أقرأ أيضاً
التاريخ: 2-2-2017
1939
التاريخ: 2024-01-23
1053
التاريخ: 2024-01-16
916
التاريخ: 22-1-2017
2231
|
إن الأمم المتمدنة في يومنا هذا تستعمل ثلاث طرق للمواصلات؛ بلوغًا لرقيها، وتسهيلًا لأشغالها، وترويجًا لتجارتها، وهي الطرق الواسعة، ومجاري المياه، وسكك الحديد؛ فالوسيلة الأولى وإن كانت ساذجة في حد ذاتها إلا أن إدخالها في وسائل العمران كان من أجلِّ الأمور، بل اكتشافًا لا يقل شأنًا وخطورةً عن سائر الاكتشافات؛ وذلك أن هذه المسالك عند اتساعها مَكَّنَت الناس من تسيير المركبات والعجلات عليها، فقَلَّ بذلك تسخير الإنسان لنقل الأثقال الباهظة. واليوم تؤدِّي هذه السبل في البلاد المتمدنة من الخِدَم ما لا يعوِّض عنها مُعَوِّض لو لم تكن أو لم تُفتح، ومع ذلك فقد توجد بلاد وهي محرومة من هذه النعمة العُظمى؛ ففي بلاد الصين مثلًا لا يوجد طُرق بالمعنى الذي نريده هنا، ومع وجود الجداول والترع عندهم ترى أغلب نقليَّاتهم تتمُّ على ظهور الناس. أما مجاري المياه فقد قال عنها بسكال: إنها طُرق سيارة تحملك إلى حيث تشاء، لكن — ويا للأسف — لا تعود بنا إلى حيث خرجنا، هذا فضلًا عن أن في ركوبها من المساوئ ما يُنقِص من محاسنها ويُقَلِّل اتخاذها؛ فبعض الأنهُر تطغى في بعض الأيام، وتطفح على ما جاورها من الأرضين، فهناك تكون البلايا والرَّزايا، وبعضها تنقُص كل النقصان في الوقت الذي يحتاج الإنسان إلى ركوبها لقضاء حاجات أسفاره، فيؤدي نقصانها إلى تعطيل المراكب وجنوحها أو نشوبها في الرمل. ومن الأنهُر ما تجمد في الشتاء، ومنها ما يكثُر فيها الصخور، أو تتكوَّم فيها الرمال، ومنها ما تتسلَّط عليها الشلَّالات أو مساقط المياه في مسيرها فتكون سببًا لهلاك كثيرين، ولو لم يُخترع البخار لكان العَوْدُ على متون تلك الأنهار من أعظم المتاعب والمصاعب؛ ولهذا فإن هذا الاكتشاف ضاعف منافعها عشرة أضعاف، ونحن في قولنا هذا لا نُبالغ البتة، على أن جميع الأنهار لا تسير عليها البواخر؛ فهناك بعض منها لا تُصعد إلا بجرِّ سُفنها، وفي البلاد المتمدنة يتولى جرها حُصُنٌ تسير على المسنيات المكينة البناء الموجودة على طول الشاطئ، وفي البلاد المتأخرة يجُرُّها الرجال وهم يسيرون على الجرف كما هو الأمر في العراق. ومع كل ذلك فإن في جرِّها هذا العنيف فوائد ما كنت تراها لولا إيَّاها. أما التُّرَع (وهي الجداول، أو الأنهُر التي شقَّتها أيدي الناس) فإنها تُجاري بمنافعها منافع الأنهر الطبيعية، وربما فاقتها في بعض الأحيان؛ لأنك لا ترى فيها ما يجعل السير فيها صعبًا أو مُهلكًا، ولا ينقص ماؤها إذا عرف المهندس خزن المياه إلى وقت الحاجة إليها. ومن مميزاتها أنك لا تجد فيها مجرًى قويًّا، فيمكن لراكبها صعودها ونزولها بدون كُلفة عظيمة. على أن فيها محاذير، من جملتها: أنه لم يُحافظ على حالتها التي وُضعت عليها، قد تُعاب في داخلها عيوبًا، تتحدَّر فيها المياه فتنشف فجأة، وتبقى المراكب على