مذهب جمهور المشائين في كيفية علمه تعالى بالأشياء قبل وجودها وبعده |
1133
02:30 صباحاً
التاريخ: 2-07-2015
|
أقرأ أيضاً
التاريخ: 5-08-2015
1357
التاريخ: 5-4-2018
972
التاريخ: 24-10-2014
941
التاريخ: 5-08-2015
2412
|
انّ علمه ـ تعالى ـ حصولي ارتسامي. يعنى انّ صور الأشياء مرتسمة في ذاته ـ تعالى ـ.
وتوضيحه : انّ الصورة العقلية قد يؤخذ عن الصورة الموجودة كما يستفاد من السماء بالرصد والحسّ صورتها العقلية في الذهن ، وقد لا تكون الصورة المعقولة مأخوذة عن الموجود ، بل يكون الأمر بالعكس ، كصورة أثبت البنّاء أوّلا في ذهنه ثمّ تصير تلك الصورة المعقولة محرّكة لأعضائه إلى أن يوجدها في الخارج ، فليست تلك الصورة بحيث وجدت فعقلت ، بل عقلت فوجدت.
وإذ ثبت ذلك فنقول : لمّا كانت نسبة جميع الأشياء إلى الله ـ سبحانه ـ نسبة المصنوع إلى النفس الصانعة لو كانت تامّة الفاعلية فقياس تعقّل واجب الوجود للأشياء هو قياس تعقّلنا للأمور الّتي نستنبطها أوّلا ثمّ نوجدها ـ لاشتراك التعقلين في سببيتهما للإيجاد في الخارج ـ. والفرق إنّنا لكوننا ناقصين في الفاعلية نحتاج في أفاعيلنا الاختيارية إلى انبعاث شوق واستخدام قوّة محرّكة واستعمال آلة تحريكية وانقياد مادّة لقبول تلك الصورة ، والأوّل ـ سبحانه ـ لكونه تامّ الفاعلية غنيا عمّا سواه لا يحتاج في فاعليته إلى أمر خارج ، بل {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82]، فانّه يعقل ذاته وما يوجبه ذاته ويستلزمه ، ويعلم من ذاته كيفية الخيرية في الكلّ فتتبع صور الموجودات الخارجية الصور المعقولة عنده على نحو النظام المعقول عنده ، فالعالم الكياني الخارجي بإزاء العالم الربوبي العلمي.
وهذا المذهب ممّا اختارها انكسمالس المليطى ، وهو أحد الأساطين السبعة ، فانّه قال : الأوّل ما صدر عنه ـ تعالى ـ الصور العلمية للموجودات العينية ثمّ أوجد الموجودات العينية على نهج ما هي في العلم المقدّم. وعلى هذا المذهب يكون علمه ـ تعالى ـ بالصور والارتسام ـ أي : يكون علمه تعالى بصورة زائدة على تلك الأشياء ومطابقة لها قائمة بذاته تعالى ـ.
الدليل على بطلانه وجوه :
منها : انّه يلزم أن يكون الواجب ـ تعالى ـ فاعلا وقابلا معا ، لانّ تلك الصورة موجدها ومفيضها هو الواجب ـ ، سبحانه ـ مع انّه ـ تعالى ـ محلّ لها.
ومنها : انّه يلزم أن يكون الواجب ـ تعالى ـ موصوفا بصفات زائدة غير اضافية ولا سلبية.
ومنها : انّه يلزم أن يكون الأوّل ـ تعالى ـ محلاّ لمعلولاته المتكثّرة وهو مستلزم للتركيب في ذاته ـ تعالى ـ ؛ أو عدم كونه ـ تعالى ـ عالما في مرتبة ذاته. بيان ذلك : انّه لو كان علمه بالأشياء حصوليا لكانت بإزاء كلّ معلوم صورة ، فلا يخلو إمّا أن يكون تلك الصورة داخلة في قوام ذاته ـ تعالى ـ حتّى يكون من مقوّمات ذاته ، فيلزم التركيب ؛ وان لم يكن داخلا في قوام ذاته ـ بل كانت عارضة لها والعارض متأخّر عن ذات المعروض ـ فلا تكون تلك الصورة الّتي هي مناط الانكشاف موجودة في مرتبة ذاته ـ تعالى ـ ، فلا يكون الواجب في مرتبة ذاته عالما بالأشياء.
ومنها : انّه يلزم أن لا يكون المعلول الأوّل ـ أعني : صور الأشياء المرتسمة في ذاته تعالى ـ مباينا عن ذاته ، بل يكون قائما به ـ تعالى ـ.
ومنها : انّه يلزم أن لا يتمكّن الواجب من العلم بالأشياء ومن ايجادها إلاّ بواسطة الصور الحالّة فيه ، وتلك الصور لكونها معلولة تكون ممكنة ، فيلزم أن يكون الواجب مستكملا بالممكن محتاجا إليه. والى هذه الوجوه الخمسة اشار العلاّمة الطوسى في شرح الاشارات بقوله : « لا شكّ في أنّ القول بتقرّر اللوازم في ذاته ـ تعالى ـ قول بكون الشيء الواحد فاعلا وقابلا معا ؛ وقول بكون الأوّل موصوفا بصفات غير اضافية ولا سلبية ؛ وقول بكونه محلاّ لمعلولاته الممكنة المتكثّرة ـ تعالى عن ذلك علوّا كبيرا ـ ؛ وقول بأنّ المعلول الأوّل غير مباين لذاته ـ تعالى ـ ؛ وبأنّه لا يوجد شيئا من الأشياء بذاته بل بتوسّط الأمور الحالّة فيه ... إلى غير ذلك ممّا يخالف الظواهر من مذاهب الحكماء والقدماء القائلين بنفي العلم عنه ـ تعالى ـ ، وافلاطون ـ القائل بقيام الصور المعقولة بذواتها ـ والمشّاءون القائلون باتحاد العاقل والمعقول ـ والمعتزلة ـ القائلون بثبوت المعدومات ـ انّما ارتكبوا تلك المحالات حذرا من التزام هذه المعاني » (1) ؛ انتهى.
ثمّ الحقّ انّ الوجه الأوّل مندفع عن العلم الحصولي بما تقدّم. وحاصل الدفع : انّ بطلان كون الواحد فاعلا وقابلا إذا أريد بالقبول مطلق الاتصاف ممنوع لانتقاضه بلوازم المهيات البسيطة ، فانّها فاعلة للوازمها مع كونها موصوفة بها. فبطلانه انّما هو إذا كان فاعلا وقابلا بمعنى كونه منفعلا أو متأثّرا من الغير. وكونه ـ تعالى ـ محلاّ للصور المعقولة لا يوجب انفعاله وتأثيره ، بل غاية ما يلزم هو كونه ـ تعالى ـ موصوفا بها ، فلا فرق بين وجودها فيه ووجودها عنه ، فلوازمه الّتي هي معقولاته انّما هي عنه وفيه بلا تفاوت.
وأمّا الوجه الثاني فقد دفعه بعضهم أيضا بما تقدّم في كلام الشيخ ؛ وحاصله : انّ الممتنع اتصاف ذاته ـ تعالى ـ بصفات زائدة حقيقية كمالية ، للزوم كونه ـ تعالى ـ فاقدا للكمال في مرتبة ذاته ولا يمتنع عليه اتصافه ـ تعالى ـ بصفات اضافية غير كمالية زائدة. ولا ريب في أنّ الصور العقلية القائمة بذاته ـ تعالى ـ ليست صفات حقيقية كمالية ، فانّ ذاته وإن كانت محلاّ لتلك الصور العلمية لكن لا يكون هي كمالات له ـ تعالى ـ ، فانّ كماله ـ سبحانه ـ ليس تعقّله للأشياء، بل بان يفيض عنه الأشياء معقولة. فكماله انّما هو بذاته لا بلوازمه الاضافية ـ أعني : الصور العلمية المضافة إلى المعلومات ـ. وإلى هذا المعنى أشار صاحب التحصيل بقوله : « واللوازم الّتي هي معقولاته ـ تعالى ـ وإن كانت أعراضا موجودة فيه فليس ممّا يتصف بها أو ينفعل عنها، فانّ كونه واجب الوجود بذاته هو بعينه كونه مبدأ للوازمه ـ أي : معقولاته ـ ، بل ما يصدر عنه انّما يصدر عنه بعد وجوده وجودا تامّا وانّما يمتنع ان يكون ذاته محلاّ للأعراض ينفعل عنها أو يستكمل بها. أو يتصف بها بل كماله في انّه بحيث يصدر عنه هذه اللوازم لا في انّه يوجد له ، فاذا وصف بانّه يعقل هذه الأمور فانّه يوصف به لأنّه يصدر عنه هذه ، لا لأنّه محلّه ».
