المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

العقائد الاسلامية
عدد المواضيع في هذا القسم 4878 موضوعاً
التوحيد
العدل
النبوة
الامامة
المعاد
فرق و أديان
شبهات و ردود
أسئلة وأجوبة عقائدية
الحوار العقائدي

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية
نظرية الغبار البركاني والغبار الذي يسببه الإنسان Volcanic and Human Dust
2024-11-24
نظرية البقع الشمسية Sun Spots
2024-11-24
المراقبة
2024-11-24
المشارطة
2024-11-24
الحديث المرسل والمنقطع والمعضل.
2024-11-24
اتّصال السند.
2024-11-24

السترويدات Steroids
14-1-2021
المدير الذكي الفعال.. يمكن تكوينه!
2024-03-17
حلم الخوخ الفضي Silver Peach Mite
11-6-2021
طاقة التنشيط الناشئة عن الشوائب impurity activation energy
23-4-2020
benefactive (adj./n.) (ben, BEN)
2023-06-13
Defeasible implicatures
2023-12-27


قول الحكماء في إثبات كونه عالما بذاته  
  
1355   09:12 صباحاً   التاريخ: 5-08-2015
المؤلف : مهدي النراقي
الكتاب أو المصدر : جامع الأفكار وناقد الأنظار
الجزء والصفحة : ص11.ج2
القسم : العقائد الاسلامية / التوحيد / صفات الله تعالى / الصفات الثبوتية / العلم و الحكمة /

 انّ واجب الوجود ـ تعالى شانه ـ مجرّد غاية التجرّد والمراد « بغاية التجرّد » الثابت للواجب على المشهور : كونه غير جسم وغير جسماني ـ أي : ليس مادّة ولا مقارنا لمادّة ـ أو موضوع مقارنة الصور والاعراض ؛ وبالجملة كونه قائما بذاته غير متعلّق الهوية والوجود بشيء يقوم به أصلا. وعند المحقّقين : كونه غير محتاج إلى الارتباط بالغير ، بل كونه محض الوجود الحقيقي المنزّه عن الماهية والأعراض. والبراهين القاطعة قائمة على ثبوت التجرّد بالمعنيين في حقّه ـ سبحانه ـ ، وكلّ مجرّد ـ بكلّ واحد من المعنيين ـ عاقل ؛ وبالعكس ـ أي : كلّ عاقل مجرّد باحدى المعنيين ـ. واثبات العكس هنا غير مقصود لنا ، بل المقصود والمهمّ لنا اثبات الأصل ـ أي : كون كلّ مجرّد عاقلا ـ ليثبت به كون الواجب ـ تعالى ـ عالما. وبيانه يتوقّف على تمهيد مقدّمات :

الاولى : انّ التعقّل عبارة عن ادراك المجرّد الموجود القائم بذاته شيئا لم يعرضه العوارض الجزئية الّتي تلحق بسبب المادّة في الوجود الخارجي من الكمّ والكيف والأين والوضع وغير ذلك من العوارض المادّية ، إمّا بعينه أو بصورته ؛ وبتقرير آخر : عبارة عن حضور المعلوم بعينه أو بصورته عند المجرّد الموجود القائم بذاته وانكشافه لديه ووجوده بين يديه. وهذا الحضور ـ أي : حضور الذات عند الذات ، أو حضورالصورة عندها بحصولها فيها ـ ارتباط يحصل لأجله الانكشاف ، ولولاه لم يكن معنى للانكشاف ، لانّه لا يتصوّر انكشاف شيء لآخر بدون تحقّق ربط بينهما ، ولو لا اشتراطه لكان كلّ شيء منكشفا لكلّ شيء. والربط المصحّح للانكشاف منحصر بحضور الذات أو حصول الصورة ، ولا يتصور ربط غيرهما. ومع تحقّق أحدهما لا ريب في تحقّق الانكشاف ـ كما هو ظاهر بالبداهة من علم النفس بذاتها وبالأشياء الحاصلة صورها فيه ـ.

وقد ظهر من تلك المقدّمة انّ المناط في كون الشيء عاقلا أن يكون مجرّدا قائما بذاته أي : غير حالّ في غيره ، سواء كان ذلك الغير مادّة أو موضوعا. وبدون تحقّق الشرطين لا يتحقّق العاقلية ولا يكفي أحدهما ، ولا يتّصف الصورة العقلية بالعاقلية مع كونها مجرّدة ، ولا يتّصف الجسم بها مع كونه قائما بذاته. والمناط في كون الشيء معقولا حصوله لموجود مجرّد قائم بذاته، سواء كان ذلك الحصول بالحلول فيه أو بحضور ذاته عنده فمجرّد كون الشيء مجرّدا عن المادّة لا يوجب معقوليته ، بل يشترط مع ذلك كونه حاضرا عند العقل أو حالا فيه. فكلّ مجرّد قائم بذاته يصحّ أن يكون عاقلا ، ومن شأنه ذلك ؛ وكلّ مجرّد يصحّ أن يكون معقولا ، ومن شأنه ذلك. إلاّ انّ ذلك لا يوجب حصول التعقّل بالفعل ، بل فعلية التعقّل يتوقّف على الحضور أو الحلول ، وهما يتوقّفان على الموجب والمصحّح لهما. فاذا حصل مصحّح الحضور أو الحلول حصل التعقّل بالفعل. وستعلم ما هو المصحّح لها. وقد ظهر أيضا من تلك المقدّمة انّ المانع من التعقّل إمّا مانع من العاقلية ، أو مانع من المعقولية ؛ والمانع من العاقلية هو كون الشيء غير مجرّد عن المادّة ـ سواء كان نفس المادّة أو علائقها ـ ، أو كونه قائما بغيره ويجمعها كون الشيء موجودا بغيره ، فانّه يصدق على كلّ ما ليس مجرّدا عن المادّة ـ سواء كان نفس المادّة أو متعلّقا بها من الصور والأعراض ـ انّه موجود بغيره.

أمّا الأوّل : فلأنّ المادّة من حيث هى ليست موجودة في حدّ ذاتها ، بل يتوقّف وجودها على وجود الصورة ؛ وامّا الثاني : فلأنّه يصدق على كلّ ما يقوم بغيره من الصور والأعراض الخارجية ومن الصور المعقولة انّه موجود بغيره ؛ « فالغير » يكون أعمّ من المادّة ، و « الموضوع » اعمّ من الجسم والنفس.

والمانع من المعقولية هي المادّة وعلائقها ، لكن المادّة وعلائقها ليست مانعة من كون الشيء معقولا مطلقا ، بل من كون الشيء معقولا بحلوله في العاقل لا بأن يكون الشيء معقولا بحضور عينه عنده ، فانّ المعقولية قد تكون بحضور عين الشيء عند العاقل وقد تكون بحضور صورته عنده بأن تكون صورته حالّة فيه ؛ وحينئذ يجب أن تكون تلك الصورة مجرّدة عن المادّة وعلائقها. وأمّا إذا كان عين الشيء حاصلا عند العاقل ـ كحصول المعلول للعلّة ـ فلا يجب هناك التجرّد عن المادّة وعلائقها ـ كما يأتي ـ فلا يصحّ القول بكون المادّة مانعة من التعقل على اطلاقه ، ولا حصر للمانع من التعقّل مطلقا في المادّة وعلائقها.

ولا بدّ هنا من بيان اقسام العلم بل اقسام مطلق الإدراك وبيان أحكام كلّ منها لشدّة الاحتياج إليها.

فنقول : الإدراك هاهنا على ثلاثة أقسام :

الاوّل : الإدراك بالحواس الظاهرة ـ أعني : السمع والبصر واللمس والذوق والشمّ ـ أو بالحواسّ الباطنة ـ كالمتخيلة والواهمة ـ. ويسمّى المدرك بهما محسوسا كما يسمّى المدرك بالقوّة العاقلة ـ أعني : النفس بقوّتها النظرية ـ معقولا. ثمّ المدرك بالحواسّ ـ ظاهرة كانت أو باطنة ـ هو الشيء الّذي يقارنه أمور غريبة عن مهيته ، إمّا مقارنة مؤثّرة فيه كمقارنة الانسانية في الخارج للموضع والمقدار وغير ذلك ، فانّه لو فرض ارتفاع تلك الأمور ـ أعني : الوضع والمقدار عن الانسانية الخارجية ـ لانعدمت تلك الانسانية أيضا ؛ أو مقارنة غير مؤثّرة كمقارنة السواد للحركة ـ حيث لا يرتفع أحدهما بارتفاع الاخر ـ. وبالجملة فالمدرك بالقوى الظاهرة والباطنة لا ينفكّ عن مقارنة المادّة وعلائقها ، لانّ كلّ حقيقة تلحقها أمر غريب عن ذاتها ـ من الوضع والأين وغير ذلك ـ فانّما يلحقها لا لذاتها ، بل لحيثية استعدادية تلحقها ، إذ لو لحقها لذاتها لما تخلف عنها أصلا وكان جميع افراد الماهية متساوية في الاتصاف به ، وجميع جهات القوّة والاستعداد ينتهي بالذات إلى المادّة الجسمية ـ كما حقّق في محلّه ـ. فجميع ما وجوده الادراكي في القوى الجسمانية الظاهرة ـ كالمشاعر الخمس الظاهرة ـ أو في القوى الجسمانية الباطنة ـ كالحواس الخمس الباطنة ـ مصادفة ومقارنة لعوارض غريبة وانفعالات مادّية البتة. وهذا في مدركات المشاعر الظاهرة ظاهر ، وأمّا في مدركات القوى الباطنة فلأنّ كلّ قوّة جسمانية تدرك صورة فلا ريب في أنّ تلك الصورة تحلّها بمادّتها ، إذ لو حلّت فيها مجرّدة عن المادّة لزم أن تكون تلك القوّة الّتي هي محلّها أيضا مجرّدة لا جسمانية ؛ هذا خلف!.

بيان الملازمة : انّ القوّة لو لم تكن حينئذ مجرّدة لكانت مادّية أي : مخصوصة بغواش مادّية من مقدار معيّن وأين معيّن وكيف معيّن ووضع معيّن ـ ، وكانت منقسمة أيضا : وإذا كان المحلّ مادّيا منقسما لكان الحالّ أيضا مادّيا منقسما مع انّ الفرض تجرّده ، هذا خلف! ؛ بيان الملازمة : انّ اختصاص المحلّ بالمقدار المعيّن والأين والوضع المعيّنين يوجب اختصاص الحالّ به أيضا، وكذا انقسامه يوجب انقسامه ؛

امّا الأوّل : فلأنّ الحالّ مفتقر إلى المحلّ ، فلو كان المحلّ مفتقرا إلى المقدار والوضع والأين لكان الحالّ أيضا مفتقرا إليها ـ لانّ المحتاج إلى المحتاج إلى الشيء محتاج إلى هذا الشيء ـ مع انّه قد فرض الحالّ مجرّدا غير محتاج إلى شيء منها.

وامّا الثاني : فلأنّ الصورة المعقولة تحمل في العاقل من حيث ذات العاقل لا من حيث لحوق طبيعة اخرى ، والحلول إذا كان من حيث ذات المحلّ لا من حيث لحوق طبيعة أخرى ـ كحلول النقطة في الخطّ ، فانّ حلولها فيه ليس من حيث ذات الخطّ ؛ بل من حيث انتهائه ـ يستلزم فيه انقسام المحلّ انقسام الحالّ ، وإذا كان الحالّ منقسما فامّا ينقسم الى اجزاء متشابهة في الحقيقة  أو إلى اجزاء متخالفة في الحقيقة ؛ وعلى الأوّل فمعلوم لزوم كون الصورة المعقولة الّتي فرضناها مجرّدة عن اللواحق المادّية ـ من المقدار والوضع ـ مادّية مقارنة لها ، لأنّها منقسمة وكلّ منقسم يلحقه التقدير والوضع ، وكلّ متقدّر ذو وضع مادّى ؛ يلزم أن تكون الصورة العقلية حينئذ مشابهة لاجزائها في تمام الماهية. ولا شكّ انّ كلّ واحد من تلك الأجزاء حاصل في التعقّل كحصول الكلّ ، وانّ حصول الماهية يتحقّق بحصول واحد ، إذ لا معنى لتعقّل الشيء الاّ حصول مهيته في التعقّل ، ففي الجزء الواحد كفاية عن الاجزاء الاخر في المعقولية. فتكون الصورة العقلية معروضة للزيادة والنقصان ، فلا تكون مجرّدة عن العوارض المادّية ؛ هذا خلف!.

وعلى الثاني ـ أي : كون الصورة منقسمة الى اجزاء متخالفة في الحقيقة ـ : فمع لزوم الخلف أيضا يلزم كونها مركّبة من اجزاء غير متناهية بالفعل ، لانّ المحلّ ـ لكونه مادّيا ـ يقبل القسمة إلى غير النهاية ، فالحالّ أيضا يقبلها إلى غير النهاية. والغرض انّ الاجزاء متخالفة في الحقيقة، فلا بد أن تكون حاصلة في المركّب بالفعل ، وتركّب الشيء من اجزاء غير متناهية بالفعل محال.

واعترض على الأوّل : بأنّا لا نسلّم انّ اتصاف المحلّ بهذه العوارض وافتقارها إليها يقتضي اتصاف ما يحلّ فيها بها وافتقاره إليها ، فانّ اتصاف المحلّ بصفة لا يوجب اتصاف الحالّ فيه بها ؛ ألا ترى انّ الجسم يتصف بالبياض مع أنّ الحركة الحالّة فيه لا يتّصف به؟!. سلّمناه ، لكن اتصاف الصورة الحالّة في محلّ بهذه العوارض من قبل محلّها لا ينافي تجرّدها عنها بحسب ذاتها.

والجواب عنها : انّ قوام وجود الحالّ وتحقّقه انّما هو بمحلّه ، فهو مفتقر إلى المحلّ فيما يحتاج إليه المحلّ ولا ينفكّ عنه من المقادير والأوضاع ، والاّ يحتاج إليه في الحالّ أيضا ولا ينفكّ عنه، لانّ المحتاج إلى المحتاج إلى الشيء محتاج إلى هذا الشيء. ولا يلزم من ذلك اتصاف الحال بما يتصف به المحلّ وان لم يفتقر إليه ، فانّ المدّعى انّ ما يفتقر إليه المحلّ ولا ينفك عنه يفتقر إليه الحالّ أيضا ، لا انّ ما يتصف به المحلّ بدون الافتقار ـ كاتصاف الجسم بالبياض ـ يتصف به الحالّ أيضا ؛ والفرق بينهما ظاهر. فالقياس الّذي ذكره المعترض ساقط. ثمّ احتياج الحالّ إلى ما يحتاج إليه المحلّ من اللوازم الجسمية يكفي لكونه ماديا وان حصل ذلك بواسطة المحلّ ، لانّ المجرّد لا يحتاج إلى شيء من اللوازم الجسمية بوجه.

واعترض عليه أيضا : بأنّا لا نسلّم انّ الادراك بارتسام صورة المعلوم في العالم ـ لجواز أن يكون الادراك بانكشاف الأشياء للقوى الدرّاكة من دون ارتسام صورة فيها ـ

بل يكون إمّا مجرّد انكشاف من غير أن يرتسم صورة شيء في شيء أصلا ، أو يرتسم صورة المدرك في مجرّد أو غير مجرّد ، فيلاحظها تلك القوّة من هناك كما يدرك النفس ما ينتقش من الجزئيات في آلاتها. وإذا كانت تلك القوّة الجسمانية للصورة العقلية على سبيل الحضور والملاحظة دون الارتسام ، فلا يلزم من كون تلك القوّة مادّية ومنقسمة كون تلك الصورة كذلك؛ لانّ مشاهدة المادّي لغيره لا يوجب كون ذلك الغير مثله ، بل انّما ذلك في الارتسام.

والجواب : انّ انكشاف المجرّد لمادّي من دون ارتسام فيه أمر بديهي البطلان بيّن الفساد ، لانّ الادراك فرع المناسبة والربط بين المدرك والمدرك ، والربط إمّا بالارتسام أو بالحضور ، والارتسام مفقود بالفرض. وحضور المجرّد للمادّي لا معنى له سواء كان بوجوده في الخارج أو بوجوده في بعض المدارك وملاحظة تلك القوّة المادّية إيّاه من هناك ، لانّ حضور شيء عند مدرك وملاحظته ايّاه بذاته الموجودة في الخارج أو في محلّ آخر انّما يتوقف على ارتباط ومصحّح للحضور ، ولولاه لكان كلّ شيء عالما بكلّ شيء بالعلم الحضوري. والمصحّح لذلك إمّا كون المدرك عين المدرك ـ كما في علم النفس بذاتها ـ ، أو كونه لازما له أو متعلّقا به ـ كما في علم النفس بالصور القائمة بها وعلمها بآلاتها وقواها ـ ، أو كونه معلولا له ـ كما في علم الواجب بالأشياء عند جماعة ـ ؛ ولا يتصوّر تحقّق شيء من ذلك للمجرّد بالنسبة إلى القوّة الجسمانية حتّى يكون مصحّحا لحضوره عندها. على أنّ التأمّل يعطي اشتراط المناسبة بين المدرك والمدرك ، وأيّ مناسبة يتصوّر بين المجرّد الصرف والمادّي حتّى يكون المادّي مدركا وعاقلا له؟! ، وكيف يكون المادّي من حيث هو مادّي محلاّ للمجرّد من حيث هو مجرّد مع انّ كلّ شيء لا يتمكّن على التعدّى عن عالمه الخاصّ منها؟! فالمادّي ما لم ينفكّ عن المادّية لا يمكنه تصوّر وجود يكون على خلاف حقيقته ، وهو ظاهر من أحوال الحيوانات العجم والبله والصبيان بين الناس ؛ هذا.

واعترض على الثاني ـ أعني : الدليل المذكور لانقسام الحالّ بانقسام المحلّ ـ بأنّا لا نسلّم كون الادراك بطريق الارتسام حتّى يلزم من انقسام المحلّ انقسام الحالّ ، بل يجوز أن يكون على سبيل الحضور ؛ وقد تقدّم جوابه.

وبانّا لا نسلّم انّ انقسام المحلّ يوجب انقسام الحالّ فيه ـ كما في الخط والنقطة ـ وجوابه : انّ حلول شيء في محلّه إن كان من حيث ذات المحلّ لا من حيث لحوق طبيعة أخرى لاستلزم انقسامه انقسامه ضرورة ، وما نحن فيه من هذا القبيل. وما لا يستلزم انقسامه انقسامه هو إذا كان الحلول بواسطة لحوق طبيعة أخرى ـ كحلول النقطة في الخطّ ، فانّ حلولها فيه بواسطة عروض النهاية له ـ وبأنّا لا نسلّم انّ كلّ مادّي منقسم ، فانّ النقطة مادّية غير منقسمة ؛ فلم لا يجوز أن تكون القوّة الجسمانية المدركة للصورة المعقولة غير منقسمة؟ ، فلا يلزم حينئذ انقسام تلك الصورة أيضا أصلا ؛

وجوابه : انّ المادّي إن كان جوهرا فلا يجوز عدم انقسامه ـ لاستلزامه وجود الجزء الّذي لا يتجزّء ـ ، وان كان عرضا فانّما يتصوّر عدم انقسامه إذا كان حالاّ في أمر غير منقسم في جهتين ، ومعلوم بالضرورة انّ المشاعر الباطنية ليس كذلك ، فقد ثبت وتحقّق إنّ المدرك بالقوى الجسمانية ـ ظاهرة كانت أو باطنة ـ انّما هو شيء مادّي محفوف بالعوارض الغريبة ولا يمكن أن يكون مجرّدا صرفا. ولهذا ليس ادراكها تعقّلا ، بل احساسا ، لأنّ التعقّل ـ كما اشير إليه ـ انّما هو ادراك المجرّد للمجرّد بالكلّية عن المادّة ، ولكون مدركاتها مخلوطة بغيرها لا تكون مدركاتها كلّية صادقة على كثيرين ومنطبقة على اعداد كثيرة ، بل تكون مانعة من الشركة. وكذا لا تكون معلومة على سبيل الوضوح والجلاء ، لأنّ الظهور التامّ والجلاء الكامل والوضوح كما هو حقّه عند المدرك ، انّما يكون لما امتاز عن جميع ما سواه وليس مخلوطا بشيء ما عداه ، لأنّ الشيء يتّضح عند المدرك بقدر امتيازه وتجرّده عمّا سواه ، فما لا يمتاز عن جميع ما سواه ويكون مخلوطا بغيره ـ كما هو شأن مدركات القوى الجسمانية ـ لا ينجلى حقّ الانجلاء ولا يتّضح حقّ الاتضاح ؛ كما أنّ القوّة المدركة إذا لم تتجرّد عن المادّيات بالكلّية لا يتضح ما تدركه عندها حقّ الاتضاح. فالوضوح التامّ والانكشاف الحقيقي انّما يحصل في التعقّل لحصول التجريد التامّ والنزع البالغ فيه.

وأمّا الادراكات الحسية فانّما يحصل فيها تجريدات ناقصة متفاوتة المراتب على حسب مراتب مدركاتها نظرا إلى أنّه لو لم يصل أثر من المحسوس إلى الحاسّ لاستوى حاله قبل الاحساس وبعده ولم يحصل بينهما مناسبة وربط حتّى يتحقّق الادراك ، فلا بدّ أن يصل أثر من المحسوس إلى الحاسّ ليتحقق الاحساس ؛ والأثر الواصل هو صورة المحسوس الّتي تتجرّد عن مادّتها ويحدث في الحاسّ ، إلاّ انّه يكون كلّ من المدرك والمدرك متعلّقا بالمادّة بعد نوع تعلّق وكون الصورة المدركة مع غشاوة ما من كمّ وكيف ووضع ومتى لا يحصل الانكشاف التامّ والانجلاء الكامل. فالبصر مثلا يأخذ الصورة عن المادّة ويجرّدها عنها ، لكن لا يجرّدها عن اللواحق من اللون والوضع وغيرهما ، بل يدركها مع هذه اللواحق ومع النسبة الواقعة بينها وبين المادّة.

وأمّا الخيال فانّه يجرّد الصورة المنزوعة عن المادّة تجرّدا أشدّ ، لكنّه لا تجرّدها عن اللواحق المادّية بالكلّية.

وأمّا الوهم فانّه وإن تعدّى قليلا عن هذه المرتبة في التجريد ـ لانّه قد يدرك امورا غير مادية في ذاتها ويأخذها عن المادّة إذا عرض لها أن يكون في مادّة ، فهذا التجريد أشدّ من التجريدين السابقين وأقرب إلى حاقّ كنه الشيء ـ الاّ انّه مع ذلك لا يجرّد الصورة عن اللواحق المادّية بالكلّية ، بل يأخذها جزئية وبالقياس إلى مادّة مخصوصة وبمشاركة من الخيال.

الثاني من أقسام الادراك : « ادراك الاشياء بالقوّة العاقلة » ـ أعني : نفس تصور تلك الأشياء لا بانفسها ـ ، وهذا هو العلم الحصولي الانطباعى. وذلك يكون بتجريد صورها عن المادّة تجريدا تامّا بحيث لا يكون فيها شوب من المادّية بوجه ، ولهذا تكون تلك الصورة كلّية يمكن حملها على الكثرة المختلفة في اللواحق الغريبة والعوارض المادّية كما هو ظاهر من ادراك الصورة الانسانية المطلقة المطابقة لأفرادها المتفاوتة في العظم والصغر المختلفة في الوضع والأين والمتى ؛ ولو لم تكن تلك الانسانية الذهنية مجرّدة عن جميع المادّيات من المقادير الخاصّة والأوضاع المعينة لما طابقت الكثيرين المختلفين فيها.

ثمّ المعلوم بالذات في هذا القسم هو الصورة الحاصلة الموجودة في الذهن دون ذي الصورة  الموجود في الخارج ؛ نعم! هو معلوم بالعرض ، لأنّ المنكشف أوّلا وبالذات عند العقل هو هذه الصورة ، وإنّما تنكشف ذو الصورة بواسطتها.

والعلم قد يطلق على المعلوم بالذات ـ الّذي هو الصورة الحاضرة عند المدرك ـ ؛ وقد يطلق على نفس حصول تلك الصورة عند المدرك وارتسامها فيه ، وهذا الحصول هو المعنى الاضافي الانتزاعى الّذي يشتقّ منه العلم والمعلوم وامثالها فعلى الاطلاق الأوّل يكون العلم والمعلوم متّحدين ذاتا مختلفين اعتبارا فالمعلوم في هذا القسم إن اعتبر وجوده من حيث معلوميته ومعقوليته ـ أي : من حيث هو معلوم ومعقول ـ يكون عين وجوده لعاقله وهذا هو المقصود من قولهم : « انّ وجود المعقول بعينه معقوليته ووجوده لفاعله ، ووجود المحسوس بعينه محسوسيته ووجوده للجوهر الحاسّ » ، فانّ مرادهم : انّ وجود المعقول من حيث هو معقول عين معقوليته ووجوده لعاقله. وأمّا إذا اعتبر وجوه من حيث تحقّقه في نفسه وفي الخارج فمعلوم انّه ليس عين وجوده لمدركه الّذي هو حيثية معقولية.

ثمّ لا ريب في انّا قد ندرك صورة مجرّدة عن جميع المادّيات والمدرك بها لا يمكن أن يكون مادّيا ـ لما مرّ من أنّ القوى الجسمانية لا يمكن أن تدرك المجرّد الصرف ـ فيجب أن تكون فينا سوى القوى المذكورة قوّة عاقلة مجرّدة هي المدركة لتلك الصور ، وهو النفس الناطقة وبه يثبت تجرّدها ، فانّ اختلاف الادراكات وتباينها يدلّ على اختلاف المدركات وتعدّدها ، فانّا لما رأينا الادراكات الجزئية المختلفة من ادراك الصور وادراك المعاني وتركيب بعضها ببعض وحفظ بعضها دون بعض اثبتنا القوى المختلفة ـ من الخيال والوهم والمتخيّلة والحافظة ـ ؛ وكذلك لمّا رأينا فينا ادراك الصور المجرّدة عن جميع الموادّ ولا يمكن استناده إلى القوى المذكورة جزمنا بتحقّق قوّة عاقلة مجرّدة فينا.

فان قيل : المناط في الاستدلال على وجود القوى المذكورة هو حدوث الآفة والاختلال في بعض الادراكات ـ كادراك الصور أو المعاني أو التركيب أو الحفظ ـ مع بقاء سائر الادراكات وانتظامها ، فيعلم منه أنّ مبادي هذه الادراكات متعدّدة مختلفة! وهذا الوجه لا يجري في اثبات القوّة العاقلة ـ أعني : النفس الناطقة ـ! ؛

قلنا : جريان هذا الوجه في اثبات النفس الناطقة أظهر من جريانه في اثبات القوى الجسمانية ، لأنّا نرى انّ الحيوانات العجم مع تحقّق الادراكات المتعلّقة بالقوى الظاهرة والباطنة ليس لها ادراك الكلّيات؟! ، بل كثير من الناس ـ من البله والصبيان ـ كذلك عند جماعة! ، فيظهر منه انّ ادراك الكلّيات ليس للقوى الجسمانية ، بل لقوّة أخرى لم توجد فيها. بل قد يختلّ بعض ادراكات القوى الجسمانية في بعض الناس مع بقاء ادراك الكلّيات والمجرّدات ـ كما هو ظاهر من أحوال بعض المجذوبين والمجنونين ـ.

فان قيل : يمكن أن يكون ادراك الكلّيات لبعض القوى الجسمانية من المتخيلة أو الوهم إذا قوّى لاجل كثرة الفكر والتخيّل! ؛ قلت : إن اريد بالقوّة الموجبة للتعقّل الحاصلة لبعض تلك القوى التجرّد ؛ ففيه : انّه لا معنى لتجرّد هذه القوى مع انطباعها في الاجسام ، على انّه يثبت مطلوبنا من اثبات كون ادراك الكلّيات للمجرّد ؛

وإن اريد بها شيء آخر ؛ ففيه : انّ اشتداد الجسمانيات وقوّتها إنّما يصير منشأ لزيادة الادراكات والافعال الجسمانية ، لا ادراك الكلّيات والمجرّدات ـ لما تقدّم من أنّ المادّي لا يمكن أن يدرك المجرّدات ـ.

