أقرأ أيضاً
التاريخ: 23-6-2019
3973
التاريخ: 26-6-2019
5174
التاريخ: 29-3-2016
3689
التاريخ: 28-3-2016
3476
|
الاستعداد للقتال
لَمّا أصبح الحسين عليه السلام يوم عاشوراء، وكان يوم الجمعة، صلّى بأصحابه صلاة الصبح، وقام خطيبًا فيهم، فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: "إنَّ اللهَ تعالى قَد أَذِنَ في قَتْلِكُم وَقَتْلِي في هذا اليومِ، فَعَلَيْكُم بِالصَّبْرِ وَالقِتالِ"[1].
وأصبح عمر بن سعد في ذلك اليوم، فعبّأ أصحابه، وخرج فيمن معه من الناس نحو الحسين عليه السلام، وكان على ميمنته عمرو بن الحجّاج الزبيديّ، وعلى ميسرته شمر بن ذي الجوشن، وعلى الخيل عزرة بن قيس الأحمسيّ، وعلى الرجّالة شبث بن ربعيّ، وأعطى الراية ذويدًا (دريدًا) مولاه[2].
ولَمّا صبَّحَت الخيلُ الحسينَ عليه السلام، رفع يدَيه، وقال: "اللَّهُمَّ، أَنْتَ ثِقَتِي فِي كُلِّ كَرْبٍ، وَرَجَائِي فِي كُلِّ شِدَّةٍ، وَأَنْتَ لِي فِي كُلِّ أَمْرٍ نَزَلَ بِي ثِقَةٌ وَعُدَّةٌ. كَمْ مِنْ هَمٍّ يَضْعُفُ فِيهِ الْفُؤَادُ، وَتَقِلُّ فِيهِ الْحِيلَةُ، وَيَخْذُلُ فِيهِ الصَّدِيقُ، وَيَشْمَتُ فِيهِ الْعَدُوُّ، أَنْزَلْتُهُ بِكَ، وَشَكَوْتُهُ إِلَيْكَ، رَغْبَةً مِنِّي إِلَيْكَ عَمَّنْ سِوَاكَ، فَفَرَّجْتَهُ وَكَشَفْتَهُ، وَأَنْتَ وَلِيُّ كُلِّ نِعْمَةٍ، وَصَاحِبُ كُلِّ حَسَنَةٍ، وَمُنْتَهَى كُلِّ رَغْبَةٍ"[3]. ثمّ صفّ أصحابَه للحرب، وكانوا اثنين وسبعين فارِسًا وراجلًا (اثنين وثلاثين فارسًا، وأربعين راجلًا)[4]، فجعل زُهير بن القين في الميمنة، وحبيب بن مظاهر في الميسرة[5]، وثَبَتَ هو وأهل بيته في القلب[6]، وأعطى رايتَه أخاه العبّاس[7]، ثمّ وقف ووقفوا معه أمام البيوت[8]، وجعلوا البيوت في ظهورهم، وأمرَ بحطبٍ وقصبٍ، كان من وراء البيوت، أن يُترَك في خندقٍ كان قد حُفِرَ هناك، وأن يُحرَق بالنار، مخافةَ أن يأتوهم من ورائهم[9].
وزحف عمر بن سعد نحو الإمام الحسين عليه السلام في ثلاثين ألفًا. ثمّ أقبل أصحابُه يجولون حول البيوت، فإذا بالنار تضطرم في الحطب والقصب الذي كان أنصار الإمام الحسين عليه السلام قد ألهبوا فيه النار من ورائهم, لئلّا يأتوهم من خلفهم. وتقدّمَ منهم رجلٌ من أصحاب عمر بن سعد، يركض على فرسٍ كامل الأداة، فلم يكلّمهم، حتّى مَرَّ على أبياتهم، فنظر إليها، فإذا هو لا يرى إلا حطبًا تلتهب النار فيه، فرجع فنادى بأعلى صوته: يا حسين، استعجلتَ النار في الدنيا قبل يوم القيامة!
فقال الحسين عليه السلام: "مَنْ هَذا؟ كَأَنَّهُ شِمْرُ بْنُ ذِي الجَوْشَنِ".
فقالوا: نعم، أصلحَك الله، هو هو. فقال عليه السلام: "يَابْنَ رَاعِيةِ المعزى، أنتَ أَوْلى بِها صَلْيًا!"، فقال له مسلم بن عوسجة: يابنَ رسولِ الله، جُعِلْتُ فِداك، ألا أرميه بسهمٍ، فإنَّه قد أمكنني، وليس يسقطُ سهمٌ، فالفاسقُ مِن أعظمِ الجبَّارين!
فقال له الحسين عليه السلام: "لا ترمِهِ، فإنّي أَكْرَهُ أنْ أبدأَهُم"[10].
خطبة الإمام الحسين عليه السلام الأولى في أهل العراق
ثمّ دعا الإمام الحسين عليه السلام براحلته، فركبها وتقدَّمَ حتّى وقف بإزاء القوم، فجعل ينظر إلى صفوفهم، كأنّهم السيل، ونظر إلى ابن سعد واقفًا في صناديد الكوفة، ثمّ نادى بأعلى صوته، وجلُّهم يسمعون: "يَا أَهْلَ العِرَاقِ!"، ثمّ قال: "أَيُّهَا النَّاسُ، اسْمَعُوا قَوْلِي، وَلَا تَعْجَلُوا حَتَّى أَعِظَكُمْ بِمَا يَحِقُّ لَكُمْ عَلَيَّ، وَحَتَّى أُعْذِرَ إِلَيْكُمْ، فَإِنْ أَعْطَيْتُمُونِي النَّصَفَ، كُنْتُمْ بِذَلِكَ أَسْعَدَ، وَإِنْ لَمْ تُعْطُونِي النَّصَفَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ، فَأَجْمِعُوا رَأْيَكُمْ، ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً، ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ، إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ، وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ"، ثمّ حمد الله وأثنى عليه، وذكر الله بما هو أهله، وصلّى على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وعلى ملائكة الله وأنبيائه، فلم يُسمَع متكلِّمٌ في قبله ولا بعده، أبلغ منطقًا منه، فقال: "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ الدُّنْيَا، فَجَعَلَهَا دَارَ فَنَاءٍ وَزَوَالٍ، مُتَصَرِّفَةً بِأَهْلِهَا حَالًا بَعْدَ حَالٍ، فَالْمَغْرُورُ مَنْ غَرَّتْهُ، وَالشَّقِيُّ مَنْ فَتَنَتْهُ، فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا، وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ، فَنِعْمَ الرَّبُّ رَبُّنَا! وَبِئْسَ الْعِبَادُ أَنْتُمْ! أَقْرَرْتُمْ بِالطَّاعَةِ، وَآمَنْتُمْ بِالرَّسُولِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم، ثُمَّ أَنْتُمْ رَجَعْتُمْ إِلَى ذُرِّيَّتِهِ وَعِتْرَتِهِ تُرِيدُونَ قَتْلَهُمْ! لَقَدِ اسْتَحْوَذَ عَلَيْكُمُ الشَّيْطَانُ، فَأَنْسَاكُمْ ذِكْرَ اللَّهِ الْعَظِيمِ، فَتَبًّا لَكُمْ وَلِمَا تُرِيدُونَ! إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ. هَؤُلَاءِ قَوْمٌ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ، فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِين!
أَمَّا بَعْدُ، فَانْسُبُونِي، فَانْظُرُوا مَنْ أَنَا، ثُمَّ ارْجِعُوا إِلَى أَنْفُسِكُمْ وَعَاتِبُوهَا، فَانْظُرُوا هَلْ يَصْلُحُ لَكُمْ قَتْلِي وَانْتِهَاكُ حُرْمَتِي؟ أَلَسْتُ ابْنَ بِنْتِ نَبِيِّكُمْ، وَابْنَ وَصِيِّهِ وَابْنِ عَمِّهِ وَأَوَّلِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُصَدِّقِ لِرَسُولِ اللَّهِ بِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ؟ أَوَلَيْسَ حَمْزَةُ سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ عَمِّي؟ أَوَلَيْسَ جَعْفَرٌ الطَّيَّارُ فِي الْجَنَّةِ بِجِنَاحَيْنِ عَمِّي؟ أوَلَمْ يَبْلُغْكُمْ مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ لِي وَلِأَخِي: "هَذَانِ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ"؟ فَإِنْ صَدَّقْتُمُونِي بِمَا أَقُولُ، وَهُوَ الْحَقُّ، وَاللَّهِ، مَا تَعَمَّدْتُ كَذِبًا مُنْذُ عَلِمْتُ أَنَّ اللَّهَ يَمْقُتُ عَلَيْهِ أَهْلَهُ. وَإِنْ كَذَّبْتُمُونِي، فَإِنَّ فِيكُمْ مَنْ لَوْ سَأَلْتُمُوهُ عَنْ ذَلِكَ، أَخْبَرَكُمْ, سَلُوا جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيَّ، وَأَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ، وَسَهْلَ بْنَ سَعْدٍ السَّاعِدِيَّ، وَزَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ، وَأَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، يُخْبِرُوكُمْ أَنَّهُمْ سَمِعُوا هَذِهِ الْمَقَالَةَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم لِي وَلِأَخِي. أَمَا فِي هَذَا حَاجِزٌ لَكُمْ عَنْ سَفْكِ دَمِي؟!".
فقال عمر: ويلَكُم! كَلِّموه، فإنّه ابنُ أبيه. والله، لو وقف فيكم هكذا يومًا جديدًا، لَمَا انقطع، ولَمَا حصر، فكَلِّموه!
فتقدّمَ شمر (لعنه الله)، فقال: يا حُسين، ما هذا الذي تقول؟ أَفْهِمْنا حتّى نفهم!
فقال: "أَقُولُ: اتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ، وَلَا تَقْتُلُونِي, فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَكُمْ قَتْلِي، وَلَا انْتِهَاكُ حُرْمَتِي, فَإِنِّي ابْنُ بِنْتِ نَبِيِّكُمْ، وَجَدَّتِي خَدِيجَةُ زَوْجَةُ نَبِيِّكُمْ، وَلَعَلَّهُ قَدْ بَلَغَكُمْ قَوْلُ نَبِيِّكُمْ: الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّة..."[11].
فقال له شمر بن ذي الجوشن: أَنَا أَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ إِنْ كُنْتُ أَدْرِي مَا تَقُولُ[12].
فقال له حبيب بن مظاهر: والله، إنّي لَأراكَ تَعبُدُ اللهَ على سبعين حرفًا، وأنا أشهدُ أنَّكَ صادقٌ، ما تدري ما يقول، قد طبعَ اللهُ على قلبِك.
فقال له الإمام الحسين عليه السلام: "حَسْبُكَ يَا أَخا بَنِي أَسَدٍ! فقدْ قُضِيَ القضاءُ، وجَفَّ القلمُ، واللهُ بالغُ أمرِهِ. والله، إنّي لَأَشوَقُ إلى جدِّي وأبي وأمّي وأخي وأسلافي مِنْ يَعقوبَ إلى يُوسُفَ وأخيه! ولي مصرعٌ أنا لاقِيه!".
ثمّ قال لهم الحسين عليه السلام: "فإنْ كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِن هَذا، أَفَتَشُكُّونَ أَنّي ابنُ بِنْتِ نَبِيِّكُم؟! فواللهِ، مَا بينَ المشرقِ وَالمغربِ ابنُ بنتِ نَبِيٍّ غيري فيكُم، ولا في غيرِكُم. وَيْحَكُمْ! أتطلبوني بِقَتِيلٍ مِنْكُمْ قَتَلْتُهُ، أو مالٍ لكُم استهلَكْتُهُ، أو بِقصاصِ جراحةٍ؟!".
فأخذوا لا يكلِّمونَه، فنادى: "يَا شَبَثَ بْنَ رِبْعِيٍّ، يَا حَجَّارَ بْنَ أَبْجَرَ، يَا قَيْسَ بْنَ الْأَشْعَثِ، يَا يَزِيدَ بْنَ الْحَارِثِ، أَلَمْ تَكْتُبُوا إِلَيَّ أَنْ قَدْ أَيْنَعَتِ الثِّمَارُ، وَاخْضَرَّ الْجَنَابُ، وَإِنَّمَا تَقْدَمُ عَلَى جُنْدٍ لَكَ مُجَنَّد؟!".
فقال له قيس بن الأشعث: مَا نَدْرِي مَا تقولُ، وَلَكِن انزِلْ عَلَى حُكْمِ بَنِي عَمِّكَ، فّإنَّهُم لن يُرُوكَ إلّا مَا تُحِبُّ.
فقال له الحسين عليه السلام: "لَا، وَاللَّهِ، لَا أُعْطِيكُمْ بِيَدِي إِعْطَاءَ الذَّلِيلِ، وَلَا أَفِرُّ فِرَارَ (أُقِرُّ إِقْرَارَ) الْعَبِيدِ".
ثمّ نادى: "يَا عِبادَ اللهِ، إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ، وَأَعُوذُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِساب".
ثمّ إنّه أناخ راحلته، وأمر عقبة بن سمعان، فعقلها[13].
ثمّ خطب الإمام الحسين عليه السلام خطبةً ثانية، وقال: "تَبًّا لَكُمْ أَيَّتُهَا الْجَمَاعَةُ وَتَرَحًا! وَبُؤْسًا لَكُمْ حِينَ اسْتَصْرَخْتُمُونَا وَالِهِينَ، فَأَصْرَخْنَاكُمْ مُوجِفِينَ، سَلَلْتُمْ عَلَيْنَا سَيْفًا لَنَا فِي أَيْمَانِكُمْ، وَحَشَشْتُمْ عَلَيْنَا نَارًا اقْتَدَحْنَاهَا عَلَى عَدُوِّنَا وَعَدُوِّكُمْ، فَأَصْبَحْتُمْ إِلْبًا لِأَعْدَائِكُمْ عَلَى أَوْلِيَائِكُمْ، بِغَيْرِ عَدْلٍ أَفْشَوْهُ فِيكُمْ، وَلَا أَمَلٍ أَصْبَحَ لَكُمْ فِيهِمْ! فَهَلَّا لَكُمُ الْوَيْلَاتُ! تَرَكْتُمُونَا وَالسَّيْفُ مَشِيمٌ، وَالْجَأْشُ طَامِنٌ، وَالرَّأْيُ لِمَا يُسْتَحْصَفُ! وَلَكِنْ أَسْرَعْتُمْ إِلَيْهَا كَطَيْرَةِ الدَّبَى، وَتَدَاعَيْتُّمْ إِلَيْهَا كَتَهَافُتِ الْفِرَاشِ، فَسُحْقًا يَا عَبِيدَ الأُمَّة، وَشُذَاذَ الْأَحْزَابِ، وَنَبَذَةِ الْكِتَابِ، وَمُحَرِّفِي الكَلِمِ، وَعُصْبَةَ الآثَامِ، وَنَفَثَةَ الشَّيْطَانِ، وَمُطْفِئِي السُّنَنِ! أَهَؤُلَاءِ تَعْضدُونَ، وَعَنَّا تَتَخَاذَلُونَ؟
أَجَلْ، وَاللهِ، الغَدْرُ فِيكُمْ قَدِيمٌ، وَشَجَتْ إِلَيْهِ أُصُولُكُمْ، وَتَأَزَّرَتْ عَلَيْهِ فُرُوعُكُمْ، فَكُنْتُمْ أَخْبَثَ ثَمَر شَجَى لِلنَّاظِرِ، وأَكلة للغاصب!
أَلَا وَإِنَّ الدَّعِيَّ ابْنَ الدَّعِيِّ قَدْ رَكَزَ بَيْنَ اثْنَتَيْنِ، بَيْنَ السَّلَّةِ وَالذِّلَّةِ، وَهَيْهَاتَ مِنَّا الذِّلَّةُ! يَأْبَى اللَّهُ لَنَا ذَلِكَ، وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَحُجُورٌ طَابَتْ وَطَهُرَتْ، وَأُنُوفٌ حَمِيَّةٌ، وَنُفُوسٌ أَبِيَّةٌ، مِن أَنْ نُؤْثِرَ طَاعَةَ اللِّئَامِ عَلَى مَصَارِعِ الْكِرَامِ! أَلَا وَإِنِّي زَاحِفٌ بِهَذِهِ الْأُسْرَةِ، مَعَ قِلَّةِ الْعَدَدِ، وَخَذْلَةِ النَّاصِرِ!
فَإِنْ نَهْزِمْ فَهَزَّامُونَ قـِدمـًا وإنْ نُغْلَـبْ فَغَـْيرُ مُغَلَّبِيـَنا
وَ مَا إِنْ طِبُّنَا جُبْنٌ وَلَكِنْ مَنَايَانَا وَدَوْلَةُ آخَرِينَا
إِذَا مَـا الـمَوْتُ رُفِّعَ عَنْ أُنَاسٍ كَـلَاكِـلَهُ أَنَـاخَ بِآخَـرِيـنَا
فَـأَفْنَى ذَلِـكُمْ سَروَاتِ قَوْمِـي كَمَـا أَفْنَـى القُرُونَ الأَوَّلِينَا
فَلَوْ خَلَدَ الْمُلُوكُ إِذًا خَلَدْنَا وَلَوْ بَقِيَ الْكِرَامُ إِذاً بَقِينَا
فَقُلْ لِلشَّامِتِينَ بِنَا أَفِيقُوا سَيَلْقَى الشَّامِتُونَ كَمَا لَقِينَا
ثُمَّ أَيم الله، لَا تَلْبَثُونَ بَعْدَهَا إِلَّا كَرَيْثِ مَا يُرْكَبُ الْفَرَسُ، حَتَّى تَدُورَ بِكُمُ الرَّحَى، وَتقْلقَ بِكُمْ قَلَقَ المِحْوَرِ، عَهْدٌ عَهِدَهُ إِلَيَّ أَبِي عَنْ جَدِّي، فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ، ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غمَّةً، ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ، إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ، ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا، إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم".
