أقرأ أيضاً
التاريخ: 1-9-2016
1178
التاريخ: 28-8-2016
1716
التاريخ: 29-8-2016
1364
التاريخ: 7-8-2017
1269
|
أحمد بن هـلال العبـرتائي (1):
وهو أبو جعفر العبرتائي الذي اختلفوا في قبول روايته واعتبارها، ولا بأس بذكر نبذة عن حياته فأقول:
أحمد بن هـلال العبـرتائي ويـلقب بالـكرخي والهلالـي أيضاً (2)، كـان مـن أصحاب الإمامين الهادي والعسكري (عليهما السلام) (3)، ولد سنة (180 هـ) ومات سنة (267 هـ) في عصـر نيـابة محمد بـن عـثمان العـمري النـائب الـثاني للإمـام الحـجـة (عجَّل الله فرجه) (4)، وقد ذكر في ترجمته أنه روى أكثر أصول الإمامية (5)، ولقيه رواة أصحابنا في العراق وكتبوا عنه، وكان معروفاً بالصلاح، وقد حج أربع وخمسين حجة، عشرون منها على قدميه (6).
ولكن بعد وفاة النائب الأول للإمام المهدي (عجّل الله فرجه) أبي عمرو عثمان بن سعيد لم يشأ العبرتائي الإذعان للنائب الثاني وهو أبو جعفر محمد بن عثمان بن سعيد فشكك في نيابته. وحين قالت الشيعة (7) له: ألا تقبل أمره وقد نص عليه الإمام المفترض الطاعة (8) ؟! قال لهم: لم أسمعه ينص عليه بالوكالة، وليس أنكر أباه ــ عثمان بن سعيد ــ فأما أن أقطع أن أبا جعفر وكيل صاحب الزمان فلا أجسر عليه. فقالوا: قد سمعه غيرك. قال: أنتم وما سمعتم.
فيلاحظ أنه لبس لبوس الاحتياط مدّعياً أنّ عدم إذعانه لوكالة أبي جعفر محمد بن عثمان العمري إنما هو من جهة أنه لا يسمح لنفسه أن ينسب إلى الإمام (عليه السلام) توكيله له مع عدم قطعه بذلك، في حين إنّه كان من الواجب عليه ــ لو كان شاكّاً حقاً ــ أن يبحث عن الحقيقة ويمحّص الشهادات حتّى يصل إلى نتيجة واضحة، ويبدو أنّه لم يكن من الصعب معرفة ذلك في تلك الأيام، فإنّ العمري كان قريباً جداً من الإمام العسكري (عليه السلام) حيث كان يعمل لسنوات طوال بجنب أبيه في خدمته (عليه السلام) حتى إنه لما توفي في عام (304 هـ) أو (305 هـ) قيل (9): إنه كان يتولى هذا الأمر نحواً من خمسين عاماً، فهل يصعب على شخص كالعبرتائي الذي هو الآخر كان من أصحاب الإمام العسكري (عليه السلام) أن يتحقق من وضع العمري وهل أنه بالفعل وكيل للإمام الحجة (عليه السلام) أو لا؟! ولكنه لم يشأ الخضوع للعمري في كل الأحوال ــ ولعله كان يجد نفسه أولى منه بالوكالة (10) ــ إلا أنه لما لم يكن يسعه التصريح بذلك عمل على التشكيك في أصل وكالة العمري.
بل يبدو من بعض التوقيعات أنه لم يكن يقصد من وراء التشكيك في وكالته (رحمه الله) مجرد التنصّل عن الإذعان له والخضوع لأمره، بل كان يقصد الوقيعة في منصب الإمامة، فقد روى الصدوق (قدس سره) (11) بإسناده عن محمد بن صالح الهمداني ــ وكان من وكلاء الناحية المقدسة ــ أنه خرج بعد موت ابن هلال: ((فقد قصدنا فصبرنا عليه، فبتر الله تعالى عمره بدعوتنا)).
ومهما يكن فإنّ الذي يظهر من ملاحظة النصوص هو أنّ انحراف العبرتائي كان في عصر الغيبة الصغرى لا قبله، ولذلك يستغرب ما ذكره النجاشي (رحمه الله) (12) من (أنه قد روي فيه ذموم من سيدنا أبي محمد العسكري (عليه السلام))!!
