المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

الأخلاق والأدعية والزيارات
عدد المواضيع في هذا القسم 6392 موضوعاً
الفضائل
آداب
الرذائل وعلاجاتها
قصص أخلاقية

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية
طريقة علاج اللجاج والمماراة
2025-01-10
دوافع وعواقب اللجاج والمماراة
2025-01-10
اللجاج والمماراة في الروايات الإسلامية
2025-01-10
التبرير والعناد في القرآن
2025-01-10
التبرير والعناد
2025-01-10
الدورة الزراعية المناسبة لزراعة البرسيم المصري
2025-01-10



التبرير والعناد  
  
44   03:35 مساءً   التاريخ: 2025-01-10
المؤلف : الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الكتاب أو المصدر : الأخلاق في القرآن
الجزء والصفحة : ج3/ ص25-42
القسم : الأخلاق والأدعية والزيارات / الرذائل وعلاجاتها / رذائل عامة /


أقرأ أيضاً
التاريخ: 28-3-2020 2509
التاريخ: 6-10-2016 1786
التاريخ: 6-10-2016 1638
التاريخ: 27-12-2021 1954

تنويه :

إنّ حالة التبرير للأخطاء تعتبر من أهم الموانع لدرك الحقيقة ، لأنّها السبب في عدم وصول الإنسان للحق بل وتركسه في أو حال الباطل.

والقصد من اسلوب التبرير والعناد ، ليس هو الاصرار على مستوى كشف الحقائق وطرح السؤال تلو السؤال ، بل إنّ السؤال هو المفتاح لكشف الحقائق ، ولكن المقصود هو أنّ الإنسان وبعد انكشاف الحقائق والبراهين ، يبقى مصراً على الباطل ويتهرب من الحق بتشبثه بالحجج الواهية وايراد المغالطات الغير المنطقية.

يمكن أن تظهر هذهِ الرذيلة في فردٍ ما بصورةٍ خاصة ، أو تصبح سيرة وعادة لقوم من الأقوام.

وقد أثبت التاريخ من بين الأقوام السابقة ، أنّ قوماً من بني اسرائيل كانوا أكثر عناداً من غيرهم ، ولذلك تطرقت كثير من آيات القرآن الكريم لعنادهم واصرارهم في خط الزيغ والخطأ وسنتطرق لبحثها في تفسيرنا للآيات إن شاء الله تعالى.

ويمكن القول أننا نجد هذهِ الرذيلة متمكنة ومتجذرة في جميع الأقوام الذين يعيشون الجهل والانانية حيث لا يتركون أعمالهم القبيحة ولا يقلعون عنها بسهولةٍ.

وعلى أية حال فانّ هذا الخُلق القبيح من أسوأ الأخلاق الشيطانية ، ويمكن القول إنّ أول درس تلقاه المعاندون على مستوى الاصرار على الخطأ كان بواسطة الشيطان ، أمّا نتائج وافرازات هذا الخلق الذميم فكبيرة جداً لدرجةٍ أنّ الكثير من الحروب الدامية التي ذهبت بالأنفس والأموال ودمرت فيها المدن العامرة كانت بفعل هذه الخطيئة.

بهذهِ الإشارة نعود للقرآن الكريم والروايات الإسلامية ونستعرض العوامل المسببة لهذا الخُلق القبيح وآثاره الضارّة وطرق علاجه :

1 ـ (وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ)([1]).

2 ـ (أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ)([2]).

3 ـ (قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ* قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ)([3]).

4 ـ (قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً* فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً* وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً)([4]).

5 ـ (فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ* ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ* قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ ... قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ)([5]).

6 ـ (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ، قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ ... فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ)([6]).

7 ـ (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ* ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)([7]).

8 ـ (قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ)([8]).

9 ـ (وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ* فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ)([9]).

10 ـ (أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً)([10]).

تفسير واستنتاج :

«الآية الأولى» تتكلم عن الكفّار المعاندين ، فإذا ما أنعم الله عليهم ورحمهم وكشف عنهم البلاء لغرض تنبههم لأخطائهم نراهم على العكس يزدادون غروراً ، ويصرون على غيّهم وطغيانهم (وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ).

نعم فإن هذه الفئة التي تتعامل مع الحق والواقع من موقع العناد والاصرار على الباطل ، مرّة يتهمون الرسول (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) بالجنون وتارة يطلبون منه التسليم لكلامهم ، وعند ما يرون المعجزات كانوا يصرون ويستكبرون وينكرون كل شيء. فالله تعالى شأنه ولأجل تنبيههم ، جعلهم عرضة للبلاء والتمحيص مرّة ، ومرّة اخرَى يغدق عليهم من نعمهِ ورحمته ، فلم ينفع كل ذلك لا البلاء والتمحيص ولا اغداق النعم ، وكل ذلك كان بسبب جهلهم وعنادهم وتعصبهم.

وقال بعض المفسرين : إنّ الطغيان له أشكال مختلفة ، طغيان العلم هو التفاخر ، وطغيان المال البخل ، وطغيان العبادة الرياء ، وطغيان النفس اتباع الشهوات ([11]) ، فيصاب الإنسان بكل هذه الامور على أثر اللجاج والعناد.

وتتحرك «الآية الثانية» لتتناول بالبحث المشركين اللجوجين ايضاً الذين لم يكونوا ليسلموا بأية قيمة كانت للمنطق السليم والواضح للرسول (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) ، ولا استعداد عندهم لترك آلهتهم المصنوعة بأيديهم.

فيقول القرآن الكريم في هذه الآية : (أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ).