ثمّ رفع يدَيه نحو السماء، وقال:
"اللَّهُمَّ، احْبِسْ عَنْهُمْ قَطْرَ السَّمَاءِ، وَابْعَثْ عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِيِّ يُوسُفَ، وَسَلِّطْ عَلَيْهِمْ غُلَامَ ثَقِيفٍ يَسْقِيهِمْ كَأْسًا مُصَبَّرَةً، وَلَا يَدَعُ فِيهِمْ أَحَدًا إِلَّا انْتَقَمَ لِي مِنْهُ، قَتْلَةً بِقَتْلَةٍ، وَضَرْبَةً بِضَرْبَةٍ، وَإِنَّهُ لَيَنْتَصِر لِي وَلِأَهْلِ بَيْتِي وَأَشْيَاعِي، فَإِنَّهُمْ كَذَبُونَا وَخَذَلُونَا، وَأَنْتَ رَبُّنَا، عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصِير".
واستدعى الحسينُ عليه السلام عمر بن سعد، فدُعِيَ له، وكان كارهًا لا يحبُّ أن يأتيه، فقال: "أَيْ عُمَر! أَتَزعَمُ أنّكَ تقتلُني، ويولّيكَ الدَّعِيَّ بلادَ الرَّيِّ[14] وجُرجانَ[15]؟ واللهِ، لَا تهنأ بذلك، عهدٌ معهودٌ. فاصنَعْ ما أنتَ صانِعٌ، فإنَّك لا تفرحُ بَعدِي بدنيا وَلا آخِرة، وَكأنّي بِرَأسِكَ على قصبةٍ يتراماه الصبيانُ بالكوفةِ، ويتّخذونَه غَرَضًا بَيْنَهُم"... فصرف بوجهه عنه مغضبًا[16].
نشوب القتال
تقدَّمَ عمر بن سعد نحو جيش الحسين عليه السلام، ثمّ نادى غلامَه: يا ذويد (دريد)، أَدْنِ رايتَك. فأدناها، ثمّ وضع عمر سهمَه في كبد قوسِه، ثمّ رمى بسهمٍ، فقال: اشْهَدُوا ( لي عِنْدَ الأَمِيرِ)، أَنّي أَوَّلُ مَن رمى[17]! فرمى أصحابُه[18] كلّهم بأجمعهم في أثره، رشقةً واحدةً، كأنَّها القطر[19]، فما بقي من أصحاب الحسين عليه السلام أحدٌ إلاّ أصابَه مِن رميتِهم سهمٌ[20]. فقال الإمام الحسين عليه السلام لأصحابه: "قُومُوا، يَرْحَمكُم اللهُ، إلى الموتِ الذي لا بدَّ منه، فإنَّ هذهِ السِّهامَ رُسُلُ القَومِ إليكُم!".
توبة الحرّ
فلمّا رأى الحرُّ بن يزيد الرياحيّ أنَّ القومَ قد صمَّموا على قتال الحسين عليه السلام، وكان قد شاع في صفوف جيش ابن سعدٍ أنّ الإمام الحسين عليه السلام عَرَضَ خصالًا على عمر بن سعد، أحدُها أنْ يتركوه يضع يده في يد يزيد، وقد تقدَّم أنّ ذلك ليس إلّا كذبةً ابتكرها عمر بن سعد نفسه, لكي ينجو من التورُّط في قتلِ الحسين عليه السلام، وقد انتهت هذه الكذبة حين رفض عبيد الله بن زياد اقتراحَ عمر، فقد تقدَّم الحرُّ من ابن سعد، وقال له: أَيْ عُمَر، أَصلَحَكَ اللهُ! أَمُقاتِلٌ أنتَ هذا الرجل؟!
قال: إِي والله، قتالًا أيسرُه أن تسقطَ الرؤوسُ وتطيحَ الأيدي.
قال: أفما لكم في واحدةٍ من الخصال التي عرض عليكم رضى؟
قال عمر بن سعد: أمَا والله، لو كان الأمرُ إليَّ، لفعلتُ، ولكنَّ أميرَك قد أبى ذلك.
فأقبلَ الحرُّ، حتّى وقف من الناس موقِفًا، ومعه رجلٌ من قومه، يُقال له: قرّة بن قيس، فقال: يا قرّة، هل سَقَيْتَ فرسَك اليوم؟
قال: لا.
قال الحرّ: فما تريد أن تسقيَه؟
قال قرّة: فظننْتُن والله، أنّه يريد أن يتنحّى، فلا يشهد القتالَ، وكَرِهَ أنْ أراهُ حين يَصنَعُ ذلك، فيَخافُ أنْ أرفعَه عَليْهِ، فقلتُ له: لم أَسْقِهِ، وأنا مُنطَلِقٌ فساقِيهِ. فاعتزلتُ ذلكَ المكانَ الذي كان فيه.
فأخذ الحرُّ يدنو من حسينٍ، قليلًا قليلًا، فقال له رجلٌ من قومِه، يُقالُ له: المهاجر بن أوس: ما تريد يا ابن يزيد؟ أتريد أن تَحمِلَ؟
فسَكَتَ الحرّ، وأخذَهُ مثل العرواء (الأفكل)، وهي الرعدة.
فقال له: يا ابن يزيد، والله، إنّ أَمْرَكَ لمريب! والله، ما رأيتُ منكَ في موقفٍ قطّ مثلَ شيءٍ أراهُ الآن! ولو قيل لي: مَن أشجعُ أهلِ الكوفةِ رجلًا؟ ما عَدَوْتُكَ. فما هذا الذي أرى منك؟
قال الحرُّ: إنّي، والله، أخيّرُ نفسي بين الجنّة والنار. ووالله، لا أختار على الجنّة شيئًا، ولو قُطِّعتُ وحُرِّقتُ!
ثمّ ضرب فرسَه، فلحق بالإمام الحسين عليه السلام، وهو يقول: اللهمَّ، إليكَ أنيبُ، فتُبْ عَلَيَّ، فقد أرعبْتُ قلوبَ أوليائِكَ وأولادِ نبيِّكَ[21].
ثمّ قال له: جعلَني اللهُ فداكَ يابن رسول الله! أنا صاحبُك الذي حبستُك عن الرجوع، وسايرتُك في الطريق، وجعجعتُ بك في هذا المكان. واللهِ، الذي لا إله إلّا هو، ما ظننتُ أنّ القومَ يردّون عليك ما عرضتَ عليهم أبدًا، ولا يبلغون منك هذه المنزلة! (فقلتُ في نفسي: لا أبالي أنْ أطيعَ القومَ في بعض أمرهم، ولا يرون أنَّي خرجتُ من طاعتهم. وأمّا هم، فسيقبلون من حسينٍ هذه الخصال التي يعرض عليهم).
والله، لو ظننتُ أنّهم لا يقبلونها منك، ما ركبتها منك. وإنّي قد جئتك تائبًا ممّا كان منّي إلى ربّي، ومواسيًا لك بنفسي، حتّى أموتَ بين يديك، أفترى ذلك لي توبة؟
قال: "نعم، يتوبُ اللهُ عليكَ[22]، أنتَ الحرُّ، كما سمَّتكَ أمُّك، أنتَ الحرُّ، إنْ شاءَ اللهُ، في الدنيا والآخِرةِ...".
المبارزة الأولى
ثمّ برز يسار مولى زياد بن أبي سفيان، وسالم مولى عبيد الله بن زياد، فقالا: من يبارز؟ ليخرج إلينا بعضُكم. فوثب حبيب بن مظاهر وبرير بن خضير، فقال لهما الحسين عليه السلام: اجلِسا. فقام عبد الله بن عمير الكلبيّ، فقال: أبا عبد الله، رحمَك الله! اِئْذَنْ لَي، فلأخرج إليهما. فرأى الحسين عليه السلام رجلًا آدم طويلًا شديد الساعدَين، بعيد ما بين المنكبَين، فقال الحسين عليه السلام: إنّي لَأَحسبُه للأقران قتّالًا! اخرُج إنْ شِئتَ. فخرج إليهما.
فقالا له: مَن أنتَ؟ فانتسبَ لهما.
فقالا: لا نعرفك. ليخرج إلينا زهير بن القين، أو حبيب بن مظاهر، أو برير بن خضير. ويسار مستنتلٌ[23] أمام سالم.
فقال له الكلبيّ: يابن الزانية! وبك رغبةٌ عن مبارزة أحدٍ من الناس؟ وما يخرج إليك أحدٌ من الناس، إلّا وهو خيرٌ منك!
ثمّ شدَّ عليه، فضربه بسيفه حتّى برد، فإنّه لمشتغلٌ بضربه، إذ شدَّ عليه سالم مولى عبيدالله بن زياد، فصاح به أصحابُه: قد رهقَكَ العبدُ! فلم يأبَهْ له، حتّى غشيه، فبدرَه ضربةً اتَّقاها ابن عمير بكفِّه اليسرى، فأطارَت أصابعَ كفِّه، ثمَّ شدَّ عليه، فضربه حتّى قتله، وأقبل وقد قتلهما جميعًا.
فأخذَت أمُّ وهبٍ امرأتُه عمودًا، ثمّ أقبلَت نحو زوجها، تقول له: فداك أبي وأمّي، قاتِل دون الطيّبين ذرّية محمّد.
فأقبلَ إليها يردّها نحو النساء، فأخذَت تجاذبُ ثوبَه، ثمّ قالت: إنّي لنْ أدعَك دون أنْ أموتَ معك. فناداها الحسين عليه السلام، فقال: "جُزِيتُم من أهل بيت خيرًا، ارجِعي، رحمك الله، إلى النساء، فاجلسي معهنَّ، فإنّه ليس على النساء قتال"، فانصرفت إليهنّ[24].
الحملة الأولى
وحمل شمر بن ذي الجوشن في ميسرة أهل الكوفة على ميمنة الإمام الحسين عليه السلام، فثبتوا له، فطاعنوه وأصحابه. وحمل عمرو بن الحجّاج، وهو في ميمنة أهل الكوفة، من نحو الفرات، على ميسرة الإمام الحسين عليه السلام، وهو يقول: يا أهل الكوفة، الزَموا طاعتَكم وجماعتَكم، ولا ترتابوا في قَتْلِ مَن مَرقَ عن الدين وخالف الإمام!
فقال له الحسين عليه السلام: "يا عمرو بن الحجّاج، أَعَلَيَّ تحرّضُ الناس؟ أنحن مَرَقْنَا، وأنتُمْ ثَبَتُّم عَلَيهِ؟ أَمَا واللهِ، لَتَعلَمُنَّ لَو قد قبضتُ أرواحَكم ومتُّم على أعمالِكم، أيُّنَا مَرَقَ مِن الدِّينِ، ومَن هو أَوْلَى بِصَلْيِ النَّارِ!".
فلمّا أنْ دنَت خيلُ أهل الكوفة من أصحاب الإمام الحسين عليه السلام، ثبتوا، وجثوا لهم على الركب، وأشرعوا الرماح نحوهم، فلم تُقْدِم الخيلُ على الرماح، فلمّا ذهبَت الخيلُ لترجع، رشقَهُم أصحابُ الحسين عليه السلام بالنبل، فصرعوا رجالًا، وجرحوا آخرين[25].
ثمّ حمل عمرو بن الحجّاج في أصحابه على الحسين عليه السلام من نحو الفرات، فاقتتلوا ساعة، ثمّ انصرف عمرو بن الحجّاج وأصحابه، وارتفعت الغبرة، فإذا هم بمسلم بن عوسجة الأسديّ صريعًا، فمشى إليه الحسين عليه السلام، فإذا به رمق، فقال: "رحمَكَ ربُّك يا مسلم بن عوسجة، ﴿فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾"[26].
ودنا منه حبيب بن مظاهر، فقال: عزَّ عَلَيَّ مصرعُك يا مسلم! أبشِر بالجنَّة!
فقال له مسلم قولًا ضعيفًا: بشَّرك الله بخير!
فقال له حبيب: لولا أنّي أعلمُ أنّي في أثرِك لاحقٌ بِكَ مِن ساعتي هذه، لأحبَبْتُ أنْ توصِيَني بكلِّ ما أهمَّك، حتّى أحفظَكَ في كلِّ ذلك بما أنتَ أهلٌ له في القرابةِ والدينِ.
قال: بل أنا أوصيكَ بهذا، رحمك الله - وأَهوَى بيدِهِ إلى الحسين - أنْ تموتَ دونَه!
قال حبيب: أفعل، وربِّ الكعبة.
فما كان بأسرع من أن مات في أيديهم[27]، وكان أوّل[28] شهيدٍ من أصحاب الحسين عليه السلام. وصاحت جاريةٌ له، فقالت: يابن عوسجتاه! يا سيّداه! فتنادى أصحاب عمرو بن الحجّاج: قتَلْنا مسلمَ بن عوسجة الأسديّ.
فقال شبث لبعض من حوله من أصحابه: ثكلَتْكُم أمّهاتُكم! إنّما تقتلون أنفسَكم بأيديكم، وتذلِّلون أنفسَكم لغيركم! تفرحون أن يُقتَلَ مثلُ مسلم بن عوسجة؟ أَمَا والذي أسلمتُ له، لَرُبَّ موقفٍ له قد رأيتُه في المسلمين كريم! لقد رأيته يوم سلق آذربيجان قتَلَ ستّة من المشركين قبل تَتَامّ خيول المسلمين! أفيُقتَل منكم مثلُه، وتفرحون؟!
وكان الذي قتل مسلمَ بنَ عوسجة، مسلمُ بن عبد الله الضبابيّ وعبد الرحمن بن أبي خشكارة البجليّ[29].
وحمل شمر بن ذي الجوشن، في ميسرة عمر بن سعد، على ميمنة الإمام الحسين عليه السلام وأصحابه، فثبتوا له، فطاعنوه وأصحابه. وقاتل عبد الله بن عمير الكلبيّ قتالًا شديدًا، فقتل رجلَين آخرَين من أصحاب شمر، فحمل عليه هانئ بن ثبيت الحضرميّ وبكير بن حيّ التيميّ، فقتلاه، وكان الشهيد الثاني من أصحاب الحسين عليه السلام. وخرجَت امرأةُ الكلبيّ تمشي إلى زوجها، حتّى جلسَت عند رأسه، تمسح عنه التراب، وتقول: هنيئًا لكَ الجنَّة! فقال شمر بن ذي الجوشن لغلامٍ يُسَمَّى رُستُم: اضربْ رأسَها بالعمود. فضَرَبَ رأسَها، فشدخه، فماتت مكانها[30].
استشهاد مجموعة الصيداويّ بكاملها
وفي أوّل الحملة الأولى، وما إن نشب القتال، حتّى شدَّ الصيداويّ عمرو بن خالد، وجنادة بن الحارث السلمانيّ[31]، ومجمع بن عبد الله العائذيّ، وابنه عائذ، وسعد مولى عمر بن خالد، وواضح مولى الحرث، مُقْدِمين بأسيافهم على أهل الكوفة. فلمّا وغلوا، عطف عليهم أصحاب عمر بن سعد، فأخذوا يحوزونهم، وقطعوهم من أصحابهم غير بعيد، فحمل عليهم العبّاس بن عليّ عليه السلام، فاستنقذَهم فجاؤوا قد جُرِّحُوا، فلمّا دنا منهم عدوُّهم، شدّوا بأسيافهم، فقاتلوا حتّى قُتِلوا في مكان واحد[32].
مقدّمة جيش ابن سعد تطلب النجدة
ثمّ حمل أصحابُ الحسين عليه السلام حملةً واحدة[33]، وقاتلوهم قتالًا شديدًا، وأخذَت خيلُهم تحمل، وإنّما هم اثنان وثلاثون فارسًا، وأخذَت لا تحمل على جانبٍ من خيل أهل الكوفة، إلّا كشفَتْهُ.
فلمّا رأى عزرة بن قيس، وهو على خيل أهل الكوفة، أنّ خيلَه تنكشف من كلّ جانب، ورأى الوهنَ في أصحابه، والفشل كلّما يحملون، بعث إلى عمر بن سعد عبدَ الرحمن بنَ حصن، فقال: أَمَا ترى ما تلقى خَيْلِي منذ اليوم مِن هذه العدّة اليسيرة؟ ابعَثْ إليهم الرجالَ والرماةَ. فقال عمر بن سعد لشبث بن ربعيّ: ألَا تُقْدِم إليهم؟
فقال: سبحان الله! أتعمَدُ إلى شيخِ مصر وأهلِ مصر عامَّةً، تبعثه في الرماة؟ لم تجد مَن تندب لهذا، ويجزي عنك غيري[34]؟
وكان الحصين بن نمير السكونيّ على شرطة عبيد الله بن زياد، فبعثه إلى الحسين عليه السلام، وكان مع عمر بن سعد، فاستدعاه، فبعث معه المجفّفة[35] وخمسمئةٍ من المرأميّة. فأقبلوا، حتّى إذا دنوا من الحسين عليه السلام وأصحابه رشقوهم بالنبل، واشتدَّ القتال، وأكثر أصحاب الحسين فيهم الجراح، فلم يلبثوا أن عقروا خيولهم، فصاروا رجّالة كلّهم[36].
وصول أوباش الكوفة إلى قلب معسكر الإمام الحسين عليه السلام
ثمّ حمل الشمر في جماعةٍ من أصحابه، على ميسرة الحسين عليه السلام، حتّى طعن فسطاط الحسين برمحه، ونادى: عَلَيَّ بالنارِ، حتّى أحرقَ هذا البيتَ على أهلِه! فصاح النساءُ، وخرجْنَ من الفسطاط، وصاح به الحسين عليه السلام: "يابنَ ذي الجوشن، أنتَ تدعو بالنارِ لِتحرقَ بيتي على أهلي، حرَقَكَ اللهُ بالنار!".
فحمل عليه زهير بن القين، في عشرة رجال من أصحابه، فشدَّ على شمر بن ذي الجوشن وأصحابه، فكشفهم عن البيوت[37] حتّى ارتفعوا عنها، وصرعوا أبا عزّة الضبابيّ، فقتلوه، وكان من أصحاب شمر[38].