ويبدو (13) أنه اعتقد أن التوقيع الطويل الذي حكاه الكشي (14) ــ ونقل جانباً منه الشيخ (قدس سره) (15) ــ قد ورد عن الإمام العسكري (عليه السلام) لأن القاسم بن العلاء ــ صاحب التوقيع ــ كان من أصحاب الإمامين الهادي والعسكري (عليهما السلام)، ولكن الذي رواه الشيخ (16) بإسناده عن الصفواني أن القاسم بن العلاء كانت لا تنقطع عنه توقيعات مولانا صاحب الزمان (عليه السلام) على يد أبي جعفر محمد بن عثمان العمري وبعده على يد أبي القاسم الحسين بن روح (قدَّس الله روحهما).
وهذا التوقيع بالخصوص قد نصّ الشيخ (17) على أنه ورد على يد العمري، فلا وجه لتوهم كون صاحب التوقيع هو الإمام العسكري (عليه السلام). وأيضاً التوقيع دال على موت ابن هلال في زمن خروج التوقيع ففيه: ((فصبرنا عليه حتى بتر الله ــ بدعوتنا ــ عمره، وكنّا قد عرّفنا خبره قوماً من موالينا في أيامه، لا رحمه الله)) والإمام العسكري (عليه السلام) توفي سنة (260 هـ)، وهذا مات ــ كما تقدم ــ سنة (267 هـ) فكيف يمكن أن يكون التوقيع بعد موته من الإمام العسكري (عليه السلام)؟!
والحاصل: أنّه لا ينبغي الشك في أنّ ما ورد من التوقيع في ذم العبرتائي كان في زمان الغيبة الصغرى، وكان ابتداء ذلك كما ورد في بعض النصوص (18) أنّه كتب الإمام إلى قوّامه بالعراق: ((احذروا الصوفي المتصنّع)) والتعبير عنه بذلك إنّما كان ــ كما سبق ــ من جهة أنه كان يظهر الزهد والتقشف.
ويبدو أنّ هذا التحذير مما لم يجد الإمام (عليه السلام) المصلحة في أن يبلغ مسامع جميع الشيعة بل الخواص منهم، ولذلك ورد في توقيع لاحق (19): ((وكنا قد عرّفنا خبره قوماً من موالينا في أيامه ــ لا رحمه الله ــ وأمرناهم بإلقاء ذلك إلى الخاص من موالينا)).
ويبدو أيضاً أن سوابق العبرتائي الطويلة وظهوره بلبوس الزهد والتقوى كانت مما يخشى أن تجعل تشكيكه في وكالة العمري مؤثّراً في نفوس بعض الشيعة، ولذلك دعا الإمام (عليه السلام) عليه بأن يبتر الله عمره فاستجاب الله تعالى دعاءه ومات الرجل بعد فترة غير طويلة، فقد روى الشيخ الصدوق (20) بإسناده إلى محمد بن صالح أنه ((لما ورد نعي ابن هلال (لعنه الله) جاءني الشيخ ــ أي العمري (21) ــ فقال لي: أخرج الكيس الذي عندك. فأخرجته، فأخرج إليَّ رقعة فيها: أما ما ذكرت من أمر الصوفي المتصنّع ــ يعني الهلالي ــ فبتر الله عمره)). وخرج بعد موته: ((فقد قصدنا فصبرنا عليه فبتر الله تعالى عمره بدعوتنا)).
وكيف كان فالظاهر أنّ خبر الذموم الواردة في حق العبرتائي من الناحية المقدسة إنما انتشر بين الشيعة بعد وفاته وأدى إلى بلبلة بينهم، فأنكر أصحابنا العراقيون ما ورد في مذمّته وحملوا القاسم بن العلاء على أن يراجع في أمره، فخرج إليه (22) وكان على يد العمري (23): ((قد كان أمرنا نفذ إليك في المتصنّع ابن هلال ــ لا رحمه الله ــ بما قد علمت، لم يزل لا غفر الله له ذنبه ولا أقاله عثرته يداخل في أمرنا بلا إذن منّا ولا رضا، يستبد برأيه، لا يمضي من أمرنا إيّاه إلا بما يهواه ويريد، أرداه الله بذلك في نار جهنّم، فصبرنا عليه حتّى بتر الله بدعوتنا عمره، ونحن نبرأ إلى الله من ابن هلال ــ لا رحمه الله ــ وممّن لا يبرأ منه. وأعلم الإسحاقي ــ سلّمه الله وأهل بيته ــ ممّا أعلمناك من حال هذا الفاجر وجميع من كان سألك ويسألك عنه من أهل بلده والخارجين، ومن كان يستحق أن يطّلع على ذلك)).
وهذا التوقيع ــ كما يلاحظ ــ شديد القسوة على ابن هلال ويشتمل على تأكيد بالغ على انحرافه وضلاله، والظاهر انّه لم يكن ليصدر من الإمام (عليه السلام) لولا أن الرجل كان يحظى بسمعة طيّبة بين الشيعة لعدم معرفتهم بدواخل نفسه وما كان يضمره من السوء.
