبار تدل على المقصود:

منها ما رواه محمد الخزار عن ابى عبد اللّه عليه السّلام قال من أذاع علينا حديثنا فهو بمنزلة من جحدنا حقنا «94».

ومنها ما رواه ابن ابى يعفور قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام من أذاع علينا حديثنا سلبه اللّه الايمان. «95»

الى غير ذلك مما ورد في هذا الموضوع، ومفادها وجوب كتمان عقيدة الحق أو إظهار غيره في الموارد التي تكون من الأسرار التي يجب كتمانها عن غير أهلها لما في اذاعتها عند غير اهله من الضرر فهذا نوع من التقية وينطبق عليه تعريفها ومع ذلك ليس داخلا في القسمين السابقين.

ولكن الإنصاف انه مما لا يمكن المساعدة عليه بل هو في الحقيقة راجع الى القسم الأول وهو التقية في موارد الخوف؛ فإن إطلاق السر ليس إلا في الموارد التي يكون في إظهار الحق أو بعض العقائد الدينية ضررا وخوفا على النفس أو العرض أو الدين نفسه والا ما لا يكون فيه ضررا لا يكون سرا ولا يدخل تحت عنوان كتمان السر واذاعته، وعلى هذا يؤول هذا القسم الى القسم الخوفى.

ويشهد لما ذكر غير واحد من روايات ذاك الباب بعينه وإليك جملة منها:

1- ما رواه يونس بن يعقوب عن بعض أصحابه عن ابى عبد اللّه عليه السّلام ما قتلنا من أذاع حديثنا قتل خطأ ولكن قتل قتل عمد «96» وفيه دلالة على ان اذاعة الحديث في موارد كتمانه يترتب عليه الإضرار العظيمة ربما بلغ القتل، وحيث ان فاعله عالم بهذا الأثر فهو في الواقع قاتل عمد، وهل هو إلا مصداق لترك التقية الخوفى وقد عرفت ان‌ الخوف كما انه قد يكون على النفس يمكن ان يكون على الغير.

2- ما رواه محمد بن مسلم قال: سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول: يحشر العبد يوم القيامة وما ندا دما «97» فيدفع اليه شبه المحجمة أو فوق ذلك فيقال له: هذا سهمك من دم فلان فيقول يا رب انك تعلم انك قبضتني وما سفكت دما، فيقول: بلى ولكنك سمعت من فلان رواية كذا وكذا فرديتها عليه حتى صارت الى فلان الجبار فقتله عليها وهذا سهمك من دمه «98».

فهل هذا إلا ترك التقية الموجب لإلقاء الغير في التهلكة؟

3- ما رواه إسحاق بن عمار عن ابى عبد اللّه عليه السّلام وتلي هذه الآية:

{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ } [البقرة: 61] قال واللّه ما قتلوهم بأيديهم ولا ضربوهم بأسيافهم ولكنهم سمعوا أحاديثهم فأذاعوها فأخذوا عليها فقتلوا فصار قتلا واعتداء ومعصية «99».

الى غير ذلك مما ورد في هذا المعنى، وجميعها تدل على ان اذاعة السر انما هو في العقائد التي لو أظهرت أورثت ضررا على صاحبها، فنقل ما يشتمل عليها على صاحبها مناف للتقية التي أمر بها عند الخوف على النفس أو على الغير، فليس هذا قسما ثالثا غير القسمين السابقين والأمر واضح.

9- هل يحرم تسمية المهدي عليه السّلام باسمه الشريف ؟

المشهور بين جمع من المحدثين حرمة تسميته أرواحنا له الفداء باسمه الخاص، دون ألقابه المعروفة، فهل هذا حكم يختص بزمان غيبته الصغرى دون الكبرى كما نقله العلامة المجلسي في المجلد 13 من بحار- الأنوار عن بعض؟

أو انه عام لكل زمان ومكان الى ان يظهر ويملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا؟

أو ان حرمتها دائرة مدار التقية والخوف، فعند عدم الخوف جائز وعند وجوده حرام؛ بل لا يختص ذلك به أرواحنا فداه ويجري في غيره من الأئمة (عليهم السلام) اختار ذلك شيخنا الشيخ الحر العاملي في الوسائل في مفتتح هذا الباب وصرح به أيضا في ختامه.

ولنذكر أولا الأخبار الواردة في هذا الباب ثمَّ نتبعها بذكر المختار‌

وهي على طوائف:

الطائفة الأولى :

ما دل على حرمة التسمية باسمه الشريف مطلقا من دون اى تقية من ناحية الزمان والمكان ولم يعلل بتعليل خاص وإليك جملة منها:

1- ما رواه الكليني عن على بن رئاب عن ابى عبد اللّه عليه السّلام قال: صاحب هذا الأمر لا يسميه باسمه إلا كافر «100».