كرّر القرآن الكريم هذا القول مراراً للمشركين من أنّ أصنامكم لا فائدة منها ، فلا يدفعون عنكم عدوّاً ، ولا يرزقونكم ، ولا يكلمونكم ، ولا ينفعونكم ولا يضرونكم ولا عقل لهم ولا شعور.

ومع ذلك كلّه أي دليل لديهم لعبادة تلك الأصنام؟ وعلى الرغم من فقدان الدليل الحاسم على سلوكهم المخالف للعقل والفطرة ، استمروا بلجاجةٍ على عبادة الأصنام.

وتتعرض «الآية الثالثة» من هذهِ الآيات إلى أول لجوج ومتعصب في مقابل الحق ، ألا وهو الشيطان ، عند ما تكبّر وطرد من قبل الباري تعالى وفقد مقامه الرفيع والمنزلة التي كانت لديه بين الملائكة ، وقد كان عليه أن يلتفت لخطأه الكبير ، ويعود إلى الله تعالى من موقع الندم ، ويغسل ذنبه بماء التوبة ، ويطفئ النار التي أججها بدموع الخجل ، ولكنه أبى واستكبر وأصرّ على البقاء في دائرة المعصية أكثر وأكثر ولم يكن ذلك إلّا بسبب التكبّر والحسد واللجاجة ، وقرّر أن ينتقم من آدم (عليه‌ السلام) وذرّيته ، ويضلّهم بوساوسه ، وليس ليوم أو ساعة أو شهر ولكنه سيستمر إلى نهاية الدنيا ، في تكريس الإثم والخطيئة وعناصر الانحراف والزيغ في كل المجتمعات فلا يسلم من منزلقات البؤس والفساد لا الكبير ولا الصغير ولا الرجل ولا المرأة.

فطلب من الله تعالى : (قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ* قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ).

ومن المؤكّد أن العمر الطويل له فائدة كبرى لكل شخص يزيد من حسناته ، ويصحح أخطاءه ، وإذا كان له ماضٍ أسود يبدّله إلى مستقبل سعيد ونوراني ، ولكن العمر الطويل للطغاة والصعاليك والمعاندين على العكس من ذلك فله نتائج عكسية.

ولعل إجابة دعائه بالعمر الطويل من رحمة الله تعالى التي تستوعب الخاطئين ، أو ربّما كان تقديراً من الله وجزاءً لعبادته لله آلاف السنين ، ولعله يعود عن غيّه ، لكن هذهِ النعمة عند ما تقع في أيدي الطغاة والصعاليك والمعاندين فستتحول إلى نقمةٍ عليهم.

وتأتي «الآية الرابعة» لتتحدث عن قوم نوح (عليه‌ السلام) وعنادهم في مقابل دعوة نبيّهم الرحيم بهم ، فدعاهم ليلاً ونهاراً في الخلاء والملأ لينجيهم من العذاب ، وكلما ألحّ عليهم في قبول دعوة الحق ، ازدادوا غيّاً وعناداً.

فاشتكى نوح (عليه‌ السلام) إلى الله وقال : (قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً* فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً* وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً).

فأي تعصب وعناد هذا الذي يضع الإنسان اصابعه في آذانه حتى لا يسمع الحق ويلفّ وجهه ويغطيه بثوبه حتى لا يرى من يدعوه إلى الحق والسعادة والخير ، بل يتحرّك بعيداً عنه ويتهرب من مواجهته؟!

فالهروب من الحق له حدود ، ولكنهم تعدّوها إلى أبعد شيء ولم يتخذوا غير طريق المعاندة والتعصب والاستبداد.

فكيف يجوز للإنسان المريض أن يفرّ من الطبيب ، وللغارق في الظلمات أن يتهرب من النور ، وللغريق أن يتملّص من المنقذ له؟ إنّه أمر محيرٌ حقّاً ، ولكن العناد واللجاج والاستكبار يقف وراء الكثير من هذا القبيل من السلوكيات الغارقة في الوهم والزيف.

ولا نجد أحداً من الأنبياء (عليهم ‌السلام) دعا قومه كما دعا نوح (عليه‌ السلام) إذ عمّر فيهم 950 سنةً وأكّد عليهم دعوته الإلهية مراراً وتكراراً ، وعبارة «الليل والنهار» يمكن أن تكون إشارة إلى مجالسهم العمومية التي كانوا يجلسون فيها بالليل والنهار ، فكان يدعوهم إلى الله تعالى في كل وقت ، ولم يؤمن له إلّا قليل ، وعلى حد تعبير البعض أنّ معدل من كان يؤمن به من قومه فرد واحد لكل اثني عشرة سنةً.

تعبير : (جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) ، هو وضع رؤوس الأصابع في الآذان لمنع السماع ، أو هو إشارة لشدّة موقفهم في الهروب من الحق ، وكأنّهم كانوا يريدون أن يدخلوا أصابعهم كلها في الآذان حتى لا يسمعوا الحق.

تعبير : (فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً) ، يبين أنّ دعوة نوح النبي (عليه‌ السلام) كانت لها نتيجةً عكسية عندهم ، نعم فإن المشاكسين والمستكبرين يصرون على أفعالهم عند سماعهم للحق ، ومثلهم كمثل المزابل عند هطول المطر عليها حيث تزداد عفونة وتشتد رائحتها النتنة.

«الآية الخامسة» تشير إلى عناد قوم ابراهيم (عليه‌ السلام) من عبدة الأوثان في بابل بعد ما أثبت لهم ابراهيم (عليه‌ السلام) بدليل قاطع زيف آلهتهم ، فحطّم الأصنام كلها إلّا كبيرهم وطلب منهم أن يسألوا الكبير عمّن فعل بآلهتهم تلك الفعلة الشنيعة؟؟

لقد تنبهوا للأمر في واقعهم ولاموا أنفسهم واستيقظوا للحظة ، ولو قدّر أن تستمر هذهِ اللحظة لتغير موقفهم من الشرك إلى الإيمان ، ولكن عنادهم ولجاجتهم وتعصبهم لم يمنحهم الفرصة للتفكير السليم وتقول الآية : (ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ).