الثالث من اقسام الادراك : « ادراك القوّة العاقلة للأشياء بأنفسها لا بتصوّر زائد على ذاتها » ، فانّ كلّ عاقل يدرك نفسه لا بصورة زائدة على ذاته. كما لا يخفى على من تأمّل في علمه بنفسه، فانّ كلّ انسان يدرك نفسه على وجه يمتنع فيه الشركة ، ولو كان هذا الادراك بصورة زائدة حاصلة في النفس لكانت كلّية ، وإن حصلت من كلّيات كثيرة شخص حملتها بنفس واحدة، لأنّ المركّب من الكلّيات ولو تعدّدت كثرة بحيث لا تحصى لا يخرج عن احتمال صدقها على كثيرين ، مع أنّ النفس إذا ادركت ذاتها لا تكون ذاتها المدركة صادقة على كثيرين. فعلم النفس بذاتها انّما هو بحضور ذاتها لا بصورة زائدة عليها ، فتجريد الصورة وتعقّلها إنّما هو في العلم الحصولي الانطباعي دون الحضوري كيف ولو كان من شرط كلّ ادراك أن يكون بتجريد الصورة من العين الخارجي لزم التسلسل في الصور.

بيان ذلك : انّ من أدرك صورة ذهنية لا ريب في انّ تلك الصورة معلومة له بالحضور الاشراقي ، أي : معلومية تلك الصورة إنّما هي بعين تلك الصورة لا بصورة أخرى والاّ لتوقّفت تلك الصورة الأخرى أيضا إلى صورة ثالثة ... وهكذا ، فيلزم التسلسل في الصور ؛ ومع ذلك يلزم أن تجتمع صور متساوية في الماهية مختلفة بالعدد في محلّ واحد ؛ وهو محال.

وممّا يدل على ثبوت العلم الحضوري الغير المحتاج إلى صورة أخرى غير حضور ذات المدرك لنا : انّا نتألّم بتفرّق اتصال وقع في عضو من أعضائنا ونشعر به وليس ذلك بأنّ تفرّق الاتصال تحصل له صورة أخرى في ذلك العضو أو في غيره ، بل المدرك نفس تفرّق الاتصال والألم المحسوس بذاته لا بصورة تحصل منه ، فيظهر منه انّ من الأشياء المدركة ما يكفي في ادراكها مجرّد حضور ذاتها للنفس أو لأمر له تعلّق حضوري خاصّ بالنفس.

ثمّ كما انّ علم النفس بذاتها وبالصورة القائمة بها ـ سواء كانت صورا لأشياء الخارجية حاصلة للنفس بالتجريد أو صورا خلقية قائمة بها من الشجاعة والسخاوة والمحبّة وغيرها ـ انّما هو بحضور ذات النفس وذوات تلك الصور لا بحضور صورة أخرى زائدة عليها ، كذلك قد يدرك غير ذاتها وغير تلك الصور أيضا لا بحصول صورة ذهنية زائدة ، كما تدرك النفس المجرّدة بدنه الخاصّ الّذي تحرّكه وتصرف فيه وقوّته المفكّرة الّتي يستخدمها في تركيب الصور والمعاني الجزئية وتفصيلها وفي ترتيب الحدود الوسطى ، وبتلك الاستخدام نجرّد الكلّيات وننزعها من الجزئيات ونأخذ النتائج من المقدّمات. وبانضمام ذلك الاستخدام إلى ما يدركه بنفسها من دون الاستخدام ندرك الأشياء جميعا ، وكذلك ندرك قوّتها الخيالية والوهمية الشخصيين بذاتهما لا بصورة زائدة منتزعة عنهما. وكذا ندرك مدركات تلك القوى والأشياء الحالّة فيها بالحضور والمشاهدة بدون صور زائدة ، ولو كان ادراك النفس لتلك الأمور بصور مأخوذة عنها لأدركتها على الوجه الكلّي ، لما مرّ من أنّ كلّ صورة تجرّدها النفس وتحصل فيها فهي كلّية وان تحصّلت من كليّات كثيرة ؛ وحينئذ لم تكن مانعة من الشركة. وهو خلاف الواقع ، لانّ نفس تعقّل كلّ واحد من تلك الأمور مانع عن الشركة.

قيل : وممّا يدلّ على ثبوت العلم الحضوري : انّ النفس في مبدأ فطرتها خالية عن العلوم الانتقاشية كلّها ، ولا ريب في أنّ حصول كلّ علم انطباعي يتوقّف على استعمال الآلات ، واستعمال الآلات يتوقّف على العلم بالآلات ، فلو كان ذلك العلم ـ أي : العلم بالآلات ـ بالارتسام لزم توقّفه على استعمال الآلات المتوقّف على العلم بالآلات ، وهكذا يعود الكلام ؛ فامّا أن يدور أو يتسلسل ، وهو باطل. فأوّل علوم النفس هو علمها بذاتها ، ثمّ علمها بقوى البدن والآلات الّتي هي الحواسّ الباطنة والظاهرة ـ وهذان العلمان من العلوم الحضورية ـ ، ثمّ بعد هذين العلمين ينبعث عن ذات النفس لذاتها استعمال الآلات بدون تصوّر هذا الفعل الّذي هو استعمال الآلات والتصديق بفائدته ، فانّ هذا الاستعمال ليس فعلا اختياريا بمعنى كونه حاصلا بالقصد والرويّة وان كانت النفس عالمة به مريدة له ، لأنّ إرادة ذلك الفعل إنّما تنبعث عن ذاتها لا من رويتها. فذاتها بذاتها موجبة لاستعمال الآلات لا بإرادة اختيارية زائدة عليها قائمة بها ، بل لمّا كانت ذاتها في آن وجودها عالمة بذاتها وعاشقة لها ولفعلها ـ عشقا ناشئا عن الذات لذاتها ـ اضطرّت إلى استعمال الآلات الّتي لا قدرة لها بدونه.

وبذلك يندفع ما قيل : انّ استعمال الآلات من الحواسّ الظاهرة والباطنة فعل اختياري وصدور كلّ فعل اختياري مسبوق بالتصوّر والتصديق بفائدة ما ، فوجب أن تحصل قبل استعمال الآلات صور تصورية وتصديقية ، وذلك لانّ نسبتي صدور استعمال الآلات وعدمه ليستا متساويتين ليلزم الاحتياج إلى المرجّح من تصوّر الفعل والتصديق بالفائدة قبل الاستعمال ، بل المرجّح والمقتضي ذات النفس ، فينبعث الاستعمال عن الشوق الذاتي الّذي هو عين ذاتها الدرّاكة الفعّالة، فلا يكون مسبوقا بتصوّر ذلك الفعل ؛ بل صدور ذلك الجزئي عن النفس هو بعينه تصوّرها له بلا صورة مستأنفة أخرى ـ كما أدّى إليه ذوق أهل الاشراق ـ ؛ انتهى.

وما ذكره من أنّ استعمال النفس لقواها وآلاتها لا يتوقّف على قصد زائد ـ بل هو ناش عن ذاتها وارادتها له عبارة عن كونه معشوقا محبوبا ، لأنّ كلّ شيء يحبّ فعله من حيث انّه فعله ـ قريب ممّا ذكره الحكماء في إرادة الواجب من أنّ ارادته لفعل ليس بقصد زائد وليس فعلها وتركها متساويين عنده حتّى يحتاج إلى مرجّح ، بل ذاته يقتضي فعلها. وكونه مرادا له : انّه محبوب عنده مرضي لديه ، لانّ كلّ فعل ناش عن الذات معشوق عند الذات.

ثمّ إن قيل : إن كان الاستعمال ناشئا عن ذات النفس وعن شوقها الذاتي فما الباعث لاختلاف الاستعمالات في النفوس قلّة وكثرة وشدّة وضعفا؟ ، ووقوع بعضها في محلّه وبعضها في غير محلّه؟ ، وكون بعضها موجبا للنجاة وبعضها باعثا للهلاك؟ ـ وغير ذلك ـ ؛

قلنا : الباعث في ذلك اختلاف النفوس واختلافهما في الأفعال ، وكون كلّ منها عاشقة لفعلها المخصوص بها اللازم لها.

فان قيل : لا ريب في أنّ علم النفس بالصور الحاصلة لها القائمة بها علم حضوري لا يتوقّف على صورة زائدة وإلاّ لزم التسلسل ، وأمّا علمها بغير تلك الصور من الأشياء الخارجية ـ سواء كان ذاتها أو ما يتعلّق بها من القوى أو الآلات أو غيرهما ـ لا بدّ أن يكون بالصور الزائدة ولا يمكن أن يكون على سبيل الحضور ، فكلّ ما يصير معلوما للنفس من الأشياء الخارجة انّما ينكشف بتجريد صورته وقيامها بالنفس ، وأمّا نفس تلك الصورة فهي حاضرة عند النفس ملاحظة ايّاها ، فالربط والمناسبة اللازمتان في تحقّق الانكشاف بين النفس وبين تلك الصور هو قيامها بها ، وبين النفس وبين ذي الصورة هو قيام صورته بها. وبالجملة علم النفس في الأمور الخارجية والأشياء العينية ولو كانت ذاتها أو قواها وآلاتها لا يمكن أن يكون بالحضور ، بل لا بدّ أن يكون بتجريد صورها وحصول تلك الصور للنفس. وحينئذ كلّ شيء يكون معلوما للنفس فانّما يكون معلوما على وجه كلّي ، لانّ العلم الانطباعي الارتسامي الحاصل للمجرّد لا يكون إلاّ كلّيا.

وممّا يؤكّد ذلك انّ مبلغ علم كلّ نفس بذاتها هو أنّها تعلم أنها حقيقة مجرّدة متّصفة بكذا وكذا ، وهذا لا يكون الاّ كلّيا وان انضمّ إليه الف مخصّص من الكلّيات ، وكذا مبلغ علمه بخياله وواهمته وتخيّله وبدنه الخاصّ به ، فانّ المعلوم له من كلّ واحد منها انّ له قوّة أو بدنا من شأنه كذا وكذا ؛ وبالجملة انّ علم كلّ نفس بكلّ واحد من ذاتها وقواها وآلاتها إنّما هو على الوجه الكلّي ـ أي : يعلم أنّ واحدا منها متّصفا بصفة كذا وكذا من الصفات الكلّية ـ ، ولا ريب في كونه علما انطباعيا يتجرّد فيه الصور عن الأشياء الخارجية وتحصل للنفس. وعلم كلّ نفس مجرّدة لنفس أخرى وقواها وآلاتها أيضا من هذا القبيل. وإذا علم المذكورات على وجه جزئي بأن يعلم من حيث عروض المادّيات ـ من الوضع الخاصّ والأين الخاصّ لها ـ فالعالم بذلك انّما هو بعض القوى الجسمانية دون النفس الناطقة ، ولا نسلم انّ المدرك لها حينئذ هو النفس. وحينئذ فمن أين يعلم انّ المدرك لهذه المذكورات هو النفس بالعلم الحضوري على وجه جزئي بأن يلاحظها ملاحظة حضورية من حيث كونها جزئية بسبب الارتباط الحاصل بين النفس وبينها ، أعني : كون المعلوم الحاضر نفس العالم ـ كما في علم النفس بذاتها ـ أو كون المعلوم متعلّقا بالعالم تعلّقا خاصّا ـ كما في علمها بقواها وآلاتها ـ ؛

قلنا : لا ريب في أنّ المراد من علم النفس بذاتها هو انكشاف ذاتها عندها وظهورها بين يديها وتعقّلها بأنّها هي ، وهذا لا يتوقّف على صورة زائدة أصلا وعلمها بأنّ حقيقتها كذا وكذا. وبالجملة تحديد ذاتها وتعريفها بالصفات الذاتية أو العرضية لا مدخلية له بما هو المقصود من العلم الحضوري الحاصل للنفس بذاتها ، لأنّه لا شبهة في أنّ علمها بأنّ حقيقتها كذا وكذا من العلوم الانطباعية لأنّه من العلوم التصورية أو التصديقية وكلاهما من اقسام العلم الحصولي ، وما نحن فيه ـ أي : حضور الذات للذات ـ غير هذين القسمين.

وممّا يظهر المطلوب انّ كلّ ما يقوم بذاته غير متعلّق الهوية والوجود بشيء آخرفهو موجود لذاته حاضر عند ذاته غير غائب ولا منفكّ ذاته عن ذاته ، وقد مرّ أنّ التعقّل هو حضور المعلوم بعينه أو بصورته عند المجرّد الموجود القائم بذاته وانكشافه لديه ووجوده بين يديه ، ولا ريب في أنّ النفس مجرّدة قائمة بذاتها ، فذاتها حاضرة لذاتها والتعقّل ليس إلاّ هذا. وأمّا علمها بنفس أخرى فلا بدّ أن يكون على سبيل الارتسام وتجريد صورة منها ، فيكون علما حصوليا ولا يمكن أن يكون حضوريا ، لعدم حضور هذه النفس للأخرى بذاتها لها ؛ ولا لأمر له تعلّق حضوري خاصّ بها ، ولذا تشير كلّ نفس إلى ذاتها بـ « أنا » وإلى ما عداها بـ « هو » ، لكونه زائدا عليها ، فعلم النفس بذاتها ليس سوى ذاتها وبما عداها بصورة زائدة عليها.

وأمّا علمها بقواها وآلاتها فالوجه في كونه حضوريا : انّ تلك القوى والآلات متعلّقة بالنفس تعلّقا خاصّا ليس مثله متحقّقا بينها وبين القوى والآلات الّتي لنفس اخرى ، فهذا التعلّق نوع ارتباط ومناسبة صار منشأ لحضورها عندها وانكشافها لديها ووجودها بين يديها ، فتدرك النفس أنّها قواها وآلاتها ويلاحظها بذواتها وان امكنها تعقّلها على وجه كلّي أيضا حتى يكون علما انطباعيا بأن يتصوّر حقيقة كلّ واحد منها بانّه كذا وكذا وشأنه كذا وكذا.

ثمّ انّ انكشاف المادّي بخصوصياته المعينة من الوضع والمقدار وغيرهما بالحضور لوجود علاقته ليس فيه بأس ـ لعدم لزوم كون المجرّد محلاّ للمادّي بلواحقه الغريبة ـ ، لأنّ انكشاف المادّي من حيث انّه مادّي وملاحظته الحضورية لا يوجب ارتسام هذا المادّي بلواحقه الغريبة في المجرّد حتّى يلزم كونه محلاّ لها ، بل الحاصل في المجرّد انّما هو مجرّد انكشاف لهذا المادّي بلواحقه على وجه يمنع الشركة ، لأنّ الانكشاف والملاحظة انّما هو على سبيل الجزئية، ولذا لا يبقى فيه ابهام ، بخلاف ما لو ارتسم صورته فيه ، فانّه لو ارتسم المادّي بلواحقه الغريبة في المجرّد لزم كون المجرّد محلاّ لمادّي من حيث هو مادّي ، ولزم أيضا كون المدرك غير متّضح ؛ بل مبهما ، لانّ المدرك حينئذ ليس هو الذات الموجودة في الخارج حتّى إذا انكشف لا يبقى فيه الابهام ، بل المدرك هو الصورة والفرض انّها مخلوطة بغيرها من اللواحق ، وكلّ ما هو مخلوط بغيره لا يكون معلوما ما دام كونه مخلوطا بغيره ، فانّ الصورة إذا جرّدت تكون واحدة ممتازة وإذا كانت مخلوطة بالوضع الخاصّ والمقدار الخاصّ لا تكون ممتازة عن غيرها بالكلّية ، فلا تكون معلومة على سبيل الوضوح والانجلاء.

والحاصل : انّ المطلوب ادراكه وانكشافه في العلم الحضوري هو الموجود الخارجي ـ أي : الحقيقة الخارجية مع لوازمها الخاصّة ولواحقها المعينة ـ ، ولا ريب في انكشاف تلك الحقيقة الخارجية بلوازمها ولواحقها بالعلم الحضوري من دون التباس بغيرها واختلاط بما عداها ، فيكون المدرك حينئذ متّضحا حقّ الاتضاح.

وامّا المدرك بالعلم الحصولي فانّما هو الصورة دون الموجود الخارجي ، فكلّما تكون تلك الصورة المدركة أشدّ امتيازا عن غيرها يصدق انّ العلم بالصورة من حيث هي أوضح وأجلى، وكلّما كانت أكثر اختلاطا بما سواها يصدق أنّ الخفاء فيها أكثر ؛ فالمادّي إذا علم بالعلم الحضوري أو الحصولي بالتجريد التامّ والنزع المحكم يكون معلوما متّضحا ، وإذا علم بالحصولي من دون التجريد التامّ ـ أي : لم تكن صورته المدركة مجرّدة ، بل كانت مع غشاوة ما من المادّة وعلائقها ـ لا تكون متضحة حقّ الاتضاح. فقد ظهر ووضح انّ العلم الحضوري لا يحتاج إلى صورة زائدة ذهنية ، بل الاحتياج إليها حيث يكون المدرك غير حاضر عند المدرك أصلا. وعدم حضوره إمّا لعدم وجوده في الخارج أصلا ـ كالمعدومات والممتنعات ـ ، أو لعدم وجوده عند المدرك وان كان موجودا في الخارج ـ كالاشياء الخارجة عن ذات المدرك غير متعلّقة به أصلا ـ ، فانّ كلّ واحد من الموجودات ليس متعلّقا وحاصلا لكلّ واحد وإلاّ لكان كلّ من له صلاحية العالمية عالما بالفعل بكلّ من له صلاحية المعلومية ، وليس كذلك. فلا بدّ في تحقّق العالمية والمعلومية بين شيئين مع صلاحيتهما لهما من علاقة ذاتية بينهما بحسب الوجود. فكلّ شيئين لهما صلاحية العالمية والمعلومية إذا تحقق بينهما علاقة ذاتية وارتباط وجودي يكون أحدهما عالما بالآخر ، لانّ تلك العلاقة مستلزمة لحصول إحداهما للآخر وانكشافه لديه. وهي قد يقع بين ذات العالم والموجود الخارجي ـ أي : ذات المعلوم ـ بحسب وجوده الخارجى كما في العلم الحضوري باقسامه ، فانّ الارتباط الموجب للانكشاف في هذا العلم إمّا ايجاد المدرك والمدرك ومعلوم انّه لا علاقة مصحّحة للارتباط أشدّ من هذا ؛ أو كون المدرك من حيث وجوده في الخارج لازما للمدرك ؛ أو مربوطا به لتحقّق نوع علاقة بينهما ـ ككونه آلة له ـ.

وقد تكون العلاقة بين ذات العالم وصورة الشيء المعلوم ـ كما في العلم الحصولي المحقّق ، لحصول صورة الشيء في ذات العالم ، أو في بعض قواه حصولا ذهنيا ـ ، والمدرك بالحقيقة هو نفس الصورة الحاضرة لا الموجود الخارجى الخارج عن التصوّر ، واطلاق المعلوم عليه انّما هو بقصد ثان ـ كما تقدّم ـ فالعلاقة الوجودية المستلزمة للعلم في الحقيقة إنّما هي بين العالم والصورة لا غير ، بخلاف المعلوم من حيث وجوده ـ أعني : بالعلم الحضوري ـ ، لانّ المعلوم بالذات فيه هو نفس ذات الشيء العينى لتحقّق العلاقة الوجودية بين هذه الذات الخارجية وبين العالم ؛ هذا.

وقيل : العلم الحضوري هو اتمّ صنفي العلم ، ومن ذهب إلى انّ العلم بالغير منحصر في الارتسام فقد أخطاء. نعم! ، الادراك على وجه يكون المدرك كلّيا مشتركا بين كثيرين ينحصر في الصورة الذهنية ، وهي المنقسمة إلى التصور والتصديق ؛ وهي الّتي تكون كاسبة ومكتسبة. فاذا تحقّقت العلاقة الوجودية المستلزمة للعالمية أو المعلومية بين ذات مستقلّة الوجود مجرّدة وصورة مرتسمة فيها فتحقّقها بين ذات مستقلّة الوجود وبين الصورة الّتي معلولة لها وصادرة عنها أولى واحرى ، لأنّ نسبة القابل الى المقبول بالامكان ونسبة الفاعل إلى المفعول بالوجوب، فالعلاقة المتحقّقة بين العلّة ومعلولاتها الخارجية أوكد من العلاقة بين ذات الشيء والصورة المرتسمة فيها ـ كما حقّقه المحقّق الطوسي ـ.

واعتراض المحقّق الدواني عليه في شرح العقائد لا يخلو عن تعسّف!.

المقدّمة الثانية : انّ كلّ ما يقوم غير متعلّق الهوية والوجود بشيء آخر ـ أي : كلّ مجرّد قائم بذاته ـ فهو موجود لذاته حاضر ذاته عند ذاته لا يغيب ذاته عن ذاته أصلا ، فيكون ذاته عالمة بذاته ومعلومة لذاته ومنكشفة عند ذاته ،

أمّا معلومية ذاته لذاته مع كون ذاته حاضرة لذاته فظاهر ممّا مرّ ، لأنّ التعقّل ـ كما مرّ في المقدّمة الاولى ـ عبارة عن حضور المعلوم بعينه أو بصورته عند المجرّد الموجود القائم بذاته ، فاذا كانت الذات بعينها حاضرة عند الذات تكون الذات عاقلة للذات عالمة بها بالعلم الحضوري؛

أمّا كون كلّ مجرّد قائم بذاته حاضرا عند ذاته غير غائب عنها فبديهي لا يقبل التشكيك ، لأنّ الشيء لا ينفكّ عن نفسه.

قيل : إن اريد بالحضور ما هو المساوق للادراك أو الانكشاف وأمثالها ، فنمنع كون كلّ مجرّد قائم بذاته حاضرا بهذا المعنى عند ذاته ؛ وإن كان المراد منه ما هو الظاهر المتعارف ـ أي : غير المنفكّ وغير المتبادر وغير الغائب ـ ، فلا ريب انّ كلّ مجرّد قائم بذاته حاضر بهذا المعنى عند ذاته ؛ إلاّ أنّ الحضور بهذا المعنى لا يستلزم الانكشاف ، فانّ كلّ شيء حاضر بهذا المعنى عند ذاته ، سواء كان قائما بذاته أو لا ، وسواء كان مجرّدا أم لا مع فقد الانشكاف.

فان قيل : الأشياء على أربعة اقسام :

الأوّل : ما ليس مجرّدا ولا قائما بنفسه ـ كالاعراض الجسمانية ـ ؛

الثاني : ما هو مجرّد غير قائم بذاته ـ كالصورة المعقولة للمجرّدات ـ ؛

والثالث : ما هو قائم بذاته غير مجرّد ـ كالجسم ـ ؛

والرابع : ما هو مجرّد قائم بذاته ـ كالواجب والعقول والنفس ـ. ولا ريب في أنّ الاقسام الثلاثة الاولى عالمة بذواتها ؛ بل التعقّل للذات مخصوص بالقسم الرابع ، فانّا ذكرنا في حدّ التعقّل انّه حضور المعلوم بعينه أو بصورته عند المجرّد القائم بالذات ، فالمراد بالحضور هو المعنى المتعارف. الاّ أنّ استلزامه للانكشاف إنّما إذا حصل الشيء عند مجرّد قائم بذاته لا عند غيره ؛

قلنا : انّ استلزام حضور الشيء بهذا المعنى عند المجرّد القائم بذاته لانكشافه لديه لا بدّ له من دليل ، وبأيّ برهان نحن نعتقد ونقطع بانّ المناط في جواز العاقلية هو التجرّد والقيام بالذات والمناط في وقوعها هو تحقّق حضور شيء بالمعنى المذكور عند من حصل له التجرّد والقيام بالذات؟! ، ولم لا يجوز أن يكون التعقّل مشروطا بأمر آخر؟! ،

ولم لا يمكن أن يكون الادراك موقوفا على خاصية مجهولة الكنه وقوّة غير معلومة لنا ـ كالخاصيات والقوى المودعة في المشاعر الظاهرة والباطنة ـ ، فاذا وجدت هذه الخاصية والقوّة وجد الادراك والتعقّل ـ سواء كانت في المجرّد أو غير المجرّد ـ؟!.

وأجيب عن الايراد المذكور : بأنّ المانع من التعقّل والانكشاف انّما هو المادّة وعلائقها ، فالشيء الّذي كان مجرّدا نورانيا يكون عالما بذاته لظهور ذاته لذاته ، لانّ الانكشاف هو ضدّ الخفاء والخفاء على الشيء امّا بسب ضعف نوريته وقلّة وجوده ونقص جوهره ـ كالهيولى الجسمية ـ أو بسبب ما يكثفه من الأغشية واللبوسات ـ كالأشخاص الجسمية ـ ؛ والمجرّد ليس كذلك ، فيلزم أن لا يخفى ذاته عن ذاته. قال بهمنيار في التحصيل : ولمّا كان وجود المحسوس والمعقول في ذاته وجوده لمدركه وكان وجوده لمدركه نفس محسوسيته ومعقوليته لم يصحّ أن يكون ما وجوده لغيره مدركا لذاته. ومدرك ذاته يجب أن يكون نفس وجوده ادراكه لذاته ، وكلّ ما وجوده لذاته ، فهو مدرك ذاته ، إذ ليس وجوده إلاّ كونه مدركا ؛ فالأمور الّتي تدرك ذواتها لا يصحّ أن تكون مقارنة لمادّة وإلاّ لكان وجودها لغيرها. وأمّا الأمور المجرّدة عن المادّة فانّها يجب أن تدرك ذواتها ، وإلاّ لكان وجودها لغيرها ، فكلّ ما هو محجوب عن ذاته فلمقارنة المادّة هو غير مدرك ذاته. ويشهد بهذا انّ القوى الحسّية ـ كالبصر واللمس والذوق ـ لا تدرك ذواتها ، لكونها موجودا بمحالها الّتي هى تلك الاعضاء لا لذاتها (1) ؛ انتهى.

وهذا المضمون الّذي ذكره بهمنيار قد ذكره غيره أيضا من الحكماء. ولا بدّ لنا أن نوضح المراد منه أوّلا ثمّ نشير إلى انّه هل هو حقّ أم لا. فنقول :

الوجود امّا وجود في نفسه ـ كوجود الجسم ـ ويسمّى « وجودا محموليا » ، أو وجود لغيره ـ كوجود البياض للجسم ، ووجود الشاعرية لأوميرس ـ ، ويسمى هذا الوجود « وجودا رابطيا » ، كقولنا : الجسم كائن أبيض. وأوميرس موجود شاعر. فانّ لفظي « كائن » و « موجود » إنّما هو لمجرّد الحمل والرابطة والمطلوب من ادخالهما بين

الموضوع والمحمول إنّما هو لاثبات المحمول للموضوع وحمله عليه.

ثمّ الوجود في نفسه قد يكون عين وجوده لغيره ـ كوجود البياض ، فانّ البياض موجود في نفسه وموجود للجسم ، لكن وجوده في نفسه عين وجوده للجسم ـ ، وقد يكون غير وجوده لغيره ـ كوجود المال لزيد ، فانّ للمال وجودا لنفسه ووجودا لزيد ووجوده لنفسه غير وجوده لزيد ، ولذا قد يزول وجوده لزيد مع بقاء وجوده لنفسه ـ.

ثمّ الشيء قد يكون باعتبار ذاته موجودا لنفسه غير قائم بغيره ويكون باعتبار وصف زائد على ذاته موجودا لغيره قائما به ؛ وذلك كالكاتب مثلا ، فانّه باعتبار ذاته ـ أعني : الشخص الانساني ـ قائم بذاته غير موجود لغيره ، وباعتبار وصف الكاتبية موجود لغيره وهو ما يصير موضوعا له ـ كزيد مثلا في قولنا : زيد كاتب ـ. وهذا الوجود الرابطي الحاصل باعتبار الوصف راجع في الحقيقة إلى وجود ذلك الوصف.