2- ما رواه أيضا عن الريان بن الصلت قال سئلت أبا الحسن الرضا عليه السّلام وسئل عن القائم قال: لا يرى جسمه ولا يسمى اسمه. «101»

3- ما رواه الصدوق (قدس سره) في كتاب إكمال الدين عن صفوان بن مهران عن الصادق عليه السّلام انه قيل له من المهدى من ولدك؟ قال: الخامس من ولد السابع يغيب عنكم شخصه ولا يحل لكم تسميته «102».

4- وما رواه أيضا في ذاك المصدر عن محمد بن عثمان العمرى قال خرج توقيع بخط أعرفه: من سماني في مجمع من الناس فعليه لعنة اللّه. «103»

بناء على عدم اختصاصه بذاك الزمان كما هو ظاهر الإطلاق.

5- ما رواه الصدوق أيضا في إكمال الدين عن عبد العظيم الحسنى عن محمد بن على بن موسى عليه السلام في ذكر القائم عليه السّلام قال يخفى‌ على الناس ولادته ويغيب عنهم شخصه وتحرم عليهم تسميته وهو سمى رسول اللّه وكنيه الحديث. «104»

الى غير ذلك مما ورد في هذا المعنى.

الطائفة الثانية :

ما ورد في التصريح بترك تسميته الى ان يقوم ويملأ الأرض عدلا كما ملئت ظلما وجورا، وإليك بعض ما ورد في هذا المعنى:

1- ما رواه العلامة المجلسي في بحار الأنوار عن محمد بن زياد الأزدي عن موسى بن جعفر عليه السّلام انه قال: عند ذكر القائم يخفى على الناس ولادته ولا يحل لهم تسميته حتى يظهره عز وجل فيملأ به الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا. «105»

2- ما رواه أيضا عن عبد العظيم الحسنى عن ابى الحسن الثالث عليه السّلام انه قال عليه السّلام في القائم لا يحل ذكره باسم حتى يخرج فيملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا الحديث «106».

3- ما رواه الكليني بسنده عن ابى هاشم داود بن القاسم الجعفري عن ابى جعفر عليه السّلام في حديث انه قال: واشهد على رجل من ولد الحسن لا يسمى ولا يكنى حتى يظهر أمره فيملأها عدلا كما ملئت جورا، إنه القائم‌ بأمر الحسن بن على عليه السّلام «107».

4- ما رواه الصدوق أيضا في كتاب إكمال الدين بسنده عن عبد العظيم الحسنى عن سيدنا على بن محمد عليه السّلام انه عرض عليه اعتقاده وإقراره بالأئمة- الى ان قال- ثمَّ أنت يا مولاي، فقال له (عليه السّلام) ومن بعدي ابني الحسن، فكيف للناس بالخلف من بعده؟ قلت فكيف ذلك؟

قال: لأنه لا يرى شخصه، ولا يحل ذكره باسمه حتى يخرج فيملأ الأرض قسطا وعدلا- الى ان قال- هذا ديني ودين آبائي «108».

الى غير ذلك مما يدل عليه.

الطائفة الثالثة :

ما دل على عدم جواز تسميته عليه السّلام معللا بالخوف، واليه بعض ما ورد في هذا المعنى.

1- ما رواه الكليني بسنده عن على بن محمد عن ابى عبد اللّه الصالحي قال: سألني أصحابنا بعد مضى أبى محمد عليه السّلام ان أسأل عن الاسم والمكان فخرج الجواب: ان دللتم على الاسم أذاعوه وان عرفوا‌ المكان دلوا عليه «109».

قال المحدث الشيخ الحر العاملي قدس سره بعد نقل هذا الحديث:

هذا دال على اختصاص النهى بالخوف وترتب المفسدة.

2- ما رواه أيضا عن عبد اللّه بن جعفر الحميري عن محمد بن عثمان العمرى (في حديث) انه قال له: أنت رأيت الخلف؟ قال: اى واللّه- الى ان قال- فالاسم؟ قال محرم عليكم ان تسألوا عن ذلك ولا أقول ذلك من عندي فليس لي ان أحلل ولا أحرم، ولكن عنه عليه السّلام فإن الأمر عند السلطان ان أبا محمد مضى ولم يخلف ولدا- الى ان قال- وإذا وقع الاسم وقع الطلب فاتقوه اللّه وأمسكوا عن ذلك «110»:

وهذا كالصريح في ان النهى لمكان الخوف عليه عليه السّلام وانه إذا وقع الاسم طلبوه، فنهى عن التسمية بل أبهمت التسمية كي لا يطلع عليه من لا يعلمه وحرم على من يعلمه.