فقال إبراهيم (عليه‌ السلام) : (أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ).

إذا تجرّد الإنسان من تعصبه وعناده ، ورأى بأمِّ عينيه أنّ الذي كان يعوّل عليه دائماً في المحن والصعاب ، أصبح لا قيمة له اليوم وتبيّن زيفه بحيث لا يستطيع معرفة من عمل على تخريبه وتحطيمه ، أليس من الجدير بذلك الشخص أن يستيقظ من نومته تلك ويتحرّك بعيداً عن تلك السلوكيات الغارقة في الزيف ويتجنب هذهِ الخرافات والاعتقادات السخيفة ويطهر فكره منها؟!

نعم فإن التعصب واللجاج يضع حجاباً قوياً على عين وقلب الإنسان فينكر اوضح المسائل.

واللطيف في الأمر أنّ الآية الاولى ذكرت : (فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ) وهو تعبير حاكي عن الاستيقاظ والانتباه ، ولكن الآية الثانية تقول : (ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُوسِهِمْ) وهو تعبير عن تراجع من موقع الوضوح في الرؤية وبدوافع جاهلية وغير منطقية مترسبة في دوافع النفس.

«الآية السادسة» ، تستعرض عناد بني اسرائيل الذي يضرب به المثل ففي ، هذه الآية وما قبلها اشارة إلى قصة القتل المُبهم الذي وقع في قوم بني اسرائيل ، وكاد أن يفضي إلى اقتتال الطوائف فيما بينها.

فقال موسى (عليه‌ السلام) : بأمرٍ من الله سوف نعرّف القاتل ، فاذبحوا بقرة ولامسوا بقسم من بدنها ببدن المقتول ، فسيقول لكم من هو القاتل.

حيّر هذا الاقتراح العجيب بني اسرائيل ، ولكنه في نفس الوقت بعث الأمل في نفوسهم ، وحان الوقت لتنفيذ أوامر النبي موسى (عليه‌ السلام) وانهاء المسألة ، ولكن بني اسرائيل وبصورة غريبة أخذوا يستشكلون ويتساءلون من موقع العناد وعدم الرغبة في الامتثال ، فمرّة يسألون عن عمرها ومرّة عن لونها واخرى عن نوعها وعملها ، فبأسالتهم تلك ضيّقوا فرصة العثور على مثل هذهِ البقرة لحظة بعد لحظة وبالتالي وبعد عناد كبير وسعرٍ خيالي وجدوا البقرة بتلك الأوصاف المطلوبة ، ولو أنّهم لم يسألوا ولم يستشكلوا وذبحوا أول بقرة وقعت في أيديهم ، لأنحلت المشكلة ، لأنّه لو كان (المأمور به) مشروطاً بشرائط معينة لوجب البيان في مقام الحاجة ، وكما يقول الاصوليون : «أن تأخير البيان عن وقت الحاجة قبيحٌ». وفي الحقيقة إنّ هذهِ الأسئلة والتدقيق في المسألة يدلّ على عدم إيمانهم بحكمة الله تعالى ، والحكيم لا بدّ وأن يبيّن كل ما هو لازم وضروري من الشرائط والقيود ، ولا يحتاج للسؤال ، ويمكن أن يكون قصدهم من ذلك هو عدم وجود تلك البقرة حتى يستمروا بمغامراتهم التي يتحرّكون من خلالها في دائرة العناد دوماً في مقابل الامتثال للحق ، فقال القرآن الكريم : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ، قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ).

فتبيّن هذهِ الآيات مدى النزاع الذي حصل بين بني اسرائيل لمعرفة القاتل ، وعلى ذلك كان يتوجب عليهم تنفيذ أوامر موسى (عليه‌ السلام) بسرعة ليجدوا القاتل ، ولكن اللّجاج الذي دخل فيه بنو اسرائيل لم يعطهم الفرصة لإنهاء الأمر فسألوا وسألوا حتى صعّب عليهم الباري تعالى الأمر فأصبح البحث عن تلك البقرة أمراً مستعصياً جداً ، فهي بقرة ، صفراء بالكامل تسرُّ الناظرين ، لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك ، ولا ذلول وتثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلّمةً لا شيَةَ فيها ، فمن البديهي عدم توفّر مثل هذه الأوصاف في بقرة واحدة إلّا بصعوبةٍ ، ولكن كان عليهم أن يدفعوا ثمن لجاجهم وعنادهم ، فاضطروا لشرائها بثمنٍ باهظ جدّاً ، فذبحوها وضربوا بعضها ببدن الميت فعادت الحياة إليه بإذن الله ودلّهم على قاتله.

«الآية السابعة» أيضاً تتحدث عن بني اسرائيل وعنادهم العجيب حيث أخذوا بأطراف موسى (عليه‌ السلام) وطلبوا من نبيّهم المحال وقالوا : (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً).

الظاهر أنّهم كانوا يعلمون أنّ الله تعالى ليس بجسمٍ ولا جهة له ولا مكان ، ولكن كلامهم كان بسبب طغيانهم وعتوّهم ، ومن أجل أن يبيّن الله تعالى جيداً مسألة استحالة رؤيته ، ولتأديب اولئك القوم المعاندين أمر بسبعين من رؤسائهم أن يخرجوا مع موسى (عليه‌ السلام) للميعاد في جبل الطور ، ليتلقوا الجواب على سؤالهم العجيب هناك وينقلوا ما سيشاهدوه لقومهم ، وعند وصولهم لجبل الطور ، سأل موسى (عليه‌ السلام) بالنّيابة عنهم أن يتجلّى الله تعالى لهم جهرةً ، فقال : (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي) ، فأخرج هذه الفكرة من رأسك الى الأبد.

