القوانين البسيطة تصنع أشياء معقدة، أو الأشياء الصغيرة تعني الكثير |
1139
01:37 صباحاً
التاريخ: 2023-04-06
|
أقرأ أيضاً
التاريخ: 25-2-2016
1404
التاريخ: 28-5-2021
1848
التاريخ: 28-7-2020
1639
التاريخ: 2023-03-19
953
|
الأحداث التي تنطوي على قدر هائل من الطاقة والتي تقع في الفضاء السحيق وتُنتج حركات ضئيلة للأجسام في الأرض، والكون المادي بأكمله، يخبران الأجسام الصغيرة كيف تقاوم الحركة. لكن الأجسام الصغيرة أيضًا يمكن أن يكون لها تأثير كبير على العالم عموما. ربما سمعت عن «تأثير الفراشة»، وهو مصطلح يساء استخدامه مثل مصطلح «القفزة النوعية».1 لكن الحقيقة المستبعدة عن تأثير الفراشة أعمق بكثير من المفهوم المغلوط الشائع.
منذ زمن إسحاق نيوتن وحتى القرن العشرين، كان الكون يبدو مكانًا منظّما يمتثل لقوانين بسيطة بطريقة حتمية. فقد أخبرتنا قوانينه الشهيرة كيف تتحرك الأجسام عندما تشعر بقوة ما، وشرحت مدارات الكواكب والنجوم في الأساس. وأدى هذا إلى تشبيه الكون بآلية عمل الساعة، حيث تُملأ الساعة في البداية وتوضع عبر مسار صارم يمكن التنبؤ به في المستقبل. ولكن منذ عصر نيوتن نفسه، عُرف أن تلك الصورة بها معضلة، غالبًا ما كانت تُقابل بالتجاهل على أمل أن تُحل يومًا ما. تتعلَّق هذه المعضلة بالجاذبية والمدارات وتسمى «معضلة الأجسام الثلاثة»، على الرغم من أنها تنطبق على سلوك أي مجموعة من الأجسام التي تتفاعل بالجاذبية وتتكون من أكثر من عنصرين.
تكمن المعضلة في أنه على الرغم من أن قوانين نيوتن تتيح لنا حساب مدارات جسمين أحدهما حول الآخر تحت تأثير الجاذبية بدقة مطلقة، فإنها لا تقدم حلولا دقيقة للمسائل التي تتضمن ثلاثة أجسام متجاذبة أو أكثر. يمكننا تقدير مدار القمر بالنسبة إلى الأرض عن طريق تجاهل أي أجسام أخرى، ويمكننا تقدير مدار الأرض حول الشمس بالطريقة نفسها، ولكن لا يمكننا تقدير سلوك نظام الأرض والقمر والشمس2 في المجمل، فضلًا عن بقية المجموعة الشمسية والكون ككل. لا يمكن تقدير ذلك من حيث المبدأ؛ لأن الأمر لا يتعلق بصعوبة حل المشكلة فحسب. فيقال إن المعادلات ذات الصلة ليست متكاملة، أو ليس لها حلول تحليلية.
يمكننا التحايل على المشكلة أحيانًا باستخدام التقديرات التقريبية. في هذا المثال، نفترض أن الأرض لا تتحرك، ونقوم بحساب كيفية تحرُّك القمر في مدة زمنية قصيرة، ثم نتجاهل القمر ونحسب المسافة التي قطعتها الأرض في تلك المدة تحت تأثير جاذبية الشمس، ونحسب الخطوة التالية في مدار القمر، وهكذا في سلسلة خطوات متكررة (التكرارية). لكن في كل خطوة، يتأثَّر القمر أيضًا بالشمس، ولن يكون في المكان نفسه الذي كان فيه عند إجراء العملية الحسابية السابقة وماذا عن تأثير القمر على الشمس والأرض؟ في هذا المثال، تكون كتلة الشمس أكبر بكثير من كتلة الكواكب لدرجة تجعل التقدير التقريبي صالحا للغاية لتحديد مدارات الكواكب والأجسام الأصغر في المجموعة الشمسية، لكن إن كانت كتلة الأجسام الثلاثة جميعها متساوية تقريبًا، فلا يمكن حل المسألة بالتحليل مطلقًا. بيت القصيد هنا هي أنه بسبب عدم وجود حلول تحليلية للمعادلات، فإن الكون نفسه لا «يعلم» كيف سيتغيّر نظام الأجسام الثلاثة بمرور الوقت.