3- ما رواه الصدوق في إكمال الدين عن على بن عاصم الكوفي يقول: خرج في توقيعات صاحب الزمان ملعون ملعون من سماني في محفل من الناس «111».

والتقييد بقوله «في محفل من الناس» دليل على جوازه في غير محافلهم بناء على دلالة القيد على المفهوم في هذه المقامات- وان النهى‌ انما هو من جهة التقية عنهم.

4- ما رواه أيضا عن محمد بن همام عن محمد بن عثمان العمرى قال خرج توقيع بخط أعرفه: من سماني في مجمع من الناس فعليه لعنة اللّه «112».

ودلالته كسابقه.

5- ما رواه في البحار عن ابى خالد الكابلي قال: لما مضى على بن الحسين عليه السّلام دخلت على محمد بن على الباقر عليه السّلام فقلت جعلت فداك قد عرفت انفطاعى إلى أبيك وانسى به ووحشتي من الناس.

قال: صدقت يا أبا خالد تريد ما ذا؟

قلت: جعلت فداك قد وصف لي أبوك صاحب هذا الأمر بصفة لو رأيته في بعض الطرق لأخذت بيده:

قال: فتريد ما ذا يا أبا خالد؟

قال: أريد أن تسمية لي حتى أعرفه باسمه.

فقال: سألتني واللّه يا أبا خالد عن سؤال مجهد ولقد سألتني بأمر ما كنت محدثا به أحدا لحدثتك ولقد سألتني عن أمر لو ان بنى فاطمة عرفوه حرصوا على ان يقطعوه بضعة «113» بناء على ان قوله «لو ان بنى فاطمة إلى أخر» تدل على قصد بعضهم الإضرار به فضلا عن غيرهم فلذلك لم يسمه عليه السّلام باسمه حتى يكون مكتوما فلا يعرف ولا تصل أيدي المخالفين اليه خوفا من الإضرار به.

والمستفاد من جميع ذلك ان إخفاء اسمه ليس لأمر تعبدي خاص‌ بل بملاك التقية بما لها من الشروط لا غير.

الطائفة الرابعة :

ما يدل على وقوع التسمية منهم (عليهم السلام) أو من أصحابهم في موارد عديدة بلا نهى منهم، وإليك بعض ما ورد في هذا المعنى:

1- ما رواه الصدوق في إكمال الدين بسنده عن محمد بن إبراهيم الكوفي ان أبا محمد الحسن بن على العسكري عليه السّلام بعث الى بعض من سماه شاة مذبوحة وقال: هذه من عقيقة بنى محمد «114».

وهذا تصريح بالاسم منهم صريحا، واجازه بالتصريح من غيرهم تلويحا.

2- ما رواه أيضا عن ابى غانم الخادم قال: ولد لأبي محمد عليه السّلام مولود فسماه محمدا وعرضه على أصحابه يوم الثالث وقال هذا صاحبكم من بعدي وخليفتي عليكم وهو القائم «115».

وهذا الحديث وان لم يكن دالا على التسمية منهم، الا ان ذلك لو كان ممنوعا لم يتسرع إليه أبو غانم الخادم، بل هو دليل على ان الامام العسكري عليه السّلام صرح باسمه له ولأمثاله.

3- وما رواه أيضا عن الكليني عن علان الرازي عن بعض أصحابنا انه لما حملت جارية أبي محمد عليه السّلام قال: ستحملين ولدا واسمه محمد‌ وهو القائم من بعدي «116».

ونقل الروات له واحدا بعد واحد شاهد على جواز التسمية في الجملة.

4- وما رواه أيضا عن أبي نصرة عن ابى جعفر عليه السّلام عن جابر بن عبد اللّه عن فاطمة (عليها السلام) انه وجد معها صحيفة من درة فيها أسماء الأئمة من ولدها فقرأه- الى ان قال- أبو القاسم محمد بن الحسن حجة اللّه على خلقه القائم، أمه جارية اسمها نرجس «117».

ونقل جميع روات السند مضافا الى نقل جابر دليل على عدم المنع من التسمية في جميع الحالات والظروف.

5- وما رواه أيضا عن ابى الجارود عن ابى جعفر عليه السّلام عن آبائه عليهم السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام على المنبر: يخرج رجل من ولدي في آخر الزمان- وذكر صفة القائم وأحواله- الى ان قال- له اسمان: اسم يخفى فاحمد واما الذي يعلن فمحمد- الحديث «118».

وهو دليل على ان التصريح باسمه بمحمد حتى من فوق المنبر جائز.

