أقرأ أيضاً
التاريخ: 6-12-2015
2049
التاريخ: 23-10-2014
2268
التاريخ: 2024-07-28
559
التاريخ: 2023-05-28
1032
|
إن استخدام القرآن لعبارة: {ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة:54] وكون ظلمهم يعود على أنفسهم وليس على الله هو أيضاً بلحاظ أن الله سبحانه وتعالى ليس بظالم ولا مظلوم؛ فهو ليس بظالم لان الظلم قبيح ولا يصدر القبيح من الله عز وجل: {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49] ، وهو ليس بمظلوم، إذ أنه القادر المطلق ولا سلطة لأحد عليه بتاتاً، بل: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام:18]، {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} [يوسف:21]، وَ {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة:21] وإن الموجود الذي غالب محض لن يكون مظلوماً أبداً، وإن من كان جميع من في جنده المنظمين: {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الفتح:4]، فإنه لن يقع عليه ظلم أي أحد على الإطلاق.
وقول موسى الكليم (عليه السلام) لقومه: توبوا الآن وعودوا إلى "بارئكم": {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ} [البقرة:54]
إن اختيار اسم "البارئ" من بين الأسماء الإلهية الحسنى، وذكره في الآية مورد البحث فيه إشارة إلى أنّ الله العليم القدير الحكيم الذي قدر المخلوقات على أساس خطة ونظام خاصين وجعل وجود كل منها منسجماً مع مصالح ذلك المخلوق ومقاصده الخاصة به هو الأجدر والأولى بالعبادة من البقرة والعجل اللذين يُضرب بهما المثل في الغباء والجهالة. من هنا فهو لم يقل: "فتوبوا إلى الله" أو ما شابه ذلك.
وكما أن أركان الكتاب التكويني، أي العالم العيني تؤمن من قبل أسماء الله سبحانه الحسنى: "وبأسمائك التي ملأت أركان كل شيء"(1) فإن العناصر المحورية للكتاب التدويني، أي معارف القرآن الكريم، تدار من قبل الأسماء الإلهيه الحسنى أيضاً، بحيث إن المآثر القرآنية برمتها هي شرح الأسماء الله الحسنى؛ كما أن النظام العيني من ألفه إلى يائه، هو تجل لأسماء الله تعالى. ومن أجل الالتفات إلى ارتباط محتوى الآية القرآنية باسم إلهي خاص، فإنه يؤتى بالاسم الإلهي الخاص في مطلع الآية تارة، وفي أثنائها تارة أخرى، وفي آخرها - وغالباً ما يكون كذلك تارة ثالثة بحيث يكون معنى هذا الاسم الخاص ضامناً لمضمون الآية وعلة أو علامة وسبباً أو أثراً لذلك الاسم. من أجل ذلك فإن التوصل إلى مقصود الآية من دون التدبر التام في معنى الاسم الخاص المأخوذ فيها ليس بالأمر الميسور.
إن أحد الأسماء الإلهية الحسنى الذي جاء حصراً في الآية مورد البحث بعنوان كونه ضامناً لمحتواها والذي وقع في أثنائها، لا في أولها ولا في آخرها، هو الاسم المبارك: "البارئ"، الذي جاء في سورة "الحشر" إلى جانب سائر أسماء الله الحسنى: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الحشر:24]
وعلى الرغم من كفاية الاسم المبارك: "الخالق" لإبطال الشرك وإظهار عدم صلاحية الوثن والصنم للعبادة، كما استند إليه في بعض الآيات من قبيل: {أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [الأعراف:191]، و {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [النحل:17]، إلا أن خصوصية المقام اقتضت الإفادة من الاسم المبارك: "البارئ" لإبطال عبادة العجل؛ وذلك لأن دركات التدنّس بلوث الشرك ليست سواسية؛ كما أن درجات طهارة التوحيد ليست على حد سواء أيضاً؛ فهناك بون شاسع بين الذي يقول بالوهية المسيح أو الملاك، طارحاً غائلة التثليث أو التوليد بقوله: {إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} [المائدة: 73]، وقوله: {اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} [البقرة:116] وبين ذلك القائل بألوهية حسد العجل والذي يثير نار فتنة السامري من خلال زعمه: {هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى} [طه:88]
فالذي يضع العجل موضع الله الحكيم لابد من إحياء غريزته، وإيقاظ فطرته، وإظهار فطنته المستورة علّه يتعض، وإن الاسم المبارك: "البارئ" يؤدي هذه الرسالة حيث إنّه يرسم في الأذهان الخلقة الهادفة التي تنم عن حكمة، ولما كان الله سبحانه وتعالى يُبدع في البداية المواد الخام فإن إنشاء تلك المواد الخام ليس هو من "شيء"؛ كما أنه ليس من شيء" أيضاً، وذلك لاستلزام قدم ذلك الشيء" في الفرض الأول، ولزوم كون "اللاشيء له قابليّة مبدئية في الفرض الثاني، والحال أن كلاً من قدم غير الله وقابلية "العدم" المبدئية أمر محال، وإن نقيض "من شيء" ليس هو "من لا شيء"، بل هو "لا من شيء".
بعد إبداع المواد الخام ينبري الله عزّ وجل إلى جمعها وتوليفها حيث يسمى هذا العمل الذي يُنجز بعد الإنشاء بالخلقة. عند ذاك يقوم جل وعلا بهندسة الرابط بين الباطن والظاهر وتقديره وتنظيمه وفق نظام معين وإيجاد الانسجام بين تركيبة الجهاز الداخلي والهدف الخارجي وتيسير سبيل الوصول إلى ذلك الهدف حيث يُطلق على هذه العملية اسم "البرء" ويسمّى الله سبحانه وتعالى بقيامه بهذا العمل بالاسم المبارك: "البارئ".