مثل هذه الأمور لن يكون لها أهمية إذا كانت الأخطاء الصغيرة في الحساب تؤدي دائما إلى فروق صغيرة في النتيجة النهائية. لكن لا يدوم الوضع على هذه الحال، وذلك هو نصف قصة الفوضى. فنظام تؤدي فيه الاختلافات البسيطة في الظروف الأولية إلى اختلافات بسيطة في سلوكه فيما بعد يقال عنه إنه نظام خطي، ولكن نظامًا تؤدي فيه الاختلافات البسيطة في الظروف الأولية إلى اختلافات كبيرة في وقت ما في المستقبل يقال عنه «نظام حساس للظروف الأولية» وغير خطي. وقد لخص عالم الرياضيات الفرنسي هنري بوانكاريه الموقف في أوائل عام 1908 في كتابه «العلم والفرضية» حيث قال:
هناك سبب صغير للغاية يغيب عن ناظرنا يحدِّد تأثيرًا كبيرًا لا يمكننا التغافل عن رؤيته، ثم نقول إن التأثير يعزو إلى الصدفة. لو كان لدينا دراية دقيقة بقوانين الطبيعة وموقف الكون في اللحظة الأولى، لأمكننا التنبؤ بدقة بموقف ذلك الكون نفسه في لحظة لاحقة. لكن حتى لو كان الوضع أن القوانين الطبيعية لم تعد سرًا علينا، لربما ظللنا لا نعرف الوضع الأولي سوى على نحو «تقريبي». وإذا مكَّننا هذا من التنبؤ بالوضع اللاحق بـ «التقدير التقريبي»، فهذا كل ما نحتاج إليه، وحينها ينبغي القول إن الظاهرة قد تُنبئ بها، وأنها محكومة بقوانين. لكن الوضع ليس كذلك على الدوام؛ فقد يتصادف أن تؤدي اختلافات بسيطة في الظروف الأولية إلى اختلافات كبيرة للغاية في الظاهرة النهائية. خطأ صغير في الأولى سيكون من شأنه أن يؤدي إلى خطأ كبير في الأخيرة. ومن ثم يصبح التنبؤ مستحيلًا.
ثمة مثال بسيط للغاية يوضّح تلك النقطة. على قمة جبال روكي بأمريكا الشمالية، يوجد حد فاصل عبر خط طويل يسمى الفاصل القاري، يحدِّد الحدود الجغرافية بين الشرق والغرب. تتدفق مياه الأمطار التي تسقط على شرقي الخط في نهاية المطاف إلى خليج المكسيك أو المحيط الأطلسي؛ أما مياه الأمطار التي تسقط غربي الخط فتتدفق إلى المحيط الهادئ. فوق الخط مباشرة، لا بد أن هناك أماكن بها فرق أقل من سنتيمتر واحد في الموضع الذي تسقط فيه قطرة مطر من شأنه أن يحدد مصيرها. قطرتان تسقطان من سحابة واحدة في وقت واحد قد تفرّق بينهما مسافة أقل من سنتيمتر واحد. قطرة ينتهي بها المطاف إلى المحيط الأطلنطي، والأخرى تسير آلاف الأميال حتى تصب في المحيط الهادئ. فمصير قطرة المطر تحدده الظروف الأولية. لكن هناك المزيد. المحيطان إلى الشرق وإلى الغرب يبدو أنهما يجذبان قطرات المطر، ومفهوم الجاذب – المرتبط بأفكار عن التوازن – هو النصف الآخر من قصة الفوضى.