وأنت تعلم انّ حاصل هذا الجواب انّ هذه الصور العلمية موجودة بعد الذات وليست كمالات حقيقية له ، بل كماله ـ تعالى ـ كون ذاته بحيث يصدر عنه هذه الصور ويصير منشأ لارتسامها في ذاته ، فلا تكون زيادتها قادحة في كماله ولا يوجب فقدانا لما هو الكمال في مرتبة ذاته. وذلك كما انّ ايجاد الموجودات العينية مع كونه بعد مرتبة الذات لا يوجب فقدانه لما هو كمال في مرتبة ذاته ، ولا اتصافه بصفات زائدة. فكما انّ ايجاده للأشياء العينية بعد مرتبة ذاته لا يوجب له نقصا وكونه فاقدا للكمال فكذا منشئيته لارتسام تلك الصور في ذاته لا يوجب ذلك.
وغير خفي انّ هذا الجواب لا يدفع الشبهة ، لأنّ تلك الصور العلمية إذا لم تكن متحقّقة في مرتبة الذات ولم تكن كمالات حقيقية له معه لزم أن لا يكون الواجب ـ سبحانه ـ عالما في مرتبة ذاته ، لانّ الفرض انّ العلم بالأشياء وانكشاف الأشياء له ـ تعالى ـ موقوف على قيام تلك الصور بذاته ـ تعالى ـ ، وإن كانت متحقّقة في مرتبة ذاته وكانت كمالات له ـ تعالى ـ لزم كونه ـ تعالى ـ موصوفا بصفات حقيقية كمالية في مرتبة ذاته. والقياس على الايجاد باطل ، لأنّ تحقّق الايجاد في مرتبة ذاته نقص في حقّه ، بل يجب تأخّره عن ذاته وكماله ـ سبحانه ـ انّما هو ذلك للزوم اقدمية العلّة على المعلول ، وعدم قبول الممكن من حيث هو ممكن الوجود في مرتبة الواجب.
وأمّا العلم فيجب تحقّقه في مرتبة ذاته ـ سبحانه ـ ، وإلاّ لزم جهله في مرتبة ذاته ، وهو كفر وزندقة. على انّه لو سلّم انّ تلك الصور ليست كمالات له فيكون الأوّل ـ تعالى ـ واجبا بذاته من دون مدخلية تلك الصور في وجوب وجوده وفي سائر كمالاته الّتي من جملتها العلم بكلّ شيء قبل الايجاد ، فلا دخل لها لانكشاف الأشياء قبلها ، فلا فائدة حينئذ في تجويز تلك الصورة وارتسامها في ذاته ـ تعالى
فان قلت : تلك الصور وإن لم تكن كمالات له ـ تعالى ، كما اشار إليه بهمنيار بقوله :« بل كماله تعالى كون ذاته بحيث يصدر عنه هذه اللوازم » ـ ، لكن صدور الأشياء لا يتصوّر بدون تصوّر تلك الصور ، كما انّ بعض الأشياء واسطة لصدور بعض آخر من الواجب ـ تعالى ـ ، كصدور الأعراض فانّها لا تصدر عن الله ـ تعالى ـ إلاّ بعد صدور موضوعاتها عنه.
قلت : صدور نظام الكلّ على أتمّ انحاء الوجود واشرفها لا يمكن الاّ بعد فعلية ذاته بجميع صفاته الذاتية الّتي منها صفة العلم بكلّ الأشياء قبل ايجادها ، فتلك الصور الّتي هي صفة علمه ـ تعالى ـ لو لم تكن كمالا له ـ تعالى ـ وكانت زائدة على ذاته لكانت من جملة النظام ، فلا يمكن صدورها عنه على أتمّ الوجه إلاّ بتوسّط صفة العلم الّذي هو بعينه تلك الصور ، فتلك الصور لا يمكن أن تكون اشياء ذهنية زائدة على ذاته تكون وسائط لإيجاد الأشياء العينية ، فالواجب الحقّ يعلم ذاته وجميع الأشياء بالعلم الّذي هو نفس ذاته. فظهر انّ الوجه الثاني وارد على العلم الحصولي.
وأمّا الوجه الثالث ـ أعني : لزوم مفسدة الكثرة في ذاته تعالى ـ : فقد أجاب عنه الشيخ ـ كما مرّ الاشارة إليه ـ في الشفا والتعليقات : بأنّ هذه الكثرة إنّما هى بعد الذات على الترتيب السببي والمسببي ، فلا تنثلم به وحدته الحقّة. وذلك كما أنّ صدور الموجودات المتكثّرة عنه لا يقدح في بساطته المحضة ووحدته الصرفة لكونها صادرة عنه ـ تعالى ـ على الترتيب العلّي والمعلولي ، فكذلك معقولاته المنفصلة الكثيرة إنّما تترتّب عنه على وجه لا يقدح في وحدته الحقّة. فكما انّ صدور الموجودات عنه دفعة ينافى الوحدة وعلى الترتيب السببي والمسببي لا ينافيها فكذا محليّته للصور المعقولة دفعة ينافي الوحدة وعلى الترتيب السببي والمسببي لا ينافيها ، فتلك الكثرة ترتقى إليه وتجتمع في واحد محض ، فانّها مع كثرتها اجتمعت واشتملت عليها احدية الذات ، إذ الترتيب يجتمع الكثرة في واحد ـ كما اشار إليه المعلم الثاني بقوله : « واجب الوجود مبدأ الكلّ فياض الوجود وهو ظاهر على ذاته بذاته ، فله الكلّ من حيث لا كثرة فيه ، فهو ينال الكلّ من ذاته. فعلمه بالكلّ بعد ذاته وبعلمه بذاته ، ويتحد الكلّ بالنسبة إليه ، فهو الكلّ في وحدته» ـ.
وغير خفي انّ هذا الجواب لا يدفع المفسدة ، لانّ بعد التزام كونه ـ تعالى ـ محلاّ للكثرة يلزم إمّا التركيب في ذاته ـ تعالى ـ إن كانت تلك الكثرة داخلة في قوام ذاته ، أو عدم كونه عالما في مرتبة ذاته إن لم تكن داخلة في قوام ذاته ، بل كانت بعد مرتبة ذاته. وأيّ فائدة في القول بأن محلّيته ـ تعالى ـ لتلك الكثرة على الترتيب السببي والمسببي؟! ، فانّ كونها على هذا النحو بعد قيامها بالذات الواجبي إنّما يوجب تحقّقها على التقديم والتأخير ، ولا يفيد ذلك شيئا إلاّ تحقّق علمه بالأشياء على الترتيب ، وهو يوجب جهله ـ تعالى ـ في بعض المراتب. وبالجملة لو تحقّقت تلك الصور العلمية دفعة لم يلزم جهله ـ سبحانه ـ الاّ في مرتبة ذاته ، وأمّا إذا تحقّقت على الترتيب السببي والمسببي لزم جهله في بعض المراتب الآخر ، مثلا لا يكون عالما بالعقل الثاني في مرتبة وجود العقل الأوّل وبالثالث في مرتبة وجود الثاني / وبالأفلاك في مرتبة العقول ... وهكذا.
ثمّ إنّ تلك الصور إن كانت داخلة في قوام ذاته ـ سبحانه ـ لزم التكثّر في ذاته ـ سبحانه ـ سواء تحقّقت دفعة أو على الترتيب ؛ وإن لم تكن داخلة في قوام ذاته لم يلزم التركيب في ذاته على التقديرين ، بل يلزم عدم كونه عالما في مرتبة وذاته في كلّ من الصورتين ـ أي : صورة دخول الصور في قوام الذات وصورة عدم دخولها فيه ـ فيكون الفساد على التقدير الثاني أشدّ ، لأنّه على هذا التقدير إن كانت داخلة في قوام ذاته يلزم مع التركيب عدم كونه عالما في مرتبة الذات، بل يلزم عدم تحقّق الذات في المرتبة اللائقة بالذات ؛ وإن لم تكن داخلة في قوام ذاته كان فساد لزوم جهله ـ سبحانه ـ أشدّ.
فظهر انّ الجواب المذكور للوجه الثالث غير تامّ ، وهو ـ أي : الوجه الثالث ـ كسابقه وارد على العلم الحصولي.
وأمّا الكلام المنقول من المعلم الثاني فليس ظاهرا في العلم الحصولي ، بل له محمل آخر بما يقرع سمعك بعد ذلك.