ثمّ لا ريب في انّ المعقولية والمحسوسية ـ وأمثال ذلك ـ أوصاف زائدة على ذوات الأشياء ، فاذا تعقّلنا الأرض والسماء وأبصرنا السقف والجدار فلا ريب في أنّ ذات الارض أو السماء ليست عين المعقولية ، وذات السقف والجدار ليست عين المحسوسية ، بل هما من الأوصاف الزائدة على ذوات تلك الأشياء وقد عرضتا لها باعتبارها ؛ وهو في الاحساس اعتبار كون صورها حاصلة للجوهر الحاسّ ، وفي التعقّل اعتبار كون صورها المجرّدة حاصلة للعاقل ـ كما في العلم الحصولي ـ أو اعتبار كون ذواتها حاضرة عنده ـ كما في العلم الحضوري ـ ؛ فالمسمّاة مثلا بأحد هذين الاعتبارين موجود للعاقل. واذا كان اطلاق المعقولية على السماء بأحد هذين الاعتبارين ـ أعني : اعتبار كون صورته حاصلة للعاقل ، أو اعتبار كون ذاته حاضرة عنده وكان ذلك معنى وجوده للعاقل ـ فوجود السماء باعتبار كونه معقولا هو عين وجوده لعاقله من حيث انّه عاقل وان لم يكن وجوده في ذاته عين وجوده لشيء آخر. وبالجملة لا ريب في انّ لكلّ معقول وجودا في نفسه ووجودا للعاقل ، والبديهة حاكمة بأنّ وجوده في نفسه وفي الواقع ليس عين وجوده لعاقله ، بل وجوده باعتبار كونه معقولا هو عين وجوده لعاقله من حيث انّه عاقل. وقس على المعقول المحسوس في هذا الحكم.

وإذا عرفت ذلك فنقول : قول بهمنيار : « انّه لمّا كان وجود المحسوس والمعقول في ذاته وجوده لمدركه ـ ... إلى آخره ـ » ، يحتمل في بادي النظر وجهين :

أحدهما ـ وهو الأظهر ـ : أن يكون المراد انّ الوجود في ذاته ـ أي : في نفسه ـ للمحسوس من حيث هو محسوس ، وللمعقول من حيث هو معقول ـ أي : المحسوسية والمعقولية هو الوجود للمدرك ـ ؛ وقوله : « وكان وجوده لمدركه » اشارة إلى عكس ذلك ـ أي : الوجود للمدرك أيضا هو المحسوسية والمعقولية ـ ، فيكون المراد من المقدّمتين بيان اتحاد المحسوسية والمعقولية مع الوجود للمدرك وصحّة حمل كلّ واحد على الآخر كلّيا. وجريان هذا الدعوى في كلّ واحد من العلم الحضوري والعلم الحصولي ظاهر ، امّا جريانها في العلم الحصولي فلأنّ  وجود المعقول من حيث هو معقول ـ أعنى : وجود الصورة الحاصلة في نفسها ـ هو عين وجودها لمدركها ؛ وأمّا جريانها في العلم الحضوري فلأنّ وجود المعقول بالعلم الحضوري من حيث هو معقول ـ أي : من حيث انّه منكشف وحاضر عند العاقل ـ هو بعينه وجوده لمدركه.

وثانيهما : ان يكون المراد انّ وجود المحسوس والمعقول في ذاته ـ أي : وجوده في نفسه ـ عين وجوده لمدركه ـ أي : عين الوجود الرابطي ، كما ادّعى الشيخ في الاعراض : انّ وجودها في نفسها عين وجودها الرابطي ـ. فيكون المراد انّ وجود المحسوس والمعلوم بالعلم الحصولي والحضوري عين وجوده لمدركه. أمّا في العلم الحصولي فلأنّ المعلوم بالذات فيه هو الصورة ـ كما استقرّ عليه رأي الشيخين من أنّ المحسوس والمعقول بالذات انّما هو الصورة لا ذو الصورة ، ولا ريب في أنّ وجود الصورة في نفسها عين وجودها لمدركها ؛ ـ وأمّا في العلم الحضوري فلانّ الشيء إذا كان بنفس ذاته حاضرا عند المدرك فيكون المدرك للمدرك هو الشيء الخارجى الموجود لنفسه ، فيتحد الموجود للمدرك والموجود في نفسه ، فيكون وجوده في نفسه هو عين وجوده للمدرك. وعلى هذا الوجه يكون قوله : « وكان وجوده لمدركه » اشارة إلى دعوى آخر هي اتحاد الوجود للمدرك مع المحسوسية والمعقولية ليلزم من المقدّمتين أن يكون الوجود في نفسه للمحسوس والمعقول هو عين المحسوسية والمعقولية.

ثمّ لمّا كان غرض بهمنيار من ذكر هاتين المقدّمتين ـ بأيّ معنى أخذناهما ـ بيان أنّ التعقّل لا يمكن أن يكون للمادّي بل انّما هو للمجرّد ، فلذا رتّب عليهما أوّلا عدم كون المادّي مدركا لذاته ، فقال : « لم يصح أن يكون ما وجوده لغيره مدركا لذاته ، أي : لمّا كان وجود المحسوس من حيث هو محسوس ووجود المعقول من حيث هو معقول أو وجودهما في أنفسهما عين وجودهما لمدركهما لم يصحّ أن يكون ما وجوده لغيره مدركا لذاته ». والمراد « بما وجوده لغيره » كلّ ما يكون في الوجود محتاجا إلى الغير وثابتا له ـ وهو المقارن للمادّة ـ ، أو ما يكون حالاّ في غيره وان كان مجرّدا ـ كالصورة العقلية الكلّية ـ. أمّا على الوجه الأوّل فلانّه لو كان مدركا لذاته كان ذاته مدركة معقولة له بمعنى معقوليته ومدركيته ـ أعني : كونه موجودا من حيث هو معقول كون وجوده لمدركه أي لذاته ـ مع انّه فرض وجوده لغيره ـ أعني : الموضوع أو المحلّ ـ. والحاصل : انّه لما فرض انّ وجود المحسوس والمعقول في ذاته هو وجوده لمدركه يجب أن يكون المدرك شيئا يكون وجوده لنفسه حتّى يكون وجود المعقول له ، إذ لولاه لزم أن لا يكون وجود ذلك المعقول لذلك المدرك ، بل لمحلّه ، فلا يكون وجود المحسوس والمعقول في ذاتهما وجودهما لمدركهما ؛ وهو خلاف الفرض. وأمّا على الوجه الثاني فلأنّه لو كان مدركا لذاته لكان وجوده في نفسه عين وجوده لمدركه ـ أي : لذاته ـ مع أنّ وجوده لغيره.

ثمّ قال : « ومدرك ذاته يجب أن يكون نفس وجوده ادراكه لذاته » ؛ والسرّ في ذلك على الوجه الأوّل انّ ادراكه لذاته ـ أي : اعتبار وجوده من حيث هو معقول ـ يؤول إلى وجوده لمدركه ـ أي : لذاته ـ ، فيكون نفس وجوده لذاته عبارة عن ادراكه لذاته ؛

وعلى الوجه الثاني فلانّه إذا كان وجوده في نفسه عين وجوده لمدركه فيكون نفس وجوده هو مدركيته لذاته ، فيكون نفس وجوده هو ادراكه لذاته أيضا ، لانّ مآل مدركيته لذاته وادراكه لذاته واحد.

ثمّ قال : « وكلّما وجوده لذاته فهو مدرك ذاته » ؛ إذ ليس وجوده إلاّ كونه مدركا ـ بصيغة المفعول ـ. وذلك لانّ معنى المدركية والمعقولية هو كون الشيء موجودا بصورته أو بذاته لموجود قائم بذاته ، وكلّ ما وجوده لذاته يكون ذاته موجودة لذاتها القائمة

بذاتها فعلى الوجه الأوّل نقول : انّ وجوده من حيث انّه معقول ليس الاّ كونه مدركا ، فاذا كان موجودا من حيث انّه معقول لذاته كان مدركيته ومعقوليته أيضا لذاته ، فموجوديته من حيث انّه معقول لذاته هو مدركيته ومعقوليته لذاته ؛ وعلى الوجه الثاني نقول : انّ وجوده في نفسه ليس إلاّ كونه مدركا ، فاذا كان وجوده لذاته كان مدركا لذاته. ويحتمل ان يكون مدركا ـ بصيغة الفاعل ـ ، فيكون المراد انّه ليس وجوده الاّ كونه عاقلا ، وذلك لانّ معنى المدركية والعاقلية هو كون الشيء موجودا قائما بذاته حاضرا لديه شيء وغير غائب عنه ، وكلّ ما وجوده لذاته فهو موجود قائم بذاته حاضر عنده ذاته وغير غائبة عنه ، فوجوده لذاته من حيث انّه معقول على التوجيه الأوّل ووجوده في نفسه على التوجيه الثاني عين ادراكه لذاته ـ أي : عين مدركيته وعاقليته ـ.

ثمّ صرّح بانّ الأمور المدركة لذاتها لا يجوز أن تكون مقارنة للمادّة وإلاّ لكان وجودها لغيرها ، وذلك لانّه قد ثبت انّ ما وجوده لغيره لا يكون وجوده لذاته ، فمعلوم انّ ما يدرك ذاته يكون وجوده لذاته.

ثمّ قال : والأمور المجرّدة يجب انّ تدرك ذاتها ، إذ لو لم تدرك ذواتها كان وجودها لغيرها. وذلك لانّ المجرّد موجود بذاته ، وقد ثبت انّ ما وجوده لذاته فهو مدرك ذاته ، فما لم يكن مدركا لذاته لم يكن وجوده لذاته. بل كان وجوده لغيره.

ثمّ صرّح بانّ كلّ ما هو محجوب عن ذاته فلمقارنة المادّة واستشهد لذلك بانّ القوى الجسمية لا تدرك ذواتها ، لكونها موجودة لمحالّها الّتي هي تلك الاعضاء ، لا لذواتها.

هذا هو التوضيح التامّ وغاية التوجيه للكلام المنقول عن بهمنيار.

وأنت تعلم انّ حمله على الوجه الثاني في غاية الفساد! ، لانّ حاصله دعوى الاتحاد بين الوجود في نفسه والوجود الرابطي ، وهو باطل. وكيف يكون الوجود في نفسه المتحقّق في الخارج والواقع عين الوجود الحاصل للعاقل ، فانّ الظاهر انّ اطلاق الوجود على المعنيين انّما هو بالاشتراك اللفظى ، ولو سلم ذلك في العلم الحصولي ـ نظرا إلى ان المعقول بالذات فيه هو الصورة دون ذي الصورة ووجودها في نفسها هو عين وجودها لمدركها ـ فلا نسلّم ذلك في العلم الحضوري ، لانّ دعوى انّ وجود الشيء الخارجي القائم بذاته او بغيره في الخارج عين الوجود المنكشف المنجلى للعاقل مكابرة ، فانّ الأوّل وجود أصلي خارجي والثاني وجود ظلّي ذهني.

ولو حمل الكلام على الاستلزام بأن يقال : الوجود في نفسه لكلّ محسوس ومعقول يلزمه الوجود لمدركه ، فان اريد « بالوجود لمدركه » القيام به أو عدم القيام بغيره ، فممنوع ؛ وان اريد به ما يتناول عدم الغيبة عنه ، فممنوع ؛ لكن على هذا لم لا يجوز أن يكون شيء قائما بغيره ومع هذا لا يكون غائبا عن ذاته؟ ـ أي : يكون مدركا لذاته ـ.

وأيضا يرد عليه : انّه لو تنزّلنا وسلّمنا انّ كلّ ما هو محسوس ومعقول لشيء فوجوده في نفسه هو وجوده لمدركه فمن أين يلزم منه أن يكون كلّ ما هو وجوده لذاته مدركا لذاته؟ ، بل يكون اثباته مصادرة على المطلوب!.

وان قيل : كلّما هو وجوده لذاته فذاته حاضرة عند ذاته ، والادراك ليس إلاّ حضور الشيء عند المدرك ، فما وجوده لذاته يكون مدركا لذاته ؛

قلنا : حضور ما هو وجوده لذاته عند ذاته بمعنى عدم الغيبة ممنوع ، ولكنّه لا يوجب الادراك وانما الانكشاف ، وبمعنى الانكشاف ممنوع. وأيضا ما ذكره من انّ وجوده لمدركه نفس محسوسية ومعقولية غير ممنوع ، لجواز أن يشترط في المحسوسية والمعقولية شيء آخر غير الوجود للمدرك ، لأنّ العقل لا ينقبض من أن يكون شيء موجودا لشيء آخر ولا يكون معقولا له. وحينئذ فلا يلزم أن يكون في مدرك ذاته نفس وجوده ادراكه لذاته ، ولا أن يكون كلّ ما وجوده لذاته مدركا لذاته والحاصل : انّه إن أريد أنّ المحسوسية والمعقولية حقيقتهما مجرّد الوجود للغير بأيّ نحو كان ، وكذا عكسه ـ أي مجرّد الوجود للغير بأيّ نحو كان وأيّ وجود كان ـ نفس المحسوسية والمعقولية ، فلا نسلّم ذلك ؛ بل الظاهر خلافه! ؛

وان اريد انّ المحسوسية والمعقولية يصدق عليهما انّهما الوجودان للغير وانّ نوعين من الوجود للغير هما المحسوسية والمعقولية ، فلا يثبت به انّ ما قام بغيره بايّ نحو كان يكون معلوما للغير ، وما قام بنفسه يكون معقولا لنفسه ، إذ يمكن منع انّ هذا من هذا النوع ؛ وإن أريد أنّ الوجود للمدرك من حيث انّه مدرك نفس المعقولية والمحسوسية وكذا العكس فممنوع ؛ الاّ انّه لا ينفع في شيء ، إذ اثبات انّ ما هو قائم بذاته عالم بذاته بهذه المقدّمة مصادرة ، إذ قبل اثبات انّه عالم كيف يسلّم انّه مدرك؟.

وبهذا يظهر اختلال ما في كلامه ممّا فرّعه على المقدّمات الّتي ابطلناها. فظهر انّ حمل كلامه المنقول على الوجه الثاني ـ أعني : دعوى الاتحاد بين الوجود في نفسه والوجود الرابطي ـ أمر بيّن الوهن ظاهر الفساد. ولذا أكثر من صرّح من المتأخّرين بهذا الكلام ذكره على الوجه الاوّل ـ أعني : كون وجود المعقول من حيث هو معقول وكون وجود المحسوس من حيث هو محسوس عين وجودهما للعاقل وللجوهر الحاسّ وعين المعقولية والمحسوسية ـ.

قال بعض الأعاظم : لمّا ثبت انّ المعقول من حيث هو معقول وجوده في نفسه وجوده للعاقل ومعقوليته شيء واحد بلا اختلاف وكذا المحسوس من حيث هو محسوس وجوده في نفسه ووجوده للجوهر الحاسّ ومحسوسيته شيء واحد من غير تفاوت فما وجوده لغيره لا يكون معقولا لذاته ـ كالصورة الجمادية ـ ولا محسوسا لذاته ـ كالبصر واللمس وسائر المدارك الحسّية ـ ، ولذا لا يحسّ بذواتها. ولو فرضنا المعقول قائما بذاته كان وجوده لذاته نفس معقوليته لها وصار عقلا وعاقلا ومعقولا ، كما لو فرضنا المحسوس مجرّدا عن الموادّ كان وجوده لذاته نفس محسوسيته لها ، فصار حسّا وحاسّا ومحسوسا ـ كما صرّح به بهمنيار وغيره من الحكماء ـ ؛ انتهى.

بقى الكلام في انّ الحمل على الوجه الأوّل أيضا لا ينفع في شيء أصلا ولا يثبت به المطلوب مطلقا. بيان ذلك : انّ المراد من الوجه الأوّل هو انّ الوجود في نفسه للمحسوس من حيث هو محسوس وللمعقول من حيث هو معقول ـ أي : المحسوسية والمعقولية ـ هو الوجود للمدرك ، وهذا كان مطلوبا في الوجه الثاني أيضا ، لانّا قد ذكرنا في تحرير الوجه الثاني انّ المقدّمة الثانية في كلام بهمنيار ـ أعني : قوله : وكان وجوده لمدركه نفس محسوسيته ومعقوليته ـ اشارة إلى دعوى أخرى هي اتحاد الوجود للمدرك مع المحسوسية والمعقولية ، وحينئذ فما اوردناه على هذه المقدّمة الثانية يرد على الوجه الأوّل.

ولو شئت أن نعيده ببيان أوضح مع زيادة بعض ما تركناه هناك من وجوه الاختلال ومن بيان انّه لا يثبت به شيء من المطالب والتفريعات الّتي فرّعها عليه فنقول : ان اراد انّ المحسوسية والمعقولية حقيقتهما هي الوجود للغير بأيّ نحو كان وكذا الوجود للغير بأيّ نحو كان هو المحسوسية والمعقولية فلا نسلّم ذلك ، بل الظاهر خلافه ؛ وان اراد انّ المحسوسية والمعقولية يصدق عليهما انّهما الوجود للغير وانّ بعض افراد الوجود للغير هو المحسوسية والمعقولية ؛ فان اراد بالوجود للغير هو القيام به أو عدم القيام بغيره فممنوع ، ولو سلم بأن يثبت به التفريع الأوّل ـ أعني : عدم كون ما هو وجوده لغيره مدركا لذاته ـ ، الاّ انّه لا يلزم منه صحّة التفريعين الأخيرين ـ أعني : قوله : ومدرك ذاته يجب ان يكون نفس وجوده ادراكه لذاته ، وقوله : وكلّ ما وجوده لذاته فهو مدرك لذاته ـ ، لأنّ عدم قيام المعقول بغير العاقل لا يوجب كون نفس وجود المدرك لذاته عين ادراكه لذاته ولا كون كلّ ما هو وجوده لذاته مدركا لذاته ، وهو ظاهر ؛

وإن اراد بالوجود للغير ما يتناول عدم الغيبة عنه فممنوع ، إلاّ انّه لا يتفرّع حينئذ شيئا من التفريعات الّتي فرّعها عليه ـ كما لا يخفي ـ.

وان اراد انّ المحسوسية والمعقولية هي الوجود للمدرك من حيث انّه مدرك وكذا الوجود للمدرك من حيث انّه مدرك عين المحسوسية والمعقولية ؛ فان اراد بالوجود للمدرك القيام به أو عدم القيام بغيره فغير مسلّم ـ كما مرّ ـ ، وان أراد به ما يتناول عدم الغيبة عنه فممنوع ، لكن على هذا يجوز أن يكون شيء قائما بغيره ومع هذا يكون مدركا لذاته. وأيضا : لا نسلّم انّه حينئذ يلزم ان يكون وجود كلّ مدرك لذاته عين ادراكه لذاته ، إذ لعلّه يكون مشروطا بشيء آخر. وأيضا : لا نسلم حينئذ لزوم كون كلّ ما هو وجوده لذاته مدركا لذاته ، إذ الوجود لذاته على هذا ليس عين مدركيته له ، بل الوجود لذاته إذا كان ذاته مدركة يكون عين مدركيته لها والمطلوب ليس الاّ اثبات كون الذات مدركا حينئذ.

وبذلك يظهر اختلال المقدّمات الباقية المنقولة عنه لكونها متفرّعة على المقدّمات السابقة الّتي بينّا فسادها. على انّه أورد على قوله : « انّ الامور المدركة لذاتها لا يجوز أن تكون مقارنة للمادة بالحلول فيها حتّى يصدق كون وجودها لغيرها ؛ وأمّا اذا كان شيء مقارنا للمادّة بأن تكون المادّة جزء له ـ كالجسم ـ فلا يظهر ممّا ذكر بوجه من الوجوه عدم جواز كونه مدركا لذاته.

لا يقال : انّه لمّا كان أحد جزئيه هو الهيولى والآخر الصورة شيء منهما لا يصلح لان يكون عاقلا لذاته فالمجموع أيضا لا يصلح لذلك ؛ لأنّا نقول : عدم ثبوت حكم لكلّ واحد (2) واحد من الاجزاء لا يستلزم عدم ثبوته للمجموع من حيث هو مجموع.

فان قيل : ادراك الجسم لذاته انّما يكون بادراك اجزائه ، والمفروض انّه لا يمكن ان يكون له ادراك جزئه الّذي هو الصورة ، لانّها حالّة في الهيولى ؛

قلنا : حلول الصورة في الهيولى لا يصير مانعا من صيرورتها معقولة لغيرها ، إذ يمكن تعقلها باعتبار حضورها بنفسها أو بصورتها عنده وحينئذ تجرّد تلك الصورة لأدّى إلى الصورة. كيف ولو لم يكن ذلك لزم أن لا يكون الصورة معقولة أصلا؟ ، وهو غير معقول.

أيضا لا استبعاد في امكان حصول العلم بشيء اجمالا بدون حصول العلم باجزائه. ثمّ على ما ذكرناه اخيرا من أنّ كون المعقولية والمحسوسية عين الوجود للمدرك من حيث انّه مدرك فاذا اريد بالوجود للمدرك عدم الغيبة يظهر انّ ما ذكره بهمنيار ـ بعد ما نقلناه في الفصل الّذي عقده لبيان العقل والمعقول بقوله : « واذ علمت انّ معقولية الشيء ووجوده من حيث هو معقول واحد » ـ صحيح لا غبار عليه ، إلاّ أنّ ما ذكره بعد ذلك ـ بقوله : « فاذا كان وجوده لغيره كان معقولا له وإذا كان وجوده لذاته فهو معقول لذاته » ـ غير مسلّم ، لما تقدّم من انّه يجوز أن يكون الشيء موجودا لغيره ويكون عاقلا لذاته. ومن انّه يجوز ان لا يكون شيء غائبا عن ذاته ولا يكون منكشفا لذاته ـ لجواز اشتراط الانكشاف بشيء آخر ـ.

وكذا يظهر ضعف ما ذكره بعد ذلك بقوله : « وقد عرفت انّ الموجود المجرّد عن المادّة هو غير محتجب عن ذاته ، فنفس وجوده اذا معقوليته لذاته وعقليته لذاته ، فوجوده اذا عقل ومعقول». وبيان ذلك : انّك قد عرفت انّ المعقول هو المجرّد عن المادّة وعلائقها ، ثمّ ليس ينعكس الموجبة الكلّية موجبة كلّية حتّى يكون « كلّ ما يكون مجرّدا عن المادّة فهو معقول ». لكن المجرّد عن المادّة امّا يصحّ أن يعقل أو لا يصحّ ان يعقل ، ومحال أن لا يصحّ أن يعقل ، فانّ كلّ موجود يمكن أن يعقل ؛ فاذن انّما يصح ان يعقل امّا بأن لا يتغيّر فيه شيء حتّى يصير معقولا بالفعل أو بأن يتغيّر فيه شيء حتّى يصير معقولا ، كالحال في المعقولات بالقوّة الّتي تحتاج إلى مجرّد يجرّدها عن المادّة حتّى يصير معقولا. لكن هذا الحكم لا يصحّ في المجرّد بالفعل ، فانّ المجرّد بالفعل لا يحتاج إلى أن يتغير فيه شيء حتّى يصير معقولا بالفعل ، فهو اذن معقول بالفعل ، فهو عاقل لذاته ، فانّه ان لم يكن عاقلا لذاته لكان معقولا بالقوّة وقد فرضناه معقولا بالفعل ؛ هذا خلف! ؛ انتهى.

ووجه الضعف انّ ما تقدم منه لم يعلم منه انّ كلّ موجود مجرّد عن المادّة هو غير محتجب عن ذاته ، فانّ خلاصة كلامه السابق : انّ المجرّد الّذي هو قائم بذاته يكون ذاته حاضرا لذاته والعلم هو حضور الذات للذات ، فيكون المجرّد عالما بذاته والموجود الّذي يكون قائما بالغير لا يكون حاضرا عند ذاته ، بل يكون حاضرا للغير ، فيكون محتاجا عن ذاته وغير محتجب عن الغير الّذي هو قائم به وحاضر لديه وان كان مجرّدا. فلهذا لا يكون الصور المعقولة مع تجرّدها معلومة لذاتها ، بل لغيرها ـ أعني : النفس ـ فقد اشرنا إلى أنّ مجرّد الحضور بمعنى عدم الغيبة لا يستلزم العلم ـ لجواز اشتراطه بشيء آخر ـ والى انّه لم لا يجوز أن يكون القائم بالغير عالما بذاته أيضا ـ لحضور ذاته لذاته ـ وإن كان حاضرا عند غيره أيضا؟. ولو سلّم ذلك لم يكن مستلزما لكون نفس وجود هذه عين معقوليته لذاته وعاقليته لذاته حتّى يلزم منه كون وجوده عقلا وعاقلا ومعقولا ؛ وبالجملة ما دعاه إلى الحكم بكون نفس وجود المجرّد معقوليته لذاته هو كونه حضور مجرّد موجود بالفعل عند مجرّد آخر ، وما دعاه إلى الحكم بكونه عاقليته لذاته كونه كون مجرّد حضر عنده مجرّد آخر. فباعتبارين مختلفين تجتمع المعقولية والعاقلية لا باعتبار واحد ـ كما ظنّ ـ ، ولا ريب انّ مجرّد الحضور بمعنى عدم الغيبة لا يستلزم التعقّل ـ كما مرّ مرارا ـ ولو اراد بالحضور ما هو المساوق للانكشاف منعنا تحقّق الحضور ، على أنّ الوجود إذا كان عبارة عن كون المجرّد بأحد الاعتبارين لم يكن إلاّ عقلا ، فكيف يكون عاقلا ومعقولا ، بل يلزم ممّا ذكره أن يكون ذاته عاقلا ومعقولا ، لا وجوده ؛ وإن اراد بالوجود ما يعمّ الذات لم يجتمع الثلاثة في شيء واحد ، لأنّ العاقل والمعقول هو الذات والعقل هو كونها ـ أي : وجودها ـ باحدى الاعتبارين.

قيل : ويمكن أن يحمل الوجود المجرّد عن المادّة في كلامه على واجب الوجود ـ تعالى ـ لا على الموجود المجرّد عن المادّة الزائد وجوده على ذاته ، وحينئذ فكون وجوده عقلا وعاقلا ومعقولا ظاهرا لا كلفة فيه. لأنّ ذاته لمّا كان صرف الوجود فكونه ـ الّذي هو وجوده ـ عين ذاته ، فلمّا كان العقل هو كون حضور مجرّد عند مجرّد آخر أو كون مجرّد بحيث حضر عنده مجرّد آخر ووجود الواجب هو عين هذا الكون فيكون عقلا ، ولكون هذا الوجود عين ذاته يكون عاقلا ومعقولا.

ثمّ هذا على فرض تسليم كون الحضور المذكور ـ أي : حضور الذات عند الذات بمعنى عدم الغيبة ـ عين الادراك والتعقّل ؛ وقد عرفت ما فيه.

ثمّ ما ذكره بهمنيار بقوله : « ثمّ ليس ينعكس الموجبة الكلّية » غرضه انّ الحكماء ذكروا انّ كلّ معقول مجرّد بالفعل عن المادّة ، فجعلوا مجرّد المعقولية سببا للتجرّد ، ولم يحكموا بمجرّد اثبات انّ كلّ معقول مجرّد أنّ كلّ مجرّد أيضا معقول حتّى يرد عليهم حينئذ انّ الموجبة الكلّية لو كانت منعكسة إلى موجبة كلّية لكان اثبات الأصل كافيا في اثبات العكس ، لانّ العكس من لوازم الاصل واذا ثبت الملزوم ثبت اللازم ، لكن لا ينعكس الموجبة الكلّية إلى الموجبة الكلّية  ولو حكموا بثبوت العكس بمجرّد ثبوت الأصل لورد عليهم ـ مضافا إلى ورود لزوم انعكاس الموجبة الكلية موجبة كلّية ـ لزوم حصول الاستنتاج من موجبتين كليتين في الشكل الثاني ، إذ يصير القياس حينئذ هكذا : الذات الغير المادّية القائمة بنفسها مجرّدة عن المادّة ، والمعقول من كلّ شيء بالفعل ذات مجرّدة ؛ فينتج : الذات الغير المادّية القائمة معقولة بالفعل. والصغرى بديهية والكبرى هو الاصل الّذي اثبته الحكماء ، والنتيجة تحصل بملاحظة صحّة العكس ، مع انّ المنطقيين مصرّحون بأنّ الموجبتين في الشكل لا ينتجان. وبالجملة لا يحكم بأنّ كلّ مجرّد عن المادّة فهو معقول لأجل انعكاس الموجبة الكلّية موجبة كلّية ، لعدم تحقّقه. والحكماء أيضا لم يحكموا بانّ كلّ مجرّد معقول بالفعل في بادي النظر من دون دليل خارجي ليلزم عليهم الاشكالان ، بل قالوا : لأنّ ما هو مجرّد عن الموادّ إمّا أن يصحّ أن يعقل أولا يصحّ أن يعقل ، ومحال أن لا يصحّ أن يعقل ـ إذ كلّ موجود يصحّ أن يعقل ـ ، فاذن صحّة معقوليته إمّا بأن لا يتغير فيه شيء حتّى يصير معقولا بالفعل ـ بمعنى انّه مع فرض عدم تغير ما فيه من المعقولية بحيث لو كان هناك عاقل لعقله بدون حاجة إلى تجريده وإن كان معقوليته بالفعل موقوفا على تحقّق عاقل ـ أو بان يتغير فيه شيء حتى يصير معقولا ـ كالحال في المعقولات بالقوّة الّتي تحتاج إلى مجرّد يجرّدها عن المادّة حتّى تصير معقولة ـ. لكن هذا الحكم ـ أي : التغير بالتجريد ـ لا يصحّ في المجرّد بالفعل ، لانّ المجرّد بالفعل حيث غشيته العوارض المادّية لا تحتاج إلى أن تغير فيه شيء حتّى تصير معقولا بالفعل ، ولا يحتاج العاقل له إلى تقشيره عنها حتّى يصيّره معقولا ويخلّص إلى حاقّ كنهه ، فهو اذن معقول بالفعل ، وإذا كان معقولا بالفعل فيكون عاقلا لذاته بالفعل ، إذ لو لم يكن عاقلا لذاته بالفعل لكان معقولا بالقوّة ، وقد فرضناه معقولا بالفعل ؛ هذا خلف!. هذا هو توضيح ما ذكره بقوله : « ثمّ ليس ينعكس الموجبة الكلّية ـ ... إلى آخره ـ ».