مثال آخر بالبساطة نفسها لكنه مألوف أكثر لجاذب يمكن رؤيته عن طريق دحرجة كرة زجاجية في وعاء خلط له قعر دائري. بعد بضع مرات من الصعود والهبوط، تستقر الكرة الزجاجية في قعر الوعاء في اتزان في حالة تماثل أقل قدر من الطاقة في ذلك النظام. تلك الحالة جاذبة للنظام. لكن قد لا تكون هناك نقطة فريدة مرتبطة بالجاذب. لنأخذ الكرة الزجاجية نفسها ونحاول أن نضعها في اتزان على قمة قبعة مكسيكية مدببة. ستسقط ويستقر بها المقام في التجويف الذي تصنعه الحافة المقلوبة إلى أعلى، لكن كل النقاط حول ذلك التجويف توازي حالة الطاقة الكامنة الدنيا نفسها (ويُعرف هذا المثال في المجال باسم جهد «القبعة المكسيكية»). فالتجويف بأكمله عبارة عن جاذب واحد.
في هذين المثالين البسيطين نتناول الأنظمة التي ينتهي بها المطاف إلى حالة من التوازن من دون أن يتغيَّر فيها شيء. ترتبط هذه الفكرة بفكرة الإنتروبيا وهو قياس لمقدار النظام في نظام ما، حيث تتزامن زيادة الاضطراب مع زيادة الإنتروبيا. تنزع الأنظمة المغلقة – التي تمثل جزءًا مقتطعًا من العالم الخارجي – بطبيعتها إلى زيادة الإنتروبيا تبعًا لزيادة الاضطراب في المثال الكلاسيكي المعروف، إذا كان لدينا صندوق مقسم إلى نصفين، وملأنا أحدهما بالغاز، وتركنا الآخر فارغًا، ثم أزلنا الحاجز الفاصل بينهما، سينتشر الغاز ليملأ الصندوق كله بالتساوي. هنا يقل النظام؛ لأنه لم يعد هناك أي فرق بين نصفي الصندوق. ربما تكون قد فهمت فكرة الإنتروبيا في هذا المثال وتعلمت منه أن الأنظمة تنجذب إلى حالات الإنتروبيا القصوى. لكن في العالم الحقيقي، لا يوجد ما يُعرف بنظام معزول تمامًا. فدائمًا ما يكون هناك اتصال بالعالم الخارجي، وهذا الاتصال يغير الأشياء بصورة ملحوظة.
إذا ملأت وعاءين بمزيج من غازين (النسخة الكلاسيكية من التجربة يُستخدم فيها مزيج من غاز الهيدروجين وكبريتيد الهيدروجين) وربطتهما بأنبوب ضيق، فسيصبح هناك خليط موحد من الغازين في كل حاوية، وهكذا تكون الإنتروبيا في أقصى درجاتها في النظام. لكن إذا حفظ أحد الوعاءين في درجة حرارة أعلى قليلا من الآخر، ستتركز الجزيئات الأخف (جزيئات الهيدروجين في هذا المثال) في الوعاء الأكثر سخونة، بينما ستتركز الجزيئات الأثقل (كبريتيد الهيدروجين في هذا المثال) في الوعاء الأبرد. لقد أدى هذا إلى خلق نظام، ومِن ثُم انخفض مستوى الإنتروبيا. فانحراف بسيط عن نقطة التوازن من شأنه أن يغيّر سلوك نظام بالكامل، وفي العموم ينجذب النظام القريب من نقطة التوازن، ولكنه ليس في حالة توازن بالفعل إلى حالة يكون فيها معدل تغير الإنتروبيا في أقل مستوياته. بعبارة أبسط، لا تحدث الأشياء المثيرة للاهتمام إلا بالقرب من نقطة التوازن، وعندما يوجد تدفق للطاقة عبر النظام. ولا تحدث أي تغيرات عند نقطة التوازن بالضبط. أما عند الابتعاد عن نقطة التوازن، فلا يتوقف أي شيء عن التغير بطريقة فوضوية. ليس من قبيل الصدفة أننا نعيش على كوكب يغمره دفق من الطاقة المنبعثة من الشمس، ومليء بالأشياء المثيرة للاهتمام، وفيها نحن فالحياة تقف على «حافة» الفوضى.