وقاتَلوهم، حتّى انتصف النهار، أشدَّ قِتالٍ خلَقَهُ الله، فلم يقدروا أن يأتوهم من وجهٍ واحدٍ, لتَقارُبِ أبنيتِهم، فأرسل ابن سعدٍ الرجالَ ليقوِّضوها عن أَيمانهم وعن شمائلهم، ليحيطوا بهم، فأخذ الثلاثة والأربعة من أصحاب الحسين يتخلّلون البيوت، فيشدّون على الرجل وهو ينهب، فيقتلونه، ويرمونه من قريبٍ، فيعقرونه. فقال ابن سعدٍ: أحرِقُوها بالنار! فأضرَموا فيها النار، فصاحت النساء، ودُهِشَت الأطفال، فقال الحسين عليه السلام: "دَعُوهُم، فَلْيحرِقُوها. فإنَّهُم لَو قد حَرَقوها، لم يستطيعوا أن يَجُوزُوا إليكم منها!".
وكان ذلك كذلك[39]، وأخذوا لا يقاتلونهم إلّا من وجهٍ واحدٍ.
وأحاط جيش عمر بن سعد بأصحاب الإمام الحسين عليه السلام وبمعسكره، من كلّ جانب، وتعطَّفوا عليهم من كلِّ جهة، وبجميع الأسلحة، واستعَرَ القَتالُ، وتفوَّقَت الكثرةُ عددًا وعدّةً وكثافةً في الرماية، على القلّة، وأخذ أصحاب الإمام الحسين عليه السلام يستشهدون، واحدًا تِلْوَ الآخر، فكان إذا قُتِلَ الرجلُ أو الرجلان من أصحاب الإمام عليه السلام، يَبِينُ ذلك فيهم, لِقِلَّتِهِم، ولا يَبِينُ القتلُ في جيشِ عمر بن سعد, لِكثرتهم.
وانجلَت غبرةُ الحملة الأولى عن تسعة وخمسين صريعًا[40] من أصحاب الحسين عليه السلام. فعندها، ضرب الحسينُ عليه السلام بيده على لحيته، وجعل يقول: "اشتدَّ غضبُ اللهِ تعالى على اليهودِ والنصارى، إذْ جَعَلُوا لهُ وَلَدًا. واشتدَّ غضبُ اللهِ تعالى على النصارى إذْ جَعَلُوهُ ثالثَ ثلاثةٍ. واشتدَّ غضبُ اللهِ تعالى على المجوسِ، إذْ عَبَدُوا الشمسَ والقمرَ دونَهُ.
واشتدَّ غضبُ اللهِ تعالى على قَوْمٍ اتَّفَقَتْ آراؤهُم (كَلِمَتُهُم) على قَتْلِ ابنِ بنتِ نبيِّهِم! (أَمَا) وَاللهِ، لَا أُجِيبُهُم إلى شيءٍ ممّا يُريدونَهُ أبدًا، حتّى أَلْقى اللهَ، وَأنا مُخَضَّبٌ بِدَمي"[41].
الصلاة الأخيرة يوم عاشوراء
فلَمَّا رأى ذلك أبو ثمامة، عمرو بن عبد الله الصائديّ، قال للحسين عليه السلام: يا أبا عبد الله، نَفْسِي لكَ الفداءُ! إنّي أرى هؤلاء قد اقتربوا منكَ، ولا، والله، لا تُقتَلُ حتّى أُقتَلَ دونَك، إنْ شاء الله، وأحبُّ أنْ ألقى ربّى وقد صَلَّيْتُ هذه الصلاةَ التي قد دنا وقتهُا.
فرفع الحسينُ عليه السلام رأسَه، ثمّ قال: "ذَكَرْتَ الصَّلَاةَ، جَعَلَكَ اللهُ مِنَ المُصَلِّينَ الذَّاكِرِينَ. نَعَمْ، هَذَا أَوَّلُ وَقْتِهَا، سَلُوهُمْ أَنْ يَكُفُّوا عَنَّا حَتَّى نُصَلِّي".
شهادة حبيب بن مظاهر
فقال لهم الحصين بن النمير السكونيّ: إنَّها لا تُقبَلُ!
فقال له حبيب بن مظاهر: لا تُقبَلُ! زعمْتَ الصلاةَ مِن آلِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم لا تُقبَلُ، وتُقبَلُ مِنْكَ؟! فحَمَلَ عليهم الحصين بن النمير السكونيّ، وخرج إليه حبيب بن مظاهر، فضرب وَجْهَ فرسِه بالسيف، فشبَّ ووقع عنه، وحمله أصحابُه، فاستنقَذوه.
وأخذ حبيب يقاتل قتالًا شديدًا، فحمل عليه رجلٌ من بني تميم، فضربه حبيب بالسيف على رأسه، فقتَلَه[42]. وحملَ عليه آخَرُ من بني تميم، فطعنه، فوقع حبيب، فذهب ليقوم، فضربَهُ الحصينُ بن النمير السكونيّ على رأسه بالسيف، فوقع، ونزل إليه التميميّ، فاحتزّ رأسَه. فقال له الحصين: إنّي لَشَريكُكَ في قَتْلِهِ!
فقال التميميّ: والله، ما قَتَلَهُ غيري!
ولَمَّا قُتِلَ حبيب بن مظاهر، هَدَّ ذلك حسينًا عليه السلام، وقال: "عِندَ اللهِ أَحتَسِبُ نَفْسِي وَحُمَاةَ أَصْحَابِي"[43].
الصلاة الأخيرة، وشهادة سعيد بن عبد الله الحنفيّ
وقام الإمام الحسين عليه السلام إلى الصلاة، فصلّى بمن بقي من أصحابه صلاة الخوف[44]، ويُقال: بل صلّى وأصحابُه فرادى بالإيماء[45]. وتقدّم أمامه زهير بن القين وسعيد بن عبد الله الحنفيّ في نصفٍ من أصحابه[46]، ووُصِلَ إلى الحسين، فاستقدَم الحنفيّ أمامه، فاستُهدِفَ لهم يرمونه بالنبل يمينًا وشمالًا، قائمًا بين يديه. فما زال يُرمَى، حتّى سقط[47] إلى الأرض، وهو يقول: اللهمَّ، العنهم لَعْنَ عادٍ وثمود. اللهمَّ، أبلِغ نبيَّك عنّي السلام، وأبلِغه ما لقيتُ من ألم الجراح، فإنّي أردتُ بذلك نصرةَ نبيِّك[48].
ثمّ التفتَ إلى الإمام الحسين عليه السلام فقال: أوفيت يابن رسول الله؟
فقال عليه السلام: "نعم، أنتَ أمامي في الجنَّةِ". ثمّ فاضَت نفسه.
استئذان ما بقي من الأصحاب
ولمّا نظر مَن بقي من أصحاب الحسين عليه السلام إلى كثرةِ مَن قُتِلَ منهم، أخذ الرجلان والثلاثة والأربعة يستأذنون الحسين عليه السلام في الذبّ عنه. ثمّ أخذوا، بعد أنْ قَلَّ عددُهم وبان النقصُ فيهم، يبرز الرجلُ بعدَ الرجلِ، فأكثَروا القَتْلَ في أهل الكوفة، وكان كلُّ مَن أراد الخروجَ، وَدَّعَ الحسينَ عليه السلام بقوله: السلامُ عليكَ يابنَ رسولِ اللهِ. فيُجيبُه الحسين عليه السلام: "وَعليكَ السلامُ، وَنحنُ خلفَكَ"، ثمّ يقرأ: ﴿فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾[49].
وكان الحرُّ بن يزيد الرياحيُّ أوَّلَ مَن برز من أصحاب الحسين عليه السلام، فقال له: يابنَ رسولِ الله، كنتُ أوَّلَ خارجٍ عليكَ، فَأْذَنْ لي أنْ أكونَ أوَّلَ قتيلٍ بينَ يدَيكَ، فلَعَلِّي أنْ أكونَ أوّلَ مَن يصافحُ جدَّك محمّدًا غدًا في القيامة.
فقاتَلَ هو وزهير بن القين قتالًا شديدًا، فكان إذا شدَّ أحدُهما، فإن استلحَمَ، شَدَّ الآخَر حتّى يخلِّصَه، ففعلا ذلك ساعة.
وقد روى الشيخ الصدوق أنّه قَتَلَ منهم ثمانيةَ عشر رجلًا[50]. ثمّ إنّ رجّالةً شدَّت على الحُرّ بن يزيد، فقُتِل[51]، فاحتمله أصحاب الحسين عليه السلام، حتّى وضعوه بين يدَيه وبه رمق، فجعل الحسين عليه السلام يمسح وجهَهُ ويقول: "أنتَ الحرُّ كما سَمَّتْكَ أمُّكَ، وَأنتَ الحرُّ في الدنيا، وَأنتَ الحرُّ في الآخرةِ"[52].
ثمّ برز يزيد بن زياد بن مهاصر الكنديّ[53]، وهو أبو الشعثاء الكنديّ، فجثى على ركبتَيه بين يدَي الحسين عليه السلام، فرمى بمئةِ سهمٍ، ما سقط منها إلّا خمسةُ أسهم، وكان راميًا. والإمام الحسين عليه السلام يقول: "اللهمَّ، سدِّدْ رميَتَهُ، وَاجْعَلْ ثوابَهُ الجَنّةَ".
فلمّا رمى بها، قام فقال: ما سقطَ منها إلّا خمسةُ أسهمٍ، ولقد تبيّنَ لي أنّي قدْ قتلتُ خمسةَ نفرٍ. فلم يزل يقاتل، حتّى قُتل (رضوان الله عليه)[54]، وكان في أوّلِ مَن قُتِل[55].
واستأذن الصحابيُّ الجليلُ أَنَس بن الحارث الكاهليّ[56] الإمامَ الحسينَ عليه السلام لمبارزة الأعداء، فأَذِنَ له، وبرز شادًّا وسطَه بالعمامة، رافِعًا حاجبَيه بالعصابة، ولمّا نَظَر إليه الحسين عليه السلام بهذه الهيئة، بكى وقال: "شَكَرَ اللهُ لكَ يا شيخُ"، فقاتَلَ حتّى قُتِلَ[57].
وبرز وهب بن وهب، وكان نصرانيًّا أسلَمَ على يد الحسين عليه السلام هو وأمّه، فأتبعوه إلى كربلاء، فركب فرسًا، وتناول بيدِه عمودَ الفسطاط، فقاتَل، ثمّ استُؤسِرَ، فأُتِيَ به عمر بن سعد (لعنه الله)، فأمر بضرب عنقِه، ورُمِيَ به إلى عسكر الحسين عليه السلام، وأخذَت أمُّه سيفَه وبرزَت، فقال لها الحسين عليه السلام: "يا أمَّ وهبٍ، اجلِسِي، فقدْ وضعَ اللهُ الجهادَ عن النساءِ، إنَّكِ وَابنَكِ معَ جدِّي محمّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم في الجنَّةِ"[58].
ثمّ برز الحجّاج بن مسروق المذحجيّ الجعفيّ، فقاتَل حتّى قُتِل[59]، وكان مُؤَذِّنَ الإمام الحسين عليه السلام في أوقات الصلاة، وخرج من الكوفة إلى الإمام عليه السلام، والتحق به في مكّة المكرمة.
وتقدَّمَ زهير بن القين، وأخذ يقاتل قتالًا شديدًا، فشدّ عليه كثير بن عبد الله الشعبيّ، ومهاجر بن أوس، فقتلاه[60].
فقال الحسين عليه السلام حين صُرع زهير: "لَا يُبْعِدَنَّكَ اللهُ يَا زُهَيْر! وَلَعَنَ اللهُ قَاتِلَكَ لَعْنَ الذينَ مَسَخَهُمْ قِرَدَةً وَخَنازِير"[61].
وكان سلمان بن مضارب البجليّ مع ابن عمِّه زهير في سفر الحجّ سنة ستّين للهجرة، ولمّا مالَ زهير في الطريق إلى الإمام عليه السلام، وانضمّ إليه، مالَ معه ابنُ عمّه سلمان هذا، وانضمّ إلى الإمام عليه السلام أيضًا، واستشهد في كربلاء، ولعلّه قُتِلَ مع زهير[62].
ثمّ إنّ أبا ثمامة قال للحسين عليه السلام، وقد صلّى: يَا أبا عبدِ اللهِ، إنّي قد هممْتُ أنْ ألحقَ بأصحابي، وكرهتُ أنْ أتخلَّفَ وأراكَ وحيدًا مِن أهلِكَ قتيلًا. فقال له الحسين عليه السلام: "تَقَدَّمْ، فَإِنَّا لَاحِقُونَ بِكَ عَنْ سَاعَةٍ".
فتقدَّمَ، فقاتّل حتّى أُثخِن بالجراحات، فقتَلَهُ قيسُ بن عبد الله الصائديّ، ابنُ عمٍّ له، وكان له عدوًّا[63]. ولكنّ الطبريّ يذكر أنّ أبا ثمامة الصائديّ هو الذي قَتَل ابنَ عَمٍّ له، وكان عدوًّا له[64].
وخرج يزيد بن معقل، وبرز له بُرَير، فاختلفا ضربتَين، فضربَ يزيد بن معقل بُرَير بن خضير ضربةً خفيفةً لم تضرُّه شيئًا، وضربَه بُرير بن خضير ضربةً قَدَّت المغفر وبلغَت الدماغ، فخرَّ كأنمَّا هوى من حالِق، وإنّ سيفَ ابنِ خضير لثابتٌ في رأسِه وهو يُنَضْنِضُهُ مِن رأسِه.
وحمل عليه رضيّ بن منقذ العبديّ، فاعتنق بريرًا، فاعتركا ساعة، ثمّ إنّ بريرًا قعد على صدره، فقال رضيّ: أينَ أهلُ المصاعِ[65] والدفاعِ؟
فذهب كعب بن جابر الأزديّ ليحمل عليه، فقيل له: إنّ هذا برير بن خضير، القارئ الذى كان يُقرِئُنا القرآنَ في المسجد. فحَمَلَ عليه بالرمح، حتّى وضعه في ظهرِه، فلمّا وجدَ مسّ الرمح، بَرَكَ عليه، فعضَّ بوجهِهِ، وقطعَ طرفَ أنفِه، فطعَنَه كعب بن جابر، حتّى ألقاه عنه، وقد غيَّب السنان في ظهرِه، ثمّ أقبَلَ عليه يضربُه بسيفِه، حتّى قتلَه.
وخرج عمرو بن قرظة الأنصاريّ يقاتل دون الحسين عليه السلام، وكان عليّ بن قرظة، أخوه، مع عمر بن سعد، فنادى: يا حسين، أضلَلْتَ أخي وَغرَّرْتَهُ حتّى قتلتَه؟ قال: "إنَّ اللهَ لم يُضِلَّ أخاكَ، ولكنَّهُ هدَى أخاكَ وَأَضلَّكَ".
قال: قتلني الله إنْ لم أقتلْكَ أو أموت دونك! فحمل عليه، فاعترضه نافع بن هلال الجمليّ المراديّ، فطعنه، فصرعه، فحمله أصحابُه فاستنقذوه، فدُووِيَ بعدُ، فبَرِئ[66].
وكان نافع بن هلال الجمليّ قد كتب اسمَه على أفواقِ نبله، فجعل يرمي بها مسمومةً، فقَتَلَ اثنَي عشر رجلًا من أصحاب عمر بن سعد، سوى مَن جُرِح، حتّى إذا فَنِيَتْ نِبالُه، جَرَّد فيهم سيفَه، فحمل عليهم، فبرز إليه مزاحم بن حريث، فقال له: أنا على دينِ عثمان، فقال له نافع: أنتَ على دينِ شيطانٍ! وحمل عليه، فقتلَه.
فصاح عمرو بن الحجّاج بأصحابه: يا حمقى! أتدرونَ مَن تُقاتِلونَ؟ تُقاتِلونَ فرسانَ المِصرِ وأهل البصائرِ، وقومًا مُستَمِيتِينَ، لا يبرزُ إليهم أحدٌ منكُم، إلَا قَتَلوهُ، على قِلَّتِهِم. واللهِ، لو لم تَرْمُوهُم إلّا بالحجارةِ، لقتَلتُمُوهُم.
فقال عمر بن سعد: صَدَقْتَ، الرأيُ ما رأيْتَ. أَرسِلْ في الناس مَن يعزمُ عليهم أنْ لا يُبارِزَهُم رجلٌ منهم، ولو خرجْتُم إليهم وحدانًا، لأَتَوا عليكُم[67].
فتواثبوا عليه، وأطافوا به يضاربونه بالحجارة والنصال، حتّى كسروا عضدَيه، فأخذوه أسيرًا، فأمسكَه شمر بن ذي الجوشن، ومعه أصحاب له يسوقون نافعًا، حتّى أُتِيَ به عمر بن سعد، فقال له عمر بن سعد: ويحكَ يا نافِع! ما حملَكَ على ما صنعْتَ بِنفسِكَ؟
قال، والدماء تسيل على لحيته: إنَّ ربّي يعلمُ ما أردْتُ. والله، لقدْ قتلتُ منكم اثنَي عشرَ، سِوى مَن جرحتُ، وما ألومُ نفسي على الجهدِ، ولو بقيَت لي عضدٌ وساعِدٌ ما أسرتُمُوني!
فقال شمر لعمر بن سعد: اُقْتُلْهُ، أصلحك الله!
قال: أنتَ جئتَ به، فإنْ شئتَ فاقتُلْهُ.
فانتضى شمر سيفَه، فقال له نافع: أمَا والله، أنْ لو كنتَ مِن المسلمينَ، لَعَظُمَ عليكَ أنْ تَلقَى اللهَ بِدِمائِنَا، فالحمدُ للهِ الذي جعلَ منايانا على يدَي شرارِ خلقِه. فقتلَهُ شمر (لعنه الله)[68].
واستأذَنَ يزيدُ بن مغفل الجعفيّ الحسينَ عليه السلام في البراز، فأَذِنَ له، فتقدّم وقاتل حتّى قُتِل[69].