6- ما رواه بأسانيده الكثيرة عن الحسن بن محبوب عن ابى الجارود عن ابى جعفر عليه السّلام عن جابر قال دخلت على فاطمة عليها السلام وبين يديها لوح فيه أسماء الأوصياء من ولدها فعددت اثنى عشر آخرهم‌ القائم، ثلثة منهم محمد وأربعة منهم على «119».

7- ما رواه أيضا عن المفضل بن عمر قال: دخلت على الصادق عليه السّلام فقلت: لو عهدت إلينا في الخلف من بعدك فقال الإمام بعدي ابني موسى والخلف المأمول المنتظر محمد بن الحسن بن على بن محمد بن على بن موسى «120».

8- ما رواه الطبرسي في إعلام الورى عن محمد بن عثمان العمرى عن أبيه، عن ابى محمد الحسن بن على عليه السلام في الخبر الذي روى عن آبائه (عليهم السلام) ان الأرض لا تخلو من حجة اللّه على خلقه وان من مات ولم يعرف امام زمانه مات ميتة جاهلية فقال ان هذا حق كما ان النهار حق فقيل يا بن رسول اللّه فمن الحجة والامام بعدك؟ فقال ابني «محمد» هو الامام والحجة بعدي فمن مات ولم يعرفه مات ميتة جاهلية «121»:

الى غير ذلك مما في هذا المعنى.

ولقد أجاد صاحب الوسائل في آخر الباب 33 من أبواب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر حيث قال: «و الأحاديث في التصريح باسم المهدى محمد بن الحسن عليه السّلام وفي الأمر بتسميته عموما وخصوصا تصريحا وتلويحا، فعلا وتقريرا في النصوص والزيارات والدعوات والتعقيبات والتلقين وغير ذلك كثيرة جدا» ثمَّ أضاف إليه في حاشية منه على أخر‌ احاديث هذا الباب انه: «قد صرح باسمه عليه السّلام جماعة من علمائنا في كتب الحديث والأصول والكلام وغيرها منهم العلامة والمحقق والمقداد والمرتضى وابن طاوس وغيرهم، والمنع نادر وقد حققناه في رسالة مفردة» (انتهى).

هذا هو ما ورد في هذا الباب من طوائف الاخبار وكلمات الأصحاب،

[المختار في المسألة] :

ولا ينبغي الشك في ان القول بمنع التسمية تعبدا كلام خال عن التحقيق وان صرح به بعض الأكابر بل الظاهر ان المنع منه يدور مدار وجود ملاك التقية، وفي غيره كأمثال زماننا هذا لا يمنع على التحقيق.

وما أفاده العلامة المجلسي قدس سره بعد ذكر بعض ما دل على النهى عن التسمية الى ان يظهر القائم عليه السّلام: «ان هذه التحديدات مصرحة في نفى قول من خص ذلك بزمان الغيبة الصغرى تعويلا على بعض العلل المستنبطة والاستبعادات الوهمية» ممنوع جدا، لما قد عرفت من ان هذا ليس علة مستنبطة واستبعادا وهميا بل صرح به في روايات عديدة ليست بأقل من غيرها، هذا مضافا الى ما دل على جواز التسمية والتصريح به وقد عرفتها في الطائفة الرابعة وهي أكثر عددا وأقوى دلالة من غيرها.

والحاصل ان المنع يدور مدار الخوف عليه عليه السّلام أو علينا بالموازين المعتبرة في التقية وذلك لأمور:

أولا ان هذا هو الطريق الوحيد في الجمع بين الاخبار وحمل مطلقها على مقيدها، فالمطلقات وهي الطائفة الاولى بل الثانية أيضا- فإنها مطلقة من ناحية الخوف وعدمه وان كانت مغياة بظهوره فإنه لا ينافي تقييدها بما ذكرنا- تقيد بالطائفة الثالثة الدالة على دوران الحكم مدار التقية، ولولا‌ ذلك تعارضت وتساقطت لو قلنا بان كل طائفة منها قطعية أو كالقطعية لتظافرها، أو يقال بالتخيير بناء على كون إسنادها ظنية وعندئذ يمكن الحكم بالجواز.

ومن أقوى القرائن على الجمع الذي ذكرنا هو الطائفة الرابعة المصرحة بجواز التسمية في الجملة- وليت شعري ما ذا يقول القائل بحرمة التسمية مطلقا في هذه الطائفة المتظافرة جدا؟ فهل يمكن طرح جميعها مع كثرتها وفتوى كثير من الأصحاب على طبقها؟ أو يمكن ترجيح غيرها عليها ؟

كلا لا طريق الى حلها الا بما ذكرنا.

ثانيا- قد ورد أحاديث كثيرة من طرق أهل البيت والسنة صرح فيها بان اسم المهدى اسم النبي وكنيته عليه السّلام كنيته صلّى اللّه عليه وآله وسلم.