فصعقت صعقة شديدة ملأت الكون ، وزلزل الجبل وتلاشى ، ومات ال 70 نفر إلّا موسى (عليه‌ السلام) فقد فَقَدَ الوعي كما ذكر القرآن في ذيل الآية : (فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ).

وعند ما استيقظ موسى (عليه‌ السلام) ، طلب من الباري تعالى إعادة الحياة إليهم ، لئلا تعود المشاكل بينه وبين بني اسرائيل : (قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا) واستجاب الله دعاءه وأعادهم للحياة كما صرّح بها القرآن الكريم فيما بعدها من الآيات (ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).

ويتبيّن ممّا ذكر آنفاً أنّ موسى (عليه‌ السلام) لم يطلب هذا الأمر من تلقاء نفسه ، ولكن نزولاً عند رغبة بني اسرائيل ، حتى يُلَقّنوا درساً عملياً ويفهموا ان الذي لا يستطيع أن يشاهد الصاعقة كيف يمكن له أن يرى الباري تعالى شأنه؟

وهو أيضاً عقاباً وتأديباً لهم حتى لا يطلبوا اموراً مستحيلةً.

«الآية الثامنة» من الآيات التي وردت في مقام الحديث عن عناد بني اسرائيل بعد ما نصرهم الله على عدوّهم وخلّصهم من شر فرعون وجنوده حيث توجهوا نحو الديار المقدسة يعني بيت المقدس ، التي كانوا يتمنون الوصول إليها ، وعند ما وصلوا على مقربة من الأرض المقدّسة جاءهم الأمر أن ادخلوا هذهِ الأرض ولا تخافوا ممّا سيحدث فيها ، ولكنّهم قالوا لموسى (عليه‌ السلام) : إنّ فيها اناس يسمّون (بالعمالقة) أشداء أقوياء ولن ندخلها حتى يخرجوا منها. فقال لهم بعض المؤمنين من موقع النصيحة والمسئولية بأنّكم إذا دخلتم الباب عليهم فسينصركم الله على العمالقة بفضله وعنايته.

ولكن بني اسرائيل ظلّوا على غيّهم وكما جاء في الآية الكريمة (قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ).

وهنا أيضاً ذاق بنو اسرائيل طعم عنادهم ولجاجتهم ، فأخذ الله تعالى النصر عنهم ودخول بيت المقدس أربعين سنةً ، وتاهوا في الصحاري القريبة منها ، فسمّوا تلك الصحاري بأرض «التيه» التي كانت قسماً من صحاري (سيناء).

والمسألة المهمّة والتي يجب الإشارة اليها هو أن الّلجاج وعدم الانصياع يفضي إلى التعامل مع الباري تعالى من موقع الاهانة والاستهزاء ، حيث قالوا : (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) ، فالإهانة والاستهزاء في هذا الكلام يتجليان بكل وضوح ، ولكن الجاهل والأناني واللجوج لا يعرف منطق أفضل من هذا.

والواقع أنّ التيه أربعين سنة في تلك الصحاري ، كان حكمة ورحمة إلهية ، وبهدف تغيير النسل الذي نشأ في مصر ، والذي لم يستطع عمل موسى (عليه‌ السلام) الثّقافي والفكري الدؤوب أن يغيّر فيه الكثير ، فجاء نسل جديد نشأ في الصحراء وفي وسط المشكلات فحصلت فيه التغييرات الداخلية اللازمة لتحرير الديار المقدسة من الاعداء وإقامة الحكومة الإلهية ، وفي الحقيقة أن هذهِ العقوبة كانت في الواقع رحمة ربانية ولطف إلهي ، وأكثر العقوبات الإلهية هي من هذا القبيل.

في «الآية التاسعة» من الآيات نقرأ حديثاً عن قوم فرعون الذين آتاهم الله تعالى «بتسع آيات» ([12]) إلهية على مستوى الاعجاز ، ولم يكونوا بأقل عنادٍ واصرار على الانحراف من بني اسرائيل حتى أنّهم قالوا لموسى (وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ* فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ).

تعبيرات الآية واضحة جدّاً ، فكلها تبيّن وتعكس العناد الذي كانوا عليه ، فأولها نعتوا موسى (عليه‌ السلام) بالساحر ومع ذلك يلجئون إليه لكي يخلصهم من البلاء ، وتعبير «ربّك» علامة اخرَى على العناد. وتأكيدهم على الإيمان بموسى (عليه‌ السلام) على فرض انقاذهم من البلاء واضح من كلمة (إننا لمهتدون) وتعبير (ينكثون) التي وردت بصورة الفعل المضارع تبيّن أنّهم أبرموا العهود ونقضوها مرّات عديدة ، وهو دليل على عنادهم أيضاً.

وبالتالي فانّهم ذاقوا عقاب عنادهم ولجاجتهم ، حيث اغرقهم الباري تعالى بجميع عدّتهم وعددهم ورؤسائهم في اليمِ ([13]).

«الآية العاشرة» والأخيرة من هذه الآيات ، ناظرة لعناد المشركين العرب حيث كانوا يصرّون على عنادهم ويتهربون من قبول دعوة الرسول (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) والتي كانت مدعمة بالآيات والمعجزات ، ولو كان عندهم ذرّة من روح الحب للحقيقة ، لقبِلوا احدى تلك المعجزات الكبيرة التي اتَى بها الرسول الاعظم (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) ومن جملتها القرآن الكريم المعجزة الخالدة للرسول الكريم (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) ، ولكنهم كانوا في كل يوم يطلبون معجزةً جديدة ، ومع ذلك لا يؤمنون بها أيضاً ، إلى أن وصلوا إلى أقصى درجات اللجاجة والعناد ، (أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ).