ويلاحظ أنّه بالرغم من خروج التوقيع المذكور ثبت قوم على إنكار ما خرج فيه فعادوا القاسم بن العلاء فيه، فخرج مرة أخرى (24): ((لا شكر الله قدره (25)، لم يدع المرء بأن لا يزيغ قلبه بعد أن هداه، وأن يجعل ما منّ به عليه مستقراً، ولا يجعله مستودعاً، وقد علمتم ما كان من أمر الدهقان ــ أي عروة بن يحيى (26) ــ عليه لعنة الله، وخدمته وطول صحبته فأبدله الله بالإيمان كفراً، حين فعل ما فعل فعاجله الله بالنقمة ولم يمهله)).
هذا وقد حكى الشيخ (27) عن أبي علي ابن همام أنّه لمّا وقف ابن هلال على أبي جعفر محمد بن عثمان ورفض الانصياع له كوكيل للإمام الحجة (عليه السلام) لعنته الشيعة وتبرّأت منه ثم ظهر التوقيع على يد أبي القاسم ابن الروح بلعنه والبراءة منه في جملة من لعن.
وظاهر هذا الكلام أنّ توقّف العبرتائيّ في وكالة العمري الابن أوجب ابتعاد الشيعة عنه ولعنهم إيّاه وبراءتهم منه، ولكن هذا لا ينسجم مع ما ورد في الروايات الأخرى كما مرّ، ولا يبعد أن يكون مقصود ابن همام من الشيعة هو خواصّهم الذين أبلغوا بمضمون التوقيع الأول للإمام (عليه السلام) بشأن العبرتائي، لا عموم الشيعة الذين لم ينتشر خبر انحرافه بينهم إلاّ بعد وفاته كما سبق.
كما أنّ ما يلوح من الكلام المذكور من أن ذم العبرتائي ظهر أولاً في التوقيع إلى ابن روح مما لا يصحّ يقيناً، فقد مرّ أن التوقيعات وردت في ذمه في حال حياته وبعد مماته مباشرة على يد العمري وقد صرح بذلك في رواية الشيخ، ومع الغض عن ذلك فإن من المستبعد جداً عدم ورود التوقيع بشأن الرجل إلى زمان النائب الثالث ابن روح الذي تولى النيابة عام (304) أو (305) أي بعد ما يقرب من أربعين سنة على موت العبرتائي.
نعم لا إشكال في أن بعض التوقيعات التي خرجت إلى ابن روح كانت
مشتملة على ذكر العبرتائي وانحرافه، ومنها التوقيع الذي خرج عام (312) بشأن الشلمغاني حيث ورد فيه (28): ((إنّنا في التوقّي والمحاذرة منه على ما كنّا عليه ممّن تقدّمه من نظرائه من الشريعي والنميري والهلالي والبلالي)).
هذا ثم إنّ الشيخ (قدس سره) قد نسب العبرتائي إلى الغلو في جملة من كتبه (29) ولم أجد هذه النسبة في كلام غيره. ونسبه سعد بن عبد الله إلى النصب قائلاً (30): (ما رأينا ولا سمعنا بمتشيع رجع عن تشيّعه إلى النصب إلا أحمد بن هلال). وقال الشيخ الأعظم الأنصاري (قدس سره) (31): رمي بالغلو تارة وبالنصب أخرى، وبعد ما بين المذهبين لعله يشهد بأنّه لم يكن له مذهب رأساً.
وقال السيد الأستاذ (قدس سره) (32): لا ينبغي الإشكال في فساد الرجل من جهة عقيدته، بل لا يبعد استفادة انه لم يكن يتديّن بشيء، ومن ثم كان يظهر الغلو مرة والنصب أخرى.
أقول: الظاهر أنّ المراد بالغلو هنا ليس الغلو في المحبة لينافي النصب بل الغلو بمعنى القول بالحلول ونحوه مما نسب إلى الحلاج والشلمغاني وأضرابهما، ومن مقتضياته ترك العبادة واستباحة المحرمات كالزناء واللواط، ولذلك كان الأصحاب يمتحنون المتهم بالغلو بذلك، فقد حكى ابن الغضائري (33) عن الحسن بن محمد بن بندار القمي أنه قال: سمعت مشايخي يقولون: إن محمد بن أورمة لما طعن عليه بالغلو اتفقت الأشاعرة ليقتلوه فوجدوه يصلي الليل من أوله إلى آخره ليالي عديدة فتوقفوا عن اعتقادهم. وحكى نظيره النجاشي (34) أيضاً.