ومن المعلوم ان هذا في قوة التسمية فإن الظاهر من بعض الاخبار الدالة على عدم ذكر الاسم هو عدم الدلالة عليه بحيث لا يعلم المخاطب من الناس ما يكون اسمه الشريف، لا مجرد التلفظ به، اللهم الا ان يقال ان ذلك وان كان مفاد بعض اخبار الباب ولكن ينافيه بعضها الأخر الدال على حرمة التلفظ به لا الدلالة عليه ولو بنحو من الكناية فراجع وتدبر.

ثالثا- ان القول بحرمة التلفظ باسمه الشريف من دون التقية ومحذور آخر، مع جواز الدلالة عليه بالكناية أو بمثل م ح م د يحتاج الى تعبد شديد، فأي حزازة في ذكر اسمه الشريف في اللفظ مع جواز ذكرها كناية، كالقول بان اسمه اسم جده رسول اللّه أو بالحروف المقطعة، مع فرض عدم اى محذور ظاهر بتاتا ؟ واى شبيه لمثل هذا الحكم في الأحكام الشرعية؟

ومثل هذا الاستبعاد وان لم يكن بنفسه دليلا في الأحكام الفقهية الا انه يمكن جعله تأييدا لما ذكرنا.

ويؤيده أيضا بعض ما ورد في عدم جواز التصريح باسم غيره عليه السّلام من الأئمة عليهم السلام عند التقية، فلا يختص الحكم باسمه الشريف مثل ما رواه الكليني بإسناده إلى عنبسة عن ابى عبد اللّه عليه السّلام قال: إياكم وذكر على وفاطمة (عليهما السلام) فان الناس ليس شي‌ء أبغض إليهم من ذكر على وفاطمة «122».

ومن العجب ما حكى عن الصدوق قدس سره انه بعد الاعتراف بالتصريح باسمه في رواية اللوح قال جاء هذا الحديث هكذا بتسمية القائم والذي اذهب اليه النهي عن التسمية انتهى .

و قد عرفت انه لا ينحصر التصريح باسمه الشريف برواية اللوح ولا ينحصر الدليل بروايات الطائفة الرابعة المصرحة بالاسم، ومع ذلك لم لم يختر- القول بالجواز عند عدم التقية كما اختاره صاحب الوسائل ويظهر من كثير من الأصحاب؟

فلعله رآه موافقا للاحتياط، وهو وان كان كذلك الا ان الاحتياط في عمل النفس شي‌ء والفتوى بالاحتياط شي‌ء آخر، وبالجملة هذا الاحتياط ضعيف جدا لا يجب مراعاته.

فتلخص عن جميع، ما ذكر جواز التسمية باسمه الشريف- وهو «محمد»‌ بن الحسن العسكري» عجل اللّه تعالى له الفرج- في أمثال زماننا هذا مما لا تقية فيه من هذه الناحية.

إلى هنا ينتهى الكلام في أحكام التقية وفروعها.

و قد وقع الفراغ منه في الجمادى الأخرى من سنة 1392 (و الحمد للّه) .

________________

(1) تصحيح الاعتقاد ص 66.

(2) أوائل المقالات ص 96.

(3) مجمع البيان ج 2 ص 430.

(4) التبيان- المجلد 2 ص 435.

(5) مجمع البيان ج 8 ص 521.

(6) الحديث 4 من الباب 24 من أبواب الأمر بالمعروف من كتاب الوسائل.

(7) الحديث 6 من الباب 24 من أبواب الأمر بالمعروف من كتاب الوسائل.

(8) الحديث 12 من الباب 24 من أبواب الأمر بالمعروف من كتاب الوسائل.

(9) الحديث 24 من الباب 24 من أبواب الأمر بالمعروف من كتاب الوسائل.

(10) الحديث 2 من الباب 24 من كتاب الأمر بالمعروف من الوسائل

(11) الحديث 18 من الباب 24 من كتاب الأمر بالمعروف من الوسائل.

(12) الحديث 22 من الباب 24 من كتاب الأمر بالمعروف من الوسائل.

(13) الحديث 6 من الباب 24 من كتاب الأمر بالمعروف من الوسائل.

(14) الحديث 8 من الباب 24 من أبواب الأمر بالمعروف من كتاب الوسائل.

(15) الحديث 1 من الباب 28 من أبواب الأمر بالمعروف من كتاب الوسائل.

(16) الحديث 2 من الباب 28 من أبواب الأمر بالمعروف من الوسائل.

(17) الحديث 3 من الباب 24 من أبواب الأمر بالمعروف من الوسائل.

(18) الحديث 6 من الباب 28 من أبواب الأمر بالمعروف من الوسائل.