ويرد عليه : أمّا أوّلا : انّا لا نسلّم انّ مجرّد التجرّد وعدم العوارض المادّية كاف للمعقولية والعاقلية حتّى لا يحتاج المجرّد بالفعل إلى تغير حتّى يصير معقولا. بل لعلّهما يشترطان بشيء آخر أو يكون معنى آخر سوى المادّية مانعا عنهما ؛ وأمّا ثانيا : انّه لم يظهر ممّا ذكره هنا الاّ انّ المجرّد بالفعل مع عدم تغيره معقول ، بمعنى انّه لا مانع من معقوليته حتّى انّه لو فرض عاقل يعقله بلا حاجة إلى أن يتغيّر فيه شيء ، لانّه معقول بالفعل بمعنى انّه تحقّق أيضا عاقل بعقله ؛ وحينئذ فقوله : « فهو اذن معقول بالفعل » إن أراد به انّه معقول بالفعل لعاقل آخر غير ذاته فهو يتوقّف على فرض عاقل آخر هناك ليصير معقولا بالفعل ، مع انّه لا يتمّ التقريب حينئذ؛ وان اراد : انّه معقول بالفعل لذاته فهذا انّما يصحّ إذا ثبت كونه عاقلا لذاته ، ومن لم يسلّم كون كلّ مجرّد عاقلا لذاته كيف يسلّم كونه معقولا لذاته؟!. وبذلك يظهر فساد ما فرّع ورتّب عليه ـ أعني : قوله : « فهو عاقل لذاته » ـ ، فانّه إن لم يكن عاقلا لذاته لكان معقولا بالقوّة ، لانّ القدر المسلّم من معقوليته ـ على ما ذكره هنا ـ انّه لا مانع فيه من المعقولية بحيث لو كان هناك عاقل لعقله من دون احتياج إلى تجريده. وهذا القدر من المعقولية يمكن أن يكون باقيا مع عدم كونه عاقلا لذاته ، لانّ عدم كونه عاقلا لذاته لا ينافي كونه بحيث إذا تحقّق عاقل عقله ، فان أراد بالمعقول بالفعل هذا القدر من المعقولية وبالمعقول بالقوّة ما لا يكون كذلك ـ أي: لا يكون بحيث إذا تحقّق عاقل عقله من دون احتياج إلى شيء آخر من تجريد أو غيره ـ فيكون المنع ظاهر الورود على قوله : « إن لم يكن عاقلا لذاته لكان معقولا بالقوّة » ؛

وإن اراد بالمعقول بالفعل المعقول لذاته بالفعل ـ أي : ما هو الظاهر المتبادر من هذا التركيب ـ وبالمعقول بالقوّة القدر المذكور من المعقولية ، ففيه : انّ كونه معقولا لذاته بالفعل انّما يثبت إذا ثبت كونه عاقلا لذاته ، وهل الكلام الاّ فيه؟.

والحاصل : انّ هذا البيان انّما يصحّح كون المجرّد معقولا بالمعنى المذكور ـ أي : كونه بحيث اذا فرض تحقّق عاقل عقله ـ ولا يصحّح كونه عاقلا ومعقولا لذاته.

ولو قيل : انّ بيان ذلك ـ أي : كونه عاقلا ومعقولا لذاته ـ انّما احالة على ما تقدّم من أنّ معنى العاقلية ليس إلاّ كون الشيء موجودا قائما بذاته حاضرا لديه شيء ، ومعنى معقوليته انّما هو كونه موجودا لموجود قائم بذاته ، وهو ـ أي : المجرّد ـ لكونه قائما بذاته موجودا لذاته القائمة بذاتها غير غائب عنه ذاته تكون ذاته حاضرة عند ذاته ، فيكون عاقلا ومعقولا لذاته ؛

قلنا : لو كان غرضه اثبات معقولية المجرّد وعاقليته لذاته بالفعل بهذا البيان فهو قد ظهر من كلماته السابقة ، فأيّ حاجة إلى اعادته؟!.

ومع ذلك قد عرفت ضعفه وعدم تماميته ؛ هذا.

ويمكن أن يقال : انّه لو سلّم كونه معقولا بالفعل لعلّه يكفي لذلك كونه معقولا للواجب ـ تعالى ـ أو للمبادي العالية ، ولا حاجة إلى أن يكون معقولا لذاته ؛ ويمكن أن يخصّص (3) المجرّد في كلامه بالواجب ، فيندفع ذلك.

ثمّ لا شكّ في أنّ المراد بالمجرّد في كلامه هو المجرّد القائم بذاته دون الصور العقلية المجرّدة ، إذ لو لم يخصص بالقائم بالذات ـ بل أبقى على عمومه ـ لانتقض قوله : « فان لم يكن عاقلا لذاته لكان معقولا بالقوّة » بالصور المعقولة ، فانّها غير عاقلة لذاتها مع كونها معقولة بالفعل لا بالقوّة. وقد تلخّص ممّا ذكر انّ ما جعله بهمنيار مقدّمة ودليلا لاثبات كون كلّ مجرّد عالما بذاته وعدم كون شيء من المادّيات عالما بذاته أمران :

الأوّل : انّ وجود المعقول في نفسه وفي الخارج أو من حيث هو معقول نفس وجوده لمدركه من حيث هو ذات خارجي أو من حيث هو مدرك. وقد عرفت انّ بعض هذه الاحتمالات الّتي وقع الترديد فيها خلاف الواقع ، وبعضها وإن صحّ إلاّ أنها لا يثبت المطلوب.

الثاني : انّ مدرك ذاته يجب أن يكون نفس وجوده في نفسه أو من حيث انّه مدرك ادراكه لذاته. وقد صرّح أيضا بهذين الأمرين المعلم الثاني في تعليقاته حيث قال : « كلّ ما يصدر عن واجب الوجود فانّما يصدر بواسطة عقليّته لها ، وهذه الصور المعقولة تكون نفس وجودها نفس عقليته لها لا تمايز بين الحالتين ولا ترتّب لأحدهما على الاخر ، فليس معقوليتها له غير نفس وجودها عنه. فاذن من حيث هي موجودة معقولة ومن حيث هي معقولة موجودة ، كما أنّ وجود الباري ليس إلاّ نفس معقوليته لذاته ، فالصور المعقولة يجب أن تكون نفس وجودها عنه نفس عقليته لها وإلاّ لكانت معقولات اخرى علّة لوجود تلك الصور وكان الكلام في تلك المعقولات كالكلام في تلك الصور ، ويتسلسل » (4) ؛ انتهى.

ولا يخفى انّه لو اراد انّ معقولية الصور نفس وجودها من حيث أنّها معقولة لكان أحد احتمالات الّتي ذكرناه لكلام بهمنيار ، وذكرنا انّه صحيح إلاّ انّه لا يثبت به كون

المجرّد عاقلا لذاته وعدم كون المادّي عاقلا لذاته ؛ وإن أراد انّ معقولية تلك الصور نفس وجودها من حيث أنّها موجودة في الخارج فهو ممنوع ـ كما تقدّم في كلام بهمنيار ـ.

ثمّ لمّا كان كلام هذا المعلّم في الصورة المعقولة للواجب ـ تعالى ـ وصرح بأنّ تعقّل الواجب لتلك الصور نفس وجودها الحاصل عنه ـ تعالى ـ أو الوجود الحاصل عنه ـ تعالى ـ هو الوجود الخارجي يكون ظاهرا في الاحتمال الثاني ، ولا يمكن أن يحمل كلامه على انّ معقوليتها سبب لوجودها عنه ـ تعالى ـ ، لانّه صرّح بعدم ترتب أحدهما على الآخر. وقد صرّح هذا المعلّم في موضع آخر بهذا الاحتمال حيث قال : « اخراج الأيس من الليس ليس إلاّ العلم الفعلي والتعقّل بالذات » (5). وقوله : « وجود الباري ليس الاّ معقوليته لذاته » تصريح بالأمر الثاني ـ أعني : كون وجود المدرك لذاته ـ. نفس ادراكه لذاته وقال أيضا في تعليقاته : « المعقول من الشيء هو وجود مجرّد من ذلك الشيء ، فان كان وجود ذلك الشيء لك وذلك إذا كان مادّيا كان معقولا لك ، وان كان وجوده لذاته كان معقولا لذاته وذلك اذا كان مجرّدا ، فان كان وجوده في الأعيان بهذه الصفة ـ أي : مجرّدا ـ فهو معقول لذاته ، فمعقولية الشيء هى بعينها وجوده المجرّد عن المادّة وعلائقها ، فاذا وجد الشيء بهذا النحو من الوجود في الاعيان كان معقولا لذاته ، وان كان في الذهن ولم يكن مجرّدا في الاعيان كان معقولا لا لذاته » ؛ انتهى.

وفي هذا الكلام أيضا تصريح بانّ وجود المجرّد عين معقوليته لذاته. وبالجملة هذان الأمران ـ أي : كون وجود المعقول في نفسه عين وجوده لمدركه ، وكون وجود المدرك لذاته ـ عين ادراكه لذاته مصرّح بهما في كلام أساطين الحكمة ، ولكن ليس وجهه ظاهرا لنا وليس لنا حيلة إلى تعقّله ؛ ولعلّ الله يحدث بعد ذلك أمرا!.

على أنّك قد عرفت انّه لو ثبت هذان الأمران أيضا لا يثبت بهما المطلوب ـ أي : كون كلّ مجرّد عاقلا لذاته وعدم كون مادّي عالما بنفسه ـ ، فالنافع في المقام بيان انّ التجرّد علّة للتعقّل والمادّية مانعة عنها ، وغاية ما ذكروه ـ كما علمت ـ : انّ التعقّل عبارة عن

حضور شيء ووجوده لموجود مجرّد قائم بذاته ، وكلّ مجرّد قائم بذاته يصدق انّ ذاته حاضرة عند ذاته موجودة لذاته ، فيكون ذاته عاقلة لذاته وكلّ مادّي موجود لغيره ، فلا يكون موجودا لذاته حاضرا عند ذاته. وقد علمت انّ كون التعقّل عبارة عن الحضور بمعنى عدم الغيبة لا يفيد، وبمعنى الانكشاف غير مسلّم ، ووجود المادّي لغيره بمعنى عدم الغيبة عن هذا الغير لا يمنع من انكشاف ذاته لذاته.

فالحقّ في اثبات المطلوب حينئذ ـ أي : كون كلّ مجرّد عاقلا لذاته وعدم كون مادّي عاقلا لذاته ـ بحيث يندفع الشكوك والشبهات أن يقال : لا ريب في أنّ كلّ عاقل مجرّد ، فانّ المدرك للصور العقلية المجرّدة لا يمكن أن يكون مادّيا ـ لما بيناه سابقا من انّه لو كان المحلّ مادّيا لكان الحالّ أيضا مادّيا ـ ، وبذلك يثبت أنّ المادّية مانعة من ادراك المجرّد. وما يصحّ أن يدرك المجرّد ومن شأنه ذلك انّما هو المجرّد القائم بذاته ، لانّ المجرّد القائم بغيره ـ أعني : الصورة العقلية المجرّدة الكلّية ـ لا يمكن أن يدرك شيئا بالضرورة والاتفاق ، فمنشأ صحّة التعقّل ـ أي : ادراك المجرّد ـ سواء كان مجرّدا قائما بذاته أو صورة عقلية مجرّدة إنّما هو التجرّد. ثمّ نقول : التجرّد كما هو منشأ لصحّة التعقّل وامكانه إن كان منشأ لحصوله بالفعل أيضا يثبت المطلوب ـ أعني : كون كلّ مجرّد عاقلا لذاته ، بل لكلّ شيء ـ. وإن توقّف التعقّل بالفعل على شيء آخر نقول : هذا الشيء الآخر لا يخلو : إمّا أن يكون قوّة وخاصّة متحقّقة في ذات المجرّد العاقل أو علاقة ورابطة بينه وبين المجرّد المعقول. وعلى الأوّل إن كان تلك القوّة متحقّقة في كلّ مجرّد ثبت المطلوب ـ لانّ كلّ مجرّد حينئذ مشتمل على تلك القوّة الّتي هي شرط حصول التعقل بالفعل ـ فيكون عاقلا بالفعل لذاته ولما عداه. وإن كانت متحقّقة في بعض المجرّدات دون بعض آخر نقول : لا ريب في انّ تلك القوّة لا يخلو إمّا أن تكون منشأ لزيادة التجرّد واشدّيته ونقصانه وضعفه أو لا تتفاوت بها التجرّد زيادة ونقصانا ، والأوّل غير ممكن ـ لما يأتي من أنّ انضمام أمر إلى المجرّد بأيّ طريق كان يوجب نقصان تجرّده بالنسبة إلى مجرّد هو عري عن هذا الأمر ـ. على أنّا نقول : بناء على هذا الشقّ يكون ما هو أشدّ تجرّدا مشتملا على تلك القوّة البتّة، لانّ المفروض منشئيّة هذه القوّة لزيادة التجرّد وشدّته ولا ريب في أنّ الواجب في أعلى مراتب التجرّد وتجرّده أشدّ وأقوى من تجرّد سائر المجرّدات ، فيكون مشتملا على هذه القوّة والخاصية، فيكون عاقلا لذاته ولسائر الأشياء. على أنّ النفوس الانسانية مع كونها في أحسن مراتب التجرّد عاقلة لذواتها ولبعض ما عداها ، فتكون مشتملة على تلك القوّة ، فكيف لا يتحقّق في الواجب الّذي هو في أعلى مراتب التجرّد مع كونها منشأ لزيادة التجرّد؟!. وعلى الثاني يلزم المنافاة وخلاف الفرض المثبت بالبرهان ، لأنّ المادّية مانعة من التعقّل فكلّما يكون أقرب إلى المادّية يكون أضعف تعقّلا ، وكلّما يكون أبعد منها واقوى تجرّدا يكون منشئيته للتعقّل أقوى ، فكيف يمكن أن يكون تلك القوّة مع منشئيته للقرب إلى المادّية ونقصان التجرّد منشأ للتعقّل ؛ والثالث غير ممكن ، لانّه لا يمكن أن يكون تجرّد شيء مع فرض انضمام شيء آخر إليه مساويا لتجرّده مع فرض عدم انضمام هذا الشيء إليه ، لأنّ هذا الشيء المنضمّ ان كان مقوّما وذاتيا للمجرّد من حيث هو مجرّد ، فلا ريب في استلزامه للتركيب العقلي. وان لم يوجب التركيب الخارجى ـ لعدم كونه ماديا ـ فيكون منشأ لنقصان التجرّد وضعفه البتة ، وان كان عرضا فامّا أن يكون شيئا متحقّقا خارجيا قائما بالمجرّد أو شيئا اعتباريا نفس أمريّ أو اعتباريا محضا ، والأخير لا يمكن أن يصير منشأ للأمر الحقيقي الواقعي ـ أعني : الظهور والانكشاف ـ ، والأوّلان يوجبان نوع تكثّر ـ لصيرورة المجرّد حينئذ محلاّ لأمر خارجي أو نفس أمري ـ. ولا ريب في أنّ المجرّد الّذي لا يكون محلاّ لشيء منهما أشدّ تجرّدا من المجرّد الّذي يكون محلاّ لأحدهما ، فانّ المجرّد الّذي قامت به صورة عقلية كلّية يكون أضعف تجرّدا ممّا لم يقم به تلك الصورة ، فكيف بالمجرّد الّذي تقوم به قوّة وجودية وخاصّة ثبوتية ويحتاج في انكشاف الأشياء إليها وإن كانت عرضية بالنسبة إلى مجرّد لم تقم به تلك القوّة. وحينئذ إذا كان التجرّد منشأ لصحّة التعقّل والمادّية مانعة عنه كيف يكون ما هو أقرب إلى المادّية وأضعف تجرّدا عاقلا ولا يكون ما هو أبعد عنها وأشدّ تجرّدا عاقلا؟!.

ويظهر ممّا ذكر انّ تحقّق قوّة في المجرّد زائدة على ذاته موجبة للانكشاف يوجب نقصان التجرّد بالنسبة إليه إذا لم توجد فيه تلك القوّة وكان ذاته مقتضيا للانكشاف ولا يمكن اقتضاءها لأشدّية التجرّد ـ كما أشير إليه آنفا ـ.

وعلى هذا ـ أعني : كون الأمر الّذي يتوقّف عليه التعقّل بالفعل رابطة وعلاقة بين المدرك والمدرك ـ نقول : الرابطة المتصوّرة بينهما منحصرة بحضور المدرك عند المدرك ، إمّا بذاته أو بصورته ، والحضور بذاته إمّا أن يكون المعقول أمرا مبائنا عن العاقل ولكن يكون بينهما نوع علاقة ـ كأن يكون المعقول آلة أو قوّة للعاقل أو معلولا له صادرا ومترشّحا عنه ـ أو لا يكون أمرا مبائنا عنه ، بل يكون عينه او لوازم ذاته ، ولا ريب انّ اقوى هذه الاقسام ربطا وعلاقة القسم الآخر ـ أعني : كون المعقول عين العاقل حاضرا ذاته عند ذاته ـ. وجميع هذه الاقسام راجعة إلى الحضور ، فانّ المتعقّل بالذات في تعقّل الشيء بصورته انّما هو الصورة وتعقّلها إنّما هو لحضورها عند العاقل وارتسامها في ذاته ، ولذا قيل : انّ العلم منحصر بالحضوري. قال بعض الأعلام : وان سألت الحقّ فليس العلم حقيقة الاّ الحضوري ، والتقسيم بالحصولى والحضوري ليس إلاّ باعتبار أوّل النظر وبادي الرأي ، لأنّ المعلوم بالعلم الحصولي حقيقة ليس الاّ الصورة الحاصلة في العقل وذو الصورة معلوم بالعرض ـ على ما هو رأي الشيخين حيث قالا : انّ النفس لا تدرك إلاّ ما حصل فيها ، وهو الصورة ـ. ويدل على ذلك انّه لو ارتفع ذو الصورة عن الخارج لكان الادراك بحاله ، ألا ترى انّ النائم والمرتسم يدركان ما لا وجود له في الخارج على نحو ادراك ما في الخارج؟! فظهر انّ المعلوم حقيقة هو الصورة وذو الصورة معلوم بالعرض والصورة حاضرة عند النفس ، فتكون الصورة معلومة بالعلم الحضوري. وبناء على ما هو المذهب المنصور من انّ الاشياء تحصل بأنفسها في الذهن ليس العلم الاّ العلم بالكنه ، لا العلم بالوجه ؛ لانّ وجه الشيء إذا حصل في العقل فالمعلوم حقيقة هو حقيقة ذلك الوجه وذو الوجه معلوم بالعرض ، فالمعلوم حقيقة هو كنه الوجه ـ بناء على أنّ الأشياء تحصل بانفسها في الذهن ـ ، فاتّضح انّ العلم حقيقة ليس إلاّ الحضوري وانّ العلم لا يكون إلاّ بالكنه » ؛ انتهى.

وإذا ثبت أنّ جميع اقسام الرابطة راجعة إلى الحضور فنقول : لا ريب حينئذ في أنّ أقوى اقسام الحضور وعدم الغيبة حضور الذات للذات ، فتكون الرابطة الّتي هي شرط التعقّل بالفعل للمجرّد بالنسبة إلى تعقّل ذاته موجودة ، فيكون كلّ مجرّد عاقلا لذاته بالفعل ؛ وهو المطلوب.

وقد ظهر ممّا ذكرناه انّ حضور الشيء عند المجرّد القائم بذاته بمعنى عدم غيبته عنه وان لم يكن عين التعقّل ـ كما هو صريح كلام بهمنيار ـ ، إلاّ انّه مستلزم له ، نظرا إلى انّ كون الشيء مجرّدا قائما بذاته من شأنه العاقلية ـ وحضور شيء آخر عنده جزء أخير للعلّة التامّة لحصول التعقّل بالفعل ـ ، فيترتّب عليه التعقّل والانكشاف. فالفرق بين كلام بهمنيار وبين ما ذكرناه انّما هو بالعينية والاستلزام ، والباعث لذهابهم إلى الاستلزام دون العينية هو ما عرفت من ورود المنع على العينية وظهور المغايرة بين حضور الشيء ـ بمعنى عدم الغيبة عند المجرّد ـ وبين انكشافه له. وأمّا استلزامه له فلا منع فيه بعد قيام الدلالة عليه ـ كما عرفته مفصّلا ـ. وبما ذكرناه يظهر لك انّ حقيقة العلم والتعقّل هو الوجود الانكشافي لموجود قائم بذاته ؛ ولو شئت قلت : الحضور الانكشافي لموجود مستقلّ في الوجود ، فهو نوع خاصّ من الوجود الرابطي لموجود قائم بذاته ، وليس هو مطلق وجود شيء لموجود قائم بذاته أو مطلق حضور شيء له في نفسه لمطلق الوجود الرابطي لموجود قائم بذاته ـ كما هو الظاهر من كلام جماعة ـ.

فان قلت : حاصل ما ذكرت في دليل الاستلزام انّ المادي لمّا لم يمكن أن يتعقّل الصورة العقلية الكلّية بارتسامها في ذاته ـ لايجابه انقسامها ومادّيتها ـ فوجب أن يكون مدركها هو المجرّد القائم بذاته ، وبذلك يثبت أنّ المادّية مانعة عن التعقّل بادراك الصورة ، فلا يكون المادّي مدركا للشيء بتجريد الصورة وانتقاشها في ذاته ، فالمصحّح لادراك الصورة بالتجريد هو التجرّد وليس مجرّد التجرّد علّة مستقلّة لحصول ادراك الصورة العقلية المجرّدة بالفعل ، والاّ لكان كلّ مجرّد مدركا لجميع الصور الكلّية للأشياء ، وليس كذلك ؛ بل هو المصحّح له ومن شأنه ادراكها. وانّما يتوقّف الحصول بالفعل على شرط آخر ـ وهو أن تحصل تلك الصور في بعض آلات المجرّد وقواه ـ ثمّ هذا المجرّد يدركها امّا بالمشاهدة الحضورية ـ كما تشاهد تلك الآلات نظرا إلى الارتباط الّذي بينهما من غير أن يجرّد تلك الصورة ويقشرها ويأخذ حقائقها الكلّية وصفوها الخالص الّذي هو حاقّ كنهها ، وهو العلم الحضوري ـ ، أو يجرّدها عن الأغشية واللبوس ويأخذ حقائقها الكلّية وطبائعها المجرّدة ، وهو العلم الحصولي الّذي ينقسم إلى التصور والتصديق. وبه يعلم حقائق الأشياء وحدودها وذاتياتها ولا يعلم ذلك بالعلم الحضوري. ولذا قد يكون شيء حاضرا ومنكشفا للآخر ولا يعلم حقيقته ، فانّ الشجاعة حاصلة في نفس الشجاع حاضرة عندها ولا يعلم حقيقتها وحدّها. وبالجملة المعلوم ممّا ذكرتم انّ ادراك الشيء بالعلم الحصولي ليس من شأن المادّي ولا يمكن حصوله له ـ لاستلزامه انقسام الصورة العقلية ومادّيتها ـ ، بل هو مختصّ بالمجرّد القائم بذاته. ولم يظهر ازيد من ذلك من دليلكم ولم يظهر منه عدم جواز ادراك المادّي للشيء بالعلم الحضوري واختصاصه بالمجرّد ؛ وحينئذ نقول : يجوز أن يكون المادّي مدركا للأشياء بالعلم الحضوري بأن ينكشف بعض الأشياء له لحصول نوع ارتباط وعلاقة من العلاقات المذكورة ؛ بل نقول : يجوز أن يشترط هذا النوع من العلم ـ اي : العلم الحضوري ـ بشرط آخر سوى الحضور للمجرّد القائم بذاته ، لانّ ما حصل من دليلكم انّ مصحّح العلم الحصولي هو التجرّد وموجبه بالعقل ليس الاّ أحد العلاقات المذكورة ، وهذا لا يوجب أن يكون العلم الحضوري أيضا كذلك ، فلم لا يجوز أن يكون مصحّحه شيئا غير التجرّد وموجبه بالفعل شيئا آخر من العلاقات المذكورة أو غيرها؟! ، لانّ انكشاف الأشياء ـ سواء كانت مادّية أو مجرّدة ـ للمادّى بالحضور لا يستلزم ارتسام صورها الكلّية العقلية في ذاته حتّى يوجب انقسام المجرّد ومادّيته.

قلت : لا ريب في تحقّق الانكشاف وحصوله في كلّ من العلم الحصولي والحضوري ، إلاّ انّ شرط حصول الانكشاف بالفعل في الحصولي هو الصورة وقيامها بالمدرك ، وشرطه في الحضوري هو حضور ذات المدرك عند المدرك بأحد الأنحاء المذكورة ، والغرض انّ مصحّح الانكشاف الحصولي هو التجرّد بمعنى انّ ما من شأنه ان يحصل له هذا الانكشاف هو المجرّد دون المادّي ، فالمادّي من حيث هو مادّي لا يناسب ذاته هذا الانكشاف ولا يمكن عليته له. ولا ريب في أنّ الانكشاف الحضوري ليس مخالفا بالنوع لهذا الانكشاف ، لانّ حقيقتها واحدة ، كيف وحقيقة كلّ منها ظهور شيء عند غيره لقيام الربط والعلاقة. إلاّ انّ الظاهر في الحصولى أوّلا وبالذات صورة وفي الحضوري عين خارجية. والبديهة قاضية بأنّ ما لا يناسب أحد الظهورين لا يناسب الآخر أيضا ، واختلافهما في المتعلّق لا يصير منشأ لاختلاف الحقيقة ، فيعلم منه أنّ المجرّد من حيث هو مجرّد مناسب ومصحّح للتعقّل والمادّي من حيث هو مادّي غير مناسب ومانع عنه وإن كان فساد لزوم انقسام المجرّد ومادّيته مخصوصا بتحقّق الحصولي للمادّي. وبالجملة البديهة حاكمة بانّه إذا كانت المادّية مانعة عن العلم الحصولي يكون مانعة عن العلم الحضوري أيضا ؛ والفرق تحكّم باطل.

وإن تأمّلت بعد في اتحادهما في هذا الحكم وجوّزت الفرق ـ نظرا إلى اختصاص الفساد الّذي هو لزوم انقسام المجرّد ومادّيته في الحصولي دون الحضوري ـ فيثبت لك المطلوب بطريق آخر لا يتطرّق إليه شبهة أصلا ، وهو : انّه لا ريب في انّ العلاقات المذكورة راجعة كلّها إلى الحضور هى شرط التعقّل بالفعل لتعقّل العاقل ولا يمكن أن يكون مجرّد حصول أحد تلك العلاقات علّة مستقلّة للتعقّل بالفعل بمعنى أنّ كلّما يحصل له أحد تلك العلاقات بينه وبين شيء آخر يكون مدركا وعاقلا ـ سواء كان مجرّدا أو مادّيا ـ. ولا يتوقّف على شيء آخر متحقّق للعاقل ، لانّه بديهى البطلان لاستلزامه تعقّل كلّ شيء لما هو غير غائب عنه. على انّه مستلزم لأحد المطلوبين ـ أعني : كون كلّ مجرّد عاقلا لذاته ـ وان لم يستلزم المطلوب الآخر ـ أعني : عدم كون المادّيات عاقلة لذواتها ـ ، فيلزم أن يوجد سوى الربط أمر آخر في المدرك يكون مصحّحا ومنشأ للتعقّل الانكشافي ، فهو إن كان مجرّد التجرّد فيثبت المطلوب ، وإن كان مجرّد المادّية ـ أي : ما له مادّية ، سواء كان نفس المادّة أو الصورة الجسمية أو النوعية أو الاعراض القائمة بالجسم ـ ، لكان كلّ مادّي عاقلا لذاته ولكلّ ما هو لا يغيب عنه بالتعقّل الحضوري ، وهو بديهى الفساد. وان كان شيئا آخر فامّا أن يكون ذلك الشيء هو الوجود الخاصّ للمدرك ، أو مهيته الخاصة المختصّة به ـ أي : مهيته مع تشخّصه أو تشخّصه الخاصّ فقط ، سواء كان التشخّص نحو وجوده أو غيره ـ ، أو الوجود العامّ الشامل له ولغيره من الموجودات ، أو مهيته المشتركة بينه وبين الكثيرين المتفقة معه في الحقيقة ـ أعني : نوعه ـ ، أو جزء مهيته ـ أعني : جنسه أو فصله أو صفة من صفاته وقوّة وخاصّة من قواه و خاصّياته ـ.