يمكن رؤية الانتقال من نظام منظّم لا يحدث فيه أي شيء جدير بالملاحظة مرورًا بحالة تحدث فيها تعقيدات مثيرة للاهتمام، وصولاً إلى حالة من الفوضى في مثال من الواقع. في نهر تتدفق مياهه بلطف حيث تبرز صخرة واحدة فقط فوق سطح الماء، ينقسم تدفق المياه حول الصخرة، ثم يتصل مجددًا بسلاسة على الجانب الآخر. يمكننا مراقبة تدفق الماء عن طريق إسقاط رقائق صغيرة من الخشب عند المنبع ومتابعتها وهي تمر من جانب الصخرة. إذا زاد تدفق المياه تدريجيا، فربما يكون السبب غزارة الأمطار عند المنبع، ما يعني حدوث تغير في النمط. في البداية، تحدث دوامات صغيرة في اتجاه مصب النهر من عند الصخرة. تبقى الدُّوَّامات في مكانها، وتظل رقائق الخشب المحصورة داخلها تدور وتدور على نحو متكرّر. فالدُّوَّامات نوع من الجواذب. ولكن مع استمرار زيادة تدفق المياه، تتسع المسافة بين الدُّوَّامات والصخرة، ويحملها تيار النهر محتفظة بشكلها لمدة من الزمن قبل أن تتحلل في تيار المياه بصفة عامة. وتتشكل دوامات جديدة مكانها وتنطلق بدورها. لكن مع زيادة تدفّق المياه أكثر، ويزداد صغر المساحة خلف الصخرة التي تتكون فيها التيارات وتبقى وفي النهاية، تصبح حتى المياه خلف الصخرة مباشرة مضطربة وتتحرك بطريقة غير منتظمة وفوضوية، والنظام الفوضوي بحق لا توجد فيه جواذب. كل هذا حدث تبعًا لتغيير في شيء واحد، ألا وهو سرعة تدفّق المياه. يختلف سلوك النظام نفسه تمامًا إذا كان قد حدث تغيير في شيء واحد، يتعلق بالنمذجة الرياضية للنظام، تغيير في عدد واحد فقط. الأمر الذي يقودنا إلى تلك الفراشة وتأثير أجنحتها المرفرفة.
تعود القصة إلى عام 1959، حين كان إدوارد لورينز عاكفا على إعداد نموذج للغلاف الجوي باستخدام الكمبيوتر كخطوة نحو التنبؤ بالأحوال الجوية باستخدام الكمبيوتر. وفي سبيل ذلك استخدم فكرة إمكانية تشغيل» مجموعة من المعادلات التي تصف حالة الطقس على الكمبيوتر من أجل التنبؤ بحالة الطقس لأيام أو أسابيع قادمة، ورجا من تلك المعادلات أن توضّح أن ثمة استقرارًا في أنماط معيَّنة للطقس، ومِن ثَم يسهل التنبؤ بها. وفي الوقت الحاضر، نطلق على هذه الحالات المستقرة جواذب. بالطبع لم تكن أجهزة الكمبيوتر التي اضطر إلى استخدامها آنذاك بقوة الأجهزة التي نستخدمها اليوم، ولكنه في الواقع لم يكن يحاول التنبُّؤ بحالة الطقس في العالم الواقعي، بل فقط كان يختبر الآلية التي تعمل بها هذه الفكرة على نطاق محدود (وهو ما يسميه العلماء «نموذج اللعبة»). كانت مدخلات النموذج مجرَّد قائمة من الأعداد تمثل أشياء مثل درجة الحرارة والضغط، وكان الناتج عبارة عن قائمة مماثلة أمكن تحويلها بعد ذلك إلى «تنبُّؤ جوي» مصغر.