وروى السيد ابن طاووس (35) بإسناده عن الحسين بن أحمد المالكي قال: قلت لأحمد بن هليل الكرخي: أخبرني عما يقال في محمد بن سنان من أمر الغلو. قال: معاذ الله، هو والله علّمني الطهور وحبس العيال (36) وكان متقشّفاً متعبّداً.
ولكن نسبة العبرتائي إلى الغلو ممّا لا يوجد لها شاهد في المصادر الموجودة بأيدينا ــ بخلاف الحال في الشريعي والنميري والحلاج والشلمغاني وأضرابهم ــ بل لعل الشواهد على خلافه وأن الرجل كان ظاهر الصلاح إلى آخر حياته، ولذلك لم يكن يقتنع الكثير من الشيعة بما ورد فيه من الذم.
وأمّا النصب فقيل: إن نسبته إليه إنما هي من جهة مخالفته لأمر الإمام (عليه السلام) فيما يتعلق بأبي جعفر محمد بن عثمان العمري. ولكن النصب بهذا المعنى مما لا يصلح أن يكون مثاراً للتعجب الوارد في كلام سعد بن عبد الله، فهناك العديد من أصحاب الأئمة (عليهم السلام) ممن انحرفوا عنهم ورفضوا امتثال أوامرهم فكيف يقول سعد بن عبد الله: (ما رأينا ولا سمعنا بمتشيّع رجع عن تشيّعه إلى النصب إلاّ أحمد بن هلال)!
فالأقرب أنّ مراده بالنصب هو النصب بمعناه المعروف ولكن لا يوجد أيضاً شاهد على نصب العبرتائي في شيء من المصادر المتوفرة بأيدينا.
وبالجملة: إنّ من المؤكّد انحراف الرجل وعدم امتثاله لأوامر الإمام (عليه السلام) ولا سيما فيما يتعلّق بتعيين محمد بن عثمان العمري وكيلاً له، وأما رجوعه عن التشيّع أو قوله بالغلو فممّا لم يثبت بدليل واضح.
هذا كلّه بالنسبة إلى اعتقاده ومذهبه.
وأمّا بالنسبة إلى وثاقته وضعفه فهناك اتجاهات ثلاثة:
الاتجاه الأول: البناء على وثاقته قبل الانحراف وبعده.
وهذا ما سلكه جمع منهم السيد الأستاذ (قدس سره) (37)، واستدل له بقول النجاشي (38): (صالح الرواية، يعرف منها وينكر)، بدعوى أنّ قوله: (صالح الرواية) يدل على وثاقته، فإن من لا يكون ثقة لا يقال بحقه: إنه صالح الرواية على الإطلاق، إذ إنّ غير الثقة لا تكون جميع رواياته صالحة في العادة، فاستخدام هذا التعبير يدل على وثاقة الراوي ولا أقل من حسنه الموجب لقبول رواياته، فهو نظير قولهم: (صحيح الرواية) و(نقي الرواية) و(واضح الرواية) (39) وأمثال ذلك، في مقابل قولهم: (مجفو الرواية) و(فاسد الرواية) و(مضطرب الرواية) (40) وأضراب ذلك ممّا يدل على ضعف الراوي وعدم وثاقته.
وأمّا قوله: (يعرف منها وينكر) فقد ذكر السيد الأستاذ (قدس سره) (41) أنه لا ينافي قوله: (صالح الرواية)، إذ لا تنافي بين وثاقة الراوي وروايته أموراً منكرة من جهة كذب من حدّثه بها.
وقيل (42): إنّه (ليس المراد بإنكار حديثه عدم وثاقته بل اشتمال حديثه على المناكير التي يصعب على العقول تحمّلها).
ولا يخفى ضعف كلا التوجهين، فإنه إذا كانت العلة في المناكير التي يرويها الشخص هي غيره فلا بد من التنبيه على ذلك ولا يصح إطلاق القول بأنه يروي المناكير أحياناً فإنه يفهم منه القدح فيه، بل لا بد من أن يضاف إليه مثل قولهم: (والعلة فيها غيره).
وأما دعوى أن المراد بالمناكير هو المطالب الحقة التي يصعب على العقول تحملها فمن الظاهر ضعفها، فإن الحديث المنكر هو الحديث الذي يشتمل على ما لا يقبله العقل أو يخالف واضح الشرع من الغلو والتخليط وأمثال ذلك (43)، وأما ما يشتمل على المعارف العالية التي هي فوق مستوى الإفهام المتعارفة فلا يعبّر عنه بذلك.