فعلى الثلاثة الأول يلزم اختصاص التعقّل بموجود واحد شخصى ، وبطلانه ظاهر ؛ وعلى الرابع يلزم تحقق التعقّل لجميع الموجودات ، وفساده أظهر ؛ وعلى البواقي ـ أعني : كون المصحّح للتعقّل الحضوري هو النوع أو الجنس أو الفصل أو وصف لازم أو مفارق ـ فان أريد بها ما يؤخذ من الموادّ والصور والقوى الجسمية حتّى يكون جميع أفرادها مادّية لزم اختصاص التعقّل بالماديات وعدم تحقّقه لمجرّد أصلا ، وهو باطل ؛ لأنا نعلم بديهة انّ النفوس الناطقة عاقلة لذواتها مع أنها مجرّدة ؛ وإن اريد بها ما يؤخذ من حقائق المجرّدات وخواصّها أو الاعمّ لزم اختصاص التعقل بجميع افراد مجرّدة او مجرّدة ومادية داخلة تحت أمر نوعي أو جنسي أو فصلي أو وضعي غير التجرّد. ونحن إذا تتبّعنا وتصفّحنا عقلاء العالم باعتقاد أيّ فرقة نجد خلاف ذلك ونجد انتقاض ذلك طردا أو عكسا ، لانّه إن قيل بتحقّق التعقّل للواجب والعقول والنفوس الفلكية والانسانية فمع استلزامه للمطلوب ـ أعني : كون الواجب عاقلا لذاته ـ نقول أنّها ليست مشتركة في أمر جنسي أو نوعي أو فصلي ، ولا نجد أيضا صفة مشتركة مختصّة بها سوى التجرّد ، لانّ سائر صفاتها المشتركة ـ كالوجود والشيئية ـ يتناول غيرها من المادّيات أيضا ، وان قيل بتحقّقها لغير الواجب من المذكورات فلا ريب في عدم اشتراكها في النوع. وما يتصوّر جنسا لها ـ وهو الجوهرية ـ يشمل غيرها من المادّيات أيضا مع عدم صلاحية أكثرها للتعقّل بالضرورة والاتفاق. وكذا لا نجد صفة أو قوّة مشتركة بينها خاصّة بها ، وكذا الحكم إن قيل باختصاص التعقّل بالنفوس الفلكية والإنسانية ؛ وان قيل : هما مشتركان في التصرّف والتدبير في البدن ، فيجوز أن يكون التعقّل مستندا إليه ؛

قلنا : لو سلّم اتحاد التصرف في الجسم الفلكي والجسم العنصري حتّى يكون صفة واحدة مصحّحة للانكشاف نقول : لا ريب في أنّ التدبير فرع التعقّل ومرتّب عليه ، فالتعقّل علّة له ، فكيف يكون معلولا له؟!. وان قيل باختصاص التعقّل بالنفوس الانسانية فهي وإن كانت إمّا متّحدة بالنوع ـ كما ذهب إليه ارسطو واتباعه ـ أو متّحدة بالجنس مختلفة بالنوع ـ كما ذهب إليه جماعة ـ إلاّ أنّ تعقّلها لا يمكن أن يستند إلى نوعها أو جنسها أو إلى ما يتصوّر فصلا أو وصفا لازما لها ، لأنّ حدّ النفس عندهم انّها جوهر مجرّد شأنها أن يتدبّر ويتصرّف في البدن ، فقولنا: « جوهر » جنس لها والبواقي ـ أعني : التجرّد والتدبير للبدن ـ فصل أو عرض ذاتي لها ، والمجموع هو النوع لها. فلا يخلو أنّ التعقّل امّا ان يستند إلى الجنس فقط ـ أعني : الجوهرية ـ أو إلى التجرّد فقط ، أو إلى التدبير للبدن فقط ، أو إلى الجوهرية والتجرّد معا ، أو إلى الجوهرية والتدبير للبدن ، أو الى التجرّد والتدبير للبدن ، أو إلى الثلاثة ؛ فعلى الأوّل يلزم تحقّق التعقّل لكلّ جوهر ، وهو بديهي البطلان ؛ وعلى الثاني يلزم المطلوب ؛ والثالث ظاهر البطلان ، لانّ التدبير للبدن أمر عرضي للنفس مرتّب على التعقّل ، لانّها ما لم تكن متعقّلة لم يمكن لها التدبير في البدن. فالتعقّل متقدّم على التدبير ، فلا يمكن أن يكون متأخّرا عنه معلولا له. وبالجملة عدم منشئيته ومصحّحيته للتعقّل أمر ظاهر ؛ وعلى البواقي يلزم توارد العلّتين مستقلّتين أو العلل المستقلّة على معلول واحد ، لأنّ الانكشاف أمر واحد بسيط وهذه الأشياء الثلاثة أمور متغايرة خارجية واقعية ، فاستناده إليها أو إلى اثنين منها يوجب مناسبة الواحد من حيث هو واحد للمتعدّد من حيث هو متعدّد ؛ولو قيل باعتبارية بعضها وعدميته وخصّ الواقعية والتحقّق الخارجي بواحد منها وخصّت العلّية والمنشئية به ، فرجع إلى كون واحد منه منشأ ومصحّحا ، فحكمه كما مرّ.

وبهذا الطريق ـ أي : طريق التحليل ـ يمكن اثبات المطلوب ـ أي : كون التجرّد منشأ ومصحّحا للتعقّل دون غيره لو قيل بتحقّق التعقّل لغير الانسان من الحيوانات ، أو بامكانه لبعض الموجودات الغير المحصّلة. فانّه لو كان شيء من الحيوانات غير الانسان عاقلا فاذا حلّلناه وحصّلنا اجزائه الذاتية وصفاتها لم يصلح شيء منها لمنشئية التعقّل إلاّ التجرّد للزوم النقص في الطرد أو العكس ـ بنحو ما مرّ ـ. ولذا من اثبت التعقّل لغير الانسان من الحيوانات اثبت له نفسا مجرّدة. وفي الموجودات الغير المحصّلة ـ لو جوز وجود عاقل فيها ـ نقول : لا بدّ من كونه مجرّدا واستناد تعقّله إلى تجرّده ، إذ لو كان مستندا إلى شيء غير متحقّق في الموجودات المحصّلة لوجب أن لا يتحقّق التعقّل في الموجودات المحصّلة ، ولو كان مستندا إلى أمر ذاتي أو عرضي يتحقّق في الموجودات المحصّلة ، فقد عرفت الحال فيه.

فقد ظهر وتحقّق بما ذكرناه انّ منشأ التعقّل ومصحّحه هو التجرّد ، فكلّ مجرّد من شأنه التعقّل وحصوله بالفعل له يتوقّف على أحد العاقلات المذكورة ؛ وفي تعقّله لذاته لا يحتاج إلى علاقة خارجة عن ذاته ، لانّ حضور ذاته لذاته من أقوى العلاقات للانكشاف.

ثمّ على ما ذكرناه من أنّ وجود المجرّد القائم بذاته عند ذاته منشأ وسبب للتعقّل ومستلزم للانكشاف وليس التعقّل عين وجوده الخارجي وإن لزم أن يكون كون المجرّد عالما ينكشف له المعلومات غير نفس حقيقته لازما لها والحقيقة هي عين مبدأ الانكشاف لا عين الانكشاف نفسه الاّ أنّه لا يلزم قيام أمر خارجي زائد على ذاته بذاته حتّى يلزم التركيب والتكثير ، لانّ الانكشاف إذا لم يكن لاجل قيام الصورة بذات العالم ولم تكن الصورة الحاصلة منشأ له ومصداقا لصدق العالمية بل كان نفس حقيقة العالم وحدها منشأ لصدق العالم ولا يحتاج في صدق عالميته إلى أمر آخر وراء ذاته ـ كما في العلم الصوري ، فانّ مصداق العالمية فيه ومنشأه هو أمر آخر غير نفس ذات العالم وهو الصورة القائمة ـ لا يوجب التكثير والتركيب ، لانّ الانكشاف وإن لم يكن نفس حقيقة العالم بل صفة لها إلاّ انّه ليس صفة زائدة يوجب انضمام شيء آخر إلى حقيقة العالم الانكشاف هو الظهور والظهور هو ارتفاع الحجب والموانع ، وكلّما يشتدّ الظهور يصير ارتفاع الأغيار والموانع أقوى ويكون التجرّد أشدّ. فكما انّ التجرّد صفة لذات المجرّد وليست عين ذاته إلاّ أنّها لا يوجب تكثّرا وتركّبا ـ بل كلّما كان أشدّ كان الموصوف به أشدّ بساطة ووحدة ، وكذلك كلّما يشتدّ الظهور والانكشاف يكون ذاته أشدّ تجرّدا عن الموانع والحيثيات وأقوى بساطة ووحدة ـ ، فالتجرّد والانكشاف من الصفات الّتي ترفعان التركيب والتكثير ، وبقدر زيادتهما وشدّتهما يزداد البساطة والوحدة ويشتدّان لمن ثبتا وتحقّقا له. والحاصل انّ المنشأ والمبدأ في علم المجرّد بذاته انّما هو مجرّد ذاته وصرف حقيقته من غير مدخلية لشيء آخر ، من دون لزوم تكثر وتعدّد واختلاف حيثيّات من هذه الجهة.

وربما يورد هنا ايراد ؛ وهو : أنّه لا ريب في أنّ المنشأ في علم المجرّد بذاته إنّما هو ذاته فقط من غير مدخلية لغيره من الصور القائمة أو لشيء منفصل عنه مربوط به يصير علاقة للحضور ، إلاّ انّ العلم لمّا كان هو الانكشاف وقلتم انّ هذا الانكشاف غير ذات المجرّد فان اردتم انّ مفهومه غير ذاته فحينئذ ما ذكرتم من عدم التركيب ممنوع ، إلاّ انّه لا يلزم منه كون الانكشاف الحاصل للمجرّد مغايرا لذاته ، فيلزم أن يكون الانكشاف عين ذاته بمعنى كون ذاته فردا منه ، وهو ممنوع ؛ لانّه لازم ذاته لا عينه ، لانّه لا ريب في تغاير أصل الذات والانكشاف الحاصل له. وكيف يحكم عاقل بأنّ حقيقة المجرّد وذاته هو ظهور غيره له؟! ؛

وإن اردتم انّ ما يصدق عليه مفهوم الانكشاف ـ أي : الظهور الحاصل للمجرّد ـ غير ذاته ، فلا ريب في انّه عرض حاصل له ، فيلزم التركب وكونه محلاّ لهذا العرض.

والجواب عن الايراد المذكور : انّه لا ريب في أنّ الانكشاف أمر عرضي نفس أمري منتزع عن حاقّ ذاته ـ كالوجود العامّ ـ ومع ذلك من العرضيات الّتي منشأ لزيادة التجرّد عن المادّية  والحجب ، ولا ريب في أنّ الأمور الانتزاعية العرضية لا يوجب التكثّر والتركيب في الخارج ، لانّ مغايرتها للذات المنتزعة عنه إنّما هو بالنظر إلى مفهوماتها وتغاير المفهوم للذات لا يوجب تكثّرا أو تركّبا. وأمّا مصداقها فليس إلاّ مجرّد الذات ، فانّ مفهوم الوجود ـ أعني : الوجود العامّ ـ مغاير لحقيقة الواجب مثلا ولا يوجب تكثّرا فيه ، ومصداقه انّما هو الذات فقط. والحاصل انّ منشأ الانكشاف ومصداقه في علم المجرّد بذاته انّما هو مجرّد ذاته بمعنى انّ ما يصدق عليه مطلق العلم في الخارج انّما هو مجرّد الذات ، وان كان مفهوم الانكشاف مغايرا له. وليس في الخارج أمر خارجي ينقسم إلى حقيقة المجرّد هو الانكشاف ، بل هو أمر اعتباري نفس أمري منتزع عنه انتزاع الوجود العامّ عن الوجود الخاصّ والفوقية عن السقف. فكما انّ الوجود العامّ مغاير لصرف الوجود القائم بالذات ـ الّذي هو الحقيقة الواجبية ـ مع أنّ أحد المصداقات والافراد له في الخارج هو الحقيقة الواجبية وليس له في الخارج سوى هذا الفرد شيء آخر زائد هو الوجود العامّ منضمّ إلى هذا الفرد ، بل التغاير انّما هو من حيث المفهوم ؛ وفي العقل وفي الخارج ليس الاّ شيء واحد بسيط ينتزع عنه هذا المفهوم ؛ فكذلك حكم التعقّل بالنسبة الى المجرّد.

وحاصل هذا الجواب : انّ ما هو المغاير لذات المجرّد إنّما هو مفهوم التعقّل وليس بإزاء هذا المفهوم في الخارج سوى الذات شيء يكون مصداقا له ، بل مصداقه هو عين ذات المجرّد بمعنى انّ فردا من التعقّل قائم بنفسه هو ذات المجرّد وليس في الخارج وراء ذاته شيء آخر هو التعقّل من قوّة زائدة أو صورة حاصلة ، كما هو فينا ؛ بل ما ينكشف الأشياء للمجرّد لذاته ليس إلاّ عين وجوده. وبهذا الطريق يصحّح عينية صفات الواجب ، فانّ الواجب ـ تعالى ـ على هذا فرد من كلّ واحد من الصفات قائم بذاته ، فانّ فردا من العلم قائم بذاته هو الواجب ـ تعالى ـ ، وكذا فردا من القدرة ... وغيرها من الصفات الكمالية. فكما انّ الحرارة إذا قامت بغيره يكون هذا الغير حارّا لأجلها والضوء إذا قام بغيره يكون هذا الغير مضيئا وإذا قام كلّ منهما بنفسه يكون حرارة وحارّا وضوء ومضيئا من غير افتقار إلى محلّ ومصداق آخر ، فكذلك التعقّل فانّه إذا كان بصورة زائدة يكون التعقّل قائما بغيره ويكون هذا الغير لأجله عاقلا وإذا قام بذاته يكون عقلا وعاقلا ؛ لا العقل والعلم بمعنى الانكشاف ـ لبداهة انّ ذاته سبحانه ليس عين الانكشاف الّذي هو أمر اعتباري ـ ، بل العقل والعلم بمعنى ما ينكشف به الشيء ـ كما هو أحد اطلاق العلم ـ. فعلى هذه الطريقة يكون صرف الوجود القائم بذاته الّذي هو حقيقة الواجب عين جميع الصفات الكمالية ، بمعنى انّه فرد لكلّ منها ، لا انّه حقيقة لا يطلق عليه تلك الصفات وإنّما هي نائب مناب الكلّ والكلّ منتزع عنها بحيث لا يلزم فيه التركّب والتكثّر ، بل هو هو بعينه والتغاير لمجرّد المفهوم ـ كالوجود الخاصّ والمطلق ـ.

لا يقال : يرد على هذه الطريقة انّه كيف يمكن أن يكون محض الوجود القائم بذاته مع كونه حقيقة مجهولة الكنه عندهم فردا للعلم الّذي هو الانكشاف أو القدرة الّتي هي صحّة الفعل والترك مع أنّها صفات منتزعة عنه ، ونحن نعلم انّ المنتزع غير المنتزع منه ، فانّ الحصّة المعيّنة من الانكشاف المنتزعة عن الواجب وإن لم يحتج انتزاعه إلى أمر آخر زائد سوى الواجب إلاّ انّه ليس عينه ، وكما أنّ الحصّة المعيّنة من الوجود العامّ المنتزعة عن الواجب ـ تعالى ـ ليس عينه وكذا الفوقية المنتزعة عن السقف ليست عينه فكذا التعقّل ـ أعني : الانكشاف الحاصل للواجب ، أي : الظهور اللازم لذاته المنتزع عن حقيقته ـ غير ذاته ، فكيف يكون الذات فردا منه ومصداقا له؟! ؛ بل المصداق للتعقّل العامّ بالعقل المجرّد لذاته انّما هو هذا التعقّل الخاصّ الحاصل له ، سواء قيل : انّه فرد من التعقّل العامّ أو حصّة منه ، كما انّ المصداق أو الفرد او الحصّة أو ما يشابه ذلك لمطلق الفوقية ليس عين هذا السقف ؛ بل الفوقية المنتزعة عنه.

لأنّا نقول : قد يجيء انّ العلم يطلق على ثلاثة معان :

أحدها : المعنى الاضافي المصدري ؛

وثانيها : ما ينكشف به الشيء ؛

وثالثها : الملكة الّتي نقتدر بها على استحضار المنكشفات.

والمراد من كون الواجب فردا للعلم انّه فرد للعلم بمعنى ما ينكشف به الشيء ، يعنى كما أنّ أحد افراده الصور الحاصلة القائمة بالنفس فكذا أحد افراده الذات المجرّدة فهو فرد لمطلق العلم بمعنى ما ينكشف به الشيء ، لا العلم بمعنى الانكشاف ـ الّذي هو أمر اعتباري ـ. مثال ذلك انّ ذاته ـ تعالى ـ فرد لمطلق الوجود قائم بذاته كما انّ وجود الممكن فرد منه قائم بغيره ، وليس فردا للوجود المطلق الّذي هو أمر اعتباري ، بل منشأه وليس فردا له. وبالجملة العلم بمعنى الانكشاف كيف يكون حقيقة الوجود فردا منها والقدرة بمعنى صحّة الصدور واللاصدور كيف يكون صرف الذات فردا منه مع انّ حقيقة الوجود والذات غير الانكشاف وصحّة الصدور واللاصدور غير الايجاد وغير سائر الصفات الكمالية؟!. فالمراد انّ حقيقة الوجود فرد من العلم بمعنى ما ينكشف به الشيء والانكشاف من لوازمه الّتي يقتضيها ومن منتزعاته الّتي ينتزع عنه. وحينئذ فلو حمل ما ذكره الفارابى وبهمنيار وغيرهما من الفلاسفة من « أنّ تعقّل الواجب لذاته وعاقليته للأشياء عين وجوده » على ذلك لكان صحيحا ، يعني كان مرادهم : انّ عاقليته بمعنى ما ينكشف به ذاته والأشياء هو عين وجوده وعاقليته بمعنى أنّ الانكشاف عين وجوده. فمبدأ التعقّل بمعنى الانكشاف ومنشأه هو ذات المجرّد ومصداق مفهوم التعقّل. وهذا المعنى ـ أي: ما يصدق عليه التعقّل العامّ في تعقل المجرّد لذاته ـ هو هذا التعقّل الحاصل له ، لا ذاته بعينه. إلاّ أنّ هذا المصداق أمر عرضي منتزع عن ذاته ، ومع ذلك منشأ لزيادة التجرّد وارتفاع المادّية والحجب ، فلا يلزم في الذات تركّب وتكثّر ؛ والتعقّل الّذي يكون الذات فردا منه ومصداقا له هو التعقّل بمعنى ما ينكشف ويظهر به الأشياء ، لا نفس الانكشاف والظهور.

وعلى هذا فالظاهر عدم الفرق بين هذا المذهب في تصحيح عينية الصفات ـ أعني : القول بكون ذاته فردا من كلّ صفة ـ وبين القول بالنيابة ، وكون النزاع بين القول بالفردية والنيابة لفظيا ، لانّ حاصل القول بالنيابة انّ ذاته ـ تعالى ـ نائب مناب جميع الصفات بمعنى انّ ذاته ـ تعالى ـ لمّا كان محض الوجود والوجود القائم بذاته مبدأ لجميع الصفات الكمالية من غير افتقار إلى أمر زائد قائم بذاته يكون مصحّحا لتلك الصفات والصفات بمعنى الاضافات ينتزع عنها ، ولكونها أمورا اعتبارية عرضية منتزعة عنه لا يوجب تركّبا وان كانت واقعية نفس أمرية ؛ فانّ الظاهر انّ مرادهم من قولهم : « انّ ذاته نائب مناب جميع الصفات » : انّ ذاته بمنزلة القوّة الزائدة والصورة الحاصلة فينا. وكما تكون تلك القوّة والصورة فردا من الصفة بالمعنى الحقيقي لا بالمعنى الاضافي بمعنى انّ القوّة الّتي يتمكّن بها على الفعل والترك مثلا فرد من القدرة بمعنى ما يحصل به القدرة بالمعنى الاضافي الاعتباري لا أنّها فرد من هذا المعنى الاضافي الاعتباري وانّ الصورة العلمية القائمة بانفسنا فرد من العلم بمعنى ما ينكشف به الأشياء لا أنّها فرد من الانكشاف ، فكذلك يكون ذاته ـ سبحانه ـ فردا من القدرة والعلم بالمعنى الحقيقي ـ أي : بمعنى ما يحصل به صحّة الفعل والترك وما ينكشف به الاشياء ـ. فمرادهم من النيابة انّ ذاته بالنسبة إليه ـ سبحانه ـ بمنزلة القوى العرضية والصور الزائدة بالنسبة إلينا. ولو كان مرادهم انّ القوى والصور الزائدة أفراد من الصفات بمعانيها الحقيقية ويصدق تلك الصفات عليها وذاته ـ تعالى ـ ليس فردا منها ولا يصدق عليه أصلا أو كان مرادهم انّ تلك القوى والصور الزائدة أفراد من الصفات بالمعاني الاضافية حتّى تكون الصورة الحاصلة مثلا فردا من الانكشاف والواجب ليس فردا منه ، فلا ريب في بطلانه ؛ وسيجيء لذلك في مبحث الحياة زيادة بيان.

وبالجملة لا ريب في أنّ حقيقة الوجود الصرف القائم بذاته مبدأ لجميع الخيرات والكمالات ، وما من كمال إلاّ وهو يترشّح عنه ، ولا تنال ماهية خيرا وكمالا إلاّ وهو منه وجميع الصفات الكمالية راجعة إلى الوجود ، فلا يمكن أن يكون صرف الوجود المفيض لجميع الموجودات فاقدا لكمال. وهذا متفق عليه على الطريقين ، فانّ جميع تلك الكمالات بمعانيها الحقيقية عين الوجود الصرف القائم بذاته ، وبمعانيها الاضافية لوازمه ومنتزعاته وشئونه واعتباراته من غير لزوم شائبة تركّب وتكثّر ، وإن صدق عليه المفهومات الكثيرة المتغايرة ، لانّ صدق المفهومات المتغائرة على ذات واحدة بسيطة لا يوجب تغاير المصداقات ، إلاّ إذا استلزم ذلك الصدق اختلاف حيثيات وهو غير متحقق في علم المجرّد بذاته له وفي سائر صفاته الكمالية.

وعلى التحقيق يكون الذات فردا من الصفات الحقيقية ومنشأ ومبدأ للصفات العرضية الاعتبارية المنتزعة الّتي هى مصداقات وحصص لمفهومات اعتبارية عامّة من دون لزوم تعدّد ، لانّ تكثّر الأمور المنتزعة العرضية عن ذات واحدة بسيطة لا يوجب تغاير المبدأ والمنشأ إلاّ إذا استلزم ذلك الانتزاع اختلاف حيثيات ؛ وهو غير ممنوع فيما نحن فيه.

ثمّ المجرّد إن كان وجوده زائدا على مهيته ـ كغير الواجب من المجرّدات ـ يمكن أن يتحقّق له العلم الحصولي والحضوري بواسطة علاقة خارجية ، فكما يمكن أن يحلّل إلى الماهية والوجود فكذلك يمكن أن يحلّل إلى الذات والصفات الزائدة ، لأنّه لا ريب في أنّ الصورة الحاصلة للمجرّد القائمة به زائدة على ذاته وحقيقته ، إلاّ أن تكون تلك الصورة كلّية مجرّدة لا يلزم مادّية ذلك المجرّد وتركيبه. ويمكن أيضا أن يفتقر إلى أمر آخر يصير رابطة لتعقّله وان لم يكن وجوده زائدا على مهيته ، بل كان محض الوجود الخالص ، فلتعاليه عن مطلق شوائب التركيب واستعلائه التامّ على عمّا عداه لا يكون علمه بشيء حصوليا ولا حضوريا مفتقرا إلى علاقة خارجية ؛ بل منشأ علمه بذاته وبجميع ما عداه هو مجرّد ذاته التامّة ، كما أنّ علم غيره من المجرّدات بمجرّد ذاته كذلك ؛ وسيجيء ـ إن شاء الله ـ بيان كيفية علمه بما عداه بهذا الطريق. فلا يكون فيه تركيب خارجي ولا عقلي أصلا ، ولا يلزم فيه تكثّر سوى انتزع الانكشاف والظهور عن ذاته ، وكذا انتزاع التجرّد وغيره من صفاته من ذاته الحقّة ولا يلزم منه تكثّر وتركّب ـ كما عرفته ـ ؛ هذا.

وبما ذكرناه يظهر الجواب عمّا قيل : كون الشيء عالما ينكشف له المعلومات حال خارجي يغاير لنفس حقيقته ، فلا يكون نفس حقيقة العالم وحدها مصداقا لصدق العالم في علم الشيء بنفسه ، فانّ كلّ شيء في نفسه هو هو لا غيره ، فلو تغيّر عمّا هو عليه في نفسه لاحتاج إلى مصداق آخر وراء ذاته ، فلا بدّ من كون الشيء عالما بنفسه مثلا من أمر آخر غير نفس ذاته يكون مصداقا لعالميته ، فلا يكون العلم بالشيء نفس حصول ذلك الشيء فقط ؛ انتهى.

ووجه الاندفاع : انّه لو أراد من « المصداق » ما هو المنشأ والمبدأ ، فلا نسلّم انّ عالمية كلّ شيء لا بدّ له من مبدأ سوى الذات زائد عليه ، فانّه كما يجوز أن تكون الصورة مصحّحة للانكشاف فلم لا يجوز أن يكون بعض الذوات ـ أي : الذوات المجرّدة ـ أيضا كذلك؟! ؛

وإن اراد كون الشيء عالما ـ أي : تعقّله ـ لا بدّ له من مصداق ـ أي : ما يصدق عليه هذا التعقّل العامّ ـ سوى الذات ـ أي : يكون في ذات المجرّد شيء يصدق عليه انّه فرد أو حصّة من التعقّل غير ذاته ، لانّ الذات لا يكون فردا للتعقل ـ ، ففيه : انّا نلتزم انّه ينتزع من الذات أمر عرضي هو مصداق لمفهوم التعقّل ، وليس فيه فساد ـ كما تقدّم ـ.

وقال بعض الأعلام الإلهيين في الجواب عن الايراد المذكور : انّ كون عالمية الشيء في علم المجرّد بذاته وصفا خارجا عن نفس ذاته غير ممنوع ، بل يكون نفس حقيقة الشيء الغير الجسمي مصداقا لكونه عالما بذاته ولا يحتاج إلى مصداق آخر مغاير لنفسه ، فانّ صدق المفهومات المتغائرة على ذات واحدة لا يستدعي تغاير المصداقات إلاّ إذا استلزم ذلك الصدق اختلاف حيثيات ، وهو فيما نحن بصدده ـ أي : علم المجرّد بذاته ـ غير ممنوع ؛ وإن سلّم في غيره. قال الشيخ في التعليقات : « اذا قلت انّى أعقل الشيء فالمعنى انّ أثرا منه موجود في ذاتي ، فيكون لذلك الأثر وجود ولذاتي وجود ، فلو كان وجود ذلك الاثر لا في غيره بل فيه لكان أيضا يدرك ذاته ، كما انّه لمّا كان وجوده لغيره ادركه الغير. ومن توهّم أن كون المجرّد عالما بذاته وصف زائد على ذاته يستدعي مصداقا لزمه القول بعدم كون الواجب الحقّ عالما بذاته إلاّ بعد تحقّق أمر زائد على ذاته ـ تعالى ـ ، وهو باطل ؛ انتهى.