الرمل، وقد تجمد هذه الترع، أو قُل قد يتأخر انحلال جمدها لعدم وجود مجرًى قوي يُدفئ الماء فيحل جمدها، لكن هذا لا يأتي إلا في البلاد الباردة، وأما في البلاد المعتدلة الهواء فلا. ومن محاذيرها أن السير عليها يقف في حين تطهيرها أو كريها، وهذا لا يكون إلا مرة في ثلاث سنوات، فمنافعها إذًا أعظم من مساوئها. ومما يجدُر ذكره هنا ما فازته البلاد المتحدة في أميركة من النجاح الباهر بعد اتخاذها الترع في ديارها. وقد بدأ الأميركيون في بلاد نيويورك ليظهروا للأهالي — بل للعالم كله — منافع تلك القنوات؛ فمساحة سطح تلك البلاد تساوي ربع مساحة فرنسة، وكان فيها من السكان أقل من مليون، ففكَّر بعض الرجال من ذوي العزائم والهمم العَلِيَّة بأن يُنشئوا في تلك الأرجاء قنوات تُخدِّد وجهها حتى تكون كالشباك فيها، وكان فكرهم هذا في سنة 1810م، فبدءوا أعمالهم هذه بشق قناة تصل بحيرة «أرية» بنهر «هدسن» في ألباني، وطول خطها 142 فرسخًا؛ أي إنهم حفروا أعظم نهر وُجد على سطح الأرض مما حفره البشر، وكان بدء هذه الأعمال في 4 تموز سنة 1817، يوم ذكرى تحرير أميركة، وتمَّت في تشرين الأول من سنة 1826؛ أي بعد ثماني سنوات، ودونك الآن نتيجتها بعد 12 سنة وعاقبة تأثيرها على غلَّات البلاد. ففي سنة 1817 كانت تبلغ رءوس أموال تلك الغلات 16 مليون فرنك، فبلغت 118 مليونًا في سنة 1837. وفي هذه المدة نفسها قامت مدن جديدة جليلة الشأن على طول تلك القناة أو الترعة — دع عنك القُرى والدساكر التي أُنشئت أيضًا في الوقت المذكور — وكلها تدل على أن سكانها يتمتَّعُون بعيشةٍ هنيئة رغيدة. وقد قامت جمعيات لإنشاء ترع مهمة، منها شركة الترع الأربع، والترع الثلاث. ومن أشهر الترع وأعظمها شأنًا وفائدةً وخدمةً للبشرية «ترعة أو قناة السويس» التي وصلت بحر الروم أو البحر المتوسط بالبحر الأحمر، بسعي المهندس الفرنسوي الشهير المسيو دي لسبس، فكانت بابًا واسعًا لترويج التجارة ونشرها في أقطار الأرض، وتأتي بعدها في الشأن ترعة بنمة التي جمعت بين المحيطين الهادئ والأتلانتيكي، وكان الناس يظنون أن اختراع السكك الحديد يضر بحفر الترع، فجاء الأمر بعكس ما كان يُظَن؛ فإن النقل على السكك خُصَّ بالبضائع وبالأثقال الخفيفة، وأما الترع فاتُّخذت لنقل الأثقال الباهظة. على أن جميع وسائل النقل تتضاءل قدْرًا وشأنًا بجانب سكك الحديد، فإن لها المقام الأول بين أخواتها الأُخَر، ولا سيما لأنها لا تعرف تقلُّبات الجو ولا اختلاف الأهوية والفصول، ولا يهمها سقوط الثلج أو هبوب العواصف أو تدفُّق الأمطار؛ فهي تجري في وجهها مهما كانت عوامل الطبيعة، فإن قِدَد الحديد هذه الضيقة المصقولة التي تسير عليها عجلات القواطر يتيسر عليها النقل أكثر مما يتيسر على الطرق أو المسالك المألوفة. فلقد أثبت المحققون أن مقاومة طريق حسَن لقوة النقل هي بمثابة ثلاثة أو أربعة أجزاء من مائة جزء من الحِمل بأجمعه من باب المعدَّل، وأما على سكك الحديد فهي