وامّا الوجه الرابع ـ أعنى : لزوم كون المعلول الأوّل غير مباين لذاته ـ ، فقد أجيب عنه ـ كما مرّت الاشارة إليه ـ بأنّ لزوم المباينة بين العلّة والمعلول إنّما هو إذا كان المعلول أمرا خارجيا لا أمرا ذهنيا ، فانّ القول بأنّ كلّ معلول ولو كان من الموجودات العلمية يجب مباينته للعلّة ممنوع ، بل هو عين النزاع ؛ مع أنّ تلك الصور مباينة لذات الواجب ليست عينها. نعم! ليست موجودة خارجة عن ذاته ، فلو أريد بعدم مباينتها لذات الواجب قيامها بذاته ـ تعالى ـ وعدم وجودها في الاعيان ففيه : انّ عدم المباينة بهذا المعنى لا بأس به والقائلون بالعلم الحصولي يلتزمونه ؛ ولو أريد به كونها عين ذات الواجب ـ تعالى ـ واتحادها معه ـ تعالى ـ فهو ممنوع. والحقّ انّ هذا الجواب صحيح ، فالوجه الرابع لا تنتهض حجة على القائلين بالعلم الإرتسامي.
وامّا الوجه الخامس فربما يجاب عنه : بأنّ توسّط تلك الصور وانكشاف الأشياء له ـ تعالى ـ وصدورها عنه ـ سبحانه ـ لا مانع له ، لكونها صادرة عنه ـ سبحانه ـ وتوسيط بعض معلولاته في صدور بعض آخر جائز ، كما في كون بعض الأشياء وسائط وشروطا لبعض آخر.
وأنت خبير بضعف هذا الجواب ، لانّا لو سلّمنا انّ كون بعض الممكنات لبعض الممكنات وسائط وشروطا لصدور بعض آخر جائز ، فلا نسلّم انّ كون بعضها وسائط وشروطا لعلمه ببعض آخر أيضا جائز ، فانّ هذا موجب لنقصه ـ سبحانه ـ واحتياجه وعدم منشئيته بحسب ذاته المقدّسة وصرف وجوده التامّ للعلم ، وسبب لكونه ـ تعالى ـ جاهلا في مرتبة ذاته ـ تعالى عن ذلك علوّا كبيرا ـ. وبالجملة عدم قبول بعض الممكنات الافاضة منه ـ سبحانه ـ بلا واسطة وعدم استعداده لذلك جائز لعدم لزوم نقص في حقّه ـ سبحانه ـ بعد قدرته على ايجاده بالنظر إلى ذاته بلا واسطة. وأمّا عدم قبوله لانكشافه عنده ـ تعالى ـ بدون الواسطة فهو نقص في حقّه وموجب لعدم كونه عالما في حدّ ذاته.
ومنها ـ أي : ومن الوجوه الدالّة على بطلان العلم الحصولي ـ : انّه لو كان علمه ـ تعالى ـ بالأشياء حصوليا لكان مناط علمه بالأشياء هو تلك الصور. فنقول : ايجاد تلك الصور إمّا أن يكون مسبوقة بصور أخرى ، أم لا : فعلى الأوّل ننقل الكلام إلى تلك الصور السابقة ... وهكذا ، فيلزم التسلسل ؛ وعلى الثاني يلزم إمّا صدور تلك الصور عنه ـ تعالى ـ بلا شعور كصدور افعال الطبائع عنها ـ وهو محال في حقّه أو كونه ـ تعالى ـ عالما بها في مرتبة ذاته المتقدّمة على وجودها بالعلم الحضوري ، وهو يوجب جواز عالميته ـ تعالى ـ بالشيء بالعلم الحضوري قبل وجوده ، فليجوّز ذلك في جميع الأشياء ، إذ لا مخصّص لجواز ذلك في الصور العلمية دون سائر الأشياء.
وبتقرير آخر نقول : تلك الصور المرتسمة في ذاته ـ تعالى ـ إمّا أن تصير موجودة منه ـ تعالى ـ دفعة من غير ترتيب بينها ، أو تصير موجودة على الترتيب كترتيب الأشياء ذوات الصور في الوجود العيني ، فعلى الأوّل يلزم صدور الكثرة عن الواحد الحقّ من جهة واحدة ، بل يلزم جهله سبحانه في مرتبة ذاته ، لأنّ تلك الصور لصدورها عنه ـ تعالى ـ لا يكون موجودة في مرتبة ذاته لوجوب تأخّر المعلول عن العلّة ، فلا يكون عالما بالأشياء وبتلك الصور في مرتبة ذاته ـ لكون تلك الصور هي مناط العلم بناء على العلم الصوري ـ ؛ وعلى الثاني يلزم عدم علمه بتلك الصور قبل ايجادها ، لكونها من الأشياء الصادرة عنه ـ تعالى ـ وتوقّف علمه بما يصدر عنه على ارتسام صورته وعدم امكان ارتسام صور الصور في ذاته ، وإلاّ لزم التسلسل. فتعيّن عدم كونه عالما بتلك الصور قبل ايجادها ، بل بالأشياء وذوات الصور أيضا قبل ايجاد صورها؛ وبطلان ذلك ظاهر.
وأجيب عنه : بأنّ هذه الصور المعقولة نفس وجودها عنه ـ تعالى ـ نفس تعقّله لها لا تمايز بين الحالين ولا ترتيب لأحدهما على الآخر ، فهي من حيث موجوديتها معقولة ومن حيث معقوليتها موجودة.
والحاصل : انّ ايجاده ـ تعالى ـ تلك الصور عين علمه بها ، فلا حاجة إلى اثبات علم آخر ، لأنّ كلّ ايجاد لا يكون نفس العلم فيحتاج في وقوعه عن الفاعل المختار إلى علم سابق وتصوّر يكون مبدأ لذلك الايجاد. وأمّا إذا كان نفس الايجاد نفس العلم فلا يتوقّف على علم آخر به يتحقّق الايجاد الّذي هو نفس العلم.
وأنت خبير بأنّ هذا الجواب غير صحيح ؛ أمّا أوّلا : فلأنّ موجودية هذه الصورة هو قيامها بالذات وتحقّقها فيها ، والمعقولية هو انكشافها عندها ؛ ولا ريب في انّ قيام الشيء وتحقّقه في الخارج أو في ذات أو في ذهن مغاير لنفس الانكشاف وان استلزم قيامه بالمجرّد لانكشافه عنده، وقد تقدّم انّ حضور الشيء عند شيء آخر بمعنى عدم البعد عنه ليس نفس انكشافه له وان استلزمه ؛ وأمّا ثانيا : فلأنّا لو سلّمنا انّ المعقولية نفس الموجودية مع تحقّقهما نقول : لا ريب في انّ موجودية تلك الصور بعد مرتبة الذات وإلاّ لم يكن معنى لمعلوليتها ، فيلزم أن يكون معقوليتها أيضا بعد مرتبة الذات ، فيلزم جهله ـ تعالى ـ في مرتبة ذاته ؛ وهو محال.
ومنها : انّه لو كان علم الواجب ـ تعالى ـ حصوليا لزم أن يكون ـ تعالى ـ عالما بشيء واحد حصوليا وحضوريا ، واللازم باطل ، فكذا الملزوم. أمّا بيان اللزوم : فلانّه بناء على العلم الحصولي لمّا كان مناط علمه ـ تعالى ـ بالأشياء هو الصورة الحالّة في ذاته ـ تعالى ـ فقبل وجود الأشياء يكون عالما بها بصورها الحالّة فيه ـ تعالى ـ وبعد وجودها يكون حاضرة عنده ـ تعالى ـ لكونها معلولة له صادرة عنه ، والصدور والمعلولية يستلزم الحضور عند العلّة والحضور منشأ للعلم الحضوري الانكشافي ، فيكون عالما بها بالعلم الحضوري مع بقاء العلم الحصولي بحاله ، لانّه لا يجوز زوال الصورة عن ذاته ـ تعالى ـ بعد وجود ذي الصورة في الخارج ، وإلاّ لزم التغيّر في علمه ـ تعالى ـ. وأمّا بطلان اللازم : فلأنّ المعلوم بالذات في العلم الحصولي هو الصورة وذو الصورة معلوم بالعرض ، والمعلوم بالذات في العلم الحضوري هو ذو الصورة ، وأيضا المعلوم في الحصولي هو الأمر الكلّي وفي الحضوري هو الجزئي بعينه ، فلا يمكن اجتماع الحصولي والحضوري على معلوم واحد بالنسبة إلى عالم واحد.