وبالجملة: المتداول في كلماتهم استخدام التعبير بـ(يعرف حديثه وينكر) للإشارة إلى عدم الوثوق بالراوي تماماً، كما قال النجاشي (44) في عبد الرحمن بن أحمد بن نهيك: (لم يكن في الحديث بذاك، يعرف منه وينكر)، وقال (45) في عمر بن توبة: (في حديثه بعض الشيء، يعرف منه وينكر)، وقال الشيخ (46) في إسماعيل بن علي بن رزين: (كان مختلط الأمر في الحديث، يعرف منه وينكر).
وبذلك يظهر أن قول النجاشي: (صالح الرواية يعرف منها وينكر) لا يخلو من تدافع بين صدره وذيله، ولو قال: (صالح الرواية وينكر منها أحياناً) كان خالياً من إشكال، وقد نبّه المحقق التستري (قدس سره) (47) على ما وقع من الإشكال في كلام النجاشي قائلاً: (كان من الصواب أن يقول: كثير الرواية، يعرف منها وينكر)، وهو في محله.
ولعلّ لفظ (صالح) في كلامه مصحّف (واسع) وبه يندفع الإشكال عنه، وهو المناسب مع ما ذكر من رواية العبرتائي لأكثر أصول أصحابنا.
لا يقال: ولكن نسخ رجال النجاشي والمصادر التي نقلت عنه كلها متّفقة على لفظة (صالح) فلا يمكن الاعتداد باحتمال التصحيف.
فإنّه يقال: الظاهر أنّ النسخ الموجودة من رجال النجاشي ونسخة السيد ابن طاووس التي اعتمدها في كتابه حلّ الإشكال ونسخ المتأخرين عنه ترجع
كلّها إلى نسخة واحدة هي برواية السيد ابن الصمصام ذي الفقار بن محمد بن معبد الحسني، واحتمال التصحيف فيها وارد لا دافع له، ولذلك فمن الصعب الاعتماد في وثاقة ابن هلال وقبول رواياته على التعبير بـ(صالح الرواية) المذكور في تلك النسخة مع تعقبه بقوله: (يعرف منها وينكر).
هذا وقد استدل الأستاذ (قدس سره) (48) على وثاقة ابن هلال بالإضافة إلى كلام النجاشي المتقدم بورود اسمه في أسانيد كامل الزيارات وفي تفسير القمي، ولكن مرّ غير مرة أنه لا دلالة في ذلك على الوثاقة، وقد رجع (قدس سره) عن الأول في أواخر حياته المباركة.
فالصحيح أنه لا دليل على وثاقة أحمد بن هلال قبل انحرافه وبعده كما التزم به السيد الأستاذ (قدس سره) وآخرون.
الاتجاه الثاني: البناء على وثاقته قبل الانحراف لا بعده.
وربّما يستظهر هذا التفصيل من الشيخ (قدس سره) في كتاب العدة (49) مع نسبته إلى علماء الطائفة حيث قال: (وأمّا ما ترويه الغلاة.. فإن كانوا ممّن عرف لهم حال استقامة وحال غلو عمل بما رووه في حال الاستقامة وترك ما رووه في حال تخليطهم، ولأجل ذلك عملت الطائفة بما رواه أبو الخطاب محمد بن أبي زينب في حال استقامته وتركوا ما رواه في حال تخليطه، وكذلك القول في أحمد بن هلال العبرتائي وابن أبي عزاقر وغير هؤلاء، فأمّا ما يروونه في حال تخليطهم فلا يجوز العمل به على كل حال).
ولهذا التفصيل بعض الشواهد في كلمات بعض المتقدمين على الشيخ (قدس سره) كما في بعض أسانيد الصدوق (قدس سره)، حيث أورد رواية (50) بإسناده عن (يعقوب بن يزيد عن أحمد بن هلال في حال استقامته).
وقد ذهب المحقق التستري إلى ما يقرب من هذا التفصيل حيث قال (51): (التحقيق أن الرجل حيث كان له حال استقامة وحال تخليط يعمل بما رواه في استقامته كما نقله العدة عن الطائفة، وأما ما رواه في حال تخليطه فإن كان من المشيخة والنوادر أيضاً عمل به كما قال ابن الغضائري وإلا فلا..).
وقال السيد الأستاذ (قدس سره) (52): لا يبعد أن يكون في تفصيل الشيخ بين ما رواه العبرتائي حال الاستقامة وما رواه بعدها شهادة بوثاقته فإنه إن لم يكن ثقة لم يجز العمل برواياته حال الاستقامة أيضاً.