عشرة أضعاف أقل، فتأمَّل. على أن السكك المذكورة لا تستطيع أن تنقل مواد ثقيلة بقيمة زهيدة كما تفعله التُّرع، إلا أنها تفضُلها من جهة الجر؛ فإن البخار أهون مراسًا من الدواب في هذا الأمر، بل قد تتعب الحيوانات وتُنهك، وأما البخار فلا. وذِكْر محاسن هذه السكك مما يُطيل الكلام على غير جدوى في الوقت الذي قد عرف العام والخاص منافعها، فالأجدر بنا أن نتكلم عن هذه السكك في العراق. العراق هو من البلاد القديمة الحضارة — على ما تقدَّمت الإشارة إليه — إلا أن وقوعه في أيدي أُناس أصبحوا في أُخريات الأمم المتحضرة أضرَّ به أعظم الضرر، حتى إن أمم أفريقية المعروفة بالتوحُّش سارت في العصر الماضي سيرًا حثيثًا في العمران، وتمتعت بمحاسن وفوائد الرقي؛ لكون الذين قضَوا عليها كانوا من الأمم المتقدمة في العلوم والصنائع، فأفادوا تلك الأقوام فوائد لا تُنسى. ومن الغريب أن أمم الإفرنج كانت ترى بعين الكآبة والأسف أهل هذه الديار يهوون إلى هُوَّة الجهل والانحطاط، فكانوا يُحاولون نشلهم منها ويطلبون إلى الدولة التي ترعاهم أن تأذن لهم بإدخال أسباب الرقي في تلك الربوع القديمة الحضارة والتمدن، فكان أصحاب الأمر يمنعون إدخالها؛ خوفًا من أن ترتقي أهاليها، فتتخلَّص من ربقة الإذعان لسلاطين آل عُثمان، فبقيَت تتسكَّع في ظلمات الجهل والغباوة حتى دخل النور إليها من شقٍّ ضعيف رغمًا عن مُقَيِّديها بتلك السلاسل الثقيلة وإلقائها في ذلك المطبق (السجن المظلم) الهائل. دخل إليها النور من أنحاء الأستانة وأزمير وبيروت، فلم يمكن لأولياء السجن أن يُبقوا أولئك الأسرى في تلك الغياهب المدلهمة. دخل إليها النور على يد الأجانب الذين كانوا يُلِحُّون على أرباب الحل والعقد أن يُسرعوا إلى نفع الأهالي بمُمتعات التمدُّن العصري؛ إذ أغلب أولئك الأهالي يهجرون البلاد إلى غيرها من ديار الغُربة، فيطعنون بالحكومة التي قد قبضت عليهم بأيدٍ من حديد، بل هي أصلب وأقسى من الحديد، وحينئذٍ ينشأ في قلوب الرعية عداوة أو فكر لقلب الحكومة. وكان السلطان يُعلِّل الناس بمنْح ما يتوقون إليه، حتى وقع ما وقع من خلع عبد الحميد، وانتقال زمام الأمور إلى جمعية الاتحاد والترقي التي أخذت على نفسها رفع الناس من حالتهم إلى حالة أعلى، لكن على نظرها الذي ظهر فساده لعيني كل بصير. ولمَّا تربَّع عبد الحميد على أريكة السلطنة كانت السكة الحديدية معروفة في الروملي فقط، وفي الطريق المؤدية من حيدر باشا إلى أزميد، وبضع مئات من الكيلومترات في ولاية أزمير. ولما اضطرته الأحوال إلى تطويل تلك الخطوط، مدَّ خط أزمير إلى الأناضول، وعدة خطوط أخرى ذاهبة من سواحل بحر الروم إلى داخله، مثل خط مودانية إلى برصة، وخط بيروت إلى الشام، وخط يافا إلى القدس، ثم مدَّ خط الحجاز، فنشأ من هذه الخطوط كلها في العهد الحميدي ما هذا جدوله:
2000 كيلومتر |
في الحجاز |
2500 كيلومتر |
من خط بغداد |
3000 كيلومتر |
في الروملي والأناضول وسورية |
