أقرأ أيضاً
التاريخ: 1-04-2015
6769
التاريخ: 1-04-2015
4551
التاريخ: 22-3-2018
1405
التاريخ: 25-03-2015
8417
|
اجمع النقاد، او كادوا، على ان التشبيه ينبغي ان يتعلق بالمرئي، دون ان يشيروا إلى ان هذا المرئي ينبغي ان ينطوي على إيحاد خيالي، ودون ان يتصوروا إلا لماماً ــ ان الشاعر قد يتخذ من التصوير المرئي سبباً إلى عالم معنوي، فلا يكون الحسن غاية في ذاته ، وانما يكون وسيلة للتعبير عما كمن في ذهن الشاعر من معان، او اختلج في نفسه من مشاعر، ويبدو ان اصرار النقاد على الطابع الحسي ناجم من نظرتهم إلى التشبيه وكأنه محاكاة لعناصر الطبيعة، وتأليق بينها على سبيل الجمع الذي يلاحظ وجه الشبه بين هذه العناصر، وها هو ذا قدامة يبادر فيقول ــ كما رأينا ــ ان احسن الشعراء: (من أتى في شعره بأكثر المعاني التي الموصوف مركب منها، ثم بأظهرها فيه، واولاها، حتى يحكيه بشعره، ويمثله للحس بنعته)(1) وواضح ان على الشاعر عند قدامة ان يعمد إلى الظهر ما في الموصوف فيحاكيه محاكاة محسوسة، والوصف عنده (ذكر الشيء كما فيه من الاحوال والهيئات)(2)، فهو اذن ينصب على "الشيء" ما ذكر "المعاني" فينبغي إلا يضللنا ، لأنه يريد المعاني التي ركب منها الشيء الموصوف لا المعاني الذهنية، والحق انه لو انتبه إلى ان المحاكاة يمكن ان تنصرف إلى المعاني ايضاً لكان قد وفق إلى مبدأ جوهري لا بأس من اشتراط الحسية معه، لأن المعنى الذي اجيد تصويره للحس هو غاية من غايات الشعر، ولعل هذا المبدأ هو الذي عبر عنه ابو تمام في شعره وكان سبباً في الخصام النقدي الذي ثار حول شعره.
وينص ابن طباطبا
على ان العرب انما اودعت في تشبيهها ما أدركته حواسها مما احاط بها من مظاهر
الطبيعة، فكأنه يقرر ان فن التشبيه كان مرآة الحياة العربية في اعماق الصحراء،
وينم كلامه على ان ما اشترطه النقاد من حسية التشبيه انما هو ارث جاهلي عريق،
وحقاً فقد اشار أيضاً إلى ان العرب استلهمت من تجاربها وطبائعها، ومشاعرها، ما
ملأت به دنيا الشعر، وليس ثمة من ينكر ان الشعر الجاهلي صورة صادقة للذات العربية،
بيد انه أكد مع ذلك ان سبيل العرب إلى التصوير والتعبير كان سبيل المجاز الحسي:
(واعلم ان العرب اودعت اشعارها من الاوصاف والتشبيهات، والحكم، ما احاطت به
معرفتها، وأدركه عيانها، ومرت به تجاربها، وعم اهل وبر صحونهم البوادي، وسقوفهم
السماء، فليست تعدو اوصافهم ما رأوه منها وفيها . . . فتضمنت اشعارها من التشبيهات
ما ادركه من ذلك عيانها، وحسها، إلى ما في طبائعها وانفسها من محمود الاخلاق ومذمومها..