هذا الكلام هو دليل واضح على التعامل مع الموقف من موقع العناد ، وفيه أيضاً نقطة مهمّة ، ألا وهي أنّهم كانوا يتصوّرون أنّ النبي الأكرم (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) يقول : إني افعل ما اشاء ومتسلط على جميع الكون ، لكنّ الحقيقة أنّ المعجزات دائماً تتحقق بأمرٍ إلهي وكيفما يشاء الباري تعالى ، لذا نقرأ في آخر الآيات : (قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً).

ويذكر في شأن النزول أنّ قوماً من مشركي مكّة وعلى رأسهم (الوليد بن المغيرة وابو جهل) اجتمعوا عند الكعبة الشريفة وأخذوا يتحدثون عن النبي وكيفية مواجهته ، وبالتالي قرّروا أن يذهب أحدهم إلى رسول الله (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) ، ويقترح عليه أن يتوجّه إليهم يكلمهم ويكلمونه حول الدين الجديد ، فأسرع إليهم الرسول على أمل قبولهم للحق ، لكنّه سمع الكلام الآنف الذكر ، بالإضافة إلى مجابهتهم له بامور واهية ومهينةً اخرَى.

ومن المؤكد أنّهم لو كانوا يطلبون الحق ويريدونه ، لتوجب على الرسول الأعظم (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) النزول عند رغبتهم ، أو على الأقل تنفيذ إحدى المعجزات ، ولكنهم طالما شاهدوا المعجزات من الرسول الأكرم (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) لم يذعنوا للحق ، اضافة إلى أنّهم بطلبهم هذا اعترفوا إنّهم لن يؤمنوا لرقيّ الرسول الأعظم (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) في السماء أمام أعينهم حتى ينزل عليهم كتاباً من السماء ليقرؤوه ، ولو نزل الرسول (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) عند رغبتهم وآتاهم بالمعجزة هذه لما آمنوا ، لأنّ سابقة عنادهم ومواقفهم السلبية من الدعوة هي أفضل دليل ، فعند ما كانوا يشاهدون المعاجز الباهرة ، يقولون هذا من السحر وإنّ الرجل لساحر ، وهكذا يجهضون أي أثر للمعجزات في وعيهم بتعاملهم معها بلغة الاتهام الذي ينطلق من موقع العناد.

فتبيّن من مجموع الآيات الآنفة الذكر أنّ مسألة اللّجاج والعناد على مرّ العصور وتاريخ البشر كانت ولا تزال من أهم الموانع في طريق الحق ، حيث كان وجود هذه الحالة النفسية السلبية يمثل مشكلة عويصة تمتد في أعماق نفوس المشركين في الأقوام السابقة ، وعليه فلو تحرك الإنسان في عملية الوصول إلى الحق والحقيقة فعليه أن يزيل هذه الصفة الذميمة من محتواه الداخلي ويتخلص منها.

اللجاج والمماراة في الروايات الإسلامية :

أشرنا فيما تقدم إلى الأبحاث المتعلقة بالتعصب واللجاج ، وأوضحنا ما يترتب على هذه الحالة الأخلاقية من خلال الآيات الكريمة ، من العواقب الوخيمة الناشئة من التعصب والتقليد الأعمى ، أمّا في هذا البحث فسنتكلم عن المماراة واللجاج في دائرة الجدل ، أو بتعبير آخر التمسك بمسألة خاطئة لا للتعصب القومي الاعمى ، ولكن بسبب تجذّر العناد الطفولي في النفس والذي قد نشاهده في بعض الأفراد ، فلا يسلّمون للحق بل يريدون التهرب منه.

وكما رأينا في الآيات السابقة فان هذهِ الرذيلة الأخلاقية أحرقت فرص السعادة والحياة الكريمة لكثير من الأقوام. فوقعوا في مستنقع البؤس والرذيلة ، ونرى في الأحاديث الإسلامية ابحاث موسّعة حول هذا الموضوع :

1 ـ في حديث عن الرسول الكريم (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) : «الخَيرُ عادَةٌ وَالشَّرُّ لَجاجةٌ» ([14]).

2 ـ في حديث عن أمير المؤمنين (عليه‌ السلام) قال : «إِيَّاكَ وَمَذمُومَ اللَّجاجِ فإنّهُ يُثِيرُ الحُرُوبَ» ([15]).

فتعبير اللجاج المذموم يعني أنّ الإنسان ربّما يصرّ على امور الخير وبصورةٍ منطقية فهو بلا شك أمر محمود ورمز للموفقيّة. ولكن الاصرار على اللجاج المذموم ، هو سبب لاستفزاز الآخرين ، والمداومة عليه يؤدي إلى التعامل مع الآخرين من موقع العقدة والخصومة وإثارة الحروب وسفك الدماء.

3 ـ في حديث آخر عن الإمام علي (عليه‌ السلام) : «جِماعُ الشَّرِّ اللَّجاجُ وَكَثرَةُ المُمارَاةِ» ([16]).