أقول: كون الراوي ثقة متحرجاً عن الكذب في أيام استقامته في العقيدة والمذهب ثم فقدانه لصفة الوثاقة بعد انحرافه في الدين ليس أمراً مستغرباً بل هو واقع في حالات كثيرة، ولذلك يمكن القول بأن التفصيل في روايات أحمد بن هلال بين ما رواها أيام استقامته وما رواها بعد انحرافه مما يمكن الالتزام به إذا كان مرجعه إلى التفصيل بين ما رواه أيام وثاقته وما رواه بعدها.
ولكن في كون مرجع التفصيل الوارد في كلام الشيخ (قدس سره) إلى ما ذكر تأمل وإشكال، بل لعله تفصيل بلحاظ أصل الاستقامة والغلو أي أن الغالي لا يؤخذ بروايته حتى لو كان ثقة في النقل، كما لوحظ أنه فصّل (53) في الراوي المتحرج عن الكذب إذا كان من بعض فرق الشيعة الأخرى كالفطحية والواقفة بين ما إذا كان لروايته معارض من طرق الإمامية الاثني عشرية فحكم بعدم قبول روايته وما إذا لم يكن لها معارض فقال إنه يؤخذ بها عندئذٍ.
وبالجملة لا يظهر من كلام الشيخ (قدس سره) التفصيل في قبول روايات ابن هلال بلحاظ كونه ثقة قبل انحرافه غير ثقة بعده، فلا دليل على التفصيل المذكور.
ويضاف إلى ذلك: أن الانحراف في العقيدة لا يحدث عادة خلال مدة قصيرة بل لا تظهر بوادره على الشخص إلاّ بعد حصوله واقعاً مدة من الزمن، فإذا كان الانحراف بوجوده الواقعي مقترناً بعدم التحرّج عن الكذب يصبح التفصيل في قبول روايات الشخص بين حالة الاستقامة والانحراف قليل الجدوى، إذ إنّه لا يظهر عليه الانحراف إلاّ ويحرز عادة أنّه كان منحرفاً
في واقعه قبل ذلك مدة غير قصيرة، فمع العلم بعدم تحرّزه عن الكذب بعد انحرافه يصعب تشخيص ما كان من رواياته في حال استقامته الواقعية ليؤخذ بها.
والحاصل: أنّ كثيراً من الذين يظهر عليهم الانحراف هم ممّن ينكشف بذلك انحرافهم من قبله بوقت غير قصير، بل قد يرتاب في أمرهم من الأول، وعلى ذلك لا يتيسّر الاعتماد على معظم رواياتهم التي رووها قبل الانحراف إذا كان انحرافهم يمس جانب الوثاقة فيهم أيضاً.
ولعلّه لذلك نجد أنّ الشيخ (قدس سره) وإن ذكر أنّ الطائفة عملت بما رواه أبو الخطّاب محمد بن أبي زينب في حال استقامته إلا أن ابن الغضائري ــ وهو الأدق والأبرع في هذا المجال ــ قال (54): (وأرى ترك ما يقول أصحابنا: حدثنا أبو الخطاب في حال استقامته).
الاتجاه الثالث: البناء على عدم ثبوت وثاقة العبرتائي حتى قبل انحرافه.
وهذا هو الذي ذهب إليه غير واحد من الأعلام (رضوان الله عليهم)، ويمكن الاستدلال له بأمور:
1 ــ أنّ ابن الوليد قد استثنى العبرتائي فيمن استثناهم من رجال نوادر الحكمة، وقد وافقه في ذلك تلميذه الصدوق وكل من ابن نوح والنجاشي، وقد مرّ في بحث سابق أنّ الاستثناء ظاهر في عدم وثاقة المستثنين، بقرينة اعتراض ابن نوح على ابن الوليد في ذكر محمد عيسى بن عبيد في عدادهم قائلاً (55): (ما أدري ما رابه فيه، لأنه كان على ظاهر العدالة والثقة).
2 ــ أنّ الصدوق قد ناقش في بعض الروايات التي هي من طريق العبرتائي قائلاً (56): (على أنّ راوي هذا الخبر أحمد بن هلال وهو مجروح عند مشايخنا.. وكانوا يقولون: إنّ ما تفرّد بروايته أحمد بن هلال فلا يجوز استعماله).
3 ــ أنّ الشيخ (قدس سره) قد ضعّفه في بعض كلماته حيث قال (57): (أحمد بن هلال ضعيف فاسد المذهب لا يلتفت إلى حديثه فيما يختصّ بنقله).