عندما شغل لورينز النموذج مرتين باستخدام مجموعة البيانات المدخلة نفسها كما كان يعتقد، فوجئ حين حصل على توقعات مختلفة تمامًا في المرتين. وتبين أن الاختلاف نتج عن تغيير طفيف في الأعداد المدخلة؛ ففي المرة الأولى، استخدم ستة أعداد معنوية (وكانت في هذا المثال 0.506127) وفي المرة الثانية طبع الرقم في صورة مختصرة من الرقم السابق مقرب إلى ثلاثة أرقام (في هذا المثال 0.506). لم يكن الاختلاف النموذجي في كل من الرقمين اللذين أُجريت بهما المعادلات يتجاوز ربعًا من عشر من واحد بالمائة، ولكنه غير نتيجة التنبؤات تمامًا. ولو كان الغلاف الجوي حساسًا دائمًا إلى تلك الظروف الأولية، فهذا من شأنه أن يجعل التنبُّؤ بحالة الطقس باستخدام الكمبيوتر مهمة مستحيلة. لكن ما يحدث بات يتضح بالتدريج، وهذا يفسر سبب ثقة العاملين في الأرصاد الجوية اليوم في تنبؤاتهم بحالات الطقس في بعض الأحيان، بينما في أحيان أخرى يفضّلون إخفاء تنبؤاتهم. والطريق إلى وصف ما يجري يكمن في نوع من المشاهد الطبيعية الخيالية يسميه علماء الفيزياء فضاء الطور.
يمثل مخطط الفراشة هذا المستقبل المحتمل لنظام ما مثل نظام الطقس يقف في توازن على الخط الفاصل بين «حالتين». إن وكزة صغيرة جدًّا كفيلة بإرساله إلى دوامة من الدوامتين أو الأخرى. فهو نظام حساس للظروف الأولي». (ساينس فوتو ليبراري).
يشبه فضاء الطور مشهدًا حقيقيًّا لمنطقة ريفية ممتدة على مرأى البصر بها تلال ووديان وجبال عالية وحفر عميقة. كل نقطة على الأرض تتطابق مع خصائص فيزيائية تنتمي إلى النظام محل البحث. لذا إذا كنا نمثل الغلاف الجوي، فنقطة واحدة على المشهد ببساطة لا تتطابق مع خاصية واحدة مثل درجة الحرارة، بل مع مجموعة معينة من الخصائص تتكون من درجة الحرارة والضغط وخصائص أخرى. تمثل قمة الجبل حالة مستبعدة إلى أقصى حد للغلاف الجوي، بينما الحفرة العميقة تمثل حالة جذب شديدة. أَمَّا بدء نموذج محاكاة حاسوبي فيماثل سكب الماء في نقطة معينة من المشهد. وطبقًا للمعادلات التي يتم إدخالها في النموذج تنحدر المياه إلى سفح التل وتنجذب إلى الحفر العميقة. هذه هي الحالات الأكثر ترجيحا للنظام. ولكن قد يكون للمياه فرصة لاختيار المسارات التي تتدفق فيها، مثل قطرات الأمطار التي تسقط على قمم جبال روكي، ومِن ثُم قد يتحدد مصيرها بالظروف الأولية. فتحول طفيف في نقطة البداية قد يؤدي إلى تحول كبير في نقطة النهاية. تسمى المسارات التي يمكن اتباعها في هذا الطريق بخطوط السير، والنقاط على طول خط السير تمثل التنبؤات في أوقات مختلفة في المستقبل. سينتهي خط السير النموذجي في فضاء الطور في إحدى البرك أو الحفر المائية، وستظل المياه تدور کدوران المياه في الدوامات التي تتشكل خلف صخرة في نهر جار. لكن إذا كان هناك حفرتان يفصل بينهما حاجز ضحل، مثل شريط رملي، فقد يُقطع خط السير في بعض الأحيان (وعلى نحو غير متوقع)، ويبدأ في الدوران حول الحفرة الأخرى. وبذلك تكون المياه قد انتقلت من جاذب إلى آخر. في العالم الواقعي، يوازي هذا الأمر حدوث تغير في الغلاف الجوي من حالة إلى أخرى.
ما اكتشفه علماء الأرصاد الجوية بعد عقود من اكتشاف لورينز أن الطقس يتأثر أحيانًا بالظروف الأولية ولا يتأثر في أحيان أخرى. وفي الوقت الحاضر، لا يُجري علماء الأرصاد الجوية عملية محاكاة واحدة مبتدئين بالأرقام المطابقة لحالة الطقس اليوم في محاولة للتنبؤ بحالة الطقس لأيام مقبلة. بل إنهم يُجرون عملية المحاكاة نفسها عدة مرات مع تغيير طفيف في الظروف الأولية. وفي بعض الأحيان، تعطي تلك العمليات جميعها إجابة واحدة تقريبًا كل خطوط السير تقصد الحفرة نفسها وتدور داخلها. ولكن في بعض الأيام، تعطي نماذج المحاكاة مجموعة من الإجابات المختلفة كما حدث مع لورينز عام 1959. في تلك الحالة، يستحيل التوصل إلى تنبُّؤ دقيق. ولا يعزو ذلك إلى خطأ من علماء الأرصاد الجوية أو نماذجهم، ولكن لأن هذا هو العالم؛ فالغلاف الجوي في ذلك الوقت يكون في حالة تتأثر بالظروف الأولية.