وفي الواقع أنّ كثيراً من المشكلات والمصائب الاجتماعية لا مصدر لها إلّا هذه الامور ، فيقوم البعض بمناقشة الامور بدافع البحث والجدال والمماراة ، ويقوم البعض الآخر ونتيجةً للجهل بالردّ عليهم من هذا المنطلق نفسه ، فينشأ النزاع والصداع دون أن يكون لهم هدف معين على مستوى الكشف عن الحقيقة وتحصيل الواقع ، ولو أنّهم سلكوا طريق العقل والتدبر ، لاستطاعوا القضاء على كثير من المفاسد الاجتماعية من خلال الحوار المشترك الذي ينطلق من دوافع إنسانية في واقع الإنسان والحياة.

4 ـ وفي حديث آخر عن نفس الإمام الهمام (عليه‌ السلام) : «خَيرُ الأخلاقِ أَبعَدُها عَنِ اللَّجاجِ» ([17]).

يستفاد من هذا التعبير أنّ روح اللجاج والمماراة لها علاقة وثيقة بجميع الصفات الرذيلة ، فإمّا أن يتأثر بها أو يؤثر بواسطتها.

5 ـ ونقل عنه (عليه‌ السلام) أيضاً : «لا مَرْكَبَ أجمَحَ مِنَ اللَّجاجِ» ([18]).

ويستفاد من هذا الحديث ، أنّ اللجاج يؤدي بصاحبه إلى منزلقات سحيقةٍ في حركة الواقع الأخلاقي للإنسان ، فمرة يجرّه الى الكذب ، واخرى إلى التكبر ، وثالثة إلى الخداع والحيلة ، ورابعة إلى الحرب والجدال كما جاء في الروايات السابقة.

6 ـ جاء في حديث عن الإمام الصادق (عليه‌ السلام) ، أنّ موسى بن عمران (عليه‌ السلام) عند ما أراد أن يترك استاذه الخضر (عليه‌ السلام) ، طلب منه النصيحة والموعظة ، فقال له : «إِيَّاكَ وَاللَّجاجَةَ أوْ تَمشِي فِي غَيرِ حاجَةٍ أَو تَضْحكَ مِنْ غَيرِ عَجبٍ وَاذكُرْ خَطِيئَتَكَ وَإِيَّاكَ وَخَطايا الناسِ» ([19]).

في هذا الحديث وضع اللجاج موضع من يمشي بلا هدف والتدخل بما لا يعني الإنسان ، وهو دليل على أنّ اللجوج لا يتبع العقل والمنطق بتاتاً.

7 ـ ونختم هذا البحث بحديث آخر عن أمير المؤمنين (عليه‌ السلام) حيث قال : «مَن لَجَّ وَتَمادى فَهُوَ رَاكِسٌ الَّذِي رانَ اللهُ عَلَى قَلبِهِ وَصارَتْ دَائِرَةُ السُّوءَ عَلَى رَأسِهِ» ([20]).

وعلى أيّة حال فان الأحاديث في ذم هذه الرذيلة كثيرة جدّاً.

والأحاديث التي أوردناها هي غيض من فيض ، وهي تبيّن أنّ هذهِ الرذيلة لا تسلك بصاحبها سوى سبيل البؤس والدمار وتبعده من الحق وتقربه من الباطل ، وتكون عاقبته أليمة وموحشة.

دوافع وعواقب اللجاج والمماراة :

من المعلوم أنّ هذه الصفة الأخلاقية هي من أخلاق الصبيّان ، ولكنها قبل كل شيء تنشأ من الجهل وقصر النظر ، فذوا العقول يتحرّكون في حركة الواقع من خلال التدبّر والتفكر الذي ينطلق من موقع المنطق والدليل ، فإذا ما ثبت لهم بالبرهان المنطقي ، أنّ أمراً ما لا يتوافق مع الحقيقة فسرعان ما يتركونه ويقلعون عنه رغم اعتقادهم به لسنوات متمادية.

ولكن الأفراد الجهّال والقصيري النظر لا يقلعون عن شيء يعتقدون به ويمثل لديهم مفردة على مستوى المعتقد والدين ، ولا يفيد معهم الدليل ولا المنطق.

ومن الأسباب الاخرى لتكريس حالة اللجاج والعناد هو مواجهة الشخص الذي ارتكب مخالفة معينة باللّوم المفرط والتقريع الزائد عن الحدّ وأمام الملأ العام ، فانّ ذلك من شأنه أن يدفعه نحو الاصرار والعناد لإثبات أنّه ليس على خطأ ويتحرّك في مواجهة الآخرين من خلال التمسك برأيه ، وبالتدريج يعتقد أنّه على صواب ويبقى على ما هو عليه ، والعكس صحيح فإذا ما عومل بلطف ولين ومحبّةٍ فسيرتدع ويعود إلى رشده.

ولذلك نقرأ في حديث عن أمير المؤمنين (عليه‌ السلام) : «الإِفراطُ فِي المَلامَةِ يَشُّبُ نِيرانُ اللَّجاجَةِ» ([21]).

العامل الثالث لظهور هذه الصفة : هو احساس الإنسان بالحقارة والدونية ، فعقدة الحقارة تمنع الأفراد من الاستماع والانصياع للآخرين توكيداً لشخصيتهم ، فلا يقبلون الكلام المنطقي ويصرّون على سلوكهم وعملهم الباطل.

أما الأفراد الذين لا يعيشون هذه العقدة ويمتازون بشخصية قوية ، فلا حاجة لهم إلى هذا السلوك الباطل وسرعان ما يسلّمون للبرهان والمنطق السليم ولا يجدون في أنفسهم حاجة للإصرار على أفعالهم الخاطئة.

ضعف الإرادة واهتزاز الشخصية يمكن اعتباره عامل رابع للّجاج ، ومن البديهي أنّ إقلاع الشخص من عادة تعودها لمدّة طويلة ليس بالأمر السهل ، والاعتراف بالخطأ ليس بالأمر الهيّن أيضاً ، ويحتاج إلى قوة الإرادة والشجاعة ، والأشخاص الذين يعيشون الحرمان من تلك الفضيلتين سيجدون في أنفسهم دوافع لا شعورية لسلوك طريق العناد واللجاج.