فشبهت الشيء بمثله تشبيهاً صادقاً) (3)، اذن فالأوصاف لا تعدو ما هو
مرئي، والشيء انما يشبه بمثله، ولعل ذلك ما جعل ابن سينا يصرح بأن العرب تحاكى
الاشياء (الذوات، وهذا المرئي (من شتاء وربيع، وصيف، وخريف، من ماء، وهواء ونار،
وجبل، ونبات، وحيوان وجماد وناطق، وصامت، ومتحرك، وساكن، وكل متولد من وقت نشوئه،
وفي حال نموه إلى حال انتهائه) (4). ويلوح ان المزاج العربي الفطري كان
يتأبى على النزوع الفلسفي، فلم يشأ ان يضفي على ما يراه اي معنى خارجي، واقتصر على
تصوير ما يراه تصويراً صادقاً دقيقاً لا علاقة له بذاته غالباً، وجعل معيار الفن
ان يأتي الشاعر بملاحظة جزئية تنم على وجه الشبه بين شيئين من خلال طابع مرئي يظهر
ما كان غامضاً، ولما كان امر هذا الضرب من المحاكاة إلى نفاد، من حيث تعلقه بمظاهر
الحياة المرئية المحدودة، فقد اضطر الشعراء، والنقاد إلى الانصراف عن العناية
بالمعنى (الجوهر) إلى العناية باللفظ (الشكل) لئلا يقعوا في التكرار، ومن ثم فقد
افضى الولع بالتصوير المرئي إلى الولع بالتعبير اللفظي، حتى نجم من قال: ان
المعاني مطروحة في الطريق وان الشأن كله في الصياغة(5) فإذا لاحظنا ان
بعض النقاد قد ذهب إلى ان منزلة اللفظ من المعنى، بمنزلة الجسد من الروح(6)،
أدركنا كيف كان تغليب اللفظ على المعنى انما هو في بعض معانيه تغليب المادة على
الروح، والمرئي على غير المرئي على نحو يجعل من الشعر ضرباً من التعبير الحسي عن
المظهر الحسي.
اجل لم يمنع
النقاد من محاكاة المعنى الخفي ــ غير المرئي ــ بيد انهم ما انكوا يشترطون ان
تكون هذه المحاكاة حسية، فقيد الحس كفيل بلجم جموح التطور بعيداً عنا لتقليد
الجاهلي، لأنه قيد منظور يمكن جعله معياراً واضحاً، اما النزوع إلى المعنى الخفي
بأمر قد يتأبى على هذا التقليد، ولننظر في قول ابن سنان : (والاصل في حسن التشبيه
ان يمثل الغائب الخفي الذي لا يعتاد، بالظاهر المحسوس المعتاد، فيكون حسن هذا لأجل
ايضاح المعنى وبيان المراد، او يمثل الشيء بما هو اعظم واحسن وابلغ منه فيكون حسن
ذلك لأجل الغلو والمبالغة)(7).
إذن، ليس ينبغي ان
يكون التشبيه محسوساً فحسب، وانما ان يكون معتاداً ايضاً، ويبدو انهم اجازوا ان
ينهل الشاعر من منهل المعاني الخفية، شريطة ان يجلوها في مظهر محسوس مألوف، وكأن
"ابن سنان" كان يشعر ان هذا المبدأ ليس مسلما بع على الدوام، لأنه اورد حجة من اعترض متسائلاً عما يقوله
النقاد في مثل قوله تعالى : (انها شجرة تخرج في اصل الجحيم، طلعها كأنه رؤوس
الشياطين) ذلك ان هذه الآية الكريمة تنقص قول من ذهب إلى اشتراط تعلق التشبيه
بالمنظور، لأن كلا من شجرة الزقوم، ورؤوس الشياطين غير منظور، غير ابن سنان لم يشأ
ان يخفف من غلوائه فمضى يقول: ان هذين الامرين وان كانا غير منظورين، فقد استقروا
في نفوس الناس حتى اصبحا كذلك، مثلما هو شأن الحور ايضاً، فقد درج الناس على تبيه
الحسان بهن، وان كن غير مرئيات، واذ شعر ابن سنان ان هذا التعليل قد لا يكون
مرضياً تماماً، فقد ختم نقاشه لهذه المسألة بما ينم على تبرمه بها الاعراق القوى:
(وقد قبل في بعض التفاسير: ان الشياطين
هنا الحيات، وعلى هذا القول يسقط السؤال لأن الحيات مشاهدة)(8) وواضح