وأنت خبير بانّه إن كان مراده : انّ علم الشيء بنفسه ـ أعني : انكشافه لديه وظهوره بين يديه ـ هو عين وجوده وحقيقته وليس للانكشاف مصداق مغاير لنفسه ـ وبالجملة انّ حقيقة المجرّد ووجوده هو عين الانكشاف في الخارج بمعنى كونه فردا لهذا الامر الاضافي ـ ، فقد علمت انّه ليس الأمر كذلك ، لانّ ظهور المجرّد عند ذاته انّما هو لازم ذاته لا عينه ، ولا يلزم تغاير يوجب الفساد ، لكونه امرا اعتباريا انتزاعيا ؛ وكلام الشيخ أيضا لا يدلّ على العينية بمعنى كون الذات فردا منه ، فانّ ما هو موضع الاستشهاد من كلامه ـ أعني : قوله : « فلو كان وجود ذلك الاثر لا في غيره بل فيه ... الى آخره » ـ انّما يدلّ على انّ المجرّد يدرك ذاته ، لانّ معنى التعقّل للشيء أن يتحقّق أثر موجود في المعقول للعاقل. فاذا كان أصل هذا الأثر موجودا في العاقل لكان مدركا لذاته. فحاصل كلام الشيخ : انّ المجرّد يدرك ذاته من غير احتياج إلى شيء زائد عن ذاته ، بل ذاته مصحّح ومنشأ له ، فيرجع الى الطريقة الّتي اخترناها ، ولا يدلّ على أنّ الذات فرد من هذا الادراك ؛

وان كان مراده : انّ عالمية المجرّد بذاته لا تحتاج إلى مصداق ـ أي : مبدأ ومصحّح ـ سوى ذاته ليرجع إلى الطريقة المختارة ، فهو حقّ ومطابق لكلام الشيخ. فعلى ما اخترناه علم المجرّد بذاته وجميع الصفات الكمالية للواجب مبدئها ومنشأها عين الذات من غير افتقار إلى شيء آخر زائد على الذات ـ من قوّة أو صورة أو ذاتي أو غيرها ـ يكون مبدأ لها إلاّ أنّ الذات ليست عين تلك الصفات بمعنى كونها فردا لها ، لأنّها أمور اعتبارية انتزاعية ومحقّق الحقائق كيف يكون عين الأمر الاعتباري؟!. ولكونها اعتبارية انتزاعية وإن كانت نفس أمرية لا يلزم التعدّد والتكثّر في الذات ، وعينية الصفات حينئذ راجعة إلى عدم تحقّق أمر زائد في ذاته يكون مصحّحا لتلك الصفات الاعتبارية الانتزاعية ـ أعني : الانكشاف والوجود العامّ وصحّة الفعل والترك والايجاد وغير ذلك ـ ، بل الذات من حيث هي منشأ ومصحّح لذلك.

ثمّ انّ الامام الرازي في المباحث المشرقية اعترض على عدم كون علوم المجرّدات بذواتهم غير زائد على ذواتهم : بأنّ الأشياء الّتي تعقل ذواتها لو كان عقلها لذواتها غير زائد على ذواتها لكان من عقلها عقلها عاقلة لذواتها ، وليس كذلك ؛ إذ اثبات كونها عاقلة لذواتها يحتاج إلى تجشّم اقامة برهان ، وبيان اثبات علمها غير بيان اثبات وجودها. وكذا ليس من اثبت وجود الباري ـ تعالى ـ اثبت علمه بذاته ـ تعالى ـ بل يلزمه اقامة حجة أخرى له ؛ انتهى.

ولا يخفى انّه على ما ذكرنا من انّ المراد بعينية علم المجرّد بذاته وعدم زيادته على ذاته وكذا عينية صفات الواجب لذاته هو انّ العلم الّذي هو الانكشاف كغيره من الصفات الكمالية أمر اعتباري منتزع عن ذاته ليس شيئا خارجيا منضمّا إلى الذات ومع ذلك سبب لزيادة البساطة والوحدة ، فسقوط اعتراضه ظاهر ؛ لانّ تعقّل المجرّد لذاته ليس حينئذ عين ذاته بمعنى كون ذاته فردا له ، بل هو من لوازمه واعتباراته ، والعلم بوجود الشيء لا يوجب العلم بلوازمه المنتزعة عنها. فاذا علمنا وجود مجرّد لا بدّ أن يثبت بدليل مستأنف انّ من لوازمه تعقّله لذاته بذاته. نعم! ، لو فرض تعقّلنا له بكنهه وبجميع الوجوه فيلزم حينئذ انّا نعقله عاقلا لذاته.

وأمّا على ما ذهب إليه الفارابي وبهمنيار من كون وجود المجرّد نفس تعقّله لذاته وكونه مصداقا لهذا التعقّل فقال بعض الذاهبين الى طريقتهم في الجواب عنه : انّ معقولية الشيء عبارة عن وجوده لشيء له فعلية الوجود والاستقلال ـ أعني : كونه غير قائم بشيء آخر ـ ، فالجوهر المفارق لمّا كان بحسب الوجود العيني غير موجود لشيء آخر ـ بل كان موجودا لذاته ـ كان معقولا لذاته ، وإذا صارت مهيته في عقل آخر فصارت بهذا الاعتبار موجودا لشيء آخر ووجودا ذهنيا لذاته ، فلا جرم صارت معقولة لذلك الشيء الآخر لا لذاته. وإذا لم يكن له بهذا الاعتبار ـ أي : باعتبار وجودها في ذلك العاقل عاقلة لذاتها ـ فكيف عقلها ذلك العاقل عاقلة لذاته بهذا الاعتبار؟. ومحصّل القول : انّ عالمية الجواهر المجرّدة لذاتها هي عين وجودها لا عين ماهيتها ، وإذا كان كذلك فلا يلزم من عقل ماهية الجواهر المجرّدة عقلها عاقلة لذاتها ؛ اللهم إلاّ فيما يكون وجوده عين مهيته ـ كالواجب ـ. ولما استحال ارتسام حقيقته ـ تعالى ـ في ذهن من الأذهان بالكنه بل ينحصر تعقّلنا له بالتعقّل بوجه من الوجوه ـ ككونه واجب الوجود بحسب المفهوم العامّ ـ لا يلزم من تعقّلنا له تعقّلنا عقله لذاته ، بل يحتاج إلى استيناف بيان وبرهان. ومن توهّم أنّ في كون الشيء عالما بنفسه يكون موضوع العالمية مغايرا لموضوع المعلوميّة بالاعتبار وقايسه إلى معالجة الشخص نفسه ـ إذ هو من حيث انّه معالج غيره من حيث انّه مستعلج ، فالمؤثّر النفس من حيث حصول ملكة المعالجة لها والمتأثّر من حيث قبوله للعلاج ـ ، لزمه القول بتكثّر الحيثيات التقييدية في ذاته ـ تعالى ـ من حيث كونه عالما بذاته ومعلوما لذاته. ولقد صرّح الشيخ الرئيس في الشفا والتعليقات بأنّ نفس كون الشيء عاقلا ومعقولا لا يوجب أن يكون هناك اثنينية في الذات ولا في الاعتبار ، فالذات واحدة والاعتبار واحد ، فانّه ليس تحصّل الأمرين إلاّ اعتبار أنّ له ماهية مجرّدة هي ذاته  وانّه ماهية مجرّدة لذاته ذاته له. لكن في الاعتبار تقديم وتأخير في ترتيب المعاني ، والغرض المحصّل شيء واحد. ولا يجوز أن يحصّل حقيقة الشيء مرّتين ؛ انتهى كلامه بانتهاء كلام الشيخ.

اقول : حاصل كلامه في الجواب عن اعتراض الامام : انّ من تعقّل الجواهر المجرّدة فانّما تعقّل ماهيتها دون وجودها الخارجي ، وماهيتها ليست عين عالميتها بذواتها حتّى يلزم من تعقل ماهيتها تعقّل عالميتها بذواتها ، بل وجودها الخارجي عين عالميتها بذواتها وهو غير معقول لمن تعقّلها حتّى يعقل عالميتها بذواتها ، لانّ الوجود الخارجي حقيقته انّه في الخارج فلا يحصل في الذهن ، إذ لو حصل فيه لزم قلب الحقيقة. وجميع ما يعقل من الاشياء انّما هو ماهيتها وما وجوده عين مهيته ـ كالواجب ـ لا يحصل في الأذهان مطلقا ؛ اللهم إلاّ بوجه من الوجوه ـ ككونه واجب الوجود بحسب المفهوم العامّ ـ.

وأنت خبير بانّه إذا لم يعقل الوجود الخارجي للجواهر المجرّدة فمن أين يحكم بأنّ وجودها عين عالميتها بذواتها مع انّ العالمية بمعنى الانكشاف أمر معقول لنا؟ ؛ فكيف يحكم باتحاد ما يعقل مع ما لا يعقل أصلا؟. فالمراد بوجودها الّذي حكم بعينيته لعالميتها ان كان هو الوجود العامّ فالحكم بعدم كونه معقولا ممنوع ، إذ هو معقول. مع أنّ تعقّله لا يوجب تعقّل عالميتها لبداهة تغايرهما ؛

وإن كان هو وجودها الخاصّ الّذي هو عين الذات في الواجب وغيره في غيره فان كان ممكن التعقّل فاعتراض الامام وارد ، وإلاّ فالحكم بالعينية ولو بالدليل والبرهان باطل. وهذا ممّا يدلّ على حقّية ما اخترناه وبطلان ما ذهبوا إليه في العينية ، لانّه معلوم بالضرورة انّ الوجود العامّ ليس عين الانكشاف ولا عين غيره من الصفات بمعنى كونه فردا لها والوجود الخاصّ الّذي هو منشأ انتزاع العامّ إن كان حقيقته ما هو المعقول لنا ، فهو ليس عين شيء من الصفات وإن كان حقيقته غير ما هو المعقول لنا ، بل كانت مجهولة الكنه ؛ فلا معنى للحكم بالعينية والاتحاد ؛

وإن اريد بالاتحاد اتحاد المبدأ في الكلّ فهو الحقّ المنصور الّذي اخترناه.

ثمّ ما ذكره من أنّ في كون الشيء عالما بنفسه لا يكون موضوع العالمية مغايرا لموضوع المعلومية بمعنى انّ حيثية عالميته ليست مغايرة لحيثية معلوميته وإلاّ لزم تكثّر الحيثيات التقديرية في ذاته ـ تعالى ـ إن اراد : انّ العالم فيه بعينه هو المعلوم من غير تحقّق صورة زائدة في ذاته وأنّ عالمية الذات ـ أي : كونها بحيث منكشفة ذاتها عندها ـ هي بعينها معلوميتها ـ أي : كونها بحيث منكشفة عند ذاتها ـ فهو حق ، وصريح كلام الشيخ أيضا ذلك حيث قال : « فالذات واحدة والاعتبار واحد » ؛ وإن اراد : انّ العالمية ـ أعني : الانكشاف ـ نفس الذات وعينها وليس أمرا اعتباريا منتزعا عنه، بل اعتبار العالمية والمعلومية هو بعينه اعتبار تحقّق الذات حتّى يكون العالمية ـ أعني : الانكشاف ـ عين الذات المحصّلة في الخارج ، فهو ممنوع ، وكلام الشيخ أيضا يدلّ على خلاف ذلك ؛ فانّ قوله : « فالذات واحدة والاعتبار واحد » يدلّ على أنّ

اعتبار العالمية والمعلومية الّذي هو اعتبار واحد غير الذات.

ثمّ هذا الاعتبار ـ أعني : الانكشاف ـ كغيره من الاعتبارات الانتزاعية من مجرّد الذات مع كونها منشأ لزيادة الوحدة والبساطة لا يوجب تكثّرا وتعدّدا في الذات الحقّة ـ كما أشير إليه مرارا ـ.

وبما ذكرناه يظهر لك ما في كلام بعض الأعلام الإلهيين حيث قال في تصحيح الطريقة المبتنية على كون التعقّل عين الوجود : انّ ما هو بريء الذات عن علائق الموادّ وله وجود صوري ذاته له للمادة ولا لغيرها فذاته غير محتجبة عن ذاته ، بل نفس وجوده نفس كونه معقولا وذاته بعينها هي الصورة العقلية من ذاته لذاته فكما أنّ الحرارة القائمة بالنار حرارة لها وإذا فرضت قائمة بذاتها كانت حارّة بنفسها وحرارة لذاتها لا لشيء آخر والضوء القائم بالشمس إذا تجرّد وقام بذاته كان مضيئا بنفسه وضوء لذاته لا لشيء آخر ، كذلك الصورة المجرّدة ما دامت قائمة بالجوهر المفارق كانت معقولة المحلّ وعقله ، وإذا صارت مجرّدة بنفسها قائمة بذاتها لم تنسلخ عن المعقولية ، بل كانت معقولة بنفسه وعقل ذاته. وكما انّ المعلوم العيني يعلم بالصورة العلمية والصورة تعلم بنفسها ـ لا بصورة علمية أخرى ـ ، فكذلك الأشياء الّتي هي غير القوّة العقلية انّما يتعقّل بقوّة عقلية والقوّة العقلية يتعقّل بنفسها لا بقوّة عقلية أخرى. وقد تبيّن بذلك انّ العلم انّما هو حصول الشيء معرّى عمّا يلابسه لأمر مجرّد مستقلّ في الوجود بنفسه أو بصورته حصولا حقيقيا أو حكميا. فواجب الوجود لمّا كان في أعلى غايات التجرّد عن الموادّ والتقدّس عن الغواشي الهيولانية وسائر ما يجعل الماهية بحال زائدة كان عاقلا لذاته. ولمّا كان إنّيته حقيقته ـ أي : وجوده مهيته ـ فكما لا يزيد علمه بذاته على وجوده فكذلك لا يزيد على حقيقته ، بخلاف الجواهر المفارقة الذوات فعلومها بذواتها وان لم تزد على وجوداتها ـ لما ذكرنا من المساوقة بين العلم والوجود المفارقي سواء كان بالذات أو بتجريد مجرّد ـ لكن يزيد على ماهيتها ، إذ ليست الإنّية فيها عين الماهية. فعلم واجب الوجود الحقّ بذاته اتمّ العلوم وأشدّها صورة ، بل لا يشبه علمه بذاته إلى علوم ما سواه من المجرّدات بذواتها ، كما لا يشبه بين وجوده ووجودات الاشياء حيث هو ما وراء ما لا يتناهى بما لا يتناهى. وكما انّ مناط الموجودية ومصداق حمل الوجود على الممكنات إنّما هو ارتباطها بالوجود الحقّ وهي مع قطع النظر عن ذلك الارتباط هالكات الذوات والحقائق ، فكذلك مناط عالميتها بنفسها أو بغيرها ارتباطها إلى نور الأنوار واستضاءتها به ، نسبتها إليه ـ تعالى ـ نسبة الاجسام الكثيفة إلى نور الشمس لو كان قائما بنفسه فهي مظلمة بذواتها مستضيئة بلمعان نوره الغير المتناهى شدّة وقوّة. ولشدّة نوريته وقوّة اشراقه وافراط ظهوره يتجافى عنه الحواسّ ولا يدركه العقول والأبصار ؛ انتهى.

وحاصل ما ذكره أوّلا : هو التصريح بكون وجود المجرّد عين عاقليته ومعقوليته ، والاستشهاد بالحرارة والضوء إذا فرض قيامها بذاتها. وأنت تعلم انّ هذا الاستشهاد لا يفيد المطلوب ، بل قياس مع الفارق! ؛ لأنّ كلّ واحد من الحرارة والضوء إذا قام بذاته فلا ريب في كونه حرارة وضوء لذاته وحارّا ومضيئا لنفسه ، إلاّ أنّه لا يكون وجود كلّ منهما عين الحرارة والضوء ، فانّ وجودهما مغاير لهما عند العقل ، كما إذا كانا قائمين بالمحلّ أيضا. فكذلك الصورة المجرّدة إذا قامت بذاتها تكون معقولة لنفسها إلاّ أنّ عاقليتها ومعقوليتها ليست عين وجودها بمعنى كون وجودها العيني فردا لها ، بل تعقّلها لذاتها أمر لازم لذاتها منتزع عنها ، بل الصورة المجردة إذا قامت بالجوهر المفارق يكون وجودها غير معقوليتها ، لانّ المراد بمعقوليتها هو انكشافها عند المحلّ ولا ريب أنّ وجودها للمحلّ وقيامها به غير هذا الانكشاف ، فانّه لازم وجوده له وقيامه به.

ثمّ قوله : « وكما أنّ مناط الموجودية ومصداق حمل الوجود ـ ... إلى اخر ـ » اشارة إلى طريقة المتصوّفة في وحدة الوجود والصفات ، فانّهم قالوا : كان الوجود واحدا هو الوجود الواجبي ، وموجودية الممكنات انّما هو لمجرّد الارتباط والتعلّق بالموجود الواجبي ، فكذلك قالوا : انّ العلم واحد وهو حقيقة الوجود الواجبي وعالمية الممكنات لأجل ارتباطها وانتسابها إليه ، وكذلك الحال في القدرة ـ كما اشرنا إليه ـ ، وكذا في سائر الصفات. وقد اشرنا إلى انّ درك ذلك والاذعان به غير ممكن لنا.

وقد يأتي لذلك ولكيفية عينية صفاته ـ تعالى ـ وما قيل فيها زيادة بيان في موضعه ؛ وانّما تعرّضنا لذلك هنا بحيث أدّى إلى الاطناب وأوجب ملالة الاحباب وسآمة الأصحاب تطفّلا لما كنّا في صدد بيانه ، لشدّة الاحتياج إليه وتوقّف إيضاح المطلوب عليه.

وقد ظهر وتحقّق من التطويل المذكور انّ التجرّد مصحّح للانكشاف ، وإذا حصل أحد العلاقات المذكورة يحصل الانكشاف بالعقل فكلّ مجرّد قائم بذاته لوجود علاقة حضوره عند ذاته عاقل لذاته إلاّ انّ تعقّله ليس عين وجوده ، بل هو شأن من شئونه ومنتزع عنه انتزاعا لا يوجب التعدّد والتكثّر. وبهذا يثبت ما كنّا بصدد بيانه ـ أعني : كون كلّ مجرّد عاقلا لذاته ـ. وقد علمت انّ الطريق الّذي سلكناها لاثبات ذلك ـ أي : كون كلّ مجرّد عاقلا ـ غير الطريق المنقولة عن القوم في ذلك ، فانّ لهم ثلاثة مسالك في ذلك :

أولها : ما نقلناه عن بهمنيار ، وقد عرفت حاله ؛

وثانيها : الاستدلال بحال النفوس الناطقة للانسان ، فانّه لا ريب في انّ النفوس الانسانية المجرّدة عالمة ومنشأ عالميتها ليس الاّ تجرّدها ، قال بعض المشاهير : حكم الحكماء بأنّ كلّ مجرّد عاقل وكلّ معقول مجرّد انّما نشأ من تفتيش عن احوال النفوس المجرّدة الانسانية وادراكاتها ، وليس منشأ عالميتها الاّ تجرّدها.

وأنت تعلم انّ هذا وان كان حقّا إلاّ انّه يحتاج إلى البيان ، ومجرّد جعل ذلك دليلا مصادرة على المطلوب ، فلا بدّ من بيانه إمّا بدليل يتمّ عند أهل النظر ـ كما ذكرناه ـ أو بالحوالة إلى الكشف أو الحدس ؛

وثالثها : ما سلكه المحقّق الطوسي في مبحث الاعراض من التجريد ، وهو : انّ كلّ مجرّد يصحّ أن يكون معقولا ، لانّه بريء عن الشوائب المادية وكلّ ما هو كذلك فشأن ماهيّته أن تكون معقولة ، لانه لا يحتاج إلى عمل يعمل بها من التجريد والتقشير حتّى يصير معقولة. فان لم يعقل فانّما ذلك من جهة عدم تحقّق العاقل لها. وإذا صحّ كونه معقولا فيصحّ أن يكون معقولا مع غيره ، لانّ كلّما يصحّ أن يعقل فتعقّله يمتنع ان ينفكّ عن صحّة الحكم عليه بالوجود والوحدة وما يحكم مجريها من الأمور العامّة المعقولة ـ كالعلّية والمعلولية والشيئية ونحوها ـ. والحكم بشيء على شيء يقتضي تصوّرهما معا ، فاذن كلّما يصحّ أن يكون معقولا يصحّ أن يعقل مع غيره ، وكلّما يصحّ أن يكون معقولا مع غيره يصحّ أن يكون منها بالمعقول الآخر ، لانّها لمعيته في المعقولية هو نوع من المقارنة. وكلّما يصحّ أن يكون مقارنا لغيره من المعقولات يصحّ أن يكون عاقلا إذا كان مجرّدا قائما بذاته ، لأنّ كلّما يصحّ أن يكون مقارنا لغيره ـ ولو في المعقولية ـ فاذا وجد في الخارج يصحّ مقارنته لذلك الغير الّذي يصح مقارنته له في المعقولية لأنّ صحّة المقارنة المطلقة لم يتوقّف على المقارنة في العقل ، لأنّ صحّة المقارنة المطلقة هي استعداد المقارنة المطلقة واستعداد المقارنة المطلقة التي هي أعمّ من المقارنة في العقل متقدّم على نفس المقارنة المطلقة المتقدّمة على المقارنة في العقل ، والمتقدّم على المتقدّم على الشيء متقدّم على ذلك الشيء. فصحّة المقارنة المطلقة متقدّمة على المقارنة في العقل. فلا تتوقّف صحّة المقارنة المطلقة على المقارنة في العقول وإلاّ لزم الدور ، وإذا لم يتوقّف عليه فاذا وجد في الخارج مجرّد قائم بذاته يكون صحّة مقارنته المطلقة الّتي لا يتوقف على المقارنة في العقل بأن يحصل فيه المعقول حصول الحالّ في المحل ، وذلك لانّه إذا كان قائما بذاته امتنع أن يكون مقارنته للغير بحلوله في ذلك الغير أو بحلولها في ثالث ، والمقارنة المطلقة منحصرة في هذه الثلاثة. فاذا امتنع اثنان منها تعيّن أن يكون الصحّة بالنسبة إلى الثالث ، وهو صحّة مقارنة هذا المجرّد القائم بذاته للمعقول مقارنة المحل للحالّ ـ أي : يكون المجرّد محلاّ للمعقول ـ. فيثبت انّ كلّ ما يصحّ أن يعقل فاذا وجد في الخارج وكان مجرّدا قائما بذاته يصحّ أن يقارنه معقول آخر مقارنة الحالّ لمحله. ولا نعني بالتعقّل الاّ مقارنة المعقول للموجود المجرّد القائم بذاته مقارنة الحالّ لمحلّه ؛ فكلّ مجرّد يصحّ أن يكون عاقلا لغيره وكلّ ما يصحّ أن يكون عاقلا لغيره يصحّ أن يكون عاقلا لذاته ، لانّ صحة تعقّله لذلك الغير يستلزم صحة تعقل انّه تعقّل ذلك الغير. وصحّة تعقّل انّه تعقّل ذلك الغير مستلزم لصحّة تعقّل ذاته ، لانّ تعقّل القضية مستلزم لتعقّل المحكوم عليه ، فثبت انّ كلّ مجرّد يصحّ أن يكون عاقلا لذاته. وإذا صح أن يكون عاقلا لذاته وجب أن يكون عاقلا لذاته بالفعل ، لأنّ تعقّله بذاته إمّا بحصول نفسه أو بحصول مثاله ، والثاني باطل ـ لاستلزامه اجتماع المثلين ـ فتعيّن أن يكون تعقّله بحصول نفسه ونفسه دائما حاصل له لا تغيب عنه أصلا ، فيكون التعقّل دائما حاصلا له ، فثبت أنّ كلّ مجرّد عاقل.

ولا يخفى انّ هذا الدليل غير تامّ ، والاعتراض عليه بوجوه :

منها : انّا لا نسلّم انّ كلّ مجرّد يصحّ أن يكون معقولا ، لم لا يجوز أن تكون خصوصية ذات بعض المجرّدات مانعة من أن يعقل كما صرّحوا بأنّ كنه ذاته ـ تعالى ـ يمتنع ان يكون معقولا لغيره؟! ، فيجوز أن يكون بعض المجرّدات بحيث يمتنع أن يكون معقولا لغيره مطلقا.

ومنها : انّ تقدم المقارنة المطلقة على المقارنة الخاصّة ـ أعني : المقارنة في العقل ـ انّما يتمّ إذا كانت المقارنة المطلقة ذاتية لها ، وهو غير ممنوع.

ومنها : ـ وهو العمدة ـ : انّا نسلّم انّ كلّ مجرّد يصحّ أن يكون مقارنا لغيره في التعقّل ولكنّا لا نسلّم انّ ذلك يوجب صحّة مقارنته له في الخارج. وما قيل في بيان استلزام صحّة المقارنة في العقل لصحّة المقارنة في الخارج ظاهر الفساد ، لأنّ حاصل البيان : انّه إذا ثبت صحّة المقارنة في العقل يكون ذلك كاشفا عن صحّة المقارنة المطلقة ، وهي لتقدّمها على المقارنة الخاصّة ـ بالبيان المذكور ـ لا يتوقّف عليها حتّى يلزم أن يكون تحقّقها منحصرا بحصولها في ضمنها ، فيصحّ تحقّقها لا في ضمنها أيضا ، فاذا وجد المجرّد في الخارج يصحّ مقارنته بالمقارنة المطلقة لغيره ، واقسامها منحصرة بالثلاثة المذكورة ، ويمتنع اثنان منها ، فتعيّن الثالث ـ وهو أن يكون الغير حالاّ فيه ـ.

ويرد عليه : انّ القدر المسلّم انّ صحّة المقارنة في العقل انّما يكشف عن صحّة المقارنة المطلقة الحاصلة في ضمن هذه المقارنة الخاصّة لا الحاصلة في ضمن مقارنة خاصّة أخرى ، فيجوز أن يصحّ لذات المجرّد المقارنة المطلقة في ضمن هذا الخاصّ فقط ـ أعني : المقارنة في العقل ـ ، لا لانّ صحّة المقارنة المطلقة موقوفة على هذه المقارنة الخاصّة حتّى لا يجوز حصولها في ضمن مقارنة خاصّة اخرى ويقال حينئذ انّه خلاف الواقع ، بل لانّ ذات المجرّد يجب أن لا تقبل الاّ هذه المقارنة الخاصّة ـ أعني : المقارنة في العقل ـ ، فالمقارنة المطلقة هنا انّما توجد في ضمن هذه المقارنة الخاصّة فقط وان وجدت في مواضع أخر في ضمن المقارنات الخاصّة الأخر.

ثمّ على ما ذكرنا ـ وعلى ما ذكره بهمنيار وغيره أيضا ـ فلا ريب في أنّ المنشأ للتعقّل هو التجرّد بشرط كون المجرّد موجودا بالفعل قائما بذاته ، فبالتجرّد تخرج الصور الجمادية وغيرها ممّا يتعلّق بالموادّ عن العاقلية وبالموجودية بالفعل ؛ والقيام بالذات يخرج الهيولى عن العاقلية ، لانّ الهيولى ليست موجودة بالفعل ، بل هي جهة القوّة دائما في الموجودات المادّية. فكما أنّها جهة قوّة الوجود فكذا جهة قوّة العالمية فيما يتعلّق بها من الأشياء كالنفوس الّتي هي عاقلة ومعقولة بالقوّة ثمّ تصير عاقلة ومعقولة بالفعل ، ولا يبعد أن يدّعى خروجها عن العاقلية بالتجرّد ، لانّ التجرّد المستلزم للتعقّل إنّما هو البراءة عن المادّية ، وعين المادّة كيف يكون عرية عن المادّية؟. وبالجملة ما ذكرنا في دليل انحصار التعقّل في المجرّد من التحليل ومن لزوم كون محلّ المجرّد المعقول مجرّدا انّما يتأتى في المجرّد الموجود بالفعل القائم بذاته المنحصر بالواجب ، والجواهر المجرّدة من العقول والنفوس والصور الجمادية والهيولى وغيرهما من المادّيات ليست كذلك.