(19) الحديث 11 من الباب 28 من أبواب الأمر بالمعروف من الوسائل.

(20) الحديث 25 من الباب 24 من أبواب الأمر بالمعروف من الوسائل.

(21) الحديث 17 من الباب 24 من أبواب الأمر بالمعروف من الوسائل.

(22) الحديث 18 من الباب 24 من أبواب الأمر بالمعروف من الوسائل.

(23) الحديث 4 من الباب 25 من أبواب الأمر بالمعروف.

(24) الحديث 16 من الباب 24 من أبواب الأمر بالمعروف من الوسائل.

(25) الحديث 1 من الباب 29 من أبواب الأمر بالمعروف من الوسائل.

(26) الحديث 35 من الباب 24 من أبواب الأمر بالمعروف من الوسائل.

(27) الحديث 1 من الباب 26 من أبواب الأمر بالمعروف من الوسائل.

(28) الحديث 2 من الباب 26 من أبواب الأمر بالمعروف من الوسائل.

(29) الحديث 4 من الباب 26 من أبواب الأمر بالمعروف من الوسائل.

(30) الحديث 4 من الباب 28 من أبواب الأمر بالمعروف.

(31) الحديث 27 من الباب 24 من أبواب الأمر بالمعروف.

(32) الحديث 6 من الباب 25 من أبواب الأمر بالمعروف من الوسائل .

(33) الحديث 9 من الباب 25 من أبواب الأمر بالمعروف.

(34) الحديث 2 من الباب 31 من أبواب الأمر بالمعروف.

(35) الحديث 1 من الباب 31 من أبواب الأمر بالمعروف.

(36) الحديث 2 من الباب 31 من أبواب الأمر بالمعروف.

(37) الحديث 3 من الباب 25 من أبواب الأمر بالمعروف.

(38) الحديث 5 من الباب 25 من أبواب الأمر بالمعروف.

(39) الحديث 18 من الباب 38 من أبواب الوضوء من الجلد الأول من الوسائل.

(40) الحديث 5 من الباب 38 من أبواب الوضوء من المجلد الأول من الوسائل.

(41) الحديث 1 من الباب 25 من أبواب الأمر بمعروف.

(42) الحديث 2 من الباب 25 من أبواب الأمر بمعروف.

(43) الحديث 8 من الباب 25 من أبواب الأمر بمعروف.

(44) الحديث 4 من الباب 29 من أبواب الأمر بالمعروف من الوسائل.

(45) الحديث 2 من الباب 29 من أبواب الأمر بالمعروف.

(46) الحديث 12 من الباب 29 من أبواب الأمر بالمعروف.

(47) الحديث 31 من الباب 29 من أبواب الأمر بالمعروف.

(48) الحديث 11 من الباب 29 من أبواب الأمر بالمعروف من الوسائل.

(49) الحديث 8 من الباب 29 من أبواب الأمر بالمعروف من الوسائل.

(50) الحديث 9 من الباب 29 من أبواب الأمر بالمعروف من الوسائل.

(51) الحديث 10 من الباب 29 من أبواب الأمر بالمعروف من الوسائل.

(52) «عذراء» موضع قريب من الشام و«مرج» هو الأرض الواسعة فيها نبت كثير ترعى فيها الدواب.

(53) حصبه: رماه بالحصى .

(54) رواه العلامة المامقاني في المجلد الأول من رجاله في ترجمة حجر بن عدى.

(55) رواه العلامة المامقاني في المجلد الأول من رجاله في ترجمة حجر- بن عدى.

(56) ذاك المصدر بعينه.

(57) نقلناها في صفحة 425.

(58) رواه في الوسائل في الجلد الأول الحديث 18 من الباب 38 من أبواب الوضوء.

(59) الحديث 5 من الباب 3 من أبواب أقسام الحج

(60) الحديث 2 من الباب 56 من أبواب صلاة الجماعة.

(61) الحديث من الباب 75 من أبواب الجماعة من الوسائل (ج 5).

(62) الحديث 1 من الباب 5 من أبواب صلاة الجماعة من الوسائل.

(63) الحديث 4 من الباب 5 من أبواب صلاة الجماعة من الوسائل.

(64) الحديث 7 من الباب 5 من أبواب صلاة الجماعة من الوسائل.

(65) الحديث 8 من الباب 5 من أبواب صلاة الجماعة.

(66) الحديث 8 من الباب 5 من أبواب صلاة الجماعة.

(67) الحديث 2 من الباب 5 من أبواب صلاة الجماعة.

(68) الحديث 1 من الباب 6 من أبواب صلاة الجماعة.

(69) الحديث 2 من الباب 6 من أبواب الجماعة.

(70) الحديث 3 من الباب 6 من أبواب الجماعة.