ان الخفاجي لجأ إلى هذا التفسير الأخير لينجو مما تورط فيه من اشتراط تمثيل الغائب
بالمنظور والمعنوي بالحسي على سبيل الالزام، وفي عبارته الأخيرة التي اسقط بها
السؤال لأن الحياة مشاهدة، ما شير إلى الحرج الذي شعر به وهو يدفع حجة المعترض،
وكأنه قد ظفر بما ينجيه من اللوم. والحق ان موقف الخفاجي في هذه المسألة يعبر عن
موقف النقاد الذين غفلوا عن ان يستلهموا من القرآن الكريم ما يطورون به مبادئ
النقد، وقد كان لهم في ذلك متسع لو عقدوا العزم عليه، ولا مراء في ان الآية
الكريمة السابقة تفقد قدراً عظيماً من إيحائها الخيالي لو ان عناصرها كانت مرئية
حقاً، لأن ما تثيره هذه الآية من الهول انما ينبع من المجال الرحب الذي تفسحه امام
الخيال يتصور ما شاء من صور عن ماهية هذه الشجرة المرعبة التي يشبه طلعها رؤوس
الشياطين، ذلك ان الخيال لا يكاد يفرغ من تصور شيء ما من امر هذه الشجرة، حتى
يفاجأ بأن عليه ان يتصور شيئاً ما من امر رؤوس الشياطين، وفي هذه الحركة الخيالية
يتجلى جمال التشبيه، وحتى لو سلمنا مع ابن سنان بانهما امران الفهما الخيال البشري
فكأنهما مرئيان، افلا يحق لنا ان نتساءل عن هذه الالفة ذاتها: الم تنشأ في الاصل
عن الخيال البشري الذي صنع لها صورة ذهنية تقريبية جمعها من عناصر متعددة، ثم
وضعها على نحو درج عليه الناس؟ ثم اننا لا نملك ان نزعم ان إيحاء هذه الصورة واحد
عند الناس فلا ريب ان لكل انسان صورة ذهنية خاص عن شجرة الزقوم ورؤوس الشياطين قد
تتماثل في المظهر الكلي، ولكنها تختلف في التفصيل الجزئي تبعاً لارتباطها بخيال
الانسان ومشاعره وتجاربه، وربما كان ذلك يرجح ان صلة النقاد بتقاليد الشعر الجاهلي
كانت اعمق من صلتهم بالتصوير القرآني، وان ذلك لمفارقة حقاً اذا ما تذكرنا ان
القرآن الكريم كان مصدر العلوم الاسلامية جميعها، اجل، ليس ثمة من ينكر شأن التصوير الحسي في القرآن ولا
سيما للمعاني المجردة، ولكن النقاد اسرفوا في النص على هذه الحسية حتى جعلوها طابع
فن المحاكاة دون التماس ما يمكن ان ينطوي عليه من إيحاء خيالي، ولقد اشار الدكتور
مصطفى ناصف إلى ان الاخذ بالظاهر في بعض الآيات انما يتيح للخيال لا وأداً له
(9)، ومهما يكن فتلك مسألة اخرى تتصل بلغة الشعر في عصره الاسطوري الأول حين
كانت الدلالة الحسية تعبر عن الشيء الغائب، وتفعل في النفوس فعل السحر، لأن
الانسان لم يكن يفهمها على انها دلالة اسطورية، وانما على انها دلالة حقيقية راجعة
إلى الخيال، يقول "فيشر" في ضرورة الفن: (وكان ينظر إلى الكلمة في أول
الامر على انها الشيء ذاته، اذ هي الوسيلة لحيازته، وفهمه والتحكم فيه)(10)
ويقول الدكتور محمد غنيمي هلال : (هذه الاساطير لم يكن يراها الاقدمون على أنها
اوهام، او خرافات، بل حقائق حدسية رأوها بعين خيالهم)(11).
وإذا مضينا إلى
ابن رشيق، الفيناه يؤكد هذا الطابع الحسي في المحاكاة، على نحو ما اكده اقرانه من
النقاد، فهو يذهب ايضاً إلى ان (التشبيه والاستعارة جميعاً يخرجان الأغمض إلى
الاوضح، ويقربان البعيد، كما شرط الرماني في كتابه، قال: واعلم ان التشبيه على
ضربين: تشبيه حسن، وتشبيه قبيح، فالتشبيه الحسن هو الذي يخرج الأغمض إلى الاوضح