«حبّ الراحة» يمكن أن يكون العامل الخامس ، لأن ترك المسير الذي سار عليه الإنسان ولمدّة طويلة ليس بالأمر السهل ، وخصوصاً لدى الشخص المنعّم والمحبّ للراحة. ومن اليقين أنّ التحرك على خلاف حالة الاسترخاء الفكري والكسل النفسي لا يلائم مذاقهم.

فهذه من العوامل التي يمكن الإشارة إليها في دائرة اللجاج والمماراة.

وأمّا آثارها السلبيّة فليست خافيةً على أحد ، فهي تورط الإنسان في مشاكل بعيدة عنه كل البعد ، كما تورط بنو اسرائيل بالبقرة من خلال البحث عن التفاصيل الدقيقة في دائرة الطاعة وامتثال الأمر ، وما ترتب من صعوبة البحث عنها وثمنها الباهض ، فقد جاء في الحديث أنّهم جمعوا أموالهم كلها لشرائها ، وبعدها جاؤوا لموسى (عليه‌ السلام) يبكون ويشتكون بأننا قد أفلسنا وافتقرت قبيلتنا وأصبحنا نستعطي من الناس بسبب العناد ، فَرَقَّ لهم النبي موسى (عليه‌ السلام) وعلّمهم دعاءً يعينهم على مشاكلهم ([22]).

ومن افرازات هذه الرذيلة ومردوداتها السلبية على النفس هو الحرمان من فهم الحقائق التي تتولى تهيئة الأرضية لتكامل الإنسان ، لأنّ اللجاج لا يعطي الفرصة للإنسان لإصلاح الخطأ والإذعان للحقائق ، وعلى أثرها لا يستطيع التقدم والرقي في درجات الكمال.

والأثر الثالث لهذا الخلق الرديء ، هو العزلة الاجتماعية وابتعاد الناس عن الشخص الذي يعيش حالة العناد ، فالناس عموماً لا يحبّون اللجوج وينفرون منه ، وليس لديهم استعداد للتعاون معه والدخول معه في أجواء حقيقية من التكافل الاجتماعي ، لأنّ التعاون الاجتماعي يحتاج للمرونة والسماحة وغض النظر ، وهي أمور لا تتوفر في اللجوج.

وفوق هذا وذاك فمثل هؤلاء الأشخاص المغرورين ينعتون بالجهل وخفّة العقل في المجتمع ، ونفس سوء السمعة هذهِ يكون سبباً في عزلتهم وانزوائهم ، كما هو معروف في حديث دعائم الكفر عن الإمام علي (عليه‌ السلام) حيث قال : «وَمَنْ نازَعَ فِي الرَّأي وَخاصَمَ شَهُرَ بِالمَثلِ (بالفشل) مِنْ طُولَ اللِّجاجِ» ([23]).

وخلاصة القول أنّ اللجاج والمماراة يبعد الإنسان عن الله والناس ، بل حتى عن نفسه ، ولن تصبح للإنسان مكانةً بين الناس إلّا بترك هذا الخلق السيّء.

الفرق بين الاستقامة واللجاج :

إذا ما اختار الإنسان طريق الخير ومسير الحق وثبت عليه ، فيكون قد عَمِل بأفضل

الامور وهي بعينها فضيلة الصبر والاستقامة والتي تحدثنا عنها سابقاً ، وإذا ما اختار الإنسان طريق الباطل وسبيل الانحراف مع عدم المرونة للتغيير بحيث إنّه يعتبر الجميع على خطأ وهو وحده الصحيح ، ولا يتحرّك في سبيل تصحيح الخطأ وجبران الزيغ ، فيكون قد اختار طريق الّلجاج ، وهو من أسوأ الأخلاق.

طريقة العلاج :

بصورة عامّة وكما هو معلوم فإنّ طريق العلاج للإمراض الأخلاقية يتمثل في أمرين :

«الأول» : الطريق العلمي وذلك من خلال تحليل عواقب تلك الرذيلة الأخلاقية ، ومن هذا الطرق يمكن للشخص أن يعرف آثارها السلبية ، ويعلم أنّها ستبعده من الله تعالى والناس وتقف عقبة في طريق تكامله وتمنعه من إدراك الحقائق وتعزله عن الناس ، وتضع الحجب على القلب ، وحينئذٍ يتحرّك هذا الإنسان من موقع الابتعاد عن هذه الرذيلة ويقلع جذورها من نفسه.

اللجاج والمماراة لا ينسجم مع الإيمان كما قال الإمام الصادق (عليه‌ السلام) : «سِتَّةٌ لا تَكُونُ فِي المُؤمُنِ قِيلَ وَما هِي؟ قَالَ العُسرُ وَالنَّكدُ وَاللّجاجَةُ وَالكِذبُ وَالحَسَدُ وَالبَغي» ([24]).

و «الطريق الآخر» لمحاربة تلك الرذيلة هو الحلّ العملي والتصدي لها في ميدان الممارسة والعمل ، فعند ما يرى نفسه قد توفّرت على عناصر ومقدمات ظهور الرذيلة في دائرة الحوار والنقاش ، فعليه أن يُسلّم فوراً للحق ويشكر المتحدث ، وإذا ما عاند وشاكس فليعتذر ، ولا يعيد الكلام من لجاجةٍ أبداً ، وإذا ما تكلم سهواً فليسكت ويستعذ بالله من الشيطان الرجيم ، وبتكرار هذا البرنامج العملي ستنكسر حدة اللجاج في نفسه وتندثر.