(71) الحديث 6 من الباب 6 من أبواب الجماعة.

(72) الحديث 6 من الباب 25 من أبواب الأمر بالمعروف.

(73) الحديث 3 من الباب 25 من أبواب الأمر بالمعروف.

(74) الحديث 5 من الباب 25 من أبواب الأمر بالمعروف.

(75) الجواهر ج 19 ص 32.

(76) الجواهر ج 16 ص 258.

(77) الحديث 1 من الباب 57.

(78) الرواية 6 من الباب 33 من أبواب صلاة الجماعة.

(79) الرواية 3 من الباب 34 من أبواب صلاة الجماعة.

(80) الرواية 5 من الباب 34 من أبواب صلاة الجماعة.

(81) الحديث 1 من الباب 34 من أبواب صلاة الجماعة.

(82) الرواية 1 من الباب 29 من أبواب الجمعة.

(83) الرواية 5 من الباب 29 من أبواب الجمعة.

(84) الحديث 21 من الباب 24 من أبواب الأمر بالمعروف.

(85) الحديث 27 من الباب 24 من أبواب الأمر بالمعروف.

(86) الحديث 3 من الباب 28 من أبواب الأمر بالمعروف.

(87) الحديث 4 من الباب 28 من أبواب الأمر بالمعروف.

(88) الحديث 28 من الباب 24 من أبواب الأمر بالمعروف.

(89) الحديث 9 من الباب 25 من أبواب الأمر بالمعروف.

(90) رواه في الوسائل في الباب 39 من أبواب الوضوء الحديث 5.

(91) رواه في الوسائل في الباب 38 من أبواب الوضوء الحديث 4.

(92) الحديث 12 من الباب 28 من أبواب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر من الجلد 11 من الوسائل.

(93) الحديث 26 من الباب 24 من أبواب الأمر بالمعروف.

(94) الحديث 11 من الباب 34 من أبواب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر .

(95) الحديث 12 من الباب 34 من أبواب الأمر بالمعروف.

(96) الحديث 13 من الباب 34 من أبواب الأمر بالمعروف.

(97) ما ندا دما الظاهر انه بمعنى ما أصاب دما.

(98) الحديث 14 من الباب 34.

(99) الحديث 15 من الباب 34.

(100) الحديث 4 من الباب 33 من أبواب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.

(101) الحديث 5 من الباب 33 من أبواب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.

(102) الحديث 11 من الباب 33 من أبواب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.

(103) الحديث 13 من الباب 33 من أبواب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.

(104) الحديث 14 من الباب 33 من أبواب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.

(105) المجلد 13 من البحار صفحة 8 من طبع أمين الضرب.

(106) المجلد 13 من البحار صفحة 8 من طبع أمين الضرب.

(107) الحديث 3 من الباب 33 من أبواب الأمر بالمعروف من المجلد 11 من الوسائل.

(108) الحديث 9 من الباب 33 من أبواب الأمر بالمعروف من المجلد 11 من الوسائل.

(109) الحديث 7 من الباب 33 من أبواب الأمر بالمعروف من المجلد 11 من الوسائل.

(110) الحديث 8 من الباب 33 من أبواب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.

(111) الحديث 12 من الباب 33 من أبواب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.

(112) الحديث 7 من الباب 33 من أبواب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.

(113) بحار الأنوار المجلد 13 صفحة 8.

(114) الحديث 15 من الباب 33 من أبواب الأمر بالمعروف.

(115) الحديث 16 من الباب 33 من أبواب الأمر بالمعروف.

(116) الحديث 17 من الباب 33 من أبواب الأمر بالمعروف.

(117) الحديث 18 من الباب 33 من أبواب الأمر بالمعروف.

(118) الحديث 19 من الباب 33 من أبواب الأمر بالمعروف.

(119) الحديث 20 من الباب 33 من أبواب الأمر بالمعروف.

(120) الحديث 22 من الباب 33 من أبواب الأمر بالمعروف.

(121) الحديث 23 من الباب 33 من أبواب الأمر بالمعروف.

(122) الحديث 2 من الباب 33 من أبواب الأمر بالمعروف.