ويمكن أن يجاب : بمنع بطلان اللازم. وما ذكر في بيانه فجوابه : انّه لا مانع من كون ذي الصورة معلوما بالعرض نظرا إلى العلم الحصولي ومعلوما بالذات نظرا إلى العلم الحضوري. وقس عليه المعلومية على سبيل الكلّية وعلى سبيل الجزئية ، ولا دليل على امتناع ذلك ـ كما لا يخفى على المتأمّل ـ.
ومنها : ما أورده شيخ الاشراق في المطارحات ، وهو : انّه يلزم على القول بارتسام الصور في ذاته ـ تعالى ـ على الترتيب السببي والمسببي أن يكون الواجب ـ تعالى ـ منفعلا عن الصورة الأولى مستكملا بها ، وهي علّة اتصافه بصورة ثانية وسبب استكماله بحصولها. ثمّ قال : « لا يقال : تلك الصور وإن كانت مرتسمة في ذاته ـ تعالى ـ لكنّها ليست كمالا له ـ تعالى ـ ؛ لأنّا نقول : هي من حيث كونها في ذاتها لما كانت ممكنة الوجود لا يكون حصولها بالفعل ، بل بالقوة ، ولا ريب في أنّ كون ذاته بالقوّة نقص لذاته وانتفاء القوة انّما يكون لوجود تلك الصور، فيكون وجودها كمالا له أو مزيل النقص مكمّل ، فالصور السابقة تكون مكمّلة وذاته مستكملة والمكمّل أشرف من المستكمل ؛ مع انّ ذاته ـ تعالى ـ أشرف من كلّ شيء. وأجيب عنه بالنقض والحلّ ؛ أمّا النقض : فهو أن ينتقض بصدور الموجودات الخارجية عنه ـ تعالى ـ ، لإجراء الدليل المذكور فيه ؛ إذ المعلول الأوّل الصادر عنه ـ تعالى ـ علّة استكماله بصدور المعلول الثاني عنه ـ تعالى ـ وهكذا ؛ وأمّا الحلّ : فهو انّ فعلية تلك الصور والأشياء الخارجية إنّما هو من جهة المبدأ ووجوبها يترتّب على وجوبه ، وليس هناك فقد ولا قوّة أصلا ، وليس لتلك الصورة والاشياء امكان من الجهة المنسوبة إلى مبدئها الأعلى ، والانفعال أنّما يلزم لو انتقل ذاته من معقول إلى معقول ـ كما في العلوم النفسانية ـ ، أو يفيض معقولاته على ذاته من غيره ـ كما في علوم المبادي ـ ؛ وأمّا إذا كانت المعقولات لازمة لذاته ـ كما في لوازم المهيات البسيطة ـ فلا يلزم من الانفعال شيء » ؛ انتهى. وأنت خبير بأنّ هذا الجواب غير صحيح ، لانّ العلم عدمه نقص في حقّه ـ تعالى ـ مطلقا ، فلا يجوز تخلّف الصور العلمية عن مرتبة الذات ، ولو لم يكن ذلك التخلّف بالنظر إلى الذات ولم يكن لها فقد ولا قوّة بالنظر إلى الجهة المنسوبة إليه ، بل كان ذلك لتوقّف بعض تلك الصور على بعض آخر. فانّ العلم الفعلي بجميع الأشياء كمال مطلق له ـ تعالى ـ ، ويجب أن يكون مجرّد الذات من حيث هي منشأ له في مرتبة الذات ، فلو فرض عدم نقض العلوم في مرتبة الذات ـ لتوقّفه على نقض آخر ـ يلزم النقض وحصول الكمال له بواسطة شيء آخر ، فيلزم استكماله لصدور بعض معلولاته. وأمّا الايجاد الفعلي لجميع الأشياء فليس كمالا مطلقا له ـ تعالى ـ ؛ بل الكمال في الايجاد أن يوجد كلّ شيء في وقت يناسبه على الترتيب السببي والمسببي. فتوقّف ايجاده لبعض الأشياء على ايجاد بعض آخر لا يوجب نقصا في حقّه ـ تعالى ـ حتّى إذا ثبت ذلك لزم استكماله بصدور بعض معلولاته ؛ فتأمّل.
ومنها : ما أورده بعض المحقّقين من العرفاء ، وهو يتوقّف على تمهيد مقدّمات :
الأولى : انّ العلم التامّ بشيء من أفراد الموجودات الخارجية من حيث هو فرد بعينه ـ أي لشيء من انحاء الوجود حتّى يكون المعلوم الماهية مع الوجود لا مجرّد الماهية ، وبالجملة يكون الوجود الخاصّ معلوما ـ لا يحصل إلاّ بحضور ذلك النحو من الوجود وانكشاف هذا الفرد الخاصّ من الوجود عند العالم دون حصول صورته ومثاله. والدليل على ذلك :
أمّا أوّلا : انّ الوجود لا مثال له ، بل مثاله نفسه بخلاف الماهية ، فانّ لها مثالا مطابقا لها في الحقيقة.
وأمّا ثانيا : انّ افراد الوجودات الخارجية من حيث هي تلك الافراد بعينها لا يمكن حصولها في الذهن حصولا مطابقا لها ، وإلاّ لزم أن يكون الموجود الخارجي من حيث هو موجود خارجي موجودا ذهنيا ، فيلزم قلب الحقيقة ، إذ الموجود الخارجي من حيث هو موجود خارجي حقيقته وذاته أن يكون في الخارج ، فلو حصل في الذهن لزم قلب الحقيقة.
وأمّا ثالثا : انّ العلم الإرتسامي إنّما يكون بحصول صورة من ماهية الشيء في الذهن ، فلا بدّ من وحدة الماهية وانحفاظها في الخارج والذهن وتعدّد وجودها ، وهذا إنّما يتصوّر إذا كانت تلك الماهية غير الوجود وكانت الصورة الحاصلة في الذهن للماهية دون الوجود ، إذ لو كانت الصورة للوجود لكان الوجود في الطرفين متحدا فلا يتصوّر حينئذ تعدّد ، إذ تعدّد الماهية مع وحدة الوجود في الخارج والذهن غير معقول.
والثانية : انّ التأثير والتأثّر والعلّية والمعلولية عند المحصّلين من المشائين إنّما هو في انحاء الوجودات بمعنى انّ العلّة من حيث هي وجودها يؤثّر في المعلول من حيث وجوده ، لا أنّ ماهية العلّة من حيث هي هي مع عدم اعتبار وجودها يكون علّة لماهية المعلول وتؤثّر فيها كذلك. نعم! ، تأثيرها في اللوازم الاعتبارية للماهيات كذلك ـ أي : في ماهيتها من حيث هي هي من دون اعتبار وجودها ـ ، وجواز ذلك لعدم تحقّق الوجود لها وكونها اعتبارية.
الثالثة : قولهم : « العلم التامّ بالعلّة التامّة يوجب العلم التامّ بالمعلول » ، يحتمل في بادى النظر وجوها أربعة :
الأوّل : انّ العلم بماهية العلّة التامّة مطلقا ـ أي : من حيث هي ولو قطع النظر عن وجودها وعلّيتها ـ يوجب العلم بالمعلول.
الثاني : انّ العلم بالعلّة من حيث انّها علّة ـ أي : من حيث انّها معروضة لهذا المفهوم الاضافي ولو قطع النظر عن جميع ما عداه ـ يوجب العلم بالمعلول.
الثالث : انّ العلم من جميع الوجوه والحيثيات واللوازم والملزومات والعوارض والمعروضات يوجب ذلك.
الرابع : انّ العلم بتمام حقيقتها الّتي بها علّة تامّة يوجب ذلك ، بمعنى انّ الموجب للعلم بالمعلول هو العلم بتمام الحقيقة الّتي تتمّ بها العلية ، ولا يحتاج معها في العلّية إلى أمر آخر بحيث أيّ قيد آخر أخذ وأيّ حيثية أخرى لوحظت يكون خارجا عمّا هو العلّة التامّة لوجود المعلول ، إذ لو لم يكن خارجا لم يكن ما فرض علّة تامّة علّة تامّة ، فكلّ ما له مدخلية في العلّية من الجهات والحيثيات يضمّ إلى العلّة حتّى ينتهى إلى شيء هو لذاته موجب تامّ لوجود المعلول ، وكلّ ما هو خارج عنه لا يكون له مدخلية في العلية. فالعلم بمثل هذا الموجب يوجب العلم بالمعلول. ولا ريب في أنّ وجود هذه العلّة له مدخلية في العلّية أيضا ، بل هو العلّة بالحقيقة. فعلى هذا الوجه يكون معنى قولهم : العلم بالعلّة يوجب العلم بالمعلول : إنّ العلم بوجود العلّة وبغيره ممّا له مدخلية في تمامية العلّة يوجب العلم بالمعلول.