وعلى ما ذكره الحكماء في دليله من أنّ التعقّل عين حصول الشيء للمجرّد القائم بذاته والمجرّد نفسه حاصل لنفسه فيكون متعقّلا لنفسه يخرج الأمور المذكورة أيضا ؛ امّا الصور الجمادية فلأنّ أنفسها وماهيتها لم تحصل لها ، بل هي حاصلة للموادّ ولم تحصل ماهيتها لها أصلا ، بل لا يحصل لها شيء أصلا فانّ القائم بالغير الحاصل له يكون انيته بعينها انيته للمحلّ ، فلو حصل له شيء يكون حصوله في الحقيقة لمحلّ الصورة والعرض لا لهما ، فانّ ما ليس له حصول في نفسه كيف يحصل له شيء؟!. وعلى هذا فالصور الجمادية وغيرها لا يحصل لها شيء أصلا فضلا عن حصول ماهياتها لها ، فلا يتحقّق لها التعقّل ؛ وامّا الهيولى فانّها وإن لم تحصل وجودها لشيء آخر إلاّ أنّها ليست موجودة بالفعل حتّى يدّعى حصول وجودها لذاتها ويلزم كونها عالمة بذاتها ، لكون العلم عبارة عن نحو الوجود للشيء ، قال بهمنيار في التحصيل : « واقوى الموجودات هو الوجود المستغني من الماهية وأضعف الموجودات ما حقيقته القوّة ، وهذا هو الهيولى ، فما وجوده اقوى الموجودات فهو اقوى في باب المعقول » ؛ انتهى. وقال بعض المشاهير : انّ قوله : « اضعف الموجودات ما حقيقته القوة » اشارة إلى لمية كون الهيولى غير عالمة بذاتها ، فانّ العلم ليس الاّ الظهور والانكشاف ، وليس للهيولى وجود بالفعل في حدّ ذاتها فليس لها ظهور وانكشاف لذاتها ، إذ الظهور والانكشاف ليس الاّ للوجود بالفعل.

وبذلك يندفع اعتراض الاشراقيين على قول المشائين من انّ التعقّل حضور الماهية المجرّدة عن العلائق المادّية للشيء المجرّد القائم بذاته ، وهو حاصل في شأن المجرّد لانّ ذاته غير غائبة عن ذاته ، فيكون عالما بذاته. وحاصل اعتراضهم انّه لو كفى في كون الشيء شاعرا بنفسه تجرّده عن الهيولى لكانت الهيولى الّتي أثبتوها شاعرة بنفسها ، إذ ليست هي ماهية لغيرها بل ماهيتها لها ، وهي مجرّدة عن الهيولى الأخرى إذ لا هيولى للهيولى ، وهي لا تغيب عن نفسها ـ إن عنى بالغيبة الواقعة في تفسيرهم للادراك بانّه عدم الغيبة عن الذات المجرّدة عن المادّة مجرّد البعد عن الذات ـ ، لامتناع بعد الشيء عن نفسه ـ وان عنى بعدم الغيبة الشعور كان قولهم : كلّ مجرّد غير غائب عن ذاته ممنوعا ولم يصحّ جعله دليلا على كون المجرّد عالما بنفسه ، لانّه تعليل الشيء بنفسه ـ.

ودفع هذا الاعتراض بان يقال : لم يجعل مجرّد التجرّد عن الهيولى دليلا على العلم ، بل جعل تجرّد الموجود بالفعل في حدّ ذاته عن الهيولى دليلا على العلم ، فاندفع النقض بالهيولى. فانّ الوجود هو الظهور أو مستلزم له ، فالموجود بالفعل الّذي هو موجود لنفسه ـ أي : غير قائم بالغير ـ ظاهر لنفسه. ونظير هذا ما قال الاشراقيون من انّ النور المجرّد عالم بذاته لانه نور لنفسه وظاهر لنفسه ، وكلّ ما هو عالم بذاته فهو نور مجرّد ، فهاتان القضيتان نازلتان منزلة قول المشائين من انّ كلّ عالم بذاته فهو مجرّد وكلّ مجرد فهو عالم بذاته » ؛ انتهى.

ولا بد من نقل مذهب الاشراقيين ومذهب المشائين فيما هو منشأ العلم عند كلّ منهم والاشارة إلى أنّ أيّ فرق بين المذهبين صار سببا لاعتراض الاشراقيين على المشائين ، ثمّ الاشارة إلى انّ هذا الفرق غير موجب للاعتراض.

فنقول : مذهب المشائين انّ المانع عن العاقلية هو مجرّد كون الشيء موجودا لغيره ، فما ليس موجودا لغيره يكون عاقلا ، وما ليس موجودا لغيره انّما هو الوجود لذاته والوجود لذاته ليس الاّ المجرّد القائم بذاته ؛ ومذهب الاشراقيين انّ مناط العاقلية كون الشيء نورا في ذاته قائما بذاته ، فانّ الأشياء عندهم على أربعة اقسام :

الأوّل : ما هو نور في ذاته وقائم بذاته ، ويسمّونه : « نورا في ذاته لذاته » ؛

والثاني : ما هو نور في ذاته ولكنّه ليس قائما بذاته ، بل هو قائم بمحلّ ، ويسمّونه : « النور العارض » ؛

والثالث : ما ليس بنور في ذاته ولكنّه قائم بذاته ، ويسمّونه : « الجوهر الغاسق » ـ كالجسم ـ ؛

والرابع : ما ليس نورا في ذاته وليس قائما بذاته ، بل قائم بالمحلّ ، ويسمّونه : « الهيئة الظلمانية ».

وقالوا : العاقل لذاته من هذه الاقسام الاربعة منحصر بالقسم الأوّل ـ أعني : ما هو نور في ذاته لذاته ـ ، والبواقي غير عاقلة وليس من شأنها العاقلية ، فالجسم واجزائها ـ من الهيولى والصورة ـ لكونها غاسقة ليست بأنوار في ذواتها ، فلا تكون شاعرة ، والنور العارض ـ كضوء الشمس ـ والصور المعقولة المجرّدة وإن كانت نورا في ذاتها لكن لكونها غير قائمة بذاتها لا تكون شاعرة أيضا ، فعندهم كلّ نور في ذاته لذاته هو شاعر وكلّ شاعر هو نور في ذاته لذاته. وهذا النور ليس الاّ المجرّد القائم بذاته البري عن شوائب الجسمانيات ، فينحصر بالواجب والعقول والنفوس.

ثمّ لمّا رأوا انّ المشائين حصروا المانع من العاقلية في كون الشيء موجودا لغيره غير قائم بذاته فظنّوا أنّهم يقولون انّ ما هو موجود لذاته غير قائم بغيره يكون عاقلا ولو كان غاسقا ، فأوردوا عليهم النقض بالهيولى لكونها موجودة لذاتها غير قائمة بغيرها ؛ وقالوا : يلزم عليكم أن تكون الهيولى شاعرة بنفسها ، بل بالصور والهيئات الحالّة فيها أيضا لكونها موجودة لها حاضرة عندها غير غائبة عنها ـ كما صرّح به الشيخ الألهي في حكمة الاشراق حيث قال ردّا على المشائين : « واعترفوا بأنّ الهيولى ليس لها تخصّص إلاّ بالهيئات الّتي سمّوها صورا. والصور إذا حصلت فينا ادركناها وليست الهيولى في نفسها إلاّ شيئا ما مطلقا أو جوهرا ما عند قطع النظر عن المقادير وجميع الهيئات كما زعموا ، ولا شيء في نفسه أتمّ بساطة من الهيولى سيّما جوهريتها الّتي هي سلب الموضوع عنها ـ كما اعترفوا به ـ ، فلم ما ادركت ذاتها لهذا التجرّد وما ادركت الصور الّتي فيها؟! » (6).

والوجه في عدم ورود اعتراضاتهم غفلتهم عن انّ المشائين لم يجعلوا مجرّد كون الشيء موجودا لذاته ومجرّد التجرّد سببا للعاقلية ، بل جعلوا تجرّد الموجود بالفعل في حدّ ذاته سببا لها، فالموجود بالفعل القائم بذاته منشأ للعلم عندهم ، والهيولى ليس كذلك ؛ فكون الشيء موجودا بالفعل قائما بذاته عند المشائين بمنزلة كون الشيء في ذاته لذاته عند الاشراقيين. فكما أنّ الشيء إذا كان نورا في نفسه قائما بذاته كان نورا لنفسه وظاهرا لذاته وعالما بها وبالعكس ، فكذلك إذا كان الشيء موجودا بالفعل وقائما بذاته كان ظاهر الدلالة وعالما بذاته ، وبالعكس. وكما أنّ الشيء إذا لم يكن نورا في نفسه أو كان ولم يكن قائما بذاته لم يكن عالما بذاته كذلك إذا لم يكن الشيء موجودا بالفعل ولم يكن قائما بذاته لم يكن عالما بذاته ، وقد ظهر بما ذكر انّ التجرّد والبساطة ـ اللّذين هما منشأ التعقّل ـ انّما هو التجرّد والبساطة بشرط الوجود بالفعل ، والهيولى بعد وجودها ليس لها تجرّد ولا بساطة ، بل البساطة الّتي نتصور لها انّما هو البساطة بالنسبة إلى ماهيتها لا بالنسبة إلى وجودها. ولذا اعترض بعض الأعلام المحقّقين على قول صاحب الاشراق في اعتراضه على المشائين : « لا شيء في حدّ نفسه اتمّ بساطة من الهيولى»: بأنّ هذا من باب الاشتباه بين الماهية والوجود ، فانّ الهيولى أبعد الأشياء من التجرّد والبساطة لانّها متكثّرة بحسب تكثّر الصور في الواقع لانّها ليست بمتحصّل الوجود في الواقع الاّ بالصور ، والتجرّد الّذي يعتبر في كون الشيء عاقلا هو تجرّد الوجود لا تجرّد الماهية والمفهوم ؛ ولو كانت الصور أعراضا متأخّرة الوجود عن وجود الهيولى ـ كتأخّر السواد والكتابة عن وجود الانسان ـ لكان لما ذكره وجه. فبساطتها عبارة عن بساطة معنى جنسي كالجوهرية ، ومناط العاقلية هو بساطة الوجود لا بساطة المعنى. ومعنى بساطة الهيولى أنّها إذا لوحظت بحسب نفس ذاتها وقطع النظر عن الصور الّتي تحصّلت وتقوّمت هي منها في الواقع كان حالها في اعتبار نفسها أنّها جوهر فقط والصور خارجة عن ماهيتها داخلة في وجوداتها المتعدّدة ، فذاتها في غاية ضعف الوجود وضعف الوحدة شبيهة بالكلّيات الجنسية في الوجود والوحدة ، لأنّ الوجود هو الظهور.

__________________

 

ثمّ انّه ربما يورد هاهنا شبهتان لا بدّ لنا من ايرادهما ودفعهما :

الشبهة الأولى : انّ الوجود إذا كان هو الظهور ـ الّذي هو التعقّل ـ أو مستلزما له لزم كون الهيولى شاعرة بنفسها ، لأنّها ليست معدومة بل هي موجودة بوجود ضعيف. ومعنى كونها بالقوّة ليس أنّها معدومة صرفة ، فاذا كان الوجود هو الظهور أو مستلزما له وللهيولى وجود لا محالة وإن كان ضعيفا ولكن ذلك الوجود الضعيف قائم بذاته لزم كونها ظاهرة لذاتها. غاية ما في الباب أن يكون ظهورها لذاتها ظهورا ضعيفا بإزاء وجودها الّذي في غاية الضعف ، فيكون لها شعور ضعيف بذاتها. وقد ظنّ ذلك جماعة وذهبوا إلى ذلك ، ولذا حكموا بتحقّق عشق الهيولى وسراية نور العشق ـ الّذي هو فرع الشعور ـ في جميع الموجودات ، وقالوا : لو لا عشق الهيولى لم يظهر سراية نور العشق في جميع الموجودات.

الشبهة الثانية : انّه لو سلّم انّ الهيولى ليس لها وجودا بالفعل من ذاتها أصلا ولكن لا ريب في أنّها بعد ضمّ الصورة إليها تصير موجودا بالفعل بمقارنتها لها ، فمعنى قولهم : انّ الهيولى ليس لها وجود بالفعل انّها بمحض ذاتها لا يمكن صيرورتها بالفعل ، لا انّها ليست موجودة في نفس الأمر لا يصير بالفعل في نفس الامر فكما انّ قولهم : « الممكن في حدّ ذاته ليس بموجود بل عدم محض » ليس معناه انّه ليس بموجود في نفس الأمر ولم يتصف بالوجود بالفعل ـ لانّ خلافه ظاهر ـ ، بل المراد انّه ليس الوجود من مقتضى ذاته ، فكذا الحال في قولهم : « الهيولى ليس لها وجود بالفعل » ، وإذا كان كذلك فتكون الهيولى موجودة بالفعل في نفس الأمر بعد ضمّ الصورة وان لم يكن حصول هذا المعنى من مقتضى ذاته. وظاهر انّ هذا يكفي لظهورها وكونها عالمة بنفسها لو كان مناط العالمية هو ما ذكروه ـ أعني : كون الشيء مجرّدا موجودا بالفعل قائما بذاته ـ ، اذ لا يجب في العالم أن يكون وجوده من ذاته وإلاّ لخرج جميع الممكنات عن العالمية ، لانّ وجودها من عللها.

والجواب عن الشبهة الاولى : انّ الظهور أو المستلزم له انما هو الوجود بالفعل ـ كما عرفت ـ ، والهيولى ليس موجودا بالفعل أصلا ، لانها قبل ضمّ الصورة إليها لا وجود لها أصلا ـ لا قويا ولا ضعيفا ـ وانّما تصير موجودة بالوجود الّذي يليق به بعد ضمّ الصورة ؛ ويرشدك الى ذلك قول الشيخ في التعليقات : « الهيولى معدومة بالذات موجودة بالعرض ».

على أنّا نقول : انّ المنشأ للتعقّل انّما هو الوجود بالفعل المجرّد عن المادّية ونفس المادّة ليست مجرّدة عنها.

والجواب عن الشبهة الثانية : انّ الهيولى بعد ضمّ الصورة لو كانت موجودة بالفعل ولم تكن هي والصورة موجودتين بوجود واحد ـ كما هو رأي جماعة ـ فلا ريب في أنها حينئذ ليست مجرّدة عن المادّية وعلائقها من الوضع وغيره ، وقد ذكرنا انّ المنشأ للتعقّل انما هو الموجود المجرّد عن المادية وعلائقها.

وقيل في الجواب عنها أيضا : انّ الظاهر من كلماتهم انّ الهيولى لمّا اعتبر في جوهرها القوّة والاستعداد فحقيقتها انّها جوهر مستعدّ لكلّ شيء ، فهي في ذاتها لا تقبل الظهور والانكشاف ، فلهذا لا تصير عالمة بذاتها وان صارت بعد ضمّ الصورة موجودة بالفعل ، فكانّه اعتبر في كون شيء عالما بنفسه أن يكون في ذاته ـ مع قطع النظر عن جميع ما عداه ـ شيئا معينا لا يخالطه قوّة واستعداد ، بل يكون موجودا بالفعل ومتعيّنا بالتعيّن الحاصل له بالفعل قائما بذاته غير قائم بأمر آخر ؛ والهيولى ليست كذلك ، لأنّها ليست أمرا موجودا بالفعل متعيّنا بالتعيّن الحاصل في حدّ ذاته من دون اعتبار الصورة الجاعلة ايّاها بالفعل ، فانّ حقيقتها ليست إلاّ شيء ما وأمر ما مستعدّ للصورة والشيء لا يصير لمجرّد كونه شيئا ما أو أمرا ما مع عمومه وابهامه موجودا بالفعل ما لم يتحصّل بنحو من التحصّل. وعلى هذا فتكون الهيولى من الموجودات الضعيفة الّتي تكون فعليتها قوّة ووجودها نفس كونها مستعدّة وتحصّلها عين القوّة والاستعداد فهي بحسب ضعف الوجود مثل معنى الجنس إلاّ انّ الهيولى شخص بهذه الصفة من القوّة والابهام وعدم التحصّل والفعلية ولا تحصّل إلاّ بالصور ، والجنس معنى مبهم غير محصّل وتحصيله بالفصول. وليست محض العدم حتّى يرد أنّ الهيولى إذا كانت محض القوّة الّتي هي العدم كيف يكون جزء خارجيا للجسم ـ كما هو عند المشائين ـ. قال الشيخ في الشفاء : « جوهر الهيولى وفعليتها عين كونها مستعدّة لكذا والجوهرية الّتي لها ليست تجعلها

بالفعل شيئا من الأشياء ، بل تعدّها لأن تكون بالفعل شيئا بالصورة. وليس معنى جوهريتها إلاّ أنّها أمر ليس في موضوع ، والاثبات هاهنا هو انّه أمر. وأمّا انّه ليس في موضوع فهو سلب ، و « انّه أمر » ليس يلزم منه أن يكون شيئا معينا بالفعل ، لأنّ هذا عامّ ولا يصير الشيء بالفعل شيئا بالامر العامّ ما لم يكن له فصل يحصّله ، وفصله انّه مستعدّ لكلّ شيء ، فصورته الّتي تظن له هي انّه مستعدّ قابل » (7) ؛ انتهى.

ويمكن الجواب عنها أيضا بانّه يعتبر في كون الشيء عاقلا لذاته ـ مع ما ذكروه من كونه مجرّدا قائما بذاته ـ أن لا يكون مخلوطا بشيء آخر بحيث لا يمكن تعيينه بدونه ، والهيولى ليست كذلك ـ لأنّها مخالطة بالصورة ولا يمكن تجرّدها عنها وتعينها بدونها في ذاتها ـ ؛ فلا يمكن أن تصير عاقلة ومعقولة. قال الشيخ : « انّ معقولية الشيء هو تجريده عن المادّة وعلائقها ، والشيء إذا كان يخالطه شيء غريب لا يكون مجرّدا البتّة ، فلا يكون عاقلا ولا معقولا لذاته ». وعلى هذا فالتجرّد الّذي هو شرط التعقّل انّما هو التجرّد بحسب الخارج عن الصورة وغيرها من اللواحق لا التجرّد بحسب مرتبة ذاته ، والهيولى وإن كانت مجرّدة عن الصور وغيرها بحسب مرتبة ذاته إلاّ أنّها ليست مجرّدة عنها بحسب الخارج والواقع ، وهذا كما أنّ الطبائع بحسب مرتبة ذاتها ـ أي : كونها طبائع من غير اعتبار اختلاطها بالمشخّصات والعوارض ـ تكون مجرّدة مع أنها بحسب الواقع والخارج غير مجرّدة عنها ، فكما انّ تجرّدها بحسب مرتبة ذاتها لا يوجب كونها عاقلة فكذا تجرّد الهيولى في مرتبة ذاتها لا يستلزم كونها عاقلة.

فحاصل الجواب الأوّل : انّ التجرّد عن المادّية وعلائقها شرط في التعقّل ونفس المادّة ليست مجرّدة عنها.

وحاصل الجواب الثاني : انّ التجرّد عن القوة والاستعداد شرط في التعقّل والهيولى عين القوّة والاستعداد.

وحاصل الجواب الثالث : انّ التجرّد عن الأمور الغريبة والتعيّن بدونها شرط في التعقّل والهيولى مخالطة بالصورة ولا يتعيّن بدونها.

ثمّ انّه قيل : قد ظهر هنا من كلام الشيخ انّ حقيقة الهيولى هي القوّة والاستعداد ، وهو مناف لمّا حققه في رسالة الهيولى من أنّ لها وحدة شخصية محفوظة مع تبدّل الصور ؛

واجيب عنه : بأنّ كون حقيقتها محض القوّة والاستعداد لا ينافي لأن تحصل لها وحدة شخصية بعد ضمّ الصورة ؛ وأمّا أنّه كيف يمكن بقاء تلك الوحدة مع تبدل الصورة الّتي هي علّة لها فليس هاهنا موضع تحقيقه.

وأيضا : لو جوّز تحقّق الشخص بدون الوجود فيمكن أن يقال : انّ كون حقيقتها القوّة لا ينافي  الوحدة الشخصية ، إذ يمكن أن يكون معنى شخصيّا يستعدّ لكلّ صورة ويبقى بحاله مع كلّ منها؛ انتهى.

وأنت تعلم انّ تحقّق الشخص بدون الوجود أمر بديهي البطلان! ، لأنّ التشخّص إمّا نحو الوجود أو ما يلزمه ، والهيولى مع قطع النظر عن الصورة لا وجود لها ، فكون الهيولى معنى شخصيّا بدون الوجود يستعدّ لكلّ صورة ويبقى بحاله مع تبدّل الصور أمر غير معقول. فالمسلّم تحقّق الوحدة الشخصية لها بعد ضمّ الصورة إليها ، ومع زوالها يزول هذا التشخّص. وإذا انضمت إليها صورة أخرى يحصل لها تشخّص آخر ، فقول الشيخ في رسالة الهيولى : « انّ لها وحدة شخصية محفوظة مع تبدّل الصور » غير مسلّمة.

وقد تلخّص ممّا ذكر انّ منشأ العالمية ومصحّحه ليس الاّ الموجود بالفعل القائم بذاته من غير أن يوجد فيه شائبة من القوة ، فيخرج الهيولى والهيولانيات عن العالمية لكونها منضمّة للقوّة ، فينحصر منشئية العالمية بالواجب والجواهر المجرّدة القائمة بذاتها وعين العقول والنفوس. فالموجود بالفعل القائم بذاته من الممكنات ليس إلاّ العقول أو النفوس ، فالعالم منها منحصر بهما.

فان قيل : إذا لم تكن المادّة والمادّيات موجودة بالفعل فكما لا يصحّ أن تكون عالمة لم يصحّ أن تكون معلومة ، لانّ العلم لمّا كان عبارة عن وجود المعلوم للعالم بمعنى عدم غيبته عنه أو لازما له وعلى التقديرين يجب أن يكون المعلوم موجودا بالفعل حتّى يمكن وجوده لغيره ليعقله ؛

قلت : ليس موجودا بالفعل بل متضمّنا للقوة يمكن أن يحصل وجوده للغير ، فانّه لا مانع من تحقّق الوجود الرابطي بما هو متضمّن القوّة بالنسبة إلى موجود بالفعل ، فالمادّة والمادّيات لا تأبى عن ذلك. بخلاف العالمية ، فانّ مناطها كون العالم موجودا بالفعل. والحاصل : انّ مناط المعلومية امكان الوجود الرابطي وهو يتأتى في الفعلية المنضمّة للقوّة ، ومناط العالمية هو الفعلية الصرفة الغير المنضمّة للقوّة أصلا.

فان قيل : على هذا يلزم أن لا يكون شيء من الممكنات عالما ، لانّ كلّ فرد من الممكنات باعتبار ذاتها بالقوّة ، فالقوّة متضمّنة في فعليتها وقد قلتم انّ الفعلية المتضمّنة للقوّة لا يمكن أن تصير مناطا للعالمية ؛

قلت : القوّة الّتي للمجرّدات الممكنة إنّما هو بالنظر إلى ذاتها لافتقارها إلى العلّة وبعد وجودها عنها وصيرورتها بالفعل لا تبقى فيها قوّة أصلا ؛ وأمّا الهيولى والهيولانيات فلا تخرج عن القوّة أصلا ، بل بعد وجودها تبقى فيه القوّة أيضا. فمناط العالمية هو الفعلية بعد الوجود ، وهي متحقّقة في المجرّدات دون الماديات. وأمّا الفعلية بالنظر إلى الذات بحيث يكون دائما بالفعل في وجوده وصفاته فاشتراطها غير لازم.

وقيل في الجواب : انّ المراد بالقوّة الّتي هي مانعة من التعقّل إنّما هي القوّة المتقاربة عن الفعل لا القوّة المخلوطة بالفعل. والحاصل : انّ القوّة والفعل قد يكونان متقاربين ـ كما في الهيولى والهيولانيات ـ ، وقد يكونان غير متقارنين ـ كما في المجرّدات ـ ، وكلامنا هنا في الأوّل دون الثاني.

ثمّ لا يخفى انّ النقض انّما هو بناء على ما ذهب إليه المشّاءون من أنّ الجسم مركّب من الجزءين : أحدهما الهيولى ، وثانيهما : الصورة. وأمّا على ما ذهب إليه الرواقيون من أنّ الجسمية حقيقة واحدة قائمة بذاتها واطلاق الهيولى في عرفهم انّما هو على تلك الجسمية فالظاهر عدم ورود النقض بها ، لانّها مع تضمّنها القوّة كالهيولى ليست أمرا بسيطا مجرّدا. ولقائل أن يدّعى عدم الفرق في توهّم ورود النقض بينها وبين هيولى المشائين ، لكونها قائمة بذاتها وأقرب الى الفعلية من الهيولى وإن كانت الهيولى أبسط منها.

وقد تحقق مما ذكر بطوله أنّ العالمية مختصّة بالمجرّد ليس لمادّي تعقّل بوجه.

وقد بقي الكلام في أنّ المراد من العالمية المختصّة بالمجرّد هل هو مطلق الادراك الشامل للادراكات الحسية ـ من الابصار والسمع والتخيل وغير ذلك ـ حتّى يكون المدرك في جميعها هو النفس ، أو المراد منها هو التعقّل الحصولي الكلّي والتعقّل الحضوري الانكشافى ، لا الادراك الحصولي الجزئى بأن يجوز أن يدرك بعض القوى الجسمانية بعض الصور والمعاني الجزئية بحصول بعض المناسبات المادية والارتباطات الجسمانية من الوضع والمحاذات وغير ذلك.

فنقول : بعض العقلاء على أنّ ما هو المختصّ بالمجرّد من الادراك هو التعقّل الشامل للقسمين ـ أعني : العلم الحصولي التجريدي والحضوري الانكشافى ـ ؛ وأمّا الاحساس الّذي هو عبارة عن ادراك جزئي غير منفكّ عن اللواحق المادّية فيمكن حصوله لبعض القوى الجسمية ، ولذا يحصل هذا القسم من الادراك للحيوانات العجم مع عدم كون نفوس مجرّدة لها. وذهب جماعة من الحكماء ـ منهم المعلم الثاني ـ إلى انّ مطلق الادراك مختصّ بالمجرّد ولا يكون غير مجرّد مدركا ؛ وقالوا : المدرك في جميع الاحساسات الحاصلة للانسان هو النفس ، فانّه إذا اجتمع شرائط الابصار يحصل للنفس علم جزئي بالمبصر على سبيل الحضور والمشاهدة من طريق البصر ، والصوت إذا وجد في الهواء بسبب التموّج يدركه النفس من طريق السمع ؛ وقس عليها سائر الاحساسات. والحاصل : إنّ شأن الحواسّ ليس إلاّ الانفعال ، وأمّا اصل الادراك فانّما هو من النفس. والدليل على ذلك انّه قد ينفعل الحاسّة عن الشيء المحسوس ويكون النفس لاهية ، فلا يقع الادراك مع انّه لو كان المدرك هو الحاسّة فلمّا حصل الانفعال لكان الواجب ان يحصل الادراك أيضا. قال المعلم الثاني في تعليقاته : « الادراك انّما هو للنفس وليس للحاسّة إلاّ الاحساس بالشيء المحسوس والانفعال. والدليل على ذلك : انّ الحاسّة قد تنفعل عن المحسوس وتكون النفس لاهية ، فتكون الشيء غير محسوس ولا مدرك ، فالنفس يدرك الصور المحسوسة بالحواسّ ويدرك الصور المعقولة بتوسّط صورها إذ يستفيد معقولية تلك الصور من محسوسيتها ويكون معقول الصور لها مطابقة لمحسوسها ولم يكن معقولها. وذلك لنقصان ذاتها واحتياجها في ادراك الصور المعقولية إلى توسّط الصور المحسوسة ، بخلاف المجرّدات الصرفة فانّها تدرك الصور المعقولة من اسبابها وعللها الّتي لا تتغيّر. وحصول المعارف للانسان تكون من جهة الحواس وادراكه للكلّيات من جهة احساسه بالجزئيات ونفسه عالمة بالقوّة. فالطفل يصير مستعدّة يحصل له الاوائل والمبادي وهي تحصل له من غير استعانة عليها بالحواسّ بل تحصل له من غير قصد ومن حيث لا يشعر ؛ والسبب في حصولها له استعداده لها. وإذا فارقت النفس البدن ولها الاستعداد لادراك المعقولات فلعلّها يحصل لها من غير حاجة إلى القوى الجسمية الّتي فاتته ، بل يحصل لها من غير قصد ومن حيث لا يشعر ـ كالحال في حصول الاوائل للطفل ـ ؛ والحواسّ هي الطرق الّتي تستفيد منها النفس الانسانية المعارف » (8) ؛ انتهى.