وكان الموقَّع[70] بن ثمامة الأسديّ الصيداويّ ممّن جاء إلى الحسين عليه السلام في الطفّ، وخلص إليه ليلًا مع من خلص، فنثر نبلَه وجثا على ركبتَيه، فقاتل، فصُرِع، فجاءه نفرٌ من قومِه، فاستنقذوه وقالوا له: أنتَ آمِنٌ! اخرُجْ إلينا. فخرج إليهم، وأتوا به إلى الكوفة، فأَخْفُوهُ، فلمّا قدم عمر بن سعد على ابن زياد، وأخبره خبرَه، أرسلَ إليهِ ليقتلَه، فشفعَ فيه جماعةٌ من بني أسد، فلم يقتله، ولكن كبَّلَه بالحديد، ونفاه إلى الزارة[71]، وكان مريضًا من الجراحات التي به، فبقي في الزارة مريضًا مكبّلًا، حتّى مات بعد سنة[72].
وكان جنادة بن كعب بن الحرث الأنصاريّ الخزرجيّ ممّن قُتِلَ في الحملة الأولى من أصحاب الحسين عليه السلام[73]، وكان قد صحب الإمام عليه السلام من مكّة، وجاء معه أهلُه وابنُه عمرو، وهو ابن إحدى عشر سنة[74]، فقالت له أمُّه: يا بنيّ، اخرجْ فقاتِلْ بينَ يدَي ابنِ رسولِ اللهِ، حتّى تُقتَل. فخرج، فقال الحسين عليه السلام: هذا شابٌّ قُتِلَ أبوه، ولعلَّ أمُّه تكرَهُ خُروجَهُ، فقال الشابُّ: أمّي أَمَرَتْنِي يَابنَ رَسولِ اللهِ. فخرج، ثمّ قاتَل، فقُتِل وحُزَّ رأسُه ورُمِيَ به إلى عسكر الحسين، فأخذَت أمُّه رأسَه، وقالت له: أحسنتَ يا بنيّ! يا قُرّةَ عيني، وسرور قلبي! ثمّ أخذَت عمودَ خيمةٍ، وحملَت على القوم, فأمر الحسين عليه السلام بصرفها، ودعا لها[75].
فلمّا رأى أصحاب الحسين أنّهم قد كُثروا، وأنّهم لا يقدرون على أن يمنعوا حسينًا ولا أنفسهم، تنافسوا في أن يُقتَلوا بين يدَيه، فجاءه عبد الله وعبد الرحمن اِبنا عزرة (أو عروة)[76] الغفاريّان، فقالا: يا أبا عبد الله، عليك السلام، حازَنا العدوُّ إليكَ، فأحبَبْنَا أنْ نُقتَلَ بينَ يدَيكَ، نمنعُكَ ونَدفَعُ عنكَ.
قال: "مَرْحبًا بِكُما! اُدْنُوَا مِنِّي".
فدَنَوَا منه، فجعلا يقاتِلان قريبًا منه.
وجاء الفتَيَان الجابريّان، سيف بن الحارث بن سريع ومالك بن عبد بن سريع، وهما اِبنا عمٍّ وأَخَوَان لأُمٍّ، فأتَيَا حسينًا عليه السلام، فدَنَوَا منه وهما يبكيان، فقال: "أَيْ اِبْنَيْ أَخِي، مَا يُبْكِيكُمَا؟ فَوَاللهِ، إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونَا عَنْ سَاعَةٍ قَريرَي عَيْنٍ؟".
قالا: جعلَنا اللهُ فِداك! لا، والله، ما على أنفسِنا نبكي، ولكنّا نبكي عليكَ، نراكَ قَد أُحِيطَ بِك، ولا نقدرُ على أنْ نمنَعَكَ!
فقال: "جزاكُمَا اللهُ يَابْنَي أخي، بوجدِكُمَا مِن ذلك، وَمُوَاساتِكُما إيَّايَ بِأنفسِكُما أحسَنَ جزاءِ المتَّقِينَ"[77].
ثمّ استقدَما يلتفتان إلى الحسين عليه السلام، ويقولان: السلامُ عليكَ يابنَ رسول الله. فقال: "وعليكما السلام ورحمة الله". فقاتَلَا حتّى قُتِلَا[78].
وجاء حنظلة بن أسعد الشباميّ، فقام بين يدَي الإمام الحسين عليه السلام، وقاتَل حتّى قُتِلَ.
وجاء عابس بن أبي شبيب الشاكريّ، ومعه شوذب[79] بن عبد الله مولى شاكر، فقال: يَا شَوْذَبُ، مَا في نفسِكَ أنْ تَصنَعَ؟
قال: مَا أصنعُ؟ أُقَاتلُ مَعَكَ دونَ ابنِ بنتِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم، حتّى أُقْتَل.
قال: ذلك الظنُّ بك! أمّا الآن، فتقدَّمْ بينَ يَدَي أبي عبد الله، حتّى يحتسبَكَ، كما احتسَبَ غيرَك مِن أصحابَه، وحتّى أَحتسِبَكَ أنا، فإنَّهُ لو كانَ معي الساعة أحدٌ، أنا أَوْلَى به منّي بِك، لسَرَّني أنْ يَتَقدَّمَ بينَ يدَيَّ حتّى أحتسبَهُ، فإنَّ هذا يومٌ ينبغي لنا أنْ نطلبَ الأجرَ فيه، بكلِّ مَا قَدِرْنا عَلَيْهِ، فإنَّهُ لا عَمَلَ بعدَ اليومِ، وَإنَّما هُوَ الحِسَابُ!
فتقدَّمَ شوذب، فسلَّم على الحسين عليه السلام فقال: السلامُ عليكَ يا أبا عبدِ اللهِ، ورحمةُ اللهِ وبركاتُه، أَسْتَودِعُكَ اللهَ وأَستَرْعِيكَ. ثمّ مضى، فقاتَل حتّى قُتِل[80].
ثمّ تقدَّمَ عابس بن أبي شبيب الشاكريّ، فقال: يا أبا عبدِ اللهِ، أَمَا والله، مَا أَمْسَى على ظَهْرِ الأرضِ قريبٌ ولا بعيدٌ، أعزّ عَلَيَّ، ولا أَحَبّ إليّ منكَ! ولو قدرتُ على أنْ أدفعَ عنك الضَّيْمَ والقَتْلَ بشيءٍ أعزّ عَلَيَّ مِن نَفْسِي ودَمِي، لفعلتُه. السلامُ عليكُ يا أبا عبدِ اللهِ، أُشْهِدُ اللهَ أَنّي على هَدْيِكَ وَهَدْيِ أَبِيكَ.
ثمّ مشى بالسيف، مصلِّتًا نحوهم، وبه ضربة على جبينه، فقال أحدُ رجالِ عمر بن سعد، لَمّا رآه مُقبِلًا، وقد عرفَه، وقد شاهدَهُ في المغازي: أيُّها الناس، هذا أَسَدُ الأُسُود! هذا ابنُ أبي شبيب! لا يَخْرُجَنَّ إليه أحدٌ منكم! فأخذ شبيب ينادي: ألَا رجلٌ لرجلٍ؟ فقال عمر بن سعد: ارضخوهُ بالحجارةِ!
فرُمِيَ بالحجارةِ مِن كُلِّ جانبٍ. فلَمَّا رأى ذلك، ألقى درعَه ومغفرَه، ثمّ شدَّ على الناس، فكان يطردُ أكثرَ من مئتَين من الناس، ثمّ إنّهم تعطّفوا عليه من كلِّ جانبٍ، فقُتِل. فكان رأسُه في أيدي رجالٍ ذَوِي عدَّةٍ، هذا يقول: أنا قتلتُه! وهذا يقول: أنا قتلتُه!
فأتوا عمر بن سعد، فقال: لا تختصِموا! هذا لم يقتُلْهُ سنانٌ واحدٌ. ففرَّقَ بينهم بهذا القول[81].
وكان سعدٌ وأخوه أبو الحتوف، الأنصاريّان، من أهل الكوفة، ومن المحكِّمة[82]، فخرجا مع عمر بن سعد إلى قتال الحسين عليه السلام، فلمّا كان اليوم العاشِر، وقُتِلَ أصحابُ الحسين، فجعل الحسين عليه السلام يُنادي: "ألَا ناصر فينصرنا!".
فسمعَتْهُ النساءُ والأطفالُ، فتصارَخْنَ، وسمعَ سعدٌ وأخوه أبو الحتوف النداءَ من الحسين عليه السلام، والصراخَ مِن عياله، فمالا بسيفهما مع الحسين عليه السلام على أعدائه، فجعلا يُقاتِلان، حتّى قُتِلا معًا"[83].
وكان مجمع بن زياد بن عمرو الجهنيّ[84] وعبّاد بن المهاجر بن أبي المهاجر الجهنيّ[85] قد التحقوا بالإمام عليه السلام من منازل جهينة، وهو في طريقِهِ من المدينة إلى مكّة، وثبتوا معه ولازموه، فلم ينفضّوا عنه حين انفضَّ كثيرٌ من الأغراب عنه في زُبالة. فلمّا كان يوم العاشر من المحرَّم، قاتَلوا بين يدَيه، حتّى قُتِلُوا (رضوان الله عليهم).
وكان وَلَدا يزيد بن ثبيط العبديّ البصريّ، عبد الله وعبيد الله، قد قُتِلَا في الحملة الأولى[86]، فبرز وقاتل حتّى قُتِل[87].
وكان رافع بن عبد الله قد خرج إلى الإمام الحسين عليه السلام مع مولاه مسلم بن كثير الأعرج الأزديّ من الكوفة، وانضمّا إلى الإمام عليه السلام في كربلاء. ولمّا كان اليوم العاشر، ونشب القتال، قُتِلَ مسلم بن كثير في الحملة الأولى، وبعد صلاة الظهر، تقدَّمَ مولاه رافع بن عبد الله، مبارِزًا للأعداء بين يدَي الإمام الحسين عليه السلام، فقاتَل ثمّ نال شرفَ الشهادة[88].
ثمّ قُتِلَ حبشيّ بن قيس النهميّ[89]، وزياد بن عريب الهمدانيّ الصائديّ[90]، وكنيته أبو عمرة، وهو ممّن أدرك زمان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وقد روى الشيخ ابن نما عن مهران الكاهليّ، وهو مولى لبني كاهل، قال: شهدتُ كربلاءَ مع الحسين عليه السلام، فرأيتُ رجلًا يقاتِل قتالًا شديدًا، لا يحمل على قومٍ إلّا كشفَهم، ثمّ يرجع إلى الحسين عليه السلام...
فقلتُ: مَن هذا؟ قالوا: أبو عمرة النهشليّ، فاعترضَه عامر بن نهشل، أحدُ بني تيم الله بن ثعلبة، فقتَلَه واحتزّ رأسَه. وكان أبو عمرة هذا متهجِّدًا كثيرَ الصلاة[91].
ومِن أنصاره عليه السلام، الذين استشهدوا بين يدَيه في كربلاء، قعنب بن عمر النمريّ البصريّ، وكان قد جاء إلى الإمام عليه السلام مع الحجّاج بن بدر السعديّ من البصرة، والتحقا به في مكّة، ولم يزل ملازِمًا له، حتّى نشَبَ القِتالُ يوم عاشوراء، فقاتَل في الطفِّ بين يدَي الإمام عليه السلام، حتّى قُتِلَ في الحملة الأولى[92]، ورُوِيَ أنّه قُتِلَ مبارزةً[93].
وكان بكر بن حيّ التيميّ ممّن خرج مع عمر بن سعد إلى حرب الحسين عليه السلام، حتّى إذا قامَت الحرب على ساق، مالَ مع الحسين عليه السلام على ابن سعد، فقُتِلَ بين يدَي الحسين عليه السلام، بعد الحملة الأولى[94].
وكان من موالي الحسين، غلامٌ تركيٌّ قارئٌ للقرآن، عارفٌ بالعربيّة، فخرج إلى القتال، فجعلَ يقاتِل، فتحاوَشوه فصرَعوه، فجاءه الحسين عليه السلام وبكى ووضعَ خدَّهُ على خدِّهِ، ففتح عينَيه، ورآه فتبسَّم، وقال: مَنْ مِثْلِي وَابْنُ رَسولِ اللهِ واضعٌ خَدَّهُ على خَدِّي! ثمَّ صارَ إلى ربِّهِ[95].
وقاتَلَ بشير بن عمرو بن الأُحدوث الحضرميّ، حتّى قُتِل[96].
وكان سويد بن عمرو بن أبي المطاع الخثعميّ آخرَ مَن استشهد بين يدَي الحسين عليه السلام مِن أصحابه[97]، وكان شيخًا شريفًا عابدًا كثير الصلاة، وشجاعًا مجرَّبًا في الحروب[98]. فقاتَل قِتَالَ الأسد الباسل، وبالَغ في الصبر على البلاء النازل، حتّى سقط بين القتلى، وقد أُثخِنَ بالجراح. ولم يزل كذلك، وليس به حراك، حتّى سمعَهم يقولون: قُتِلَ الحُسَينُ! فتحامل، وأخرجَ مِن خفِّهِ سكّينًا، وجعل يقاتلُهم بها، حتّى قُتِلَ (رضوان الله عليه)[99].
وأمّا آخِر من بقي مع الحسين عليه السلام، ولم يستشهد في كربلاء، فهو الضحَّاك بن عبد الله المشرقيّ، وكان قد قَدِمَ هو ومالك بن النضر الأرحبيّ على الحسين عليه السلام، وهو في الطريق إلى كربلاء، فسلَّما عليه، ثمّ جلسا إليه، فردَّ عليهما ورحَّب بهما، وسألهما عمّا جاءا له، فقالا: جِئْنا لِنُسَلِّمَ عليكَ، وندعوَ اللهَ لكَ بالعافيةِ، ونُحدثَ بك عهدًا، ونخبرَكَ خبرَ الناسِ، وإنّا نحدِّثُكَ أنَّهم قد جمعوا على حربِك! فرِ رأيَك.
فقال الحسين عليه السلام: "حَسْبِيَ اللهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ".
فتذمَّمَا وسَلَّما عليه، ودَعَوَا اللهَ له. فقال لهما: "مَا يَمْنَعُكُمَا مِنْ نُصْرَتِي؟".
فقال مالك بن النضر: عَلَيَّ دَيْنٌ، وَلِي عِيَال.
فقال الضحَّاك بن عبد الله المشرقيّ: إنَّ عَلَيَّ دَيْنًا، وإنَّ لي لَعِيَالًا، ولكنَّكَ إنْ جعلتَنِي في حِلٍّ مِن الانصرافِ، إذا لم أجِدْ مُقاتِلًا، قَاتَلْتُ عَنْكَ مَا كانَ لكَ نَافِعًا، وعَنْكَ دَافِعًا.
قال الإمام الحسين عليه السلام: "فَأَنْتَ فِي حِلٍّ".
فأقام معه[100]، وحين استشهد آخرُ واحدٍ من أصحاب الحسين عليه السلام، استأذَنَ الإمامَ عليه السلام بالتخلّي عنه آخرَ الأمر، وفَرَّ من الميدان، ونجا من القتل.
قال الضحّاك بن عبد الله المشرقيّ: لمّا رأيتُ أصحابَ الحسين قد أُصِيبُوا، وقد خلص إليه وإلى أهلِ بيته، ولم يبقَ معه غير سويد بن عمرو بن أبي المطاع الخثعميّ وبشير بن عمرو الحضرميّ[101]، قلتُ له: يَابْنَ رسولِ اللهِ، قدْ علِمْتَ ما كان بيني وبينك، قلتُ لك: أقاتلُ عنكَ ما رأيتُ مقاتلًا، فإذا لم أرَ مقاتِلًا، فأنا في حِلٍّ من الانصراف، فقلتَ لي: نعم. قال: فقال: "صدقتَ، وكيفَ لكَ بالنجاءِ؟ إنْ قدرْتَ على ذلكَ، فَأَنْتَ فِي حِلٍّ". قال: فأقبلتُ إلى فَرَسي، وقد كنتُ حيثُ رأيتُ خيلَ أصحابِنا تعقر، أقبلتُ بها حتّى أدخلتُها فسطاطًا لأصحابنا بين البيوت، وأقبلتُ أقاتلُ معهم راجِلًا، فقَتَلْتُ، يومئذٍ، بينَ يدَي الحسينِ عليه السلام، رجلَين، وقطعتُ يدَ آخر، وقال لي الحسين عليه السلام، يومئذٍ، مرارًا: "لا تُشلَل! لا يقطع اللهُ يدَك! جزاكَ اللهُ خيرًا عن أهلِ بيتِ نبيِّك صلى الله عليه وآله وسلم!"، فلمّا أذن لي، استخرجتُ الفَرَسَ من الفسطاط، ثمّ استويتُ على متنها، ثمّ ضربتُها، حتّى إذا قامَت على السنابك، رميتُ بها عرض القوم، فأفرجوا لي، وأتبعَني منهم خمسة عشر رجلًا، حتّى انتهيتُ إلى شفية، قرية قريبة من شاطئ الفرات. فلمّا لحقوني، عطفتُ عليهم، فعرفوني، فقالوا: هذا الضحَّاك بن عبد الله المشرقيّ، هذا ابن عمِّنا، ننشدكُم اللهَ لَمّا كفَفْتُمْ عنه. فقال ثلاثة نفرٍ من بني تميم كانوا معهم: بلى، والله، لَنُجِيبَنَّ إخوانَنا وأهلَ دعوتِنا إلى ما أحبّوا من الكفّ عن صاحبِهم. قال: فلمّا تابعَ التميميّون أصحابي، كفَّ الآخرون، قال: فنجّاني اللهُ!
مقاتِل ومصارع بني هاشم عليه السلام في كربلاء
وبعدما استشهدَتْ الصفوة العظيمة من أصحاب الإمام الحسين عليه السلام، هبّ أبناء الأسرة النبويّة، شبابًا وأطفالًا، للتضحية والفداء، وهم بالرغم من صغر سنِّهم، كانوا كالليوث، لم يرهبهم الموت، ولم تفزعهم الأهوال، وتسابقوا بشوقٍ إلى ميادين الجهاد، وقد ضنّ الإمام عليه السلام على بعضهم بالموت، فلم يسمح لهم بالجهاد، إلّا أنّهم أخذوا يتضرَّعون إليه، ويُقَبِّلون يدَيه ورجلَيه، ليأذن لهم في الدفاع عنه.