ثمّ لا يخفى انّ الوجه الأوّل ليس مراد القوم ، إذ لا ريب في أنّ العلم بماهية العلّة من حيث هي لا يوجب العلم بالمعلول مطلقا ، وقد تقدّم ذلك. غاية الأمر صحّة هذا الوجه وجريانه في لوازم المهيات.
وكذا الوجه الثاني أيضا ليس مرادهم ـ لعدم الفرق فيه بين العلم بالعلّة والعلم بالمعلول في استلزام احدهما للآخر وعدمه ـ. وامّا الوجه الثالث وان كان صحيحا في نفسه إلاّ انّه ليس أيضا مراد القوم ـ لعدم الفائدة فيه ـ. فتعين أن يكون مراد القوم من المقدّمة القائلة بأنّ العلم بالعلّة يوجب العلم بالمعلول هو الوجه الرابع. فمرادهم منها : انّه إذا كان شيء لذاته بلا اعتبار أمر آخر علّة وموجبا لمعلول فمتى علم علم كونه علّة لذلك المعلول ومتى علم كونه علّة له وجب أن يحصل العلم به ـ أي : بذلك المعلول ـ.
والحاصل : انّ كلّ معلول من لوازم علّته التامّة بما هي علّة تامّة ، فكذلك العلم به من لوازم العلم بها. ولكون العلّة التامّة بما هي علّة تامّة ماهية أخذت معها الانية ـ أي : الوجود ـ أو نفس الانية فلا يرد انّه يلزم حينئذ أن يكون جميع المعلولات أمورا اعتبارية نظرا الى توهّم كون العلّة التامّة مجرّد الماهية. وقد تقرّر انّ لوازم المهيات أمور اعتبارية.
والحاصل : انّه وقع في هذا الايراد الاشتباه بين لوازم المهيات من حيث هى من غير اعتبار الوجود معها وبين لوازمها من حيث اعتبار الوجود معها ، فانّ المهيات على قسمين :
أحدهما : المهيات الّتي هي نفس الانيّات ، أو الّتي يؤخذ معها شيء منها ؛
وثانيهما : المهيات الّتي هي غير الانيّات وغير المأخوذة معها شيء منها. ولوازم القسم الأوّل لا تكون اعتبارية ، لأنّها لوازم الوجود الخارجي الّذي هو عين الماهية بهذا المعنى أو معتبر فيها، وهى موجودة به ؛ بخلاف لوازم القسم الثاني ، فانّها لا تكون إلاّ اعتبارية ـ لعدم مدخلية الوجود في لزومها ـ. ولا ريب في أن العلّة التامّة من حيث هي علّة تامّة من القسم الأوّل دون الثاني ، فلوازمه تكون موجودة لا اعتبارية.
وإذا تقرّرت تلك المقدمات نقول : يلزم أن يكون الواجب ـ تعالى ـ بوجوده الّذي هو عين ذاته سببا تامّا لوجودات جميع الممكنات بحكم المقدّمة الثانية ؛ وأن يعلم معلولاته لعمله بوجوده الّذي هو تمام حقيقته الّتي هي علّة تامة بحكم المقدمة الثالثة ؛
فيجب أن يعلم معلولاته بما هي معلولاته ـ أي : بحسب كونها موجودة لا بمجرّد ماهيتها من حيث هي هي مع قطع النظر عن خصوص وجوداتها ـ ، لانّها من تلك الحيثية فقط ليست معلولة له كما علمت من المقدّمة الثانية أيضا. والعلم بها من حيث كونها موجودة في الخارج وصادرة عنه ـ تعالى ـ ليس إلاّ بحضور نفس وجوداتها الخارجية لا بحصول ماهيتها وارتسام صورها في ذات العالم بحكم المقدّمة الاولى ؛ فعلمه ـ تعالى ـ بجميع الأشياء لا يمكن أن يكون بحصول صور مطابقة لها في ذات العالم ، بل يجب أن يكون بحضورها بأنفسها عنده وانكشافها بذواتها ووجوداتها لديه ، ويلزم منه أن يكون علمه بجميع الأشياء على الوجه الجزئي.
ومنها : انّه لو كان علمه ـ تعالى ـ بالأشياء بالصور القائمة بذاته لزم أن لا يعلم الجزئيات بجزئيتها ـ لا الابداعيات ولا الكائنات الفاسدات ـ ، وأن لا يعلم شيئا منها إلاّ بصورها الذهنية ، ولا ينكشف ذواتها عنده باعتبار وجوداتها العينية. وذلك لانّ كلّ صورة عقلية ولو تخصّصت بألف تخصيص لا يمنع لذاتها المشتركة فيها ، وقد تقدّم انّ العلم الحصولي لا يكون إلاّ كلّيا وانّ مناط العلم على الوجه الجزئي إمّا الاحساس أو العلم الحضوري ، والعلم الحصولي لا يكون إلاّ كلّيا. والسرّ ما أشير إليه من أنّ الصورة العقلية للشيء الحاصلة من اسبابه لا تكون إلاّ كلّية فلا يمكن ارتسام صورة الجزئى من حيث انّه جزئي في ذات المجرّد. على أنّ الجزئي لو كان مادّيا لم ينفكّ صورته عن اللواحق المادّية ـ من الوضع والكمّ وغيرهما ـ ؛ والمجرّد لا يكون محلاّ لها.
ولا ريب في أنّ القول بعدم علمه بالأشياء الجزئية على الوجه الجزئي وعدم انكشاف الأشياء باعتبار وجودها العيني عنده وانحصار علمه بها بالعلم بصورها الذهنية ونفي الشهود العيني عنه ـ سبحانه ـ ، في غاية الضعف والسخافة!. كيف وجميع الموجودات الكلّية والجزئية فائضة عنه ـ تعالى ـ؟! ، وهو مبدأ لكلّ وجود ـ عقليا كان أو حسيا ، ذهنيا كان أو عينيا ـ؟! ، وفيضانها عنه لا ينفكّ عن انكشافها عنده وظهورها لديه ـ كما عرفت فيما سبق ـ. ومن قال : إنّ الواجب لا يعلم الجزئيات إلاّ على وجه كلّى فقد أخطأ وبعد عن الحقّ. بل بعضهم ـ كالغزالي وغيره ـ حكم بكفر القائل بذلك ، وبعضهم لم يكفّره نظرا إلى انّه ما نفى عنه ـ تعالى ـ العلم بشيء من الأشياء ، بل إنّما نفى عنه نحوا من انحاء العلم الّذي هو العلم الحضوري ، وهذا ليس من ضروريات الدين. ويأتي تحقيق ذلك إن شاء الله ـ تعالى ـ.
فالحقّ الصريح انّ جميع الأشياء المبدعة والكائنة المعقولة والمحسوسة ـ سواء كانت ذوات العقلاء أو علومهم وسواء كانت قوى خيالية أو حسية أو ادراكاتها ـ معلومة له بالعلم الحضوري الجزئى ومنكشفة عنده بالشهود العيني ، لاستلزام صدورها عنه لذلك ، فلا يعزب عنه شيء من الأشياء لا باعتبار الشهود العيني ولا باعتبار الثبوت الذهني. فقوله ـ سبحانه ـ : لا يغرب عنه مثقال ذرّة في السموات ولا في الارض اشارة إلى الاعتبار الأوّل ؛ وقوله : ولا اصغر من ذلك ولا اكبر الاّ في كتاب مبين اشارة إلى الاعتبار الثاني.
فان قيل : يلزم على ما ذكرت من علمه ـ تعالى ـ بالجزئيات على الوجه الجزئي أن يكون للواجب علم لا يتغيّر ـ وهو علمه بالأشياء المتقدّمة على الزمان والدهر ـ ؛ وعلم متغير ـ وهو علمه بالأمور الكائنة الفاسدة ، لأنّ الجزئيات الكائنة الفاسدة متغيرة ، فاذا علمها على الوجه الجزئي يجب أن يعلمها في كلّ وقت على ما هي عليه من التغيّر ـ ، والتغيّر في علمه ـ تعالى ـ مطلقا باطل ؛
قلنا : هذه الأشياء وإن كانت في ذواتها وبقياس بعضها إلى بعض متغيّرة لكنّها بالنسبة إلى الواجب في درجة واحدة في الحضور. وبعضهم التزم لزوم التغيّر في حضور الاشياء الكائنة الفاسدة وشهودها عند الواجب ، إلاّ انّه قال : انّ هذا التغيّر لا يوجب تغيرا في الذات ولا في العلم الكمالي الذاتي ، بل التغيّر إنّما هو في النسب والأوصاف الاعتبارية. ومثل ذلك مثل من اطّلع على ما في كتاب دفعة ثمّ التفت إلى صفحة بعد صفحة ، فانّ العلم بما في الكتاب لا يتغيّر بحدوث تلك الالتفات.