فيفيد بياناً، والتشبيه القبيح ما كان على خلاف ذلك، قال: وشرح ذلك ان ما تقع عليه
الحاسة اوضح في الجملة مما لا تقع عليه الحاسة، والمشاهد اوضح من الغائب فالأول في
العقل اوضح من الثاني، والثالث اوضح من الرابع، وما يدركه الانسان من نفسه اوضح
مما يعرفه من غيره، والقريب اوضح من البعيد في الجملة، وما قد ألف اوضح مما لم
يؤلف ثم عاب على بعض شعراء عصره قوله:
صدغه مثل خده
مثلما الوعــ ـــد إذا ما
اعتبرت ضد الوعيد
من قبل انه شبل
الاوضح بالأغمض ، وما تقع عليه الحاسة بما لا تقع عليه(12)، واذا
افترضنا ان ابن رشيق يورد كلام الرماني مسلماً به، فمن الواضح انه ينهج نهج معاصره
ابن سنان (13) في اشتراط العنصر الحسي وجعله سبيل الوضوح، بالنظر إلى
ان غاية التشبيه هي اخراج الأغمض إلى الاوضح، ومن هذا القبيل فلا مناص من انكار
قول الشاعر الذي خطر بباله ان يخالف فيشبه المرئي بغير المرئي أو الحسي بالمعنوي،
وسواء أكان الذي دفع الشاعر إلى ذلك مخالفة العرف السائد، أم الخضوع لهوى الخيال
فهو قد اتى نكراً عند النقاد، ولا يعنينا هنا لخوض في قصد الشاعر فقد يقال انه
اراد ملاحظة التضاد الكامن في التشابه من حيث الشكل فإذا كان الوعد منة حيث المعنى
نقيض الوعيد فهما من حيث اللفظ شبيهان، وكذلك الصدغ فهو انما يضاد الخد على هذا
النحو الذي ينطوي على المشاكلة، وبغض النظر عن قيمة هذا المعنى، فإن النقاد انكروه
لا حيث قيمته الذاتية، وانما من حيث خروجه على "عمود التشبيه" فالرماني
كان يمكن ان يوافق على هذا البيت لو كان الشاعر قد حاكى الوعد بالصدغ، والوعيد
بالخد لأنه يكون بذلك منسجماً مع المبدأ القائل ان التشبيه ينبغي ان ينتقل من
المعنوي إلى الحسي، وكان يمكن ان ينكر على هذا الشاعر نفسه ليس هذه النقلة المحرمة،
وانما انه لم يخرج بذلك ن مألوف الشعراء في محاكاة المظاهر الخارجية التي لا صلة
لها بتجاربهم الذاتية، وسواء اكان الوعد مثل الصدغ ام الصدغ مثل الوعد، فإن الشاعر
لم يعبر عن شعوره الذاتي.
والحق ان النقد
العربي قد ابتلي غالباً بهذا المفهوم الجامد في حسية الصورة، وعلى الرغم من ان
المفهوم الحديث يشير إلى ان الشعر هو إيحاد بالفكر عن طريق الصور، أو كما يقول
جويو: (ان كل أثر رائع من آثار الفن ليس إلا التعبير بلغة حسية عن معنى رفيع)
(14). فمن الواضح ان هذه الصور ينبغي ان تعبر عن تجربة شعورية، ومقدرة
خيالية، موحدة غير جامعة، يقول الدكتور مصطفى ناصف: (ان الاستعارة ليس غايتها
الوضوح البصري او الحس الدقيق . . . وبلاغة الاستعارة ليست رهينة بكونها صورة ذات
صفات حسية، وانما مرجعها ان الصورة ذات الصفات الحسية تعبير عن تمثيل خيالي)(15)
ويقول الدكتور محمد غنيمي هلال : (لا يصح بحال الوقوف عند التشابه الحسي بين
الاشياء من مرئيات، او مسموعات، او غيرهما دون ربط التشابه بالشعور المسيطر على
الشاعر في نقل تجربته، وكلما كانت الصورة
اكثر ارتباطاً بذلك الشعور كانت اقوى صدقاً، وأعلى فناً، ولهذا كان مما يضعف
الاصالة اقتصار الشاعر في تصوير شعوره على حدود الصور المبتذلة التي تقف عليها الحواس
جميعاً، والتي هي صورة تقليدية، وذلك كتشبيه الخد بالتفاح أو بالورد مثلاً)
(16).