والمنظر الرهيب الذي يذيب القلوب، ويذهل كلَّ كائنٍ حيٍّ، هو أنّ أولئك الفتية جعل يودّع بعضُهم بعضًا الوداع الأخير، فكان كلُّ واحدٍ منهم يوسِّع أخاه وابنَ عمِّه تقبيلًا، وهم غارِقون بالدموع، حزنًا وأسىً على ريحانة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، حيث يرونه وحيدًا غريبًا، قد أحاطَت به جيوش الأعداء، ويرون عقائل النبوّة قد تعالَت أصواتُهنّ بالبكاء والعويل... وساعد اللهُ الإمامَ عليه السلام على تحمُّلِ هذه الكوارث التي تقصم الأصلاب، وتذهل الألباب، ولا يطيقها أيُّ إنسانٍ، إلّا مَن امتحنَ اللهُ قلبَه للإيمان، بل لا يُطيقُها إلّا مَن عصمَه الله بعصمةِ الإمامة.
وقد وردَت عدّة أقوال في عدد شهداء الطفّ من الهاشميّين، ما بين تسعة أشخاص[102]، إلى أحد عشر[103]، إلى سبعة عشر[104]، إلى سبعة وعشرين شهيدًا[105]. وكان عَلِيٌّ الأكبر عليه السلام[106]، ابن الإمام الحسين عليه السلام، أوّلَ الهاشميّين[107] الذين تقدّموا إلى الشهادة بين يدَيه. وأمُّه ليلى بنت أبي مرّة بن عروة بن مسعود الثقفيّ، وهو، يومئذٍ، ابن ثمانية وعشرين سنة، فلمّا رآه الحسين، رفع شيبَتَه نحو السماء، وقال: "اللَّهُمَّ، اشْهَدْ عَلَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ، فَقَدْ بَرَزَ إِلَيْهِمْ غُلَامٌ أَشْبَهُ النَّاسِ، خَلْقًا وَخُلُقًا وَمَنْطِقًا، بِرَسُولِكَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم.كُنَّا إِذَا اشْتَقْنَا إِلَى وَجْهِ رَسُولِكَ، نَظَرْنَا إِلَى وَجْهِهِ. اللَّهُمَّ، فَامْنَعْهُمْ بَرَكَاتِ الْأَرْضِ، وَفَرِّقْهُمْ تَفْرِيقًا، وَمَزِّقْهُمْ تَمْزِيقًا، وَاجْعَلْهُمْ طَرَائِقَ قِدَدًا، وَلَا تُرْضِ الْوُلَاةَ عَنْهُمْ أَبَدًا، فَإِنَّهُمْ دَعَوْنَا لِيَنْصُرُونَا، ثُمَّ عَدَوْا عَلَيْنَا يُقَاتِلُونَا وَيَقْتُلُنَا".
ثمّ صاح الحسين عليه السلام بعمر بن سعد: "مَا لَكَ! قَطَعَ اللَّهُ رَحِمَكَ، وَلَا بَارَكَ اللَّهُ فِي أَمْرِكَ، وَسَلَّطَ عَلَيْكَ مَنْ يَذْبَحُكَ عَلَى فِرَاشِكَ، كَمَا قَطَعْتَ رَحِمِي، وَلَمْ تَحْفَظْ قَرَابَتِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم". ثُمَّ رَفَعَ الْحُسَيْنُ عليه السلام صَوْتَهُ، وَتَلَا: ﴿إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾[108].
ثمّ حمل عليُّ بن الحسين عليه السلام، فلم يزل يقاتل، حتّى ضجَّ أهلُ الكوفة, لِكثرةِ مَن قتل منهم، إلى أنْ ضربَه منقذ بن مُرَّة العبد على مفرق رأسه، ضربةً صرعه فيها، وضربه الناسُ بأسيافهم، فاعتنقَ الفرس، فحمله الفرسُ إلى عسكر عدوّه، فقطّعوه بأسيافهم، إربًا إربًا...
فصاح الحسين عليه السلام: "قَتَلَ اللَّهُ قَوْمًا قَتَلُوكَ يَا بُنَيَّ. مَا أَجْرَأَهُمْ عَلَى الرَّحْمَنِ وَعَلَى انْتِهَاكِ حُرْمَةِ الرَّسُول صلى الله عليه وآله وسلم! عَلَى الدُّنْيَا بَعْدَكَ العَفَا".
ثمّ أخذ بكفِّه مِن دمِهِ الطاهر، ورمى به نحو السماء، فلم يسقط منه قطرة[109].
واندفعَت الفتية الطيّبة من أنصار الإمام الحسين عليه السلام من آل عقيل عليه السلام إلى الجهاد، وهي مستهينةٌ بالموت. وقد نظر الإمام عليه السلام إلى بسالتهم واندفاعهم إلى نصرته، فكان يقول: "اللهُمَّ اقتُلْ قَاتِلَ آلَ عَقِيلٍ... صَبْرًا آلَ عَقِيلٍ، إِنَّ مَوْعِدكُم الجَنَّة". وكان عليُّ بن الحسين زين العابدين عليه السلام يميل أشدَّ الميل لآل عقيل، ويقدّمهم على غيرهم من آل جعفر، فقيل له في ذلك، فقال: "إِنِّي لَأَذْكُرُ يَوْمَهُمْ مَعَ أَبِي عَبْدِ اللهِ، فَأَرِقُّ لَهُمْ".
وقد استشهد منهم تسعةٌ في المعركة.
والذين اشتهر، عند المؤرِّخين وأهل التراجم، أنّهم استشهدوا مع الإمام عليه السلام يوم عاشوراء، هم: عبد الله بن مسلم بن عقيل، وقد رُوِيَ أنّه أوَّل من خرج من الطالبيّين إلى قتال الأعداء، فحمل حتّى قَتَلَ منهم جماعة، وقُتِل[110]، فقد رماه عمرو بن صبيح الصيداويّ[111] بسهمٍ، فوضع كفّه على جبهته، فأخذ لا يستطيع أن يحرِّك كفَّيه، ثمّ انتهى له بسهمٍ آخر، ففلق قلبَه، فاعتوَرَه الناس من كلِّ جانب[112]. ويُقال: قتلَهُ أسد بن مالك الحضرميّ[113].
وحمل بنو أبي طالب بعد قَتْلِ عبد الله حملةً واحدة، فصاح بهم الحسين عليه السلام: "صَبْرًا عَلَى المَوْتِ يَا بَنِي عُمُومَتِي!"، فوقع محمّد بن مسلم بن عقيل بن أبي طالب عليه السلام - وأمّه أمُّ ولد - فشَدَّ عليه أبو مرهم الأزديّ ولقيط بن إياس الجهنيّ[114]، فقتلاه. وبرز إلى ميدان الحرب جعفر بن عقيل بن أبي طالب، فقتله عروة بن عبد الله الخثعميّ[115].
وبرز عبد الرحمن بن عقيل عليه السلام - وأمُّه أمُّ ولد[116] - فشدّ عليه اثنان من رجال عمر بن سعد[117]، فقتلوه.
وبرز إلى ساحة الحرب محمّد بن أبي سعيد بن عقيل بن أبي طالب عليه السلام - وأمُّه أمُّ ولد - فقتله لقيط بن ياسر الجهنيّ، وذُكِرَ أنّه اشترك معه آخرون في قتله[118].
وقال هشام الكلبيّ: حدّثَ هاني بن ثبيت الحضرميّ، قال: كنتُ ممّن شهد قَتْلَ الحسين عليه السلام. فوالله، إنّي لَواقف عاشر عشرةٍ، ليس منّا إلّا رجلٌ على فرس، وقد جالَت الخيل وتضعضعَت، إذ خرج غلامٌ من آل الحسين، وهو ممسكٌ بعودٍ من تلك الأبنية، عليه إزارٌ وقميص، وهو مذعورٌ يتلفَّت يمينًا وشمالًا، فكأنّي أنظر إلى درّتَين في أذنَيه، يتذبذبان كلّما التفَتَ، إذ أقبلَ رجل يركض، حتّى إذا دنا منه، مال عن فرسِه، ثمّ اقتصد الغلام، فقطعه بالسيف.
قال هشام الكلبيّ: هاني بن ثبيت الحضرميّ هو صاحب - أي قاتل - الغلام، وكَنَّى عن نفسه استحياءً، أو خوفًا[119].
وانبرى إلى ساحة القتال عبدُ الله بن عقيل الأكبر[120]، وقاتَل قتال الأبطال، فقُتِل وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة[121].
ثمّ برز بقيّة أولاد عقيل، عبيد الله - وأمُّه الخوصاء بنت حفصة - ومحمّد[122] - وهو صهر أمير المؤمنين عليه السلام - وعون وعليّ وموسى[123]. ثمّ برز أحمد بن محمّد بن عقيل[124]، فاستشهدوا جميعًا، واحدًا تلو الآخر.
ثمّ ابتدأ آل جعفر بن أبي طالب عليه السلام بالتقدُّم إلى حومة الحرب, لنصرة سيّد شباب أهل الجنّة، فبرز عون بن عبد الله بن جعفر عليه السلام[125]، وأمّه العقيلة[126] زينب بنت الإمام أمير المؤمنين عليه السلام.
ثمّ برز إلى ميدان المعركة محمّد بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب - وأمّه الخوصاء بنت حفصة[127] - فقاتَل وقُتِل[128].
وكان القاسم بن محمّد بن جعفر بن أبي طالب عليه السلام - وأمُّه أمُّ ولد - ملازِمًا لابن عمِّه الحسين عليه السلام، ولم يفارقه أبدًا، وقد زوّجه عليه السلام بنتَ عمِّه عبد الله بن جعفر، التي خطبها معاوية لابنه يزيد، وأمُّها زينب بنت أمير المؤمنين عليه السلام، واسمها أمّ كلثوم الصغرى، وقد انتقل القاسم مع زوجته مع الحسين عليه السلام إلى كربلاء، وقاتَل وأُثخِنَ بالجراح، فتعطَّفوا عليه من كلِّ جانب، فقتلوه[129].
وبعده، استشهد عبيد الله بن عبد الله بن جعفر عليه السلام[130] وأمُّه الخوصاء بنت حفصة - ثمّ عبد الله بن عبد الله بن جعفر عليه السلام[131]. ثمّ جاء دور أبناء الإمام الحسن بن عليّ عليه السلام، وكان أوّل واحد فيهم القاسم بن الحسن عليه السلام، وكان يقول: لا يُقتَل عمّي وأنا أحمل السيف![132]. ولمّا رأى وَحدةَ عمِّه، استأذنَه في القتال، فلم يأذنْ له, لِصِغَرِه، فما زال به حتّى أَذِنَ له[133].
روى الشيخ المفيد (رضوان الله عليه) قائلًا: قال حميد بن مسلم: فإنّا كذلك إذ خرجَ علينا غلامٌ، كأنّ وجهَهُ شقّةُ قمرٍ، في يدِه سيف، وعليه قميص وإزار، ونعلان قد انقطع شسعُ إحداهما، فقال لي عمر بن سعيد بن نفيل الأزديّ: والله، لَأَشُدَّنَّ عليه. فقلتُ: سبحان الله! وما تريد بذلك؟ دَعْهُ، يكفيكه هؤلاء القوم الذين ما يُبقُون على أحد منهم! فقال: والله، لَأَشُدَّنَّ عليه. فشَدَّ عليه، فما ولّى، حتّى ضرب رأسَه بالسيف، ففلقه، ووقع الغلام لوجهه، فقال: يا عمّاه! فجلى الحسين عليه السلام كما يُجلي الصقر، ثمّ شدّ شدَّةَ ليث أغضب، فضرب عمر بن سعيد بن نفيل بالسيف، فاتّقاها بالساعد، فأطنُّها مِن لدُنِ المرفق، فصاح صيحةً سمعها أهل العسكر، ثمّ تنحّى عنه الحسين عليه السلام، وحملَت خيلُ الكوفة لتستنقذه، فتوطّأته بأرجلها حتّى مات.
وانجلَت الغبرةُ، فرأيتُ الحسين عليه السلام قائمًا على رأس الغلام، وهو يفحص برجله، والحسين عليه السلام يقول: "بُعدًا لِقَوْمٍ قَتَلُوكَ، وَمَنْ خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيكَ جَدُّك!".
ثمّ حمله على صدره، فكأنّي أنظر إلى رِجْلَي الغلام تخطّان الأرض. فجاء به، حتّى ألقاهُ مع ابنه عليّ بن الحسين عليه السلام والقتلى من أهل بيته، فسألتُ عنه، فقيل لي: القاسم بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب عليه السلام[134].
وكان أحمد بن الحسن عليه السلام قد خرج مع عمّه الحسين عليه السلام، هو وأمّه وأخوه القاسم وأختاه أمّ الحسن وأمّ الخير، إلى مكّة، ثمّ إلى كربلاء، وله من العمر ستّ عشرة سنة. وعند اشتداد القتال، بعد صلاة الظهر، حمل على القوم، وهو يرتجز، وأُثخِنَ بالجراح، فتعطّفوا عليه جماعةٌ كثيرة، فقتلوه[135]. ثمّ استشهد بعده أبو بكر بن الحسن عليه السلام[136].
وقاتَل الحسن بن الحسن المثنّى، فأصابته ثماني عشرة جراحة، وقُطِعت يدُه اليمنى، ولم يستشهد[137]، فقد وقع، فأخذه خاله أسماء بن خارجة، فحمله إلى الكوفة، وداواه حتّى برئ، وحمله إلى المدينة[138].
وأمّا عمر بن الحسن عليه السلام، فقد قيل: إنّه من شهداء الطفّ[139]، ولكن ابن الجوزي قال: واستصغَروا أيضًا عمر بن الحسن بن عليّ عليه السلام، فلم يقتلوه، وتركوه[140].
وبعد استشهاد أولاد عمومته وأولاد أخيه، أخذ إخوان الإمام الحسين عليه السلام بالتصدّي والقتال في يوم عاشوراء.
وهناك اختلاف بين المؤرِّخين حول عدد أولاد الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام، الذين قتلوا في واقعة الطف، فعن المفيد والطبريّ أنّهم كانوا خمسة، وعن آخرين أنّهم كانوا تسعة أشخاص، ونحن نذكر هنا المشهورين منهم.
وكان عبد الله وجعفر وعثمان[141] إخوة العبّاس بن عليّ عليه السلام من أمِّه، أمّ البنين فاطمة بنت حزام الكلابيّة العامريّة[142]، فلمّا رأى العبّاس كثرة القتلى في أهله، قال لهم: "يا بَنِي أُمِّي، تَقَدَّمُوا، بِنَفْسي أنتُم، فحاموا عن سيِّدِكم حتّى تموتوا دونه، حتّى أراكُم قد نَصَحْتُم للهِ ولرسولهِ"[143]. فتقدَّموا جميعًا، فصاروا أمام الحسين عليه السلام، يقونه بوجوههم ونحورهم.
فتقدَّم عبد الله، فقاتَلَ قتالًا شديدًا، فاختلف هو وهاني بن ثبيت الحضرميّ ضربتَين، فقتلَه هاني (لعنه الله)[144]. ثمّ تقدم جعفر[145]، فقتله أيضًا هانئ[146]، وجاء برأسه[147]. ورُوِيَ أنّ خَولِيّ بن يزيد الأصبحيّ هو الذي قتله[148].
وعندما برز عثمان بن عليّ عليه السلام، رماه خَوليُّ بن يزيد الأصبحيّ بسهمٍ، فصرعه[149]، وشدّ عليه رجلٌ من بني دارم، فاحتزّ رأسَه. وبقي العبّاس بن عليّ قائمًا أمام الحسين عليه السلام، يقاتل دونه، ويميل معه حيث مال.
شهادة أبي الفضل العبّاس عليه السلام
ذكرَت المصادر التاريخيّة، في كيفيّة شهادة أبي الفضل العبّاس، صورتَين, إجماليّة وتفصيليّة.
أمّا الإجماليّة، فقد قال الشيخ المفيد: وحملَت الجماعةُ على الحسين عليه السلام، فغلبوه على عسكره، واشتدّ به العطش، فركب المسنّاة يريد الفرات، وبين يدَيه العبّاس أخوه، فاعترضَتْه خيلُ ابن سعد، وفيهم رجلٌ من بني دارم، فقال لهم: وَيْلَكُم! حُولُوا بينه وبين الفرات، ولا تمكِّنوه من الماء! فقال الحسين عليه السلام: "اللهُمَّ أَظْمِئْهُ".
فغضب الدارميّ، ورماه بسهمٍ، فأثبتَه في حنَكِه، فانتزع الحسين عليه السلام السهمَ، وبَسَطَ يدَه تحت حنكه، فامتلأَت راحتاه بالدم، فرمى به، ثمّ قال: "اللهُمَّ، إنّي أَشكُو إِلَيْكَ مَا يُفعَلُ بِابْنِ بِنْتِ نَبِيِّكَ". ثمّ رجع إلى مكانه، وقد اشتدّ به العطش، وأحاط القومُ بالعبّاس، فاقتطعوه عنه، فجعل يقاتلهم وحده حتّى قُتِل عليه السلام - وكان المتولّي لقتله زيدُ بن ورقاء الحنفيّ[150]، وحكيمُ بن الطفَيْل السنبسيّ[151]- بعد أن أُثخِنَ بالجراح، فلم يستطع حراكًا![152].
وأمّا التفصيليّة، فقد اشتركَت في إيرادها مجموعةٌ من المصادر، وتقول: إنَّ العبّاس بن عليّ عليه السلام خرج من بعد أخيه عبد الله، فلم يزل يقاتل، حتّى قَتَلَ جماعةٌ من القوم، ثمّ قُتِل، فقال الحسين عليه السلام: "الآنَ اِنْكَسَرَ ظَهْرِي، وَقَلَّتْ حِيلَتِي!"[153].
وفي مصادر أخرى، المزيد من التفاصيل، يقول ابن شهر آشوب السرويّ في كتابه المناقب: وكان عبّاس السقّاء قمر بني هاشم، صاحب لواء الحسين، وهو أكبر الإخوان، مضى يطلب الماء، فحملوا عليه، وحمل هو عليهم، ففرّقَهم، فكَمنَ له زيدُ بن ورقاء الجهنيّ من وراء نخلة، وعاونه حكيمُ بن طفيل السنبسيّ، فضربَه على يمينه، فأخذ السيفَ بشماله، وحمل عليهم، فقاتَل حتّى ضعف، فكَمنَ له الحكيم بن الطفيل الطائيّ من وراء نخلة، فضربَهُ على شماله، فقتَلَهُ الملعون بعمودٍ من حديد[154].