 

 


 

 


 



 

 




قواعد تقع في طريق استفادة الأحكام الشرعية الإلهية وهذه القواعد هي أحكام عامّة فقهية تجري في أبواب مختلفة، و موضوعاتها و إن كانت أخصّ من المسائل الأصوليّة إلاّ أنّها أعمّ من المسائل الفقهيّة. فهي كالبرزخ بين الأصول و الفقه، حيث إنّها إمّا تختص بعدّة من أبواب الفقه لا جميعها، كقاعدة الطهارة الجارية في أبواب الطهارة و النّجاسة فقط، و قاعدة لاتعاد الجارية في أبواب الصلاة فحسب، و قاعدة ما يضمن و ما لا يضمن الجارية في أبواب المعاملات بالمعنى الأخصّ دون غيرها; و إمّا مختصة بموضوعات معيّنة خارجية و إن عمّت أبواب الفقه كلّها، كقاعدتي لا ضرر و لا حرج; فإنّهما و إن كانتا تجريان في جلّ أبواب الفقه أو كلّها، إلاّ أنّهما تدوران حول موضوعات خاصة، و هي الموضوعات الضرريّة و الحرجية وبرزت القواعد في الكتب الفقهية الا ان الاعلام فيما بعد جعلوها في مصنفات خاصة بها، واشتهرت عند الفرق الاسلامية ايضاً، (واما المنطلق في تأسيس القواعد الفقهية لدى الشيعة ، فهو أن الأئمة عليهم السلام وضعوا أصولا كلية وأمروا الفقهاء بالتفريع عليها " علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع " ويعتبر هذا الامر واضحا في الآثار الفقهية الامامية ، وقد تزايد الاهتمام بجمع القواعد الفقهية واستخراجها من التراث الفقهي وصياغتها بصورة مستقلة في القرن الثامن الهجري ، عندما صنف الشهيد الأول قدس سره كتاب القواعد والفوائد وقد سبق الشهيد الأول في هذا المضمار الفقيه يحيى بن سعيد الحلي )


آخر مرحلة يصل اليها طالب العلوم الدينية بعد سنوات من الجد والاجتهاد ولا ينالها الا ذو حظ عظيم، فلا يكتفي الطالب بالتحصيل ما لم تكن ملكة الاجتهاد عنده، وقد عرفه العلماء بتعاريف مختلفة منها: (فهو في الاصطلاح تحصيل الحجة على الأحكام الشرعية الفرعية عن ملكة واستعداد ، والمراد من تحصيل الحجة أعم من اقامتها على اثبات الاحكام أو على اسقاطها ، وتقييد الاحكام بالفرعية لإخراج تحصيل الحجة على الاحكام الأصولية الاعتقادية ، كوجوب الاعتقاد بالمبدء تعالى وصفاته والاعتقاد بالنبوة والإمامة والمعاد ، فتحصيل الدليل على تلك الأحكام كما يتمكن منه غالب العامة ولو بأقل مراتبه لا يسمى اجتهادا في الاصطلاح) (فالاجتهاد المطلق هو ما يقتدر به على استنباط الاحكام الفعلية من أمارة معتبرة أو أصل معتبر عقلا أو نقلا في المورد التي لم يظفر فيها بها) وهذه المرتبة تؤهل الفقيه للافتاء ورجوع الناس اليه في الاحكام الفقهية، فهو يعتبر متخصص بشكل دقيق فيها يتوصل الى ما لا يمكن ان يتوصل اليه غيره.


احد اهم العلوم الدينية التي ظهرت بوادر تأسيسه منذ زمن النبي والائمة (عليهم السلام)، اذ تتوقف عليه مسائل جمة، فهو قانون الانسان المؤمن في الحياة، والذي يحوي الاحكام الالهية كلها، يقول العلامة الحلي : (وأفضل العلم بعد المعرفة بالله تعالى علم الفقه ، فإنّه الناظم لأُمور المعاش والمعاد ، وبه يتم كمال نوع الإنسان ، وهو الكاسب لكيفيّة شرع الله تعالى ، وبه يحصل المعرفة بأوامر الله تعالى ونواهيه الّتي هي سبب النجاة ، وبها يستحق الثواب ، فهو أفضل من غيره) وقال المقداد السيوري: (فان علم الفقه لا يخفى بلوغه الغاية شرفا وفضلا ، ولا يجهل احتياج الكل اليه وكفى بذلك نبلا) ومر هذا المعنى حسب الفترة الزمنية فـ(الفقه كان في الصدر الأول يستعمل في فهم أحكام الدين جميعها ، سواء كانت متعلقة بالإيمان والعقائد وما يتصل بها ، أم كانت أحكام الفروج والحدود والصلاة والصيام وبعد فترة تخصص استعماله فصار يعرف بأنه علم الأحكام من الصلاة والصيام والفروض والحدود وقد استقر تعريف الفقه - اصطلاحا كما يقول الشهيد - على ( العلم بالأحكام الشرعية العملية عن أدلتها التفصيلية لتحصيل السعادة الأخروية )) وتطور علم الفقه في المدرسة الشيعية تطوراً كبيراً اذ تعج المكتبات الدينية اليوم بمئات المصادر الفقهية وبأساليب مختلفة التنوع والعرض، كل ذلك خدمة لدين الاسلام وتراث الائمة الاطهار.