4 ــ أنّ العلامة (قدس سره) (58) قد حكى عن ابن الغضائري توقّفه في حديث العبرتائي إلاّ فيما يرويه عن الحسن بن محبوب من كتاب المشيخة ومحمد بن أبي عمير من نوادره، فإنّه قد سمع هذين الكتابين جلّ أصحاب الحديث واعتمدوه فيهما.
وظاهر الذيل أنّ الرجل لم يكن ثقة ولكن حيث إن جلّ أصحاب الحديث اعتمدوه في رواية مشيخة ابن محبوب ونوادر ابن أبي عمير كان ذلك موجباً للوثوق بصحة نقله لهما ولذلك جاز الاعتماد عليه فيهما، ولو كان ثقة لما كان هناك مجال للتفصيل بين الكتب.
ومن الغريب ما ذكره السيد الأستاذ (قدس سره) (59) من أنّ الظاهر أنّ تفصيل ابن الغضائري يرجع إلى تفصيل الشيخ ــ أي بين رواياته أيام استقامته وبين رواياته بعدها ــ وإلاّ فلو كان الرجل ثقة أو غير ثقة فكيف يفرق بين رواياته عن كتاب ابن محبوب ونوادر ابن أبي عمير وبين غيرها.
وجه الغرابة: أنّه كيف يحتمل أن يكون نظر ابن الغضائري إلى التفصيل الذي ذكره الشيخ (قدس سره) مع أنّ مقتضاه أنّه لم يكن لابن هلال رواية في أيام استقامته إلا روايته لكتابي المشيخة والنوادر! وهذا مقطوع البطلان، فإنّ الرجل ــ كما سبق ــ كان قد روى أكثر أصول أصحابنا وأنّ رواة الاصحاب في العراق كانوا قد كتبوا عنه قبل انحرافه، فلا يحتمل أن يكون ما ذكره ابن الغضائري من جواز الاعتماد عليه في رواية الكتابين هو من جهة كونهما من مروياته في أيام استقامته بل إنّما هو من جهة حصول الوثوق بنقله لهما بالنظر إلى اعتماد جلّ أصحاب الحديث عليه في ذلك، كما بيّنه في ذيل كلامه.
وكيف كان فالظاهر تمامية الأمور المتقدمة التي استدل بها للاتجاه الثالث المذكور من عدم ثبوت وثاقة العبرتائي حتى قبل انحرافه.
فإن بُنِيَ على عدم تمامية شيء مما استدل به للاتجاهين الأول والثاني فلا إشكال في لزوم الأخذ بمقتضى الاتجاه الثالث، وأمّا بناءً على تمامية ما استدل به للاتجاه الأول من دلالة كلام النجاشي على وثاقة الرجل أو كون ورود اسمه في أسانيد كامل الزيارات أو تفسير القمي دليلاً على توثيقه فلا محالة يقع التعارض بين توثيق النجاشي ــ مثلاً ــ وبين التضعيف المستفاد من استثناء الرجل من رجال نوادر الحكمة ــ مثلاً ــ فلا يمكن البناء على وثاقته، على خلاف ما التزم به السيد الأستاذ (قدس سره) (60).
هذا إذا بني على تماميّة ما ذكر وجهاً للاتجاه الأول المتقدم.
وأمّا إذا بني على تمامية ما ذكر وجهاً للاتجاه الثاني ــ أي التفصيل في وثاقة ابن هلال بين ما قبل انحرافه وما بعده ــ فقد يقال: إنّه يسهل عندئذٍ الجمع بين ذاك التفصيل وبين استثناء الرجل ممّن ورد في أسانيد نوادر الحكمة وتصريح الصدوق أو الشيخ بأنّه لا يعمل بما ينفرد به ويختصّ بنقله وتوقّف ابن الغضائري في حديثه إلّا ما رواه من كتابي المشيخة والنوادر، فإنّ هذا كله يكون محمولاً على ما رواه بعد انحرافه.
ولا إشكال (61) في عدم حضور أجلاء الأصحاب للرواية عنه بعد الانحراف وبعد اشتهار لعنه والبراءة منه والتشنيع من الإمام (عليه السلام) عليه بنحو لا يناسب معاشرتهم له فضلاً عن روايتهم عنه أو عملهم بالرواية.
ولو فرض روايتهم عنه بعد انقلابه قبل ظهور حاله أو بعده فهل يمكن لأحد منهم العمل بالرواية أو تدوينها والاهتمام بحفظها وإفادتها بعد إظهار الإمام (عليه السلام) حاله بالوجه المذكور إلا بعد كمال التثبّت وشدة الاحتياط في صدور الرواية.