قَتْلُ أطفال الحسين عليه السلام
ويظهر من الأخبار والروايات الواردة في هذا الفصل من ملحمة عاشوراء، أنّ الإمام عليه السلام كان له ولدان صغيران قُتِلا في الطفّ، أحدُهما اسمه عبد الله بن الحسين عليه السلام - وأمُّه الرباب بنت امرئ القيس - والآخر اسمه عليّ الأصغر.
أمّا الأوَّل، فوُلِدَ في الحرب، فأُتِيَ الإمام الحسين عليه السلام به، وهو قاعدٌ[155] أمام الفسطاط، أو هو واقفٌ على فرسه[156]، فأخذَه في حجره، ولبّاه بريقه، وأذَّنَ في أذنه، وجعل يحنّكه، وسمّاه عبد الله. فرماه حرملة بن الكاهل الأسديّ بسهمٍ، فوقع في حلق الصبيّ، فذبحه، فنزع الحسينُ السهمَ من حلقه، وجعل يلطّخه بدمه، ويقول: "وَاللهِ، لَأَنْتَ أَكرَمُ عَلَى اللهِ مِن النَّاقَةِ، وَلَمُحَمَّدٌ أَكرَمُ عَلَى اللهِ مِن صَالِح"[157]. ثمّ نزل عن فرسه، وحفر له بطرف السيف، ورَمَّلَه بدمه، وصلّى عليه، ودفنه[158].
وفي رواية أخرى، أنّ الإمام عليه السلام هو الذي تقدَّم إلى باب الخيمة، وقال لزينب عليها السلام: "نَاوِلِينِي وَلَدِي الصغِيرَ حَتَّى أُوَدِّعَهُ"، فأخذه وأمال إليه ليقبِّلَه، فرماه حرملةُ بن الكاهل الأسديّ بسهم، فوقع في نحره، فذبحه، فقال لزينب عليها السلام: "خُذِيهِ". ثمّ تلقى الدمَ بكفَّيهِ حتّى امتلأتا، ورمى به نحو السماء، وقال: "هَوَّن عَلَيَّ مَا نَزَلَ بِي أَنَّهُ بِعَيْنِ اللهِ". قال الإمام الباقر عليه السلام: "فَلَمْ تَسْقُطْ مِنْ ذَلِكَ الدَّمَ قَطْرَةٌ إِلَى الأَرْضِ"[159]. وفي رواية الشيخ المفيد: فتلَقّى الحسين عليه السلام دمَه، فلمّا ملأ كفَّه، صبَّهُ في الأرض، ثمّ قال: "رَبِّ، إنْ تَكُنْ حَبَسْتَ عَنّا النَّصْرَ مِن السَّمَاءِ، فَاجْعَلْ ذَلِكَ لِمَا هُوَ خَيْرٌ، وَانْتَقِمْ لَنَا مِنْ هَؤُلَاءِ القَوْمِ الظَّالِمِينَ". ثمّ حملَه حتّى وضعه مع قتلى أهله مِن وُلدِه وبَنِي أَخِيهِ[160].
وأمّا ولده الثاني، فقد كان معه حينما خرج من المدينة. واسمه عليّ الأصغر، له من العمر ثلاث سنين[161]. وكان الإمام عليه السلام يُقَبِّلُه وهو واقف إلى باب الخيمة، ويقول له: "يَا بُنَيَّ، وَيْلٌ لِهَؤُلَاءِ القَوْمِ إِذَا كَانَ غَدًا خَصْمَهُمْ جَدُّكَ مُحَمَّد!"، فأصابه سهمٌ، فقتَلَه[162].
الوصيّة الأخيرة
ثمّ أحضر عليّ بن الحسين عليه السلام، وكان عليلًا، فأوصى إليه الإمام الحسين عليه السلام بالاسم الأعظم ومواريث الأنبياء عليهم السلام، وعرّفَه أنّه قد دفع العلوم والصحف والمصاحف والسلاح إلى أمّ سلمة (رضي الله عنها)، وأَمَرَها أن تدفعَ جميعَ ذلك إليه[163].
ورُوِيَ أنّ الحسين عليه السلام دعا ابنته الكبرى فاطمة[164]، فدفعَ إليها كتابًا ملفوفًا ووصيّةً ظاهرة، وكان عليّ بن الحسين عليه السلام مبطونًا معهم، لا يرون إلّا أنّه لِما به، فدفعَت فاطمة الكتابَ إلى عليّ بن الحسين عليه السلام، ثمّ صار ذلك إلى بقيّة أئمّة أهل البيت عليهم السلام[165].
الاستعداد للشهادة
ولَمّا بقي الحسين عليه السلام في ثلاثة رهط أو أربعة، قال: "ائْتُونِي بِثَوْبٍ لَا يَرْغَبُ فِيهِ أَحَدٌ، أَلْبَسُهُ، غَيْرِ ثِيَابِي، لَا أُجَرَّدُ، فَإِنِّي مَقْتُولٌ مَسْلُوبٌ". فقال له بعضُ أصحابِه: لو لبستَ تحتَه تُبّانًا[166]، قال: "ذَلِكَ ثَوْبُ مَذَلَّةٍ، وَلَا يَنْبَغِي لِي أَنْ أَلْبَسَهُ". ثُمَّ أَتوهُ بِشَيْءٍ أَوْسَع مِنْهُ، دُونَ السَّرَاوِيلِ وَفَوْقَ التُّبَّانِ، ففزَرَه[167] ونكثه, لكيلا يُسْلَبَهُ، ولَبِسَهُ[168].
الملحمة الحسينيّة
ثمّ وقف عليه السلام قِبلةَ القوم، وسيفُه مُصَلَت في يدِه، آيِسًا من الحياة، عازِمًا على الموت، ودعا الناس إلى البراز، فلم يزل يَقتُل كلَّ مَن دنا منه مِن عيون الرجال، ثمّ حمل على الميمنة، ثمّ على الميسرة...
وجعل يقاتِل[169] بثباتٍ ورباطة جأشه. وقد وصفه أحدُ الذين شهدوا وقعة الطفّ من أعدائه في معسكر ابن سعد، فقال: فوالله، ما رأيتُ مكثورًا قطّ، قد قُتِلَ ولدُه وأهلُ بيته وجميعُ أصحابه حوله، وأحاطَت به الكتائب، أربطَ جأشًا، ولا أمضى جنانًا منه، ولا أجرأَ مقدمًا! والله، ما رأيتُ قبلَه، ولا بعده، مثلَه! فوالله، لكان يشدُّ عليهم، فكانت الرجّالة لتنكشف من عن يمينه وشماله، انكشافَ المعزى إذا شدّ فيها الذئب![170].
فمكث مليًّا، والناس يدافعونه ويكرهون الإقدام عليه[171]. وكان يحمل فيهم، ولقد كمّلوا ثلاثين ألفًا، فيُهزَمون بين يدَيه، كأنّهم الجراد المنتشر! ثمّ يرجع إلى مركزه، وهو يقول: "لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ!"[172].
فقال عمر بن سعد لقومه: وَيْلَكُم! أتدرونَ مَن تبارزون؟ هذا ابنُ الأنزعِ البطين، هذا ابنُ قَتَّالِ العرب! فاحمِلُوا عليه مِن كلِّ جانب[173]! فحمل عليه مئات الرجال من حملة الرماح والسيوف ورماة السهام...
ثمّ حمل الحسين عليه السلام على الأعور السلميّ وعمرو بن الحجّاج الزبيديّ، وكانا في أربعة آلاف رجل على الشريعة، وأقحمَ الفرسَ على الفرات، ولكنّ صارخًا من جيش عمر بن سعد هَتَفَ به: تتلذَّذُ بِشربِ الماءِ، وقدْ هُتِكَتْ حَرِيمُكَ؟!
فنفضَ الماءَ من يده، وحملَ على القوم، فكشفهم، فإذا الخيمة سالمة![174].
ثمّ ودّع، ثانيًا، أهلَ بيتِه، وأمَرَهُم بالصبر، ووعدَهم بالثواب والأجر، وأَمَرَهم بلبس أُزرِهِم...
فقال عمر بن سعد: وَيْحَكُم! اهجموا عليه، ما دام مشغولًا بنفسه وحرمه! والله، إنْ فرغَ لكم، لا تمتاز ميمنتُكم عن ميسرتِكم!
فحملوا عليه يرمونه بالسهام، حتّى تخالفَت السهام بين أطناب المخيَّم، وشكَّ سهمٌ بعضَ أُزَرِ النساء، فدُهِشْنَ وأُرعِبْنَ وصِحْنَ ودَخَلْنَ الخيمةَ يَنْظُرْنَ إلى الحسين عليه السلام كيف يصنع.
فحمل عليهم حملةً منكرة، قَتَل فيها كثيرًا من الرجال والأبطال، فكان كالليث الغضبان، لا يلحق أحدًا إلّا بَعَجَهُ بسيفه، فقتله، والسهام تأخذه من كلِّ ناحية، وهو يَتَّقِيها بصدره ونحره.
ويَصِفُهُ، في هذه الساعة الإلهيّة من حياته المقدَّسة، أحدُ الذين شهدوا معركة كربلاء من جيش عمر بن سعد، فيقول: كانت عليه جُبَّةٌ من خزّ، وكان مُعْتَمًّا، وكان مخضوبًا بالوسمة، وسمعتُه يقول قبل أن يُقتَل، وهو يقاتِل على رِجلَيه قِتالَ الفارس الشجاع، يَتَّقي الرميةَ، ويفترص العورة، ويشدّ على الخيل، وهو يقول: "يَا أُمَّةَ السُّوءِ! بِئسَمَا خَلفْتُمْ محمّدًا صلى الله عليه وآله وسلم فِي عِتْرَتِهِ! أَعَلَى قَتْلِي تحاثّون؟ أَمَا إِنَّكُم، وَاللهِ، لَا تَقْتُلُونَ بَعْدِي عَبْدًا مِنْ عِبَادِ اللهِ الصَّالِحِينَ، اللهُ أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ لِقَتْلِهِ مِنِّي، فَتَهَابُوا قَتْلَهُ، بَلْ يَهُونُ عَلَيْكُمْ عِنْدَ قَتْلِكُم إِيَّايَ. وَأَيمُ اللهِ، إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يُكْرِمَنِي اللهُ بِهَوَانِكُم، ثُمَّ يَنْتَقِمَ لِي مِنْكُمْ مِنْ حَيْثُ لَا تَشْعُرُونَ. أَمَا وَاللهِ، أَنْ لَوْ قَتَلْتُمُونِي، لَقَدْ أَلْقَى اللهُ بَأْسَكُمْ بَيْنَكُمْ، وَسفكَ دِمَاءَكُم، ثُمَّ لَا يَرْضَى لَكُمْ حَتَّى يُضَاعِفَ لَكُم العَذَابَ الأَلِيمَ!".
فصاح الحصين بن النمير السكونيّ: يَابْنَ فاطمة، بماذا ينتقمُ لكَ مِنّا؟
فقال عليه السلام: "يُلْقِي بَأْسَكُم بَيْنَكُم، وَيَسْفِكُ دِمَاءَكُم، ثُمَّ يَصُبَّ عَلَيْكُم العَذَابَ الأَلِيمَ".
ورجع سالِمًا إلى موقفه عند الحريم، ثمّ حمل حملةً أخرى، وأراد الكرَّ راجعًا إلى موقفه، فأقبل شمر بن ذي الجوشن في نفرٍ من عشرةٍ مِن رجّالة أهل الكوفة، قِبَل منزل الحسين، الذي فيه ثقله وعياله، فحالوا بينه وبين رَحْلِه، وأحدقوا به. ثمّ إنّ جماعةً منهم تبادروا إلى الحريم والأطفال يريدون سَلْبَهم، فصاح الحسين عليه السلام: "وَيْحَكُم يَا شِيعَةَ الشَّيْطَانِ! يَا شِيعَةَ آلِ أَبِي سُفْيَان! وَيْلَكُمْ! إنْ لم يَكْنْ لَكُمْ دِينٌ، وَكُنْتُم لَا تَخَافُونَ يَوْمَ المَعَادِ، وَكُنْتُم عَرَبًا، كَمَا تَزْعُمُونَ، فَكُونُوا في أَمْرِ دُنْيَاكُم أَحْرَارًا ذَوِي أَحْسَابٍ، امْنَعُوا رَحْلِي وَأَهْلِي مِن طغَامِكُم[175] وَجُهَّالِكم، وَكُفُّوا سُفَهَاءَكُم عَن التَّعَرُّضِ لِلنِّسَاءِ وَالأَطْفَالِ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يُقَاتِلُوا. فَرَحْلِي لَكُمْ عَنْ سَاعَةٍ مُبَاحٌ!"[176].
فقال شمر بن ذي الجوشن: ذلك لكَ يابن فاطمة[177]، ثمّ قال لأوباش أهل الكوفة: كُفّوا عنهم، واقصدوا الرجلَ بنفسه[178].
فقصده القومُ بالحرب من كلِّ جانِب، فجعلَ يحمل عليهم ويحملون عليه، وهو في ذلك يطلب الماء ليشرب منه شربة، فكلَّما حمل بفرسِه على الفرات، حملوا عليه، حتّى أجَّلوه عنه[179]، ثمّ رماه رجلٌ، يُقال له: أبو الحتوف الجعفيّ، بسهمٍ فوقع السهمِ في جبهته، فنزع الحسين السهم ورمى به، فسال الدم على وجهه ولحيته[180]، فقال: "اللهُمَّ، قد ترى ما أنا فيه مِن عِبادِك هَؤلاءِ العُصاةِ العُتاةِ! اللهُمَّ، فأَحْصِهِم عَدَدًا، وَاقْتُلْهُم بَدَدًا، وَلَا تَذَرْ عَلَى وَجْهِ الأرضِ مِنْهُم أَحَدًا، وَلَا تَغْفِرْ لَهُمْ أَبَدًا".
ثمّ جعل يُقاتل، حتّى أصابَتْه مئاتُ الجراحات، بين طعنة بالرمح، وضربة بالسيف، ورمية بالسهام، وكانت كلّها في مقدمه, لأنّه كان لا يولّي[181]. فوقف يستريح، وقد ضعف عن القتال، فبينا هو واقفٌ، إذ أتاه حجرٌ، فوقعَ على جبهته، فسالَت الدماءُ من جبهته، فأخذَ الثوبَ ليمسح عن جبهته، فأتاه سهمٌ محدَّدٌ مسمومٌ، له ثلاثُ شُعَبٍ، فوقع في قلبه، فقال الحسين عليه السلام: "بِسْمِ اللهِ، وَبِاللهِ، وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللهِ".
ورفع رأسه إلى السماء، وقال: "إِلَهِي، إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقْتُلُونَ رَجُلًا لَيْسَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ ابْنُ نَبِيٍّ غَيْرُه".
ثمّ أخذ السهم، وأخرجه من وراء ظهره، فانبعث الدم كالميزاب، فوضع يده على الجرح، فلمّا امتلأت دمًا، رمى بها إلى السماء، فما رجع من ذلك قطرة، وما عُرِفَت الحمرةُ في السماء حتّى رمى الحسين عليه السلام بدمِه إلى السماء، ثمّ وَضَعَ يدَه على الجرح ثانيًا، فلمّا امتلأَت، لطّخَ بها رأسَه ولحيتَه، وقال: "هَكَذَا أَكُونُ، حَتَّى أَلْقَى جَدِّي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم وَأَنَا مَخْضُوبٌ بِدَمِي، وَأَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَتَلَنِي فُلَانٌ وَفُلَان".
ثمّ ضَعُفَ عن القتال، فوقف مكانه، ومكث طويلًا من النهار، ولو شاء الناس أن يقتُلوه لفعلوا، ولكنّهم كان يَتَّقي بعضُهم ببعض، ويحبّ هؤلاء أن يكفيَهم هؤلاء، فكلّما أتاه رجلٌ من الناس وانتهى إليه، انصرف عنه، وكَرِهَ أنْ يَلقَى اللهَ بدمِه، حتّى جاءه رجلٌ من كندة، يُقال له: مالك بن نسر، فضربه بالسيف على رأسه، وكان عليه برنس، فقطع البرنس، وامتلأ دمًا، فقال له الحسين عليه السلام: "لَا أَكَلْتَ بِيَمِينِكَ، وَلَا شَرِبْتَ بِهَا، وَحَشَرَكَ اللهُ مَعَ الظَّالِمِينَ".
وكان عبد الله بن الحسن عليه السلام غلامًا لم يراهق، ولَمَّا رأى وَحْدَةَ عمِّه عليه السلام بين أعدائه الذين قد أحاطوا به بعد مقتل أنصاره، وكان نزف رأسه قد اشتدّ به من ضربة مالك بن النسر الكنديّ[182] (لعنه الله)، خرج إليه من عند النساء، حتّى وقف إلى جنبه، فلَحِقَتْهُ زينبُ بنت عليّ عليها السلام لتحبسه، فقال لها الحسين عليه السلام: "اِحْبِسِيهِ يَا أُخْتِي"، فأَبَى وامتنع عليها امتناعًا شديدًا، وقال: واللهِ، لَا أُفارِقُ عَمِّي! وأهوى أبجر بن كعب[183] إلى الحسين عليه السلام بالسيف، فقال له الغلامُ: وَيْلَكَ يَابْنَ الخَبِيثَةِ! أتقتُلُ عَمِّي؟! فضربه أبجر بالسيف، فاتَّقاها الغلام بِيَدِه، فأطَنَّها إلى الجلدة، فإذا يدُه معلَّقَة، ونادى الغلام: يَا أُمَّتَاه! فأخذه الحسين عليه السلام، فضمَّهُ إليه وقال: "يَابْنَ أَخِي، اصْبِرْ عَلَى مَا نَزَلَ بِكَ، وَاحْتَسِبْ فِي ذَلِكَ الْخَيْرَ, فَإِنَّ اللَّهَ يُلْحِقُكَ بِآبَائِكَ الصَّالِحِين".