وعلى الرغم من أن كلمة "بريّة" لم تأت في القرآن الكريم أكثر من مرتين، واسم "البارئ" لم يأت فيه أكثر من ثلاث مرات، إلا أن هذه المفردة بمشتقاتها المتنوعة شائعة في أحاديث المعصومين ؛ فعنوان "بَرَأ النَّسَمة" في نهج البلاغة هو محط اعتماد علي بن أبي طالب أمير المؤمنين (عليه السلام) (2)، وهو يقول في وصفه الله سبحانه: "فسبحان البارئ لكلّ شيء على غير مثال خلا من غيره"(3)؛ أي كما أن خلق الله لم يكن وفقاً لمثال سابق يُحتذى، فإن البرء الإلهي أيضاً ليس بمسبوق بمثال ولا نموذج قبله؛ فلا أصل المواد الخام ولا تنظيمها وتنسيقها كانا مسبوقين بفعل غير الله؛ كما أن التصوير الذي حصل ويحصل بعد البرء وتنظيم التركيبة الداخلية للأشياء لم يكن طبقاً لخطة مُسبقة. وبناءً على ذلك فإن أفعال الله إنما تنم عن حكمة وابتكار. ومن خلال هذا البيان فإن طرح اسم "البارئ" المبارك هو بمثابة تعليق الحكم على الوصف الذي يؤخذ على أنه تعليل لذلك الحكم.
وبالالتفات إلى بارئيّة الله تعالى فإنه سوف يتم إدراك السبب من وراء كون عبادة العجل ظلماً، وعلّة لزوم التوبة والرجوع إلى البارئ، وكون تلك التوبة خيراً للتائب، وإن المرجع لمثل هذا الخير هو ذات البارئ... الخ.
من هنا ينكشف السر في تكرار اسم البارئ وعدم الاكتفاء بالضمير في المرة الثانية؛ لأن كلمة البارئ الأولى لإثبات كون اتخاذ العجل ظلماً وتقبيح هذا الفعل، وكلمة البارئ الثانية هي لإثبات ضرورة التوبة والإطراء على الامتثال لحكم القتل.
واستمداداً ممّا مر من بحث حول المفردات، يمكن تبيين السر وراء تعليق. الحكم بلزوم التوبة على صفة البارئيّة لله سبحانه في بضعة وجوه:
1. إن الله هو بارئ الناس وفاصلهم من العدم إلى الوجود، ومن النقص إلى الكمال، ومن العيب إلى السلامة، ومن الهرج والمرج إلى النظم، و... الخ، وإن وضع العجل البليد في موضع الله الحكيم لهو ظلم فاحش.
2. لقد جعل الله الناس في أحسن تقويم وفي أحسن تصوير ومن لوازم هذا النظام الأحسن هو البراءة من التفاوت والنقص والعيب، و... الخ، واستبدال العجل البليد بمثل هذا المعبود لهو ظلم عظيم.
3. الله عز وجل هو خالق الناس وهم من حيث أنهم قد خلقوا على نحو منظم وهادف تماماً بريئون من النقص والعيب. لذا فإن التبري من مثل هذا المعبود وتولي عجل غبي لهو جفاء صريح.
اختلاف الوجوه الثلاثة يكمن في أنه طبقاً للوجه الأول فإن خصوصية التبرئة من العيب والنقص والهرج والمرج قد أشربت في مفهوم البارئ؛ لأن الفصل بمعناه الجامع قد أخذ في هذا المفهوم، وطبقاً للوجه الثاني فإنّه لم يؤخذ بميزة البراءة في هذا المفهوم، إلا أن لازم الوجود الخارجي للنظام الأحسن والتنسيق في الترتيب هو النزاهة من النقص والتبري من العيب، وطبقاً للوجه الثالث فإنه من سنخ الوصف بحال متعلق الموصوف؛ كما قد قيل في تفسير اسم "اللطيف"، الذي هو الأسماء الإلهية الحسنى والذي جاء في الآية: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:103] بأن معناه: لطيف التدبير (4)، لا أن هو لطيف بذاته أي هو ظريف، ودقيق، ورقيق فيزيائياً. فعندما يُقال هنا: إن الله بارئ؛ فهذا يعني أنه خالق لشيء وذلك الشيء المخلوق هو بارئ وبريء من التفاوت والفوضى والغرض أن تفسير الزمخشري للبارئ، الذي هو محط قبول الكثير ممن تلاه من المفسرين و قابل للتبيين من وجوه.
تنويه: إضافة اسم "البارئ" إلى الضمير "كم" في عبارة: بارتكم الأولى والثانية قد يستبطن إشعاراً بالاختصاص من أجل إثارة المحبة؛ ومعناه أن مثل هذا الربّ الذي هو بارئكم والذي يكن لكم المحبّة، يستحق أن تؤوبوا إليه وتأتمروا بكل ما يأمركم به لأنه قطعاً يريد خيركم وسعادتكم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. مفاتيح الجنان، دعاء كميل بن زياد.
2. الخطبة ، المقطع 16؛ والخطبة ،101 المقطع 3 والرسالة 16؛ والرسالة 43.
3. نهج البلاغة الخطبة 155.
4. مجمع البيان، ج3-4، ص533.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|