وبالجملة: من المعلوم من حال الأصحاب في الروايات التي بأيديهم عنه أخذها منه في حال الاستقامة أو التثبّت من صحتها بعد ظهور حاله لو فرض تحملهم لها بعد انقلابه ولو لعدم الاطلاع على حاله بعد.
أقول: تقدّم أنّ ابن هلال مات سنة (267 هـ) عن عمر يناهز السابعة والثمانين وكانت وفاة الإمام العسكري (عليه السلام) سنة (260 هـ)، فهو لم يدرك من عصر الغيبة الصغرى إلاّ حوالي سبعة أعوام، وأما تاريخ انحرافه فهو غير محدّد بالضبط، إذ لم تحدّد المصادر تاريخ وفاة النائب الأول عثمان بن سعيد، فلا يعلم تحديداً متى تولى ابنه محمد النيابة لكي يعرف زمن تشكيك ابن هلال في نيابته، ولكن يبدو أنّ انحراف الرجل كان في أواخر عمره بقرينة ما ورد في التوقيع الشريف: ((فبتر الله عمره بدعوتنا)) حيث يظهر منه أنّه كان يقدر له أن يعيش أكثر إلّا أنّه بتر عمره بدعوة الإمام (عجل الله فرجه)، ويناسب هذا أن يكون انحرافه في السنة أو السنتين الأخيرتين من حياته.
وعلى ذلك يمكن القول بأنّ عمدة رواياته كانت في أيام استقامته، من جهة أنّ انحرافه كان قريباً من زمن وفاته، لا من جهة استبعاد أن يتصل به الشيعة ويأخذوا الحديث منه بعد انحرافه وما ورد فيه من الذموم، فإن أمر انحرافه وقدح الإمام (عليه السلام) فيه مما لم يشتهر ولم يعلم به إلا الخواص في أيام حياته وإنما ذاع واشتهر بعد وفاته، فلا يستبعد اتصال الشيعة به وأخذ الحديث منه حتى بعد انحرافه لعدم علمهم بذلك، خاصة وهو الصوفي المتصنع بنص الإمام (عجل الله فرجه)، نعم لا تستبعد قلة
الروايات المنقولة عنه بعد انحرافه، لقصر حياته من بعده إذ بتر الله تعالى عمره بدعاء الإمام (عليه السلام).
وبذلك يظهر أنّه من الصعب جداً حمل ما ذكره الصدوق (قدس سره) من أن الرجل كان مجروحاً عند مشايخه وكانوا يقولون: إن ما تفرد بروايته لا يجوز استعماله على خصوص ما روي عنه بعد انحرافه، فانه يشبه حمل المطلق على الفرد النادر، لفرض أن معظم روايات الرجل كانت في زمن استقامته وكونها مقبولة عندهم فلا ينبغي إطلاق القول بأنه مجروح غير مقبول الرواية فيما يتفرد به بل ينبغي القول بأنه مقبول الرواية إلا ما لا نعلم كونه من مروياته قبل الانحراف أو بعده.
وهكذا الحال بالنسبة إلى ما ذكره الشيخ (قدس سره) من أنّه لا يلتفت إلى حديثه فيما يختص بنقله، وكذلك توقف ابن الغضائري في حديثه إلاّ فيما رواه من كتابي النوادر والمشيخة، فإن حمل ما ذكراه على خصوص ما كان من مروياته بعد انحرافه مما لا سبيل إلى الالتزام به لما تقدّم.
نعم استثناء ما رواه محمد بن أحمد بن يحيى عنه يحتمل أن يكون من جهة كونه قد أدركه وتحمل الحديث عنه بعد انحرافه، وإن كان هذا الاحتمال لا يخلو من ضعف فإنّ مقتضى الشواهد أنّ محمد بن أحمد بن يحيى زار العراق والتقى بمشايخه من أصحابنا العراقيين قبل عام (262 هـ) وهو عام وفاة محمد بن الحسين بن أبي الخطاب الذي أكثر الرواية عنه.
وفي كلّ الأحوال فإنّ مقتضى استثناء العبرتائي من رجال نوادر الحكمة هو عدم اعتبار روايات محمد بن أحمد بن يحيى عنه إمّا من جهة أنّها من رواياته عنه بعد انحرافه وسقوطه عن الوثاقة وإمّا من جهة أنها وإن كانت من مروياته قبل انحرافه إلاّ أنه لم يكن ثقة آنذاك أيضاً.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
اتحاد كليات الطب الملكية البريطانية يشيد بالمستوى العلمي لطلبة جامعة العميد وبيئتها التعليمية
|
|
|