ثمّ رفع الإمام الحسين عليه السلام يدَه وقال: "اللَّهُمَّ، إِنْ مَتَّعْتَهُمْ إِلَى حِينٍ، فَفَرِّقْهُمْ فِرَقًا، وَاجْعَلْهُمْ طَرَائِقَ قِدَدًا، وَلَا تُرْضِ الْوُلَاةَ عَنْهُمْ أَبَدًا, فَإِنَّهُمْ دَعَوْنَا لِيَنْصُرُونَا، ثُمَّ عَدَوْا عَلَيْنَا فَقَتَلُونَا"[184].
ثمّ ألقى الإمام الحسين البرنس، ولبس قلنسوةً واعتمَّ عليها، وقد أعيى وتبلّد.
ثمّ نادى شمر: ما تنتظرون بالرجل؟ فقد أثخَنَتْهُ السهامُ, اقتُلُوهُ، ثَكَلَتْكُمْ أُمَّهَاتُكُم!
فحُمِل عليه من كلّ جانب، وأخذَت به الرماح والسيوف، ورماه سنان بن أنس بسهم في نحره، وطعنه صالح بن وهب المرّيّ على خاصرته طعنةً منكرةً، وضُرِبَ على عاتقه، ثمّ انصرفوا، وهو ينوء ويكبو[185]. فسقط الحسين عن فرسه[186] إلى الأرض، على خدّه الأيمن، ثمّ استوى جالسًا، ونزع السهمَ من نحره.
فصاح شمر: وَيْحَكُم! ما تنتظرون؟ اقتُلُوهُ، ثَكَلَتْكُمْ أُمَّهَاتُكُم![187]، فضربه زرعة بن شريك، فأَبَانَ كفَّه اليسرى، ثمّ ضربه على عاتقه، فجعل عليه السلام يكبو مرّةً ويقوم أخرى، فحمل عليه سنان ابن أنس في تلك الحال، فطعنه بالرمح، فصرعه[188]، وقال لخَوليّ بن يزيد: احتزَّ رأسَه. فضَعُفَ وارتعدَت يداه، فقال له سنان: فَتَّ اللهُ عضدَك، وأبانَ يدَكَ[189]! فنزل إليه نصر بن خرشة الضبابيّ، وقيل: ابن ذي الجوشن[190]، وكان أبرص، وألقاه على قفاه، ثمّ أخذ بلحيته، فقال له الحسين عليه السلام: "أَنْتَ الكَلْبُ الأَبْقَعُ الَّذِي رَأَيْتُهُ فِي مَنَامِي!".
فقال له شمر: أَتُشَبِّهُني بالكلاب يابن فاطمة؟ ثمّ جعل يضرب بسيفه مذبحَ الحسين عليه السلام، ويقول:
أقتلُكَ اليومَ ونفسي تعلمُ عِلمًا يقينًا ليسَ فيه مَزْعَم
وَلَا مَجَـالٌ لَا وَلَا تَـكتُّم أَنَّ أَباكَ خَيْرُ مَنْ يُكَلـّم
ورُوِيَ أنّه جاء إليه شمر بن ذي الجوشن، وسنان بن أنس، والحسين عليه السلام بآخر رمق يلوك لسانه من العطش، فقال شمر: يابن أبي تراب، ألستَ تزعم أنّ أباك على حوض النبيّ يسقي مَن أحبَّه؟ فاصبِر حتّى تأخذ الماءَ مِن يَدِه. ثمّ قال لسنان بن أنس: احتزَّ رأسَه مِن قفاه. فقال: لا، والله، لا أفعل ذلك، فيكون جدُّه محمّد خصمي! فغضب شمر منه، وجلس على صدر الحسين عليه السلام، وقبض على لحيته، وهَمَّ بقَتْلِه، فضحك الحسين، وقال له: "أَتَقْتلُنِي؟ أَوَلَا تَعْلَمُ مَنْ أَنَا؟".
قال شمر (لعنه الله): أعرفُكَ حقَّ المعرفة, أمُّكَ فاطمة الزهراء، وأبوك عليٌّ المرتضى، وجدُّك محمّدٌ المصطفى، وخصيمُك اللهُ العليُّ الأعلى، وأقتلُك ولا أبالي! وضربَهُ بسيفه اثنتَي عشرةَ ضربة، ثمّ حزّ رأسَه[191].
سلب الإمام عليه السلام ورضّ جسده الشريف بحوافر الخيل
ثمّ أقبلوا على سلب الحسين قميصَه وسراويلَه وعمامتَه وسيفَه[192]. فالذي أخذ قميصَه، صار أبرص، وامتعط شعرُه... والذي أخذ سراويلَه، صار زمنًا مُقعَدًا مِن رِجلَيه. والذي أخذ عمامتَه فاعتَمَّ بها، صار معتوهًا. وأخذ نعلَيه الأسودُ بن خالد (لعنه الله)، وأخذ خاتمه بجدل بن سليم الكلبيّ، بعد أن قطع إصبعه عليه السلام مع الخاتم، وهذا أخذه المختار بن أبي عبيد الثقفيّ، فقطع يدَيْه ورِجلَيه، وتركه يتشحّط في دمه حتّى هلك. وأخذ قيس بن الأشعث قطيفةً له عليه السلام كانت من خزّ، كان يجلس عليها، فسُمِّيَ لذلك قيس قطيفة[193]، وأخذ درعَه البتراء عمر بن سعد, فلمّا قُتِلَ عمر، وهبها المختارُ لأبي عمرة قاتلِه، وأخذ عمر بن سعد سيفَه، ولكنّه ليس ذا الفقار، فإنّ ذلك كان مذخورًا ومصونًا مع أمثاله من ذخائر النبوّة والإمامة[194].
ثمّ انتهبوا رَحلَهُ وإبلَه وأثقالَه[195]، ثمّ أغاروا على خيم النساء، فأحرقوها وهم ينادون: أحرِقوا بيوتَ الظالمين! بينما النساء تَفِرُّ مذعوراتٍ من خيمة إلى أخرى، ثمّ عمد أوباشُ أهل الكوفة إلى سلب النساء، ونَهْبِ ما عليهِنَّ مِن حليّ وحلل، ونهبوا ما في الخيام من متاع.
ثمّ نادى عمر بن سعد في أصحابه: مَن ينتدب للحسين، فيواطئ الخيل ظهرَه وصدرَه؟ فانتدب منهم عشرة، وهم: إسحاق بن حويّة، الذي سلب الحسين عليه السلام قميصَه، وأخنس بن مرثد، وحكيم بن طفيل السنبسيّ، وعمر بن صبيح الصيداويّ، ورجاء بن منقذ العبديّ، وسالم بن خثيمة الجعفيّ، وواحظ بن ناعم، وصالح بن وهب الجعفيّ، وهاني بن ثبيت الحضرميّ، وأُسيد بن مالك (لعنهم الله تعالى)، فداسوا الحسين عليه السلام بحوافر خيلهم، حتّى رضّوا صدرَه وظهرَه[196].
وبعد سبعٍ وخمسين سنة[197] من عمره الشريف، وفي اللحظة التي استشهد فيها مذبوحًا ظمآنًا، ارتفعَت في السماء، في ذلك الوقت، غبرةٌ شديدة مظلمة، فيها ريحٌ حمراء، لا يُرَى فيها عينٌ ولا أثرٌ، حتّى ظنَّ القومُ أنَّ العذابَ قد جاءهم، فلبِثَت بذلك ساعة، ثمّ انجلَت عنهم[198].
عن الإمام الصادق عليه السلام: "لَمَّا ضُرِبَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ عليه السلام بِالسَّيْفِ، ثُمَّ ابْتُدِرَ لِيُقْطَعَ رَأْسُهُ، نَادَى مُنَادٍ مِنْ قِبَلِ رَبِّ الْعِزَّةِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - مِنْ بُطْنَانِ الْعَرْشِ، فَقَالَ: أَلَا أَيَّتُهَا الْأُمَّةُ الْمُتَحَيِّرَةُ الظَّالِمَةُ بَعْدَ نَبِيِّهَا، لَا وَفَّقَكُمُ اللَّهُ لِأَضْحًى وَلَا فِطْرٍ! قَالَ: ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: لَا جَرَمَ، وَاللَّهِ، مَا وُفِّقُوا، وَلَا يُوَفَّقُونَ أَبَدًا، حَتَّى يَقُومَ ثَائِرُ الْحُسَيْنِ عليه السلام"[199].
ولم يَنْجُ، من أصحاب الحسين عليه السلام ووُلدِ أخيه وأولادِه، إلّا عليٌّ زينُ العابدين عليه السلام، وعمرُ بن الحسين عليه السلام، وقد كان بلغ أربع سنين[200]. وذهب بعض المؤرِّخين إلى أنَّ محمّد بن الحسين عليه السلام كان في قافلة الأسرى[201].
وأمّا أولاد أخيه، فقد قيل: إنّ عمر بن الحسن عليه السلام من شهداء الطفّ[202]، ولكنّ ابن الجوزي قال: واستصغروا أيضًا عمر بن الحسن بن عليّ عليه السلام، فلم يقتلوه، وتركوه[203].
وأمّا الحسن بن الحسن المثنّى، فقد قاتَل، كما تقدَّم، فأصابته ثماني عشرة جراحةٌ، وقُطِعَت يدُه اليمنى، ولم يستشهد[204].
ولم يسلم من أصحاب الإمام الحسين عليه السلام إلّا رجلان، أحدهما المرقع بن ثمامة الأسديّ، بعث به عمر بن سعد إلى ابن زياد، فسَيَّرَه إلى الربذة، فلم يزل بها حتّى هلك يزيد، وحينما هرب عبيد الله بن زياد إلى الشام، انصرف المرقع إلى الكوفة. والآخر عقبة بن سمعان، مولى للرباب بنت امرئ القيس الكلبيّة - وهي أمّ سكينة بنت الحسين - أخذوه بعد قتل الحسين عليه السلام، فأرادوا ضرب عنقه، فقال لهم: إنّي عبدٌ مملوكٌ، فخلُّوا سبيلَه[205].
نهب مخيّم أهل البيت عليهم السلام
بعد أن استشهد الإمام الحسين عليه السلام، وحُزَّ رأسُه، ورُضَّ جسدُه الشريف بحوافر الخيل، أمر عمر بن سعد أوباش أهل الكوفة بنهب الخيام، فمالوا على الورس الذي كان أخذه الإمام الحسين من العير، فانتهبوه، ثمّ مالوا على النساء، فكانوا ينتزعون ملحفةَ المرأة عن ظهرها، وهي تنازعهم حتّى تغلب عليه، وجعلوا يسلبون حتّى لباس الأطفال، وخرموا أُذُنَ أمِّ كلثوم, من أجل قرطٍ في أذنيها، ثمّ قطعوا الخيام بالسيوف، وأضرموا فيها النيران.
قالت فاطم بنت الحسين: دخلَت الغاغةُ علينا الفسطاطَ، وأنا جاريةٌ صغيرة، وفي رِجْلَيَّ خلخالان من ذهب، فجعل رجلٌ يفضُّ الخلخالَين من رِجلي، وهو يبكي! فقلتُ: ما يُبكِيكَ يا عدُوَّ الله؟! فقال: كيف لا أبكي، وأنا أسلبُ ابنةَ رسولِ الله؟!
فقلتُ: لا تَسلبْنِي.
قال: أخافُ أن يجيءَ غيري، فيأخذَه!
قالت: وانتهَبُوا ما في الأبنية، حتّى كانوا ينزِعُونَ الملاحفَ عن ظهورنا![206].
وروى ابن شهر آشوب عن الإمام الرضا عليه السلام، أنّه قال: "إِنَّ الْمُحَرَّمَ شَهْرٌ، كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يُحَرِّمُونَ الْقِتَالَ فِيهِ، فَاسْتُحِلَّتْ فِيهِ دِمَاؤُنَا، وَهُتِكَتْ فِيهِ حُرْمَتُنَا، وَسُبِيَتْ فِيهِ ذَرَارِيُّنَا وَنِسَاؤٌنَا، وَأُضْرِمَتِ النِّيرَانُ فِي مَضَارِبِنَا، وَانْتُهِبَ مَا فِيهَا مِنْ ثِقَلِنَا"[207].
وكان على رأس النهّابين السلّابين، شمرُ بن ذي الجوشن[208]، الذي ما إن وصل إلى خيمة الإمام زين العابدين عليه السلام ورآه، حتّى أمر بقتله[209]، ولكنّ عمَّتَه زينب عليها السلام تعلَّقَت به، وقالت للشمر: "حسبُكَ مِن دمائِنا! والله، لا أُفارِقُه، فإنْ قَتَلْتَهُ، فَاقْتُلْنِي مَعَه!". وقد ساعدَت حالتُه الصحّيّة في تشجيع هؤلاء الأوباش على رفض تنفيذ أوامر الشمر، حيث بدا الإمامُ نحيلًا ضعيفًا من شدّة المرض، غير قادر على النهوض، وكأنّهم اعتقدوا أنَّ مرضَه كافٍ في التسبُّب بموته، بدون أن يقتلوه هم. وقد ظهر كأنّه صبيٌّ لشدّة هزاله[210]، وكان الشمر مصمِّمًا على قتله, لأنّ عبيد الله بن زياد أمرَه بقتل جميع أولاد الإمام الحسين عليه السلام.
وهكذا، أفلح موقفُ السيّدة زينب عليها السلام، ومرضُ الإمام وهزالُه، وتردُّدُ عمر بن سعد وبقيّة القَتَلة، في ثَنْيِ الشمر عن قتله. وكأنّ اللهَ عزّ وجلّ قد جمع كلّ هذه الأسباب ليبقيه حيًّا, لأنّه بقيّة الله، وفيه سوف تكون الذرّيّة الطاهرة[211].
ولا يُلتَفَت في هذا المقام، إلى ما حاول الراوي حميد بن مسلم أن يروّجَه لنفسه، بأنّه لعب دورًا إيجابيًّا في الذود عن حياة الإمام زين العابدين عليه السلام، وفي صرف شمر بن ذي الجوشن عن قتله، وهذا ضمن سياقٍ عامٍّ من الأدوار الإيجابيّة الأخرى التي حاول رَسْمَها لنفسه في روايات الطبريّ، الذي تبعه آخرون، وأخذوا عنه بدون تأمُّل.
ولكنّ هذا الموقف لا ينطلي على متأمِّل، فإنّ حميد بن مسلم الأزديّ هذا، كان في جيش عمر بن سعد يوم عاشوراء، بل كان وجيهًا من وجهاء هذا الجيش، معروفًا عند قادته، وقريبًا منهم. ويدلُّ على ذلك أنّه وخَوليّ بن يزيد الأصبحيّ حَمَلا رأس الإمام عليه السلام إلى ابن زياد[212]، بتكليفٍ من عمر بن سعد. كما كان الرسول الخاصّ لعمر بن سعد إلى أهله, لكي يبشِّرَهم بالنصر المؤزَّر على الإمام الحسين في كربلاء[213].
وعلى كلّ حال، فقد أُضْرِمَت النار في مضارب أهل البيت، بعد إخراجهم منها، فخرجَت النساء هارباتٍ مسلَّباتٍ حافياتٍ باكياتٍ[214]!
فلمّا نظر النسوة إلى القتلى، صِحْنَ وضَرَبْنَ وجوهَهُنَّ. قال الراوي: فوالله، لا أنسى زينبَ، ابنةَ عليٍّ، وهي تندب الحسين عليه السلام، وتنادي بصوتٍ حزينٍ وقلبٍ كئيبٍ: "يَا مُحَمَّدَاهْ! يَا مُحَمَّدَاهْ! صَلَّى عَلَيْكَ مَلَائِكَةُ السَّمَاءِ. هَذَا الحُسَيْنُ بِالعَرَاءِ، مُرَمَّلٌ بِالدِّمَاءِ، مَقَطَّعُ الْأَعْضَاءِ! يَا مُحَمَّدَاهْ! وَبَنَاتُكَ سَبَايَا، وَذُرِّيَّتُكَ مُقَتَّلَةٌ، تَسْفِي عَلَيْهَا الصَّبَا!" قال الراوي: فأبكَتْ، والله، كلَّ عدوٍّ وصديق[215].
ثمّ إنّ سكينةَ اعتنقَتْ جسدَ الحسين عليه السلام، فاجتمعَ عدّةٌ مِن الأغراب، حتّى جرّوها عنه[216].
ولَمَّا نظرَت أمُّ كلثوم أخاها الحسين، تسفي عليه الرياح، وهو مكبوب، وقعَت من أعلى البعير إلى الأرض، وحضنَت أخاها، وهي تقول ببكاءٍ وعويل:
"يا رسولَ اللهِ! انظُرْ إلى جَسَدِ وَلَدِكَ مُلْقى على الأرضِ بِغَيرِ دَفْنٍ! كَفَنُهُ الرملُ السافي عليه، وغُسْلُهُ الدمُ الجاري من وريدَيه! وهؤلاء أهلُ بيتِه يُساقون أُسارى في أسر الذلِّ، ليس لهم مَن يمانع عنهم! ورؤوسُ أولادِه معَ رأسِه الشريفِ، على الرماح، كالأقمار! يا محمّد المصطفى! هذه بناتُك سبايا، وذرّيّتُك مُقَتَّلَة!"[217].
وكان يوم العاشر من المحرّم طويلًا عليهم، وما انقضى اليوم حتّى كان حرم الحسين عليه السلام وبناته وأطفاله في أسر الأعداء، يلوذون ببعضهم، مشغولين بالحزن والهموم والبكاء، وانقضى عليهم آخر ذلك النهار، وهم فيما لا يحيط به قلب من الحزن والانكسار، وباتوا تلك الليلة فاقِدين لِحُمَاتِهم ورِجَالِهم[218].
وسرّح عمر بن سعد من يومه ذلك، وهو يوم عاشوراء، برأس الحسين عليه السلام، مع خَوليّ بن يزيد الأصبحيّ وحميد بن مسلم الأزدي، إلى عبيد الله بن زياد[219].