ولا يخفى انّ التأمّل في كلام هذا المعلّم يعطى انّه قائل بثبوت الاحساس للحواسّ وانّما خصّ الادراك بالنفس الناطقة والظاهر انّ مراده بالادراك هو التعقّل.

ثمّ على المذهب الأوّل يكون كلّ شعور متحقّق لإحدى الحواسّ ادراكا حصوليا جزئيا غير منفكّ عن اللواحق المادّية ـ كالكمّ والوضع وغير ذلك ـ.

ثمّ الادراك الحصولي للحواسّ إمّا أن يكون المدرك فيه صورة شيء خارج أو معنى منتزعا عنه ، والأوّل كادراك القوة الباصرة للمبصرات ـ على القول بالانطباع ـ ، وادراك القوّة الخيالية للصور الأشياء إذ هذا الادراك انما يكون بانطباع صورها الجزئية المقارنة لبعض اللواحق المادّية وارتسامها فيها وان حصل لتلك الصور نوع تجريد مع كون التجريد الحاصل للصور الخيالية أشدّ من التجريد الحاصل للصور المدركة بالبصر ، لانّ التجريد للمدرك على حسب التجرّد للمدرك. فكلّما كان المدرك أبعد عن المادّية وأقرب إلى التجرّد كان مدركه أيضا كذلك ، فلما كان القوّة الخيالية أبعد عن المادّة بالنسبة إلى القوّة الباصرة فمدركها أيضا تكون كذلك. وممّا يؤكّد ذلك انّ الأثر من الشيء الخارجي يصل إلى القوّة الباصرة ومنها يصل الأثر إلى القوّة الخيالية ، فالبصر يدرك ما في الخارج بعد تجريده نوع تجريد ، ثمّ القوّة الخيالية تدرك ما يدركه البصر أيضا مع تجريد آخر ، ثمّ النفس الناطقة يدرك ما أدركه الخيال بعد التجريد التامّ والنزع المحكم ويأخذ صفوه الخالص الّذي هو المجرّد الصرف أو يشاهده فيه بالعلم الحضوري ؛ وهذا في الادراك الجزئى الحصولي الّذي يكون بانطباع الصور وارتسامها. ولا يلزم منه قدح في الكلّية الّتي ذكرناها من اختصاص التعقّل بالمجرّد ، لانّ التعقّل في العلم الحصولي انّما هو ادراك الصور الكلّية المجرّدة ولا ريب في اختصاصه بالقوّة العاقلة ، لأنّ ادراكات الحواسّ ـ كما عرفت ـ ليس بتجريد تامّ ، بل مدركاتها مقارنة للواحق المادّية.

وأمّا الثاني ـ أي : الادراك الحصولي الّذي يكون المدرك فيه معنى جزئيا منتزعا عن الأشياء الخارجة مع بعض اللواحق المادية والغواشي الجسمانية ـ : فكادراك الواهمة للمعاني الجزئية ، فانّ تلك المعاني ليست صورا لأصل خارجي ، لكنّها أمور جزئية منتزعة عن بعض الأشياء العينية مرتسمة في تلك القوّة ، فيكون مدركه بادراك حصولى جزئي. ثمّ النفس الناطقة تجرّد تلك المعاني الجزئية وتقشّرها عن اللواحق الجزئية وتدركها على سبيل الكلّية أو تشاهدها في القوّة الواهمة بالمشاهدة الحضورية للربط الحاصل بينهما. وعلى التقديرين لا يلزم أيضا نقض في القاعدة الكلّية ـ أعني : اختصاص التعقّل الحصولي والحضوري بالمجرّد ـ.

وتلك المعاني الجزئية المدركة للواهمة ليست على سبيل التجريد التامّ حتّى يكون علما حصوليا كلّيا ، ولا على سبيل المشاهدة الحضورية حتّى يكون علما حضوريا ، فينحصر العلمان بالمجرّد ، وشأن الحواسّ انّما هو الاحساس الّذي هو انتزاع الصور أو المعاني من الأشياء الخارجية مع اللواحق المادية والغواشي الجسمانية. وهذا لا ضير فيه ، لأنّه لمّا حصلت لتلك القوى بعد ما عن المادّية وقرب ما إلى التجرّد فاستعدّت للادراك بهذا الوجه. هذا هو ما يتعلّق بالمذهب الأوّل من التوضيح والتحقيق.

وامّا على المذهب الثاني فلا يكون لشيء من الحواسّ ادراك أصلا ، وانّما هي شروط لادراك القوّة العاقلة ، وعلى هذا يلزم أن يكون للحيوانات العجم نفوس ناطقة ـ كما ذهب إليه جماعة ـ.

وربما يورد على هذا المذهب بانّه لا ريب في انّ الصور والمعاني الجزئية مدركة لنا مع قطع النظر عن القوّة الباصرة وغيرها من الحواسّ الظاهرة ، فان كان مدركها منحصرا بالنفس الناطقة ولم يكن مدركة للخيال والواهمة أصلا لزم تعطّل هاتين القوّتين رأسا ؛ وإن كانت مدركة لهما ولو بوجه لزم تحقّق الادراك لغير القوّة العاقلة. ويمكن أن يقال : انّهما مثل القوّة الباصرة في كونهما من الشرائط لادراك النفس بمعنى انّ ادراك النفس لتلك الصور والمعاني يتوقّف على انطباعها وارتسامها في الخيال والواهمة ، ولم تكن مدركة لهما حتّى تدركها النفس بالعلم الحصولي الكلّى أو الحضوري الجزئى. ومجرّد انطباع الصورة في الباصرة لا يكفى لادراك النفس لها ، بل يتوقّف على وصول الأثر منها إلى الخيال وانطباعه فيه حتّى تدركه النفس. وعلى هذا يكون فعل هذه القوى منحصرا بكونها محلّ الارتسام والانتقاش للصور والمعاني لتدركها النفس منها ويشاهدها فيها ولا يحصل لها ادراك شعوري أصلا ؛ وحينئذ لا يلزم تعطّل تلك القوى.

نعم ؛ يلزم ما اشير إليه من تحقّق نفوس مجرّدة للحيوانات ، والتزامه على قواعد الملّة مشكلة.

ثمّ الأمر في ادراك سائر القوى ـ من اللامسة والسامعة والذائقة وغيرها مما يشابه الادراك الّذي هو غير الشعور والظهور ـ على المذهب الأوّل ظاهر ، لانّ تلك القوى حينئذ مدرك محسوساتها وبعد ادراكها يشعر بها النفس بالعلم الحضوري ويحصل بها التذاذ أو تألّم من هذه الجهة ـ أي : من جهة علمها بها ـ. وأمّا على المذهب الثاني فيمكن أن يقال : انّ المدرك لهما أيضا هو النفس ، ويمكن ان يكون الأمر فيها كما في المذهب الأوّل.

ثمّ على المذهبين انّما يتوقّف ادراك النفس على هذه القوى لقصور في تجرّدها ، وإلاّ فشأن المجرّدات الصرفة ادراك الأشياء من عللها واسبابها من غير افتقار إلى آلة أصلا ، ولذا إذا اشتدّ تجرّدها يدرك الأشياء من غير افتقار إلى آلة أصلا.

ثمّ على أيّ مذهب من المذهبين لا ريب في اختصاص التعقّل بالمجرّد وحصول فعليته بوجود أحد العلاقات الموجبة له وكون حضور الذات عند الذات أقوى العلاقات وكون كلّ مجرّد حاضرا عند ذاته لذاته غير غائب عنها.

وبذلك يظهر كون كلّ مجرّد عاقلا لذاته ، وبه يتمّ ما كنّا بصدد بيانه من المقدّمة الثانية ـ أعني : كون كلّ مجرّد عاقلا لذاته ـ.

المقدّمة الثالثة : لا ريب في أنّ واجب الوجود ـ تعالى شأنه ـ في غاية التجرّد وقد يظهر ذلك من اثبات كونه ـ تعالى ـ غير جسم وغير جسماني ، ومن بيان انّه ـ تعالى ـ صرف الوجود ومحض الموجود.

وإذا ظهرت وثبتت تلك المقدمات الثلاث ـ أعني : كون التعقّل عبارة عن حضور الشيء عند مجرّد قائم بذاته أو لازما له وكون كلّ مجرّد حاضرا عند ذاته وكون واجب الوجود في أعلى مراتب التجرّد ـ يظهر تمامية الدليل الثالث لاثبات علمه ـ تعالى ـ ، وهو انّه ـ تعالى ـ مجرّد وكلّ مجرّد عاقل لذاته ؛ وبذلك يثبت علمه ـ تعالى ـ بذاته. فهذا الدليل انّما يفيد علمه ـ تعالى ـ بذاته فقط ، لا بما عداه من الموجودات. نعم! ، يمكن أن يستدلّ بواسطة علمه ـ تعالى ـ بذاته على علمه بما سواه من الموجودات الّتي هي افعاله ، لانّ العلم بالعلّة التامّة يوجب العلم بالمعلول ـ كما يأتي تحقيقه ـ.

وتنقيحه قال بعض المشاهير بعد نقل هذا الدليل : « وفي هذا الدليل سرّ تأمّل فيه ان كنت ذا شوق ، فانّه لا يظهر إلاّ لأهل الحالة والذوق ». وقد ذكروا لاظهار السرّ وجوها :

منها : انّ السرّ هو انّ علمه ـ تعالى ـ بذاته هو عين علمه بأفعاله اجمالا ـ كما ذكره هذا القائل في كلامه تصريحا وتلويحا غير مرّة ـ. وربما يقرع سمعك توضيح ذلك وجلية الحال فيه بعد ذلك.

ومنها : انّ السرّ هو صعوبة اتمام هذا الدليل بطريق أهل الاستدلال والعلوم الظاهرية وقوّته عند أهل التألّه والذوق.

ولا يخفى انّ هذا الكلام وان كان في نفسه صحيحا إلاّ انّ كونه هو السّر المأمور بالتأمّل لاظهاره بعيد جدّا.

ومنها : انّ السرّ هو دلالة هذا الدليل على انّه لا علم حقيقة لغير واجب الوجود بذاته ، اذ جعل مناط التجرّد المقتضي للعلم كونه محض الوجود الحقيقي المنزّه ، ولا شكّ في انحصاره في الواجب.

ويرد عليه : انّه لم يظهر ممّا ذكر إلاّ ثبوت العلم للمجرّد الحقيقي لا نفيه عمّا عداه من المجرّدات ، كيف وقد جعل هذا القائل الأمر بالتأمّل في السرّ وغيره من العقلاء التجرّد بالمعنى المشهور ـ أعني : عدم كون الشيء جسما ولا جسمانيا ـ أيضا دليلا على العلم ، وهو لا ينحصر في الواجب ـ تعالى ـ.

ومنها : انّ السرّ هو انّ بهذا الدليل ـ أي : الّذي تمسّك فيه بالتجرّد الحقيقي ـ يظهر كونه ـ تعالى ـ عالما بجميع ما سواه من غير احتياج إلى التمسّك بما ذكر من (9) انّه عالم بذاته فيكون عالما بافعاله أيضا. وذلك لانّه إذا كان الواجب ـ تعالى ـ محض الوجود الحقيقي غير محتاج الى ارتباط بالغير بل جميع ما سواه موجود بالارتباط به والانتساب إليه ـ على ما هو ذوق أهل التألّه ـ فيكون ـ تعالى ـ عالما بجميع الأشياء البتة ، إذ العلم ليس إلاّ ارتباط خاصّ بين العالم والمعلوم يوجب ظهوره وانكشافه عنده. فاذا كان وجود جميع الأشياء بالارتباط به ـ سبحانه ـ فيكون جميعها ظاهرا منكشفا لديه ؛ وما ذلك الاّ العلم.

ومنها : انّ السرّ هو ما اشتهر بين أهل التألّه والذوق من انّه ليس شيء من الممكنات متصفا بالوجود اتصافا حقيقيا ، بل الممكنات لها ارتباط بالموجود الحقيقي واطلاق الوجود على الممكن من قبيل اطلاق متموّل على زيد واطلاق الشمس على الماء. وليس المتصف بالوجود حقيقة إلاّ الله ـ تعالى ـ ، وما عداه مرتبط به. وقد صرّح السيد الداماد بأنّ السرّ المأمور بالتأمّل فيه هو هذا الوجه حيث قال : « السرّ هو انّ ما سوى الله ـ تعالى ـ من الممكنات ليس لها وجود ، بل هي منسوبة الى حضرة الوجود ، لانّ الوجود ليس بعارض لها ولا قائما بها ولا بمهيتها ، بل مصداق حمل الموجود عليها مجرّد انتسابها الى الوجود كما أنّ الحدّاد هو من ينسب الى الحديد وذلك هو مصداق حمل الحداد عليه لا من يقوم به الحديد » ؛ انتهى.

وغير خفيّ انّ الفرق بين هذا الوجه وبين سابقه : انّ بناء السابق على كون الممكنات بأسرها مرتبطة بالأوّل ـ تعالى ـ ارتباطا خاصّا وان كان لها وجود حقيقة وكان صدق الوجود عليها صدقا حقيقيا ، لكن هذا الارتباط منشأ لتحقّق علمه ـ تعالى ـ بها ، لانّ

منشأ العالمية بالفعل هو قيام الشيء بذاته مع حصول ربط خاصّ بينه وبين المعلوم وذلك حاصل في حقه ـ تعالى ـ بالنسبة الى الممكنات الموجودة ، فثبت به عموم علمه ـ تعالى ـ أوّلا من غير افتقار إلى توسيط كونه عالما بذاته ؛ وهذا كلام صحيح لا غبار عليه. وهو أحسن الوجوه المذكورة للسرّ وإن كان فيه بعد أيضا. وامّا بناء هذا الوجه فعلى انّ الموجودات الممكنة ليس لها وجود حقيقة وحمل الموجود عليها انّما هو على سبيل التجوّز نظرا إلى انتسابها إلى حضرة الوجوه الحقّ بصدق الموجود واطلاقه عليها لمجرّد تلك النسبة من غير أن يكون لها وجود في الخارج.

ولا يخفى انّ هذا المذهب باطل ، لانّ انكار كون الممكنات موجودة حقيقة والقول بعدم انتزاع الوجود العامّ عنها سفسطة ، وقد بيّنا فساد هذا المذهب ـ المسمّى بذوق المتألّهين ـ بما لا مزيد عليه في رسالتنا المسمّاة بقرّة العيون (10).

ثمّ جعل ذلك سرّا للدليل المذكور لا وجه له ظاهرا ، لانّ الدليل المذكور ـ أعني : كون كلّ مجرّد عاقلا ـ لا يدلّ بوجه على عدم كون الممكنات موجودة حقيقة. والظاهر انّ جعلهم ذلك سرّا لهذا الدليل بناء على أنّ التجرّد الّذي هو منشأ التعقّل في الواجب هو غاية التجرّد وهو كونه ـ تعالى ـ محض الوجود ، وإذا كان محض الوجود فظنّوا انّه الموجود بالحقيقة وغيره لا يصدق عليه الموجود إلاّ مجازا.

ومنها : انّ السرّ هو ما ذهب إليه الصوفية من انّ للوجود حقيقة هو الواجب ـ تعالى ـ والموجودات ليست امرا خارجا عنه ـ تعالى ـ ، بل هي تعينات له ـ تعالى ـ ، فتارة يقولون : انّ الواجب ـ تعالى ـ بمنزلة الكلّي الطبيعيّ والموجودات تعينات له ؛ وتارة يقولون : انّ الواجب ـ تعالى ـ بمنزلة البحر والأشياء بمنزلة الأمواج ، فكما انّ الأمواج ليست أمرا خارجا عن البحر فكذلك سائر الأشياء بالنسبة إليه ـ تعالى ـ ، فليس في الوجود إلاّ الله. قال السيّد الداماد بعد ما ذكر انّ السرّ هو أنّ ما سوى الله من الممكنات ليس لها وجودا ـ ... الى آخر ما نقلناه عنه ـ : « هذا على ذوق المتألّهة ، ومذاق الصوفية أعلى من ذلك ، فانّهم يزعمون انّ الماهية الممكنة لا يطلق عليها الموجود أصلا ، بل انّما الممكنات مظاهر للحقيقة القدسية الواجبية ونسبتها إلى تلك الحضرة كنسبة الامواج إلى البحر والأشعة إلى النور والتعينات إلى الطبائع الكلية. ثمّ اذا لوحظ انّ الظهور الحقّ ـ أي : هذا الوجود الحقيقي ـ ليس إلاّ الموجود الحقّ الأوّل ـ تعالى شأنه ـ فليس الظهور إلاّ له ، فالظاهر الحقّ هو الله ـ سبحانه ـ وانّما المخفيّ ما عدا ذاته ـ تعالى ـ. فاذن هو خفيّ من فرط الظهور ونسبته إلى عقول العقلاء في الخفاء من شدّة الظهور نسبة الشمس إلى قوّة الباصرة ، بل لا نسبة بين النسبتين ؛ فتبصّر » ؛ انتهى.

وقد صرّح أيضا بعض العرفاء بكون ذلك سرّا للدليل المذكور على سبيل القطع حيث قال : «تأمّل فيه بعد معرفته انّ الله ـ تعالى ـ معري عن كلّ جهة الحاجة إلى الغير من الماهية والوجود والفاعل والموضوع وغيرها من الأمور الّتي موجبة لنقصان نور الوجود وانغماسه في ظلمات العدم حتّى تشاهد بعين البصيرة ونورها انّه ـ تعالى ـ صرف النور وعين الظهور ، وانّه بفرط ظهوره احتجب في البطون ؛ فسبحان من ظاهر خفي الّذي ظهوره علّة لخفائه وخفائه سبب لظهوره!. ويعلم انّه لما كان بنفس ذاته من غير مداخلة أمر آخر دافعا جميع انحاء النقيصة وظلام العدم عن ذاته المقدّسة فهو بحيثية ذاته البسيطة ـ الّتي هي عين النور ونفس الظهور ـ مرجع كلّ كمال ومنبع كلّ جمال ومحيط بكلّ ما له رسم من الفعلية والوجود ، بل هو بصرافة فعله وتنزّهه عن كلّ كثرة ونقصان متجلّ بذاته وصفاته على الأشياء الممكنة الّتي هي بمنزلة المرايا المتكثّرة المنكسرة ، فهو نور الأنوار وجامع كلّ وجود وكمال مع كونه على غاية البساطة والاطلاق. لأنّه صرف الوجود ومحض الموجود وصرف الوجود جامع كلّ كمال الوجود الّذي هو أيضا عن الوجود على وجه أعلى وأتم وأشرف من غير لزوم نقص وشين ، لأنّ النقص الّذي هو العدم من لوازم الامكان والكثرة وهو متعال عنهما. فهو في مقام الجمع ـ الّذي هو مرتبة ذاته الكاملة ـ واجد لكلّ ما هو جهة الوجود ولا يخرج عن ضبط ذاته كمال أصلا ، فسبحان الّذي لا يخرج منه شيء وهو خارج عن كلّ شيء!. فرجوع الوجودات والكمالات كلّها إليه ـ سبحانه ـ كما انّ رجوع العدمات والنقائص بأسرها إلى الامكان والحاجة. فبعد نقض القيود الامكانية لا تبقى الاّ الحقيقة المطلقة الّتي هى نفس الوجود المبرّى عن كلّ قيد » ؛ انتهى.

ثمّ جعل ذلك ـ أي : ما ذهب إليه الصوفية من انّه لا موجود سوى الله تعالى ـ سرّا للدليل المذكور مبنيّ على أنّ التجرّد الّذي هو منشأ التعقّل في الواجب هو غاية التجرّد ـ أعني : كونه صرف الوجود ـ ، والصوفية ظنّوا انّ صرف الوجود شأنه التجلّى على المهيات الامكانية والظهور في المظاهر الكونية وليس لها وجود على حدة ـ لا حقيقة ولا مجازا ـ. وحينئذ يظهر عموم علمه ـ تعالى ـ أيضا ، إذ الكلّ على هذا القول مظاهر ذاته ـ تعالى ـ ، فاذا ظهر ذاته على ذاته ظهر الكلّ على ذاته.

وقد أشرنا سابقا إلى أنّ هذه الطريقة ممّا لا يمكن تصحيحه بطريق النظر ، ولا يجوز بالشرع والعقل الاذعان به.

ومنها : انّ السرّ هو انّه لمّا ظهر من الدليل المذكور انّ الواجب في غاية التجرّد ـ أي : صرف الوجود ـ فيجب أن يكون بالفعل من جميع الوجوه ذاتا وكمالا ، لانّه لو كان بالقوّة ـ ولو بأحد الاعتبارين ومن بعض الوجوه ـ لم يكن محض الوجود ، بل يكون مشوبا بالعدم ، إذ القوّة من لوازم العدم. واذا كان بالفعل من جميع وجوه الذات وكمالاته الّتي هي عين الذات فنقول : لا شكّ أنّ العلم كمال مطلق للموجود بما هو موجود ، والواجب صرف الوجود ومحض الموجود، فيكون العلم كمالا مطلقا له. وكلّ كمال لصرف الوجود يجب أن يكون فيه بالفعل ـ لما عرفته ـ ، فيجب ان يكون الواجب عالما بذاته وبجميع ما عداه من الكلّيات والجزئيات المجرّدة والمادّية.

وأنت خبير بأنّ جعل هذا الوجه سرّا للدليل المذكور بعيد جدّا.

ومنها : انّ السرّ هو انّه لمّا ظهر انّ الواجب ـ تعالى ـ محض الوجود وصرفه ، فيعلم منه انّه لا يتصوّر فيه التعدّد ، بل لا يمكن هذا التصوّر لأنّه إذا كان محض الوجود الصرف المجرّد عن العوارض وجب أن يكون جزئيا حقيقيا مشخّصا بذاته ، ولا شكّ أنّ الجزئي الحقيقي لا يمكن تصوّر التعدّد فيه ، فلا يمكن تصور التعدّد في محض الوجود ـ الّذي هو الواجب الحقّ ـ ؛ وبذلك يثبت الوحدة. ثمّ لمّا كان محض الوجود القائم بذاته نورا وظهورا بذاته فيكون له الظهور الاتمّ والانكشاف الأكمل ، وليس العلم إلاّ الظهور والانكشاف ، فيكون عالما. ولمّا كان ظهوره أتمّ الظهور وانكشافه أكمل الانكشاف فيجب أن يكون عالما بذاته وبجميع ما عداه من الممكنات وبجميع الحقائق من الكلّيات والجزئيات المجرّدة والمادّية ، فلا يعزب عن علمه مثقال ذرّة في الأرض ولا في السماء كذلك الله ربّي وربّ جميع الأشياء.

وغير خفيّ انّ هذا الكلام صحيح في نفسه ، إلاّ أنّ جعله سرّا للدليل المذكور بعيد.

هذه هي الوجوه الّتي ذكروها للسرّ ؛ واختر منها ما شئت!.

 

__________________

(1) راجع : التحصيل ، ص 493. والسطر الأخير ـ أي : من قوله : لكونها موجودا ... إلى قوله : لا لذاتها ـ لا يوجد في المطبوع من التحصيل.

(2) الاصل : من.

(3) الاصل : تخصيص.

(4) راجع : التعليقات ، ص 44.

(5) ما وجدت العبارة في التعليقات ولا في فصوص الحكم أيضا.

(6) راجع : حكمة الاشراق ، ص 115 ؛ ويوجد اختلاف يسير بين ما في المتن وما في المطبوع من هذا الكتاب.

(7) راجع : الشفا / الإلهيات ، ص 67.

(8) راجع : التعليقات ، الفقرة 3 ، ص 38.

(9) الاصل : ـ من.

(10) راجع : قرّة العيون ، ص 138.

 

 




مقام الهي وليس مقاماً بشرياً، اي من صنع البشر، هي كالنبوة في هذه الحقيقة ولا تختلف عنها، الا ان هنالك فوارق دقيقة، وفق هذا المفهوم لا يحق للبشر ان ينتخبوا ويعينوا لهم اماماً للمقام الديني، وهذا المصطلح يعرف عند المسلمين وهم فيه على طوائف تختصر بطائفتين: طائفة عموم المسلمين التي تقول بالإمامة بانها فرع من فروع الديني والناس تختار الامام الذي يقودها، وطائفة تقول نقيض ذلك فترى الحق واضح وصريح من خلال ادلة الاسلام وهي تختلف اشد الاختلاف في مفهوم الامامة عن بقية الطوائف الاخرى، فالشيعة الامامية يعتقدون بان الامامة منصب الهي مستدلين بقوله تعالى: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) وبهذا الدليل تثبت ان الامامة مقام الهي وليس من شأن البشر تحديدها، وفي السنة الشريفة احاديث متواترة ومستفيضة في هذا الشأن، فقد روى المسلمون جميعاً احاديث تؤكد على حصر الامامة بأشخاص محددين ، وقد عين النبي الاكرم(صلى الله عليه واله) خليفته قد قبل فاخرج احمد في مسنده عن البراء بن عازب قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فنزلنا بغدير خم فنودي فينا الصلاة جامعة وكسح لرسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرتين فصلى الظهر وأخذ بيد علي رضى الله تعالى عنه فقال ألستم تعلمون اني أولى بالمؤمنين من أنفسهم قالوا بلى قال ألستم تعلمون انى أولى بكل مؤمن من نفسه قالوا بلى قال فأخذ بيد علي فقال من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه قال فلقيه عمر بعد ذلك فقال له هنيئا يا ابن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة


مصطلح اسلامي مفاده ان الله تعالى لا يظلم أحداً، فهو من كتب على نفسه ذلك وليس استحقاق البشر ان يعاملهم كذلك، ولم تختلف الفرق الدينية بهذه النظرة الاولية وهذا المعنى فهو صريح القران والآيات الكريمة، ( فلا يظن بمسلم ان ينسب لله عز وجل ظلم العباد، ولو وسوست له نفسه بذلك لأمرين:
1ـ تأكيد الكتاب المجيد والسنة الشريفة على تنزيه الله سبحانه عن الظلم في آيات كثيرة واحاديث مستفيضة.
2ـ ما ارتكز في العقول وجبلت عليه النفوس من كمال الله عز وجل المطلق وحكمته واستغنائه عن الظلم وكونه منزهاً عنه وعن كل رذيلة).
وانما وقع الخلاف بين المسلمين بمسألتين خطرتين، يصل النقاش حولها الى الوقوع في مسألة العدل الالهي ، حتى تكون من اعقد المسائل الاسلامية، والنقاش حول هذين المسألتين أمر مشكل وعويص، الاولى مسالة التحسين والتقبيح العقليين والثانية الجبر والاختيار، والتي من خلالهما يقع القائل بهما بنحو الالتزام بنفي العدالة الالهية، وقد صرح الكتاب المجيد بان الله تعالى لا يظلم الانسان ابداً، كما في قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا * فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا).

مصطلح عقائدي، تجده واضحاً في المؤلفات الكلامية التي تختص بدراسة العقائد الاسلامية، ويعني الاعتقاد باليوم الاخر المسمى بيوم الحساب ويوم القيامة، كما نص بذلك القران الحكيم، وتفصيلاً هو الاعتقاد بان هنالك حياة أخرى يعيشها الانسان هي امتداد لحياة الانسان المطلقة، وليست اياماً خاصة يموت الانسان وينتهي كل شيء، وتعدّت الآيات في ذكر المعاد ويوم القيامة الالف اية، ما يعني ان هذه العقيدة في غاية الاهمية لما لها الاثر الواضح في حياة الانسان، وجاء ذكر المعاد بعناوين مختلفة كلها تشير بوضوح الى حقيقته منها: قوله تعالى: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ) ،وهنالك آيات كثيرة اعطت ليوم القيامة اسماء أخرى كيوم القيامة ويوم البعث ويوم النشور ويوم الحساب ، وكل هذه الاشياء جزء من الاعتقاد وليس كل الاعتقاد فالمعاد اسم يشمل كل هذه الاسماء وكذلك الجنة والنار ايضاً، فالإيمان بالآخرة ضرورة لا يُترك الاعتقاد بها مجملاً، فهي الحقيقة التي تبعث في النفوس الخوف من الله تعالى، والتي تعتبر عاملاً مهماً من عوامل التربية الاصلاحية التي تقوي الجانب السلوكي والانضباطي لدى الانسان المؤمن.