على ان ابن رشيق
لم يلبث ان افصح عن رأيه الخاص في حسية التشبيه في معرض كلامه على ندرة المعاني
عند العرب القدماء، وكثرتها عند المحدثين، فقد قال: ان الشاعر انما يبدع في وصف ما
يراه من الاشياء، فإذا كثرت الاشياء كثرت المعاني، وتلك هي علة كثرة معاني
المحدثين الذين اتسعت امامهم الدنيا: (وانما خصصت التشبيه ، لأنه اصعب انواع الشعر
وابعدها متعاطى، وكل يصف الشيء بمقدار ما في نفسه من ضعف، او قوة، وعجز أو قدرة ،
وصفه الانسان ما رأى يكون لا شك اصوب من صفته ما لم ير، وتشبيهه ما عاين بما عاين
افضل من تشبيهه ما ابصر بما لم يبصر)(17)، وظاهر ان ابن رشيق غلا فجعل
المعاينة معياراً لجودة التشبيه ــ والجودة هنا هي المطابقة ــ وأبى على المحدثين
ان يشبهوا بما لم يروا على سبيل محاكاة القدماء فليس للمحدث ان بستلهم صورة مما في
عالم الصحراء من نعامة، وثور، وناقة، وغراب ونار وفلاة، ومياه آجنة، وطريق مجهول،
فكل ذلك لم يره وعندما اراد ابو نواس ان يصف الاسد ــ ولعله لم يره ــ ضل طريقة
فأخطأ في وصفه (ثم اعود فأطرح عن المحدث المولد ما كان من جنس تشبيه النعامة
للطرماح، وصفة الثور الوحشي له ايضاً، وصفة مغارز ريش النعامة اذا امرط للشماخ،
ومثل بيت العنكبوت فيما يمتد من لغام الناقة تحت لحييها في شعر الحطيئة ايضاً،
وتشبيه الذباب بالأجذم، ولحيي الغراب بالجلم لعنترة، وأشباه هذا مما انفردت به
الاعراب والبادية كعادتها، كانفرادتها، كانفرادها بصفات النيران، والفلوات
الموحشة، وورود مياهها الاجنة، وتعسف طرقاتها المجهولة، إلى غير ذلك مما لا يعرف
عياناً، اذ كان المحدث غير مأخوذ به، ولا محمول عليه، الا ترى إلى ابي نواس وهو
مقدم في المحدثين لما وصف الاسد ــ وليس من معارفه ولعله ما شاهده قط إلا مرة في
العمر ان كان شاهده ــ دخل عليه الوهم، فجعل عينيه بارزة، وشبههما بعيون المخنوق)(18)،
ويتساءل المرء عن موقف ابن رشيق من الشاعر الذي يخطر بباله ان يعبر عن الصحراء كما
تجلت في خياله وشعوره لا في عيانه، هل يمنعه فيطلب منه ان يصف ما ادركه عيانه من
حوض الماء فحسب، واي جمود يصيب الشعر اذا ظل اسير عين الحس لا يتجاوزها إلى عين
الخيال؟
حقاً ان من الصدق
الواقعي ان يكون الشاعر قد عاين ما هو بسبيل وصفه ولكن المشكلة هي ان المعاينة عند
النقاد انما تطلب وسيلة إلى المحاكاة الطبيعة محاكاة ظاهرية دقيقة لا علاقة لها
بالشعور، وواضح ان محاكاة ظاهر الطبيعة دون ان تقترن هذه المحاكاة بذات الشاعر، من
شأنها ان تكبل الشعر بقيود. الحس، وتضعف أثر الخيال فيه، والمعضلة هي ان صاحب
العمدة يشترط هذه المعاينة الظاهرية في التشبيه، وفي الوصف الذي يرى انه لباب
الشعر فكأنه يقول ان المحاكاة الظاهرية هي جوهر الشعر العربي ما دامت جوهر
التشبيه: (الشعر ــ إلا اقله ــ راجع إلى باب الوصف، ولا سبيل إلى حصره واستقصائه،
وهو مناسب للتشبيه مشتمل عليه، وليس به لأنه كثيراً ما يأتي في اضعافه، والفرق بين
الوصف والتشبيه ان هذا اخبار عن حقيقة الشيء، وان ذلك مجاز وتمثيل) (19)
ويردف: (وأحسن الوصف ما نعت به الشيء حتى يكاد يمثله عياناً للسامع كما
قال النابغة الجعدي يصف ذئباً افترس جؤذراً:
فبات يذكّيه بغير
حديدة أخو قنص يمسي
ويصبح مفطراً
إذا ما رأى منه كراعاً
تحركت اصاب مكان القلب منه
وفرفرا
فانت ترى كيف قام
هذا الوصف بنفسه ، ومثل الموصوف في قلب سامعه)(20)، وينتهي ان رشيق ابن
رشيق مرة اخرى إلى تذكير المحدثين بضرورة الابتعاد عن وصف ما لم يروه، والانصراف
إلى ما الفوه من كؤوس، وقناني، وزهر، ورياض، وقصور وسيوف(21)، وهكذا
يلوح انه كان اكثر النقاد ايغالاً ولعه بالمحاكاة الحسية، واشتراطه ان يمثل الشاعر
ما يراه عياناً للسامع، كأن الشعر تصوير لا صلة له لذات الشاعر، ما دامت مهمته
تقتصر على اجادة وصف ما رآه من افتراس الذئب للجؤذر، دون ان تنطوي هذه المهمة على
التعبير عن شعوره النفسي ازاء هذا الافتراس من ناحية ، وموقفه الفكري أو الفلسفي
من ناحية اخرى.
ويبدو ان الاهتمام
بالسامع اكثر من القائل كان عرفاً مألوفاً درج عليه النقاد، من حيث اهتمامهم
بضرورة تمثيل الصورة امامه عياناً، وقد عبر