ثم عليه أن يبتعد عن الأفراد اللّجوجين ، ولا يترك الجدال والبحث أو المِراء ، وليقرأ عن العظماء كيف كانوا يقبلون الحق ولو من الصغير أو العبيد أو تلامذتهم ، ويجلّوهم ويحترمونهم لأنّهم قالوا الحق.

وبما أنّ من آثارها المباشرة هو الرياء والجهل فكلّما استطاع الإنسان أن يكسِر شوكة هاتين الصفتين في نفسه فستقل لجاجته ، وليتذكر حالات الأقوام السابقة وكفرهم ومقابلتهم للأنبياء واختيارهم الكفر على الإيمان واستحقاقهم العذاب الإلهي لا لشيء إلّا لأنّهم لجّوا في باطلهم وأصروا على زيفهم ، ولئلا يصاب بما أصاب اولئك القوم من قبل ، وكيف أن بني اسرائيل باعوا كل ما لديهم ليشتروا تلك البقرة بحيث أفضى بهم إلى الاستجداء وذهبوا لموسى (عليه‌ السلام) ليساعدهم في التخلص من هذه الورطة ، فعلمهم دعاء يعينهم على دنياهم ([25]) ، وكل ذلك كان بسبب لجّتهم وعنادهم.


[1] سورة المؤمنون ، الآية 75.

[2] سورة الملك ، الآية 21.

[3] سورة الاعراف ، الآية 14 ـ 16.

[4] سورة نوح ، الآية 5 ـ 7.

[5] سورة الأنبياء ، الآية 64 ـ 68.

[6] سورة البقرة ، الآية 67 ـ 71.

[7] سورة البقرة ، الآية 55 ـ 56.

[8] سورة المائدة ، الآية 23.

[9] سورة الزخرف ، الآية 49 و 50.

[10] سورة الاسراء ، الآية 93.

[11] روح البيان ، ج 6 ، ص 98.

[12] سورة الاسراء ، الآية 101.

[13] نظير هذه التعبيرات وبشرح اكبر جاء في سورة الاعراف في الآيات 131 ـ 135.

[14] سنن ابن ماجه ، ح 221 ؛ ميزان الحكمة ، ح 18114.

[15] غرر الحكم.

[16] المصدر السابق.

[17] المصدر السابق.

[18] المصدر السابق.

[19] سفينة البحار ، مادة لجّ.

[20] نهج البلاغة ، الرسالة 58.

[21] بحار الانوار ، ج 74 ، ص 212.

[22] بحار الانوار ، ج 13 ، ص 272.

[23] بحار الانوار ، ج 69 ، ص 119.

[24] بحار الانوار ، ج 64 ، ص 301 ، ح 29.

[25] بحار الانوار ، ج 13 ، ص 272.




جمع فضيلة والفضيلة امر حسن استحسنه العقل السليم على نظر الشارع المقدس من الدين والخلق ، فالفضائل هي كل درجة او مقام في الدين او الخلق او السلوك العلمي او العملي اتصف به صاحبها .
فالتحلي بالفضائل يعتبر سمة من سمات المؤمنين الموقنين الذين يسعون الى الكمال في الحياة الدنيا ليكونوا من الذين رضي الله عنهم ، فالتحلي بفضائل الاخلاق أمراً ميسورا للكثير من المؤمنين الذين يدأبون على ترويض انفسهم وابعادها عن مواطن الشبهة والرذيلة .
وكثيرة هي الفضائل منها: الصبر والشجاعة والعفة و الكرم والجود والعفو و الشكر و الورع وحسن الخلق و بر الوالدين و صلة الرحم و حسن الظن و الطهارة و الضيافةو الزهد وغيرها الكثير من الفضائل الموصلة الى جنان الله تعالى ورضوانه.





تعني الخصال الذميمة وهي تقابل الفضائل وهي عبارة عن هيأة نفسانية تصدر عنها الافعال القبيحة في سهولة ويسر وقيل هي ميل مكتسب من تكرار افعال يأباها القانون الاخلاقي والضمير فهي عادة فعل الشيء او هي عادة سيئة تميل للجبن والتردد والافراط والكذب والشح .
فيجب الابتعاد و التخلي عنها لما تحمله من مساوئ وآهات تودي بحاملها الى الابتعاد عن الله تعالى كما ان المتصف بها يخرج من دائرة الرحمة الالهية ويدخل الى دائرة الغفلة الشيطانية. والرذائل كثيرة منها : البخل و الحسد والرياء و الغيبة و النميمة والجبن و الجهل و الطمع و الشره و القسوة و الكبر و الكذب و السباب و الشماتة , وغيرها الكثير من الرذائل التي نهى الشارع المقدس عنها وذم المتصف بها .






هي ما تأخذ بها نفسك من محمود الخصال وحميد الفعال ، وهي حفظ الإنسان وضبط أعضائه وجوارحه وأقواله وأفعاله عن جميع انواع الخطأ والسوء وهي ملكة تعصم عما يُشين ، ورياضة النفس بالتعليم والتهذيب على ما ينبغي واستعمال ما يحمد قولاً وفعلاً والأخذ بمكارم الاخلاق والوقوف مع المستحسنات وحقيقة الأدب استعمال الخُلق الجميل ولهذا كان الأدب استخراجًا لما في الطبيعة من الكمال من القول إلى الفعل وقيل : هو عبارة عن معرفة ما يحترز به عن جميع أنواع الخطأ.
وورد عن ابن مسعود قوله : إنَّ هذا القرآن مأدبة الله تعالى ؛ فتعلموا من مأدبته ، فالقرآن هو منبع الفضائل والآداب المحمودة.