وسيجيء لذلك زيادة بيان في موضعه.
ومنها : انّه لو كان علمه بالأشياء بالصور فتلك الصور إمّا أن تكون مكمّلة لذاته ـ تعالى ـ بحيث يكون ذاته ـ تعالى ـ بدونها ناقصة ويتوقّف ما هو كماله ـ المطلق أعني : علمه بالأشياء ـ عليها؛ أو لا يكون كذلك ، بل يكون تلك الصور بعد تمامية ذاته المقدّسة عارضة لها وخارجة عنها على وجه اللزوم بأن يكون من مقتضيات ذاته التامّة من جميع الوجوه الكاملة في كلّ صفة وكمال. فعلى الأوّل يلزم احتياجه في علمه ـ الّذي هو الكمال المطلق ـ إلى الغير ـ أعني : تلك الصور السابقة على الأشياء ، الّتي تسمّى بالعناية تارة وبالقضاء أخرى ، لأنّها زائدة ممكنة فهي مغايرة له تعالى ومع ذلك صارت كمالا له ـ تعالى الله عن ذلك ـ ؛ وعلى الثاني يلزم أن يعلم كلّ شيء في مرتبة ذاته مع قطع النظر عن جميع الاعتبارات ، فثبوت تلك الصور وعدمها سواء ، بل عدمها واجب في هذا الباب ، فعلمه بالكلّ انّما هو بنفس ذاته سواء وجد أو لم يوجد.
ومنها : ما ذكره بعض الأعاظم ، وهو : انّه لو كان علمه ـ تعالى ـ بالأشياء بحصول صورها في ذاته فلا يخلو : إمّا أن تكون تلك الصور المرتسمة في ذاته لوازم خارجية له ؛ أو لوازم ذهنية ؛ أو لوازم له مع قطع النظر عن الوجودين ؛ لا سبيل إلى الأخيرين ، لأنّه ليس له ـ تعالى ـ إلاّ نحو وجود واحد هو عين ذاته ـ تعالى ـ وهو الوجود الخارجي ، وليس له وجود ذهني بمعنى حصوله في الذهن من الأذهان ومدرك من المدارك حتّى يعرض له اللوازم الذهنية ـ كالكلّية العارضة لطبيعة الانسان إذا حصلت في ذهن من الأذهان ـ ، وكذا ليس له ماهية زائدة على وجوده الخارجي حتّى يعرض له لوازم الماهية من حيث هي ـ كالزوجية للأربعة مع قطع النظر عن الوجودين ـ ،. فتعيّن أن تكون تلك الصور لوازم خارجية له. وهذا أيضا باطل ، لانّ اللوازم الخارجية لا تكون إلاّ حقائق خارجية وتلك الصور ليست كذلك ، لأنّها ليست حقائق خارجية ، فانّ الجواهر الحاصلة في ذاته ـ تعالى ـ ليست جواهر خارجية ، بل جواهر ذهنية ، وكذا الأعراض الحاصلة فيه ـ تعالى ـ ليست أعراضا خارجية ، بل اعراضا ذهنية وان كان الكلّ باعتبار أعراضا ، فانّ الجميع من حيث قيامه بالذهن وعدم استقلاله في الوجود يعرض له مفهوم العرض. وأنت خبير بأنّ بناء هذا الوجه على أنّ لازم الوجود الخارجي يشترط فيه أمران :
أحدهما : أن يكون ثبوته للملزوم في الخارج ، بمعنى أن يكون الخارج ظروف وجوده ؛
وثانيهما : أن يصدق عليه انّه حقيقة كذا خارجية كما يصدق على الحرارة أنّها حرارة خارجية ، وعرض خارجي وعلى الصورة النوعية مثلا أنّها صورة خارجية وجوهر خارجي ، والصور القائمة بذاته ـ تعالى ـ وان كانت ثابتة له ـ تعالى ـ في الخارج وكان الخارج ظرف وجودها إلاّ انّه يصدق عليها أنّها حقائق كذا خارجية فلا يصدق على صورة الجسم المرتسمة في ذاته انّها جسم خارجي ولا انّها جوهر خارجي ، فلا تكون لوازم خارجية. وغير خفي انّ اشتراط الأمر الثاني في اللزوم الخارجي غير ظاهر ، وليس مصرّحا به في كلام القوم ، ولا يقتضيه دليل ولا برهان ؛ فانّ القدر الملخّص ممّا يعتبر في لوازم الوجود الخارجي كونها موجودا في الخارج بحيث يترتّب عليه الآثار الخارجية. ولا ريب في أنّ الصور المرتسمة في ذاته ـ تعالى ـ على فرض تحقّقها وارتسامها موجودة في الخارج كما انّ الواجب موجود فيه ، لانّ المحلّ إذا كان موجودا خارجيّا يكون حاله القائم به أيضا كذلك. ويترتّب عليها أيضا الآثار الخارجية لأنّها تصير بزعمهم منشأ لصدور الموجودات عنه ، وكلّ منها يصير سببا لارتسام أخرى. ولو اعتبر هذا الأمر في اللازم الخارجي لزم أن لا يكون شيء من الصور المرتسمة في النفس شيئا من اللوازم الثلاثة ؛ أمّا عدم كونها لوازم الماهية فظاهر ؛ وأمّا عدم كونها لوازم الوجود الخارجي فلما ذكر في الصور المرتسمة في ذاته ـ تعالى ـ بعينه ، لأنّها ليست حقائق خارجية ، فانّ صورة الجسم المرتسمة في النفس لا يصدق عليها أنّها جسم خارجي أو جوهر خارجي ، وقس عليها سائر الحقائق من الجواهر والاعراض ؛ وأمّا عدم كونها من لوازم الوجود الذهني فلأنّ لازم الوجود الذهني هو أن لا يتصف به الملزوم في الخارج أصلا ، وإذا حصل في أي ذهن اتصف به فيه. ولا ريب في أنّ الصور المرتسمة في النفس يتصف النفس بها في الخارج والخارج ظرف وجودها ، وإذا حصلت النفس في أيّ ذهن ومدرك لا تحصل تلك الصور معها.
فان قيل : الصور المرتسمة في النفس ليست لوازم لها حتّى يجب أن يكون واحدا من اللوازم الثلاثة ، بل هي عوارض لها ؛ وحينئذ لا يرد النقض بها ؛
قلنا : لو سلّم ذلك نقول : انّ العوارض أيضا منحصرة في الاقسام الثلاثة ، ولا يخلو عارض عن أحدها ؛ والبيان المذكور يجري في عدم كونها شيئا من العوارض الثلاثة.
فالحقّ انّ الامر الثاني ليس شرطا في اللازم الخارجي ولا في عارضه. وقيام الشيء في ذات خارجية وكون الخارج ظرفا لوجوده يكفي في كونه لازما خارجيا أو عارضا كذلك ، ولو لم يكف ذلك لزم عدم كون شيء من الاخلاق والصفات القائمة بالنفس أيضا من اللوازم أو العوارض الخارجية.
وبذلك يظهر انّ هذا الوجه غير ناهض لإبطال العلم الحصولي.
ومنها : ما ذكره بعض الأعاظم أيضا ، وهو : انّه لو كان علم الواجب بالأشياء بارتسام صورها في ذاته لزم صدور الكثرة عن الواحد ، لانّ المعلول الأوّل يكون صدورها عن المبدأ على هذا المذهب مشروطا بسبق صورته مع أنّ حصول صورة المعلول الثاني في ذاته ـ تعالى ـ أيضا مشروط على هذا المذهب بسبق صورة المعلول الأوّل ، فيلزم أن يكون الواحد الحقّ باعتبار صورة واحدة من جهة واحدة يفعل فعلين مختلفين ـ أعنى : ايجاد المعلول الأوّل في الخارج واثبات صورة المعلول الثاني في ذاته ـ.
فان قيل : لعلّ ذاته من حيث ذاته علّة لوجود المعلول الأوّل ومن حيث علمه بذاته علّة لحصول صورة المعلول الأوّل في ذاته ، ثمّ باعتبار المعلول الأوّل علّة لوجود المعلول الثاني وباعتبار ارتسام صورته علّة لحصول صورته ... وهكذا ؛ فلا يلزم صدور الكثرة عن الواحد ؛
قلنا : على هذا الفرض يكون وجود المعلول الأوّل وعلمه ـ تعالى ـ به في مرتبة واحدة لاتحاد مرتبة علّتهما ـ اعني : وجود الواجب بذاته وعلمه تعالى بذاته ـ ، فلا يتقدّم العلم حينئذ على الايجاد ، مع أنّ القائلين بالعلم الحصولي مصرّحون بتقدّمه عليه ويكون علمه ـ تعالى ـ بالأشياء علّة لوجودها.