من هنا يأتي تأثير الفراشة. طرح لورينز النقاش حول تلك النقطة في اجتماع عقد في واشنطن عام 1972، حيث تساءل هل رفرفة أجنحة فراشة في البرازيل من شأنها أن تُطلق إعصارًا في تكساس؟ على الرغم من أن هذا المثال بالذات ليس في محله؛ لأن البرازيل وتكساس تقعان في نصفين مختلفين من الكرة الأرضية، وأنظمة الطقس على جانبي خط الاستواء كليهما لها تأثير طفيف بعضها على بعض؛ فإن ما يُريد أن يوضّحه أن في الحالات التي يتأثَّر فيها الطقس بالظروف الأولية، يمكن لأقل تغيير أن يؤثر في الطريقة التي تتحرك بها خطوط السير عبر فضاء الطور. ثمة نسخة أفضل من هذا التشبيه تكمن في افتراض أن أنظمة الطقس فوق المحيط الأطلسي الشمالي المداري مستقرة بثبات على شريط رملي في فضاء الطور؛ فحينئذٍ ستُحدث رفرفة أجنحة فراشة في السنغال تأثيرًا يجعلها تميل إلى جاذب (يتسبب في إعصار مداري) أو آخر (لا يتسبب في إعصار مداري). لكن هذا المثال لم يقصد قط أن يُؤخذ على محمل الجد، وبالتأكيد لا يشير إلى أن التأثيرات الطفيفة مثل رفرفة أجنحة الفراشة تفرض قوتها على الأنظمة الكبيرة بصورة أو بأخرى. فهي ببساطة توفّر القشة الأخيرة كما يقول المثل الدارج.
لكن ثمة نسخة مزعجة أكثر من كل هذا. فيشير بعض علماء المناخ إلى أن من بين العديد من الحالات المستقرة المحتملة (الجواذب) لمناخ الأرض بوجه عام، تتطابق إحدى هذه الحالات مع الظروف التي اعتدناها على مدى آلاف السنين الماضية، وتتطابق حالة أخرى مع العصر الجليدي الذي سبق تلك الحقبة، وحالة ثالثة تتطابق مع حالة من المناخ الحار تفوق متوسط درجة الحرارة في الوقت الحالي بنحو 6 درجات مئوية. فتُشير نماذج المحاكاة القياسية الحاسوبية للاحترار العالمي الذي يحدث في الوقت الراهن نتيجة لتراكم غاز ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي إلى زيادة مطردة في درجة الحرارة بمعدل يزيد على 3 درجات مئوية في ظل تزايد معدل تركيز ثاني أكسيد الكربون بنحو مرتين عما كان عليه قبل الثورة الصناعية. لكن جيم لافلوك – صاحب نظرية جايا – يشير إلى أن التحول إلى الحالة الحارة ربما حدث قبل نهاية القرن العشرين والتشبيه المستخدم هنا هو تشبيه الحالتين بجاذبين في فضاء الطور يفصل بينهما شريط رملي صغير، ومن خلال زيادة حرارة العالم، نُجبر خطوط السير على الدوران لأعلى وأعلى إلى حفرة ما إلى أن تعبر فجأة وتدخل إلى الحفرة الأخرى. إذا كان على حق في ذلك؛ فالوقت الذي أمامنا كي نتخذ إجراء بشأن الاحترار العالمي أقصر مما يعتقد الناس.