فأقبل خَوليّ بالرأس، فأراد القصرَ، فوجد بابَ القصر مغلقًا، فأتى منزله[220]، فوضعه تحت أجانةٍ في منزله، وله امرأتان, امرأةٌ من بني أسد، والأخرى من الحضرميّين، يُقال لها: النوَّار بنت مالك بن عقرب، وكانت تلك الليلةُ ليلةَ الحضرميّة.
قال هشام: فحدّثَني أبي عن النوّار بنت مالك، قالت: أَقبَلَ خَوليّ برأسِ الحسين عليه السلام، فوضعَه تحتَ أجانةٍ في الدارِ، ثمّ دخلَ البيتَ، فأوى إلى فراشِه، فقلتُ له: مَا الخبرُ عندَك؟ قالَ: جِئتُكِ بِغِنى الدهر! هَذا رأسُ الحسينِ معَكِ في الدارِ! قالَتْ: فَقُلتُ: وَيْلَكَ! جَاءَ الناسُ بالذهبِ والفضّةِ، وجِئتَ برأسِ ابنِ بنتِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم! لَا، والله، لا يجمعُ رأسي وَرأسَك بيتٌ أبَدًا!
قالَت: فقُمتُ مِن فراشي، فَخرَجْتُ إلى الدار، فدَعَا الأَسَدِيَّة، فأدخَلَها إليه، وجَلَستُ أنظُر. قالَتْ: فوَالله، ما زِلْتُ أَنْظُرُ على نورٍ يَسطعُ مثلَ العمودِ مِن السماءِ إلى الأجانة! ورأيتُ طَيْرًا بِيضًا ترفرفُ حولَها!
قال هشام: فلمَّا أصبحَ، غَدَا بالرأسِ إلى عبيد الله بن زياد[221]، وأقام عمرُ بن سعد بكربلاء بعد مقتل الحسين عليه السلام يومَين, بقيّة يومه، واليوم الثاني إلى زوال الشمس، ودَفَنَ القتلى من جيشِه، وصلّى عليهم[222]. ثمّ أَذَّنَ في الناس بالرحيل، وأمرَ برؤوس أصحاب الإمام الحسين عليه السلام وأهل بيته، فنُظِّفَت، وكانت اثنين وسبعين رأسًا، وسرّح بها مع شمر بن ذي الجوشن، وقيس بن الأشعث، وعمرو بن الحجّاج، وعزرة بن قيس. وحُمِلَت الرؤوس على أطراف الرماح[223]، فأقبلوا حتّى قَدِموا بها على ابن زياد[224].
وتنافسَت القبائل في تقاسم الرؤوس، حتّى تنال الحظية عند ابن زياد، فجاءَت هوازن منها باثنين وعشرين رأسًا، وجاءت تميم بسبعة عشر رأسًا مع الحصين بن نمير، وجاءت كندة بثلاثة عشر رأسًا مع قيس بن الأشعث، وجاءت بنو أسد بستّة رؤوس مع هلال الأعور، وجاءت الأزد بخمسة رؤوس مع عهيمة بن زهير، وجاءت ثقيف باثني عشر رأسًا مع الوليد بن عمرو[225].
وبقي جسد الإمام الحسين عليه السلام مع أجساد الشهداء الآخَرين من أهل بيته وأصحابه عليه السلام، في العراء، لا تُوارى، تصهرها حرارة الشمس، وتسفُّ عليها الرياح السوافي. وكانت بين وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبين قتل الحسين عليه السلام، خمسون عامًا[226].
[1] ابن قولويه، كامل الزيارات، ص73.
[2] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص320-321
[3] الشيخ المفيد، الإرشاد، ج2، ص96.
[4] الدينوريّ، الأخبار الطوال، ص256.
[5] الشيخ المفيد، الإرشاد، ج2، ص95.
[6] الخوارزميّ، مقتل الحسين عليه السلام، ج2، ص4.
[7] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص320.
[8] الدينوريّ، الأخبار الطوال، ص256.
[9] الشيخ المفيد، الإرشاد، ج2، ص96.
[10] المصدر نفسه.
[11] العلاّمة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج45، ص5-6.
[12] الخوارزميّ، مقتل الحسين عليه السلام، ج1، ص358.
[13] الشيخ المفيد، الإرشاد، ج2، ص97-98.
[14] الرَّيّ: بفتح الراء وتشديد الياء، مدينة إيرانيّة بالقرب من طهران، دُفِنَ فيها عبد العظيم بن عبدالله الحسنيّ، وذكر ياقوتُ أنّ طهران كانت تُعَدّ من قرى "الرَّيّ"، بينهما نحو فرسخ، راجع: الحمويّ، معجم البلدان، ج4، ص51.
[15] جُرْجان: بضمّ الجيم وسكون الراء، مدينة مشهورة عظيمة بين طبرستان وخراسان، راجع: الحمويّ، معجم البلدان، ج3، ص119.
[16] الخوارزميّ، مقتل الحسين عليه السلام، ج2، ص8.
[17] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص325-326.
[18] المقريزيّ، المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والاثار، ج2، ص287.
[19] السيّد ابن طاووس، اللهوف، ص158.
[20] الخوارزميّ، مقتل الحسين عليه السلام، ج2، ص11.
[21] الشيخ الصدوق، الأمالي، ص223.
[22] المصدر نفسه.
[23] استنتل، تقدّم أمامه في الصفّ في الحرب، ابن منظور، لسان العرب، ج11، ص644.
[24] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص327.
[25] ابن كثير، الكامل في التاريخ، ج8، ص182.
[26] سورة الأحزاب، الآية 23.
[27] الشيخ المفيد، الإرشاد، ج2، ص104.
[28] العلاّمة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج45، ص69-70.
[29] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص327.
[30] البلاذريّ، أنساب الأشراف، ج3، ص401.
[31] الشيخ الطوسيّ، الأبواب (رجال الطوسيّ)، ص99.
[32] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص340.
[33] السيّد ابن طاووس، اللهوف، ص101.
[34] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص333.
[35] فرقة عسكريّة من الرماة، كان أفرادها يحملون دروعًا كبيرة تقيهم وتقي الرماة منهم، نبالَ الأعداء ورماحهم، والظاهر أنّ مهمَّتها كانت كمهمَّة القصف التمهيديّ في الجيوش الحديثة.
[36] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص332-331.
[37] الشيخ المفيد، الإرشاد،ج2، ص105.
[38] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص334-336.
[39] ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج4، ص69.
[40] العلاّمة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج45، ص12.
[41] السيّد ابن طاووس، اللهوف، ص158.
[42] ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج3، ص219.
[43] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص334-336.
[44] المصدر نفسه، ج4، ص336-337.
[45] ابن نما، مثير الأحزان، ص65.
[46] الخوارزميّ، مقتل الحسين عليه السلام، ج2، ص17.
[47] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص336-337.
[48] العلاّمة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج45، ص70.
[49] الخوارزميّ، مقتل الحسين عليه السلام، ج2، ص25، سورة الأحزاب، الآية 23.
[50] الشيخ الصدوق، الأمالي، ص136.
[51] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص336-337.
[52] الشيخ الصدوق، الأمالي، ص131.
[53] المصدر نفسه، ص137.
[54] الشيخ الصدوق، الأمالي، ص172.
[55] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص340.
[56] الشيخ الصدوق، الأمالي، ص137.
[57] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، ج4، ص102.
[58] الشيخ الصدوق، الأمالي، ص137.
[59] الخوارزميّ، مقتل الحسين عليه السلام، ج2، ص23.
[60] البلاذريّ، أنساب الأشراف، ج3، ص403.
[61] الشيخ الصدوق، الأمالي، ص136.
[62] المحلّي، الحدائق الورديّة، ص122.
[63] السماويّ، إبصار العين، ص121.
[64] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص336-337.
[65] المصع: الضرب بالسيف، والمماصعة: المقاتلة والمجالدة بالسيوف، ابن منظور، لسان اللسان تهذيب لسان العرب، ج2، ص559.
[66] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص328-329.
[67] المصدر نفسه، ج4، ص331.
[68] البلاذريّ، أنساب الأشراف، ج3، ص404.
[69] السماويّ، إبصار العين، ص153-154.
[70] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص347.
[71] الزارة: موضع بعُمان، كان ينفي إليه زياد وابنه مَن شاء من أهل البصرة والكوفة.
[72] السماويّ، إبصار العين، ص117.
[73] راجع: ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، ج4، ص104.
[74] السماويّ، إبصار العين، ص159.
[75] الخوارزميّ، مقتل الحسين عليه السلام، ج2، ص25-26.
[76] السماويّ، إبصار العين، ص175.
[77] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص338.
[78] المصدر نفسه.
[79] السماويّ، إبصار العين، ص29.
[80] الشيخ المفيد، الإرشاد، ج2، ص105.
[81] البلاذريّ، أنساب الأشراف، ج3، ص404.
[82] من المحكِّمة: أي من الخوارج، راجع: التستريّ، قاموس الرجال، ج5، ص28.
[83] المحلّي، الحدائق الوردية، ص122.
[84] السماويّ، إبصار العين، ص201.
[85] المصدر نفسه.
[86] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، ج4، ص113.
[87] السماويّ، إبصار العين، ص190.
[88] المصدر نفسه، ص185.
[89] العسقلاني، الإصابة، ج2، ص100-104.
[90] السيّد الزنجاني، وسيلة الدارَين، ص145.
[91] ابن نما، مثير الأحزان، ص57.
[92] السماويّ، إبصار العين، ص215-216.
[93] العلاّمة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج45، ص72-101-273.
[94] المحليّ، الحدائق الورديّة، ص122.
[95] العلاّمة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج45، ص72.
[96] البلاذريّ، أنساب الأشراف، ج3، ص404.
[97] البلاذريّ، أنساب الأشراف، ج3، ص409.
[98] السماويّ، إبصار العين، ص169.
[99] السيّد ابن طاووس، اللهوف، ص165.
[100] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص339.
[101] العلاّمة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج45، ص70.
[102] ابن هشام، السيرة النبويّة، ص558.
[103] الذهبيّ، تاريخ الإسلام، ج5، ص15-21.
[104] الطبراني، المعجم الكبير، ج3، ص104.
[105] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، ج4، ص112.
[106] أبو الفرج الأصفهانيّ، مقاتل الطالبيّين، ص86.
[107] البلاذريّ، أنساب الأشراف، ج3، ص406.
[108] سورة آل عمران، الآيتان 34-33.
[109] ابن قولويه، كامل الزيارات، ص253.
[110] ابن أعثم، الفتوح، ج5، ص202-203.
[111] ابن نما الحلّيّ، ذوب النظّار، ص122.
[112] الشيخ المفيد، الإرشاد، ج2، ص107.
[113] البلاذريّ، أنساب الأشراف، ج3، ص406.
[114] الدينوريّ، الأخبار الطوال، ص257.
[115] أبو الفرج الأصفهانيّ، مقاتل الطالبيّين، ص97.
[116] المصدر نفسه، ص96.
[117] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك،ج4، ص341.
[118] الطبرسيّ، تاج المواليد، ص108.
[119] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج3، ص332.
[120] ابن قتيبة، المعارف، ص204.
[121] ابن سعد، الطبقات، ص76.
[122] الدينوريّ، الأخبار الطوال، ص257.
[123] ابن قتيبة، المعارف، ص204.
[124] المامقانيّ، تنقيح المقال، ج1، ص103.
[125] الدينوريّ، الأخبار الطوال، ص257.
[126] أبو الفرج الأصفهانيّ، مقاتل الطالبيّين، 95.
[127] البلاذريّ، أنساب الأشراف، ج3، ص406.
[128] أبو الفرج الأصفهانيّ، مقاتل الطالبيّين، ص96.
[129] المامقانيّ، تنقيح المقال، ج2، ص24.
[130] أبو الفرج الأصفهانيّ، مقاتل الطالبيّين، ص96.
[131] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، ج4، ص111.
[132] عماد الدين الأصفهانيّ، البستان الجامع لجميع تواريخ أهل الزمان، ص25.
[133] ابن فندق، لباب الأنساب، ج1، ص397.
[134] الشيخ المفيد، الإرشاد، ج2، ص108.
[135] المامقانيّ، تنقيح المقال، ج1، ص103.
[136] البلاذريّ، أنساب الأشراف، ج3، ص406.
[137] الذهبيّ، سير أعلام النبلاء، ج3، ص303.
[138] السيّد ابن طاووس، اللهوف، ص191.
[139] الخوارزميّ، مقتل الإمام الحسين عليه السلام، ج2، ص53.
[140] الذهبيّ، سير أعلام النبلاء، ج3، ص303.
[141] أبو الفرج الأصفهانيّ، مقاتل الطالبيّين، ص87.
[142] الدينوريّ، الأخبار الطوال، ص257.
[143] الشيخ المفيد، الإرشاد، ج2، ص109.
[144] أبو الفرج الأصفهانيّ، مقاتل الطالبيّين، ص88.
[145] الأمين، أعيان الشيعة، ج4، ص129.
[146] الشيخ المفيد، الإرشاد، ج2، ص109.
[147] الدينوريّ، الأخبار الطوال، ص257.
[148] أبو الفرج الأصفهانيّ، مقاتل الطالبيّين، ص88.
[149] المصدر نفسه، ص89.
[150] أبو الفرج الأصفهانيّ، مقاتل الطالبيّين، ص90.
[151] ابن نما الحلّيّ، ذو النضار، ص119.
[152] الشيخ المفيد، الإرشاد، ج2، ص109-110.
[153] ابن أعثم، الفتوح، ج5، ص207.
[154] البلاذريّ، أنساب الأشراف، ج3، ص406.
[155] الدينوريّ، الأخبار الطوال، ص259.
[156] اليعقوبيّ، تاريخ اليعقوبيّ، ج2، ص177.
[157] اليعقوبيّ، تاريخ اليعقوبيّ، ج2، ص177.
[158] ابن أعثم، الفتوح، ج5، ص131.
[159] السيّد ابن طاووس، اللهوف، ص169.
[160] الشيخ المفيد، الإرشاد، ج2، ص108.
[161] الذهبيّ، سير أعلام النبلاء، ج3، ص302.
[162] الأصيلي، أنساب الطالبيّين، ص143.
[163] المسعوديّ، إثبات الوصيّة، ص177و 206.
[164] المِزّيّ، تهذيب الكمال، ج35، ص255.
[165] الصفّار، بصائر الدرجات، ص164.
[166] التبّان: شبه السراويل الصغيرة. راجع: ابن منظور، لسان العرب، ج2، ص18.
[167] فزره: أي نقض نسجه، مزّقه.
[168] الطبرانيّ، المعجم الكبير، ج3، ص125.
[169] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، ج4، ص110.
[170] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص344.
[171] البلاذريّ، أنساب الأشراف، ج3، ص408.
[172] السيّد ابن طاووس، اللهوف، ص105.
[173] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، ج4، ص111.
[174] المصدر نفسه، ج4، ص58.
[175] فُسِّرَ الطغام بمعنى أرذال الناس، راجع: ابن منظور، لسان العرب، ج2، ص94.
[176] البلاذريّ، أنساب الأشراف، ج3، ص407.
[177] السيّد ابن طاووس، اللهوف، ص171.
[178] السيّد شرف الدين، الفصول المهمّة، ص19.
[179] الدينوريّ، الأخبار الطوال، ص259.
[180] ابن عساكر، تاريخ مدينة دمشق، ترجمة الإمام الحسين عليه السلام، ص2345.
[181] الشيخ الصدوق، الأمالي، ص139.
[182] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص343.
[183] المصدر نفسه.
[184] الشيخ المفيد، الإرشاد، ج2، ص110-111.
[185] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص345.
[186] الخوارزميّ، مقتل الحسين عليه السلام، ج2، ص42-43.
[187] الشيخ المفيد، الإرشاد، ج2، ص111.
[188] السيّد ابن طاووس، اللهوف، ص176.
[189] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص345.
[190] الدينوريّ، الأخبار الطوال، ص258.
[191] الشبراويّ، الاتحاف بحبّ الأشراف، ص16.
[192] الشيخ المفيد، الإرشاد، ج2، ص112.
[193] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص345.
[194] السيّد ابن طاووس، اللهوف، ص114-115.
[195] الشيخ المفيد، الإرشاد، ج2، ص112.
[196] السيّد ابن طاووس، اللهوف، ص115.
[197] الشيخ الصدوق، الأمالي، ص135.
[198] الخوارزميّ، مقتل الحسين عليه السلام، ج2، ص42.
[199] الشيخ الصدوق، الأمالي، ص142.
[200] الدينوريّ، الأخبار الطوال، ص259.
[201] ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، ج2، ص6.
[202] الخوارزميّ، مقتل الحسين عليه السلام، ج2، ص53.
[203] الذهبيّ، سير أعلام النبلاء، ج3، ص303.
[204] المصدر نفسه.
[205] الدينوريّ، الأخبار الطوال، ص259.
[206] الشيخ الصدوق، الأمالي، ص139-140.
[207] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، ج2، ص206.
[208] الدينوريّ، الأخبار الطوال، ص258.
[209] المصدر نفسه، ص113.
[210] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك ج4، ص347.
[211] الشيخ المفيد، الإرشاد، ج2، ص112-113 و 116.
[212] المصدر نفسه، ج2، ص113.
[213] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص349.
[214] ابن أعثم، الفتوح، ج5، ص138.
[215] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص349.
[216] الشيخ ابن نما، مثير الأحزان، ص77.
[217] المازندرانيّ، معالي السبطين، ج2، ص55.
[218] السيّد ابن طاووس، الإقبال، ص583.
[219] الدينوريّ، الأخبار الطوال، ص113.
[220] القزوينيّ، رياض الأحزان، ص16.
[221] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص348.
[222] المصدر نفسه.
[223] الدينوريّ، الأخبار الطوال، ص259.
[224] الشيخ المفيد، الإرشاد، ج2، ص113.
[225] الدينوريّ، الأخبار الطوال، ص259.
[226] المصدر نفسه.
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
تسليم.. مجلة أكاديمية رائدة في علوم اللغة العربية وآدابها
|
|
|