وما هداهم إلى اثبات الصور في ذاته ـ تعالى ـ إلاّ كون علمه بكلّ شيء سببا لوجوده في الخارج عندهم ، فاذا لم تكن الصورة العقلية للمعلول الأوّل موجبا لوجوده ـ كما هو اللازم في الفرض المذكور ـ يبطل أصل مذهبهم.
وأيضا : إذا كان ذاته ـ تعالى ـ علّة لذات المعلول الأوّل وعقله لذاته علّة لعقله المعلول الأوّل فلا يخلو : إمّا أن يكون ذاته ـ تعالى ـ وعقله لذاته أمرا واحدا وحيثية واحدة ؛ أو لا يكون كذلك ،
فعلى الأوّل : يلزم التكثر في ذاته ـ تعالى ـ ، وهو باطل ؛
وعلى الثاني : يلزم أن يكون وجود المعلول الأوّل وعقل الواجب له شيئا واحدا وحيثية واحدة بلا اختلاف إلاّ بحسب العبارة لاتحاد علّيتهما ؛
وكذا يلزم اتحاد وجود المعلول الثاني وعقل الواجب أو المعلول الأوّل له من غير تغاير يقتضي مباينة احدهما للأول ـ تعالى ـ واستقلاله في الوجود ومقارنة الثاني له ـ تعالى ـ وحلوله فيه ـ كما هو كذلك عند القائلين بالعلم الصوري ـ.
ومنها : ما أورده بعض أفاضل المتألّهين في ابطال العلم الحصولي مطلقا ـ أي : سواء كان في علم الباري ـ سبحانه ـ أو علم النفس ـ ، وهو : انّه لو تحقّق علم حصولي لكان العلم إمّا نفس حصول الصورة أو نفس الصورة أو أمرا لازما لحصول الصورة ؛ والأوّلان باطلان ـ وإلاّ يصحّ أن يشتقّ من الحصول والصورة ما يتصف به الواجب أو النفس كالحاصل او المصوّر ويفيد ما يفيد العالم ، وليس الامر كذلك ـ ؛ والثالث أيضا باطل ، لانّ الصورة الّتي جعلوها ملزوما للعلم إمّا أن تكون مباينة لذي الصورة ، أو تكون مساوية له ؛ والأوّل يوجب كون المباين للشيء معرفا له ، وهو بديهي الفساد ؛ والثاني يوجب مساوات الصورة وذي الصورة في جميع اللوازم والذاتيات ـ لعدم ثبوت المساوات الكلّي بينهما بدون ذلك ـ ، وهو أيضا خلاف الواقع.
ومنها : انّ العلم بانكشاف ذوات الأشياء بوجوداتها العينية أتمّ في باب العلم من ارتسام صورها، لانّ المعلوم بالذات والمنكشف بالحقيقة في العلم الصوري هو الصورة دون الاعيان الخارجية. ولا ريب في أنّ العلم بذات الشيء ووجوده العيني أتمّ من العلم بصورته ، وحصول الأتمّ للواجب ممكن في حقّه ، فيجب اتصافه به دون الأنقص ـ لأنّه نقص في حقّه ـ.
ومنها : انّ القول بالعلم الصوري مناف للإبداع ـ لانّه هو الايجاد من غير مثال ـ ، وعلى العلم الصوري يتحقّق ايجاد كلّ شيء بمثال محقّق قبله. وهو خلاف ما ثبت من شرائع الأنبياء ونصّ عليه ائمّتنا النقباء ـ عليهم افضل التحية والثناء ـ ؛ وفي الخبر عن الباقر ـ عليه السلام ـ انّه قال: انّ الله ابتدع الأشياء بعلمه على غير مثال كان قبله (2).
هذه هي الوجوه الّتي تدلّ على بطلان العلم الحصولي. وقد عرفت انّ اكثرها تامّة وهي كافية لاثبات المطلوب ، فعدم تمامية بعضها غير قادح. وبذلك يظهر انّ القول بالعلم الحصولي ظاهر الفساد.
ثمّ انّ القائلين به قد احتجّوا عليه بأن الله ـ تعالى ـ يعلم ذاته ، وذاته سبب تامّ للأشياء والعلم بالسبب التامّ للشيء يوجب العلم بذلك الشيء ، فذاته ـ تعالى ـ يعلم جميع الأشياء في الأزل ، فلا بدّ أن يكون لها فيه امّا الوجود العيني أو الصوري لتحقّق العلم فيه ، إذ لو لم يكن للأشياء وجود أصلا ـ لا عينا ولا صورة ـ لم يتحقّق العلم بها ، إذ العلم يستدعي التعلّق بين العالم والمعلوم سواء كان نفس التعلّق والاضافة أو صفة موجبة له ، والتعلّق بين العاقل والمعدوم الصرف محال ـ لاستلزام النسبة تحقّق الطرفين بوجه ـ ؛ لكن تحقّق الأشياء في الأزل بوجودها الخارجي محال ـ والاّ لزم قدم الحوادث ، وهو محال عند الكلّ ـ ، فبقى كونها موجودة بالوجود الصوري قبل وجودها الخارجي ، لا في الخارج مباينا عن ذاته ـ تعالى ـ ليلزم المثل الافلاطونية ، بل في ذات الباري ؛ وهو المراد بالعلم الحصولي.
وأورد عليه : بانّه منقوض بالقدرة الازلية المتعلّقة بالحوادث المقتضية لنسبة ما بين القادر والمقدور مع عدم توقّفها على وجود المقدور ضرورة.
واعترض عليه بأنّ مثل هذه النسبة ـ أي : الذاتية ـ بين القادر والمقدور لا يقتضي وجود الطرفين تحقيقا ، بل يكفي فيها الوجود التقديري ، إذ النسبة مطلقا تقديرية.
والوجه أن يقال : النسبة وإن لم يقتض تحقّق الطرفين بالفعل ، لكن تحقّق العلم يقتضيه ، إذ العلم يستلزم انكشاف المعلوم عند العالم والمعدوم الصرف لا منزلة له أصلا حتّى يكون منكشفا ؛ انتهى.
واجيب عنه : بأنّ الفرق بين القدرة والعلم في حقّ الله ـ تعالى ـ بكون أحدهما يستدعى التعلّق دون الآخر غير صحيح ، لانّ صفاته الحقيقية كلّها معنى واحد وحقيقة واحدة هي ذاته الأحدية. ولا يجوز قياس قدرته ـ تعالى ـ على قدرتنا ، فانّ القدرة فينا نفس القوّة واستعداد الفاعلية وفي الواجب محض الفعل والتحصيل ـ لبراءته عن شائبة الامكان والاستعداد ـ ، فوزان علمه وقدرته في تعلّقهما بالممكنات واحد من غير تفاوت ؛ انتهى.
أقول : غير خفي انّ كلّ واحد من العلم والقدرة قد يراد به ما هو مبدئه ، وقد يراد به المعنى الاضافي الّذي هو حقيقته ؛ فعلى الأوّل لا فرق بين العلم والقدرة ، لانّ مبدأ كلّ منهما هو الذات الاحدية ، فلا يتصوّر بينهما فرق بوجه ؛ وعلى الثاني نقول : لا ريب في أنّ المراد بالعلم بهذا المعنى هو الانكشاف ، والمراد بالقدرة إمّا امكان الفعل والترك بالنظر إلى الذات أو نفس الفعل أو الترك بالعلم أو المشيئة ، ولا ريب في انّ انكشاف جميع الاشياء عنده ـ أزلا وأبدا وجدت أو لم توجد ـ واجب ، لأنّ خلافه نقص في حقه ـ تعالى ـ ولو بالنسبة إلى بعضها في بعض الاوقات. فالانكشاف من الصفات الكمالية الّتي عدمها نقص وقصور ، فتحقّقها قبل وجود الاشياء أيضا لازم ؛ وامّا القدرة بمعنى نفس الصدور أو اللاصدور فيرجع إلى معنى الفاعلية وهي من الصفات الإضافية الّتي لا يلزم تحقّقها أزلا وأبدا ، بل تحقّقها في مرتبة الذات نقص وقصور لوجوب تأخّر المفعول عن الفاعل. فالقدرة بهذا المعنى لا يلزم وجودها للواجب في حال عدم الأشياء ، وفي حال وجودها يتحقّق وجود طرفي النسبة ، فلا يرد بها نقص مطلقا.