لكن لننح تلك التكهنات القاتمة، ما الذي يمكن أن تُخبرنا به نظرية الفوضى عن آلية عمل الكون؟ ما الذي حدث لنظرية نيوتن الخاصة بتنبُّؤية الكون من خلال تشبيهه بآلية الساعة؟
توجد بعض الأخبار السارة (لنا) والسيئة (لفكرة آلية الكون التي يشبه آلية عمل الساعة). أدَّت تفسيرات شهيرة لنظرية الفوضى إلى بعض التكهنات المزعجة المنطلقة من فكرة أن هذه النظرية تعني أن كل شيء غير مستقر، وأنه بسبب حالة الفوضى التي تكتنف المجموعة الشمسية من الناحية العملية، قد تحيد الأرض فجأة عن مدارها الحالي إلى مدار آخر، أو تبتلعها الشمس نتيجة لاضطراب طفيف مثل مرور مذنب بالقرب منها. لكن للفوضى درجات. وذلك النوع من الفوضى يسري على الأجسام الصغيرة، مثل الكويكبات التي تقع تحت تأثير أجسام كبيرة مثل المشتري والشمس. لكن فوضوية مدار الأرض تنحصر في حدود معيَّنة. وأجهزة الكمبيوتر الحديثة قادرة على التحايل على معضلة الأجسام الثلاثة إلى حد كبير عن طريق استخدام الطريقة التكرارية المتدرجة خطوة بخطوة وسبق استخدامها لحساب إلى أي مدى يمكن أن يتغيَّر مدار الأرض خلال ملايين السنين القليلة التالية. بالطريقة المعتادة، تجري العملية الحسابية عدة مرات باستخدام ظروف أولية مختلفة قليلًا في كل مرة لمعرفة ما إذا كانت هذه الظروف تؤثر على النتيجة أم لا. توضّح لنا النماذج أنه لا توجد سوى فرصة ضئيلة للغاية لحدوث أي تغيير مؤثّر في مدارات الكواكب الثمانية الأساسية في المجموعة الشمسية على مدى مليارات السنين؛ تحديدًا حتى موت الشمس. لكن مدار الأرض حساس للظروف الأولية على نحو محدود. ففي أحد الأمثلة، لا يؤدِّي تغيير موضع الأرض في مدارها عند بداية العملية الحسابية بمقدار 5 أمتار إلى تغيير هذا الموضع عند نهاية العملية الحسابية بمقدار 5 أمتار مماثلة. وتزيد نسبة «الخطأ» إلى أن تصل المحاكاة إلى 100 مليون سنة، ويعجز النموذج حينها عن تحديد موضع الأرض في مدارها بالتحديد. كل ما يوضّحه لنا النموذج أن الأرض في مكان ما في مدارها حول الشمس، وهو ما يمنحنا بعض الطمأنينة على الأقل. فالمدار بأكمله عبارة عن جاذب مثل قاع القبعة المكسيكية الذي يحوي أقل مقدار من الطاقة في نموذج جهد «القبعة المكسيكية».
على الرغم من ذلك، قد يُعتقد أن المشكلة في كل ما ذكر تكمن فقط في عدم قدرتنا على تحديد موقع الأرض في مدارها بدقة، أو تحديد درجة الحرارة والضغط والعناصر الأخرى في موضع بعينه في الغلاف الجوي بالضبط. هل من المؤكَّد لو توصلنا إلى تلك المعلومات بعدد كافٍ من الأرقام العشرية، فستزول الشكوك ويصبح كل شيء قابلا للتنبؤ مثلما ارتأى نيوتن؟ وهل فعلا يعرف الكون بطريقة ما موضع كل شيء؛ ومن ثم فهو حتمي لا محالة؟ المفاجأة أن الإجابة القاطعة هي «لا».