7500 كيلومتر |
هو المجموع، وهو شيء زهيد بالنظر إلى تلك البلاد الواسعة الأرجاء |
على أن الحكومة رأت فائدة تلك الخطوط، فأسرعت إلى تخويل امتيازات خط بغداد إلى الشركة الألمانية التي كانت قد طلبتها مع الضمانة الكيلومترية، فكانت من أضر الأضرار على البلاد، بينما أن شركات أخرى كانت قد طلبت تلك الامتيازات بدون الضمانة الكيلومترية. لكن ما العمل وكانت الأقدار قد ساقت تركية إلى البوار، وقد سلَّمَت نفسها إلى الألمان، ودفعت إليهم مقاليد أوامرها ونواهيها، فأخذوا يتصرفون في البلاد على ما يهوون ويشاءون، فكانت النتيجة ما رأيناه ونراه إلى يومنا هذا؟ وكأن الزمان قد ادَّخر تأخير مد سكك العراق إلى دولة لها فيها أعظم المنافع، ولسكان العراق بأجمعهم فوائد أعظم؛ فالهند من مستعمرات بريطانية العظمى، وديار مصر لاحقة بتلك الدولة الكبرى، وهي منفصلة عنهما ببحار بعيدة الأرجاء، إلا أن مراكبها الضخمة تصلها بهما وصالًا يكاد يكون شديدًا، لولا بين الهند ومصر حاجز هو من أمنع الموانع لربط مصر بالهند، بل قل لربط آسية بأوروبة؛ فلقد اتَّصلت بلاد الدنيا كلها بعضها ببعض، إلا الشرق الأقصى، فإنه بقي منفصلًا عن الشرق الأدنى وعن أوروبة، وما ذلك إلا من مقاومة تركية لروح العصر ونوره، فساقت الأقدار خروج هذه الديار من أيديها لتكون في أيدي دولة تُخرجها من ظلمات الجهل إلى أنوار العلم. وعلى ذلك سنرى عن قريب عصرًا جديدًا يُدخل الخطة العراقية في مصفِّ البلاد الراقية، وتكون عضوًا مُتصلًا بسائر أعضاء جسم العالم الكبير، فتحيا بحياته وتنمو بنمائه، وتسير سيرًا حثيثًا في الرُّقي والاعتلاء. إن ديار العراق سترى من الفَلَاح والنجاح ما لم تحلُم به في غابر الزمن، سترى جميع زُوَّار العجم يذهبون للحج بعد أداء فرائضهم الدينية في النجف وكربلاء، وبدلًا من أن يذهبوا على البحر فيصرفوا المبالغ الطائلة، سوف يركبون سكة الحديد من بغداد إلى مكة. وكذا القول عن الهنود، فإن أغلبهم سيحجُّون عن طريق دار السلام إذا ما رأوا سهولة السفر برًّا وتحقَّقوا منافعه، لا سيما إذا كانت عيالهم معهم. وهناك مندوحة عن الانتقال من جدة إلى مكة سيرًا في البر، ووقوعهم في أيدي أقوام البادية الذين كثيرًا ما يسلبون ما عليهم ويتركونهم عُراة لا يملكون إلا أنفسهم. وعلى كل حال: إن الهنود الأغنياء الذين يذهبون للحج عل طريق البحر يرجعون إلى ديارهم عن طريق البر، لا سيما إذا كانوا من الشيعة؛ ليتبرَّكوا بالبلدين المقدَّسين عندهم ويزوروهما بعد الحج المفروض، وبعد أن يكونوا قد مروا ببلاد الشام؛ إذ فيها مدافن كثير من الأنبياء والأولياء. فمما تقدَّم بسطُه نرى أن العراق قد أخذ ينفض الغبار القديم عن ثيابه، ذلك الغبار الذي قد علق بها منذ مئات من السنين، وأملنا أنه يُسرع حثيثًا في طريق النجاح بفضل مساعي الدولة التي وعدت أهاليه بكل خير، وبإنهاضه من كبوته في أقرب زمن.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|