وأمّا القدرة بمعنى امكان الفعل والترك ـ ... إلى آخره ـ ، فهي ذاتيّة له ـ تعالى ـ في الأزل وتحقّقها قبل وجود المقدور لازم ، إلاّ أنّها لا تتوقّف على وجود المقدور ، لانّ كون الذات بحيث يصحّ منه صدور الشيء وعدم صدوره لا يتوقّف على وجود هذا الشيء ، اذ وجود هذا الشيء في مرتبة القدرة مناقض لكونه متعلّق القدرة. غاية الامر أن يقال : انّ مقدورية الشيء يتوقّف على وجوده العلمي ، لانّ استواء نسبة الذات إلى فعل الشيء وتركه لا يتحقّق بدون تصور ذلك الشيء ، فلا بدّ من وجوده العلمي. إلاّ أنّ ذلك لا يوجب نقضا على توقّف العلم على الوجود العيني أو الصوري ، لانّ بعد تسليم ذلك غاية الأمر أن يكون العلم أيضا مثله ، فيتوقّف على الوجود الصوري.
وبذلك يظهر اندفاع الايراد المذكور على ما احتجّوا به لاثبات العلم الحصولي ، و يتوجّه الاعتراض على الّذي نقلناه على الايراد المذكور ؛ ويندفع الجواب المذكور عنه.
وحينئذ فالجواب عن الاحتجاج المذكور : انّ غاية ما يدلّ عليه هذا الاحتجاج اقتضاء الانكشاف نحوا من الوجود للأشياء المنكشفة ، وهو لا ينحصر بالوجود الصوري ، فانّ القائلين بالعلم الحضوري يثبتون لها نحوا من الوجود قبل وجودها العيني ؛ وستعلم هذا النحو من الوجود على ما اخترناه ؛ هذا.
وقد استدلّ أيضا على انّ عالميته ـ تعالى ـ بالأشياء بارتسام صورها في ذاته : بأنّ الواجب لو تعقّل الأشياء من الأشياء ولم يكن متعقّلا لها قبل وجودها لكان وجوداتها متقدّمة على عاقليته ـ تعالى ـ لها ، ويكون في ذاته وقوامه أن يقبل معقولات الأشياء ـ أي : صورها العقلية ـ منها بعد أن كان فيه عدمها باعتبار ذاته ، فيكون ذاته بذاته عادما لمعقولات من شأنها حصولها له. ففيه اذن جهة امكانية ويكون لغيره مدخلية في تتميم ذاته ، فلا يكون الأوّل ـ تعالى ـ واجب الوجود من كلّ جهة. وقد تقرّر انّ واجب الوجود بالذات واجب الوجود من جميع الجهات. وحينئذ فيجب أن يكون له من ذاته الأمر الأكمل لا من غيره ، فيكون علمه بالممكنات حاصلا له ـ تعالى ـ قبل وجودها.
والجواب : انّه لا ريب في وجوب تقدّم علمه ـ تعالى ـ على وجودات الأشياء إلاّ أنّ ذلك لا يوجب كون هذا العلم المتقدّم هو العلم الصوري ، فانّ القائلين بالعلم الحضوري أيضا يقولون بتقدّمه على وجود الأشياء ، وأمّا كيفية ذلك فيظهر بعد ذلك ؛ هذا.
وأعترض ابو البركات البغدادي على الاستدلال المذكور بأنّ قولهم : لو كان علمه مستفادا من الأشياء لكان لغيره مدخلية في تتميم ذاته ، منقوض بكونه ـ تعالى ـ فاعلا للأشياء ، فانّ فاعليته لها انّما يتمّ بصدور الفعل عنه ، فيجب أن يكون لفعله مدخل في تتميم ذاته ، وذلك باطل ؛ فيلزم نفي كونه ـ تعالى ـ فاعلا للأشياء ، فكما انّ هذا الكلام باطل فكذا ما قالوه ؛
وأجاب عنه بعض الأعاظم : بأنّ الفاعلية وكذا العلم والقدرة ونحوها قد يطلق ويراد بها نفس المعنى الاضافي ـ إذ لا شكّ في أنّها بهذا الاعتبار متأخّرة عن وجود ما اضيف هي إليه ، لانّها مستفادة منه ـ ، وقد يطلق ويراد مبادي تلك الاضافات ، وهي بهذا الاعتبار متقدّمة على وجود ما تعلّقت به. وليست تلك الصفات بالاعتبار الأوّل صفات كمالية لذات الواجب ـ تعالى ـ ، بل انّما هي صفات كمالية بالاعتبار الثاني ، ففاعليته الّتي هي صفات كمالية له ـ تعالى ـ هو كونه بحيث يتبع وجوده وجود جميع الأشياء الموجودة ، وعالميته بحيث ينكشف له الأشياء ؛ وعلى هذا فقس سائر الصفات الكمالية له ـ تعالى ـ. فكما انّ فاعليته الحقيقية لا تتوقّف على وجود الفعل ـ لأنّ وجود الفعل يتوقّف على كونه فاعلا ـ فلو تحقّق العكس أيضا لزم الدور ، فوزانه في علمه ـ تعالى ـ أن يجعل المعلوم تبعا للعلم لا العلم تبعا للمعلوم ؛ انتهى.
ولعلّك بعد الاحاطة بما ذكرناه آنفا تعلم ما في كلام أبي البركات ، وكلام المجيب المذكور من الاجمال والاخلال ، وتعرف منه في أمثال المقام جلية الحال ؛ هذا.
وربما أيّد القول بالعلم الحصولي بكلام انكسيمالس الملطي حيث قال : « انّ كلّ مبدع ظهرت صورته في حدّ الابداع فقد كانت صورته في علم مبدعه الأوّل ، والصور عنده غير متناهية »؛ ثمّ قال : « ولا يجوز في الرأي إلاّ أحد القولين : إمّا أن نقول : ابدع ما في علمه ، وإمّا أن نقول: ابدع اشياء لا بعلمها ؛ وهذا القول من المستشنع ، وإن قلنا : ابدع ما في علمه فالصور ازلية بأزليته ، وليس يتكثّر ذاته بتكثّر المعلومات ولا يتغيّر بتغيّرها ؛ انتهى.
وأنت خبير بأنّ هذا الفيلسوف أوّل القائلين بالعلم الصوري ومجرّد قوله به لا يصير حجّة أو تأييدا لحجّة. وأمّا استدلاله فانّك وان عرفت جوابه من المباحث المتقدّمة إلاّ أنّا نشير أيضا إلى ما أجاب به عنه بعض المحقّقين ؛ وهو انّه قال بعد نقل الكلام المذكور : ويرد عليه وجهان :
أحدهما : انّه لم يتعرّض لكيفية فيضان الصور من الذات بمعنى كونه بالعلم المقدّم أو لا ؛ وعلى الأوّل يرد عليه انّ العلم المقدّم الّذي هو عين الذات ـ دفعا للتسلسل ـ كافّ للعلم بالموجودات العينية ، فما الدليل على فيضان الصور العلمية قبل الايجاد العيني؟! ؛ وعلى الثاني يرد عليه : انّ هذا قول بأنّ الله ـ تعالى ـ ابدع اشياء لا بعلمها وهذا قول مستشنع ـ كما ذكره ذلك الفيلسوف ـ ؛
وثانيهما : انّه يرد عليه انّ هذه الصور إمّا جواهر أو اعراض ، فان كان الأوّل لزم أن يكون موجودات عينية لا بدّ لها من صور اخر للعلم بها ، والكلام في ذلك كالكلام في أصل الصور ؛ وان كان الثاني لزم أن يكون واجب الوجود بالذات محلاّ لها وفاعلا لها ، والقول بأنّ الواجب ليس محلاّ لها ـ لكونه غير متأثّر عنها ، بل انّما هو فاعل لها ـ قول بكونها جواهر كباقي الممكنات. ولا خفاء أيضا في أنّ علم واجب الوجود باعتبار هذه الصور ليس علما كماليا ذاتيا لكونه تابعا لفيضان تلك الصور ، فعلى تقدير انحصار العلم المقدّم في فيضان الصور المنكشفة لزم أن لا يكون للذات علم هو كمال ذاتي غير تابع للتأثير ؛ انتهى.
وقد اعترض بعض العرفاء على هذا الجواب بوجوه قد ظهر اندفاعها من كلماتنا السالفة. وقد ظهر ممّا ذكر ظهورا بيّنا انّ المذهب الرابع ـ أعني : القول بالعلم الصوري ـ باطل.
__________________
(1) راجع : شرح الطوسي على الاشارات والتنبيهات ، ج 3 ص 304.
(2) راجع : بحار الانوار ، ج 57 ص 85.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|