تكمن المشكلة في عدم وجود خانات عشرية كافية حتى اليونانيون كانوا يعرفون المشكلة وإن كان على نحو مختلف قليلًا. لا بد أن الأمر متعلّق بطبيعة الأعداد. توجد ثلاثة أشكال للأعداد الأعداد الصحيحة. – مثل 1، 2،3 وهكذا – وتلك الأعداد يسهل فهمها والتعامل معها. النوع الثاني يمكن وصفه في إطار نسب من عددين صحيحين مثل 1/2 ،3/4 وهكذا. وهذه يُطلق عليها الأعداد النسبية (من النسبة)، ويسهل استخدامها والتعامل معها نوعًا ما أيضًا. لكن اليونانيين كانوا على دراية تامة بوجود أعداد لا يمكن كتابتها في صورة نسب على هذا النحو، ويطلق عليها الأعداد غير النسبية. العدد الأهم لهم والمألوف لدينا هو الباي (π) أو ثابت الدائرة، وهو نسبة محيط الدائرة إلى قطرها يمكننا استخدام الأعداد النسبية مثل 22/7، كتقدير تقريبي، في حساباتنا، ولكن هذا ليس سوى تقدير تقريبي، كما نرى عندما تحدث الحسابات عن طريق إدخال أعداد عشرية. وباستخدام طرق حسابية مختلفة وعمليات حسابية طويلة ومعقدة على الكمبيوتر، قُدرت قيمة π بملايين الأرقام العشرية، ويبدأ على النحو التالي:
3.141592653589793238462643383279
يبدأ العدد 22/7، الذي يُعد قيمة تقريبية أولية نسبيا، من العدد العشري 3.142857؛ لذا فهو غير صحيح بالفعل في الخانة العشرية الثالثة. لكن النقطة المهمة بشأن الأعداد غير النسبية من حيث الكسور العشرية هي أن نمط الأعداد لا يتكرر مطلقًا. فالعدد
1/3– الذي يعبر عنه ككسر عشري، سيكون 0.333333 ... بتكرار العدد 3 إلى ما لا نهاية. لكن مع تكرار العدد يمكنك تحديد ذلك في صورة قاعدة بسيطة، وهذه القاعدة في ذلك المثال هي «الاستمرار في كتابة العدد 3». يمكن التعبير عن كل الأعداد النسبية بمثل تلك القواعد أو باستخدام الخوارزميات. لكن لا توجد أي خوارزمية لتحديد قيمة π، أو أي عدد غير نسبي على وجه الدقة؛ بل ستحتاج إلى سلسلة لا نهائية من الأعداد، ستحتاج إلى جهاز كمبيوتر ذي ذاكرة غير محدودة. وهذا لعدد واحد فقط، على الرغم من أنه عدد حيوي في حساب مدار الأرض حول الشمس. الأسوأ من ذلك أنه قد تبين أن معظم الأعداد غير نسبية. وساهم هذا في تعقيد مشكلة مستعصية بالفعل في تحديد حتى موضع نقطة واحدة على خط ما تحديدًا دقيقا. لنفترض أن موضع تلك النقطة هو π/1 على الخط بين النقطتين «أ» و«ب». لا يمكن التعبير عن هذه النقطة بدقة من المنظور الرياضي. يمكن التعبير عنه بأي عدد من الخانات العشرية، لكن إذا كان نوع الفوضى الذي اكتشفه لورينز له تأثير، فإن العدد العشري التالي، الذي تتجاهله، قد يغير القيمة التي تُحاول أن تحسبها على نحو هائل.
قد يتطلب الأمر جهاز كمبيوتر ذي ذاكرة غير محدودة لتحديد حالة جسيم «واحد» في الكون. وهذا يعني أن النظام الوحيد القادر على محاكاة الكون بدقة هو الكون نفسه. وعلى غير المتوقع، فحتى لو كان كل شيء محددًا بدقة ويسير كساعة كونية، لا توجد طريقة للتنبؤ بالمستقبل بدقة، والكون نفسه لا يعلم شيئًا عن المستقبل مثلنا، بل له إرادة حرة في الواقع. فالأشياء الصغيرة حقا تعني الكثير.
هوامش
(1) تُعد القفزة النوعية بالفعل أصغر تغيير ممكن، وتحدث على نحو عشوائي للغاية. والمعنى يختلف تمامًا عمَّا يعتقده المعلنون حين يقولون إن منتجا ما يمثل «قفزة نوعية» عن نسخة العام الماضي من المنتج نفسه.
(2) تُستخدم كلمة «نظام» للإشارة إلى أي مجموعة من الأجسام المتفاعلة، مثل المجموعة الشمسية.
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
المجمع العلمي ينظّم ندوة حوارية حول مفهوم العولمة الرقمية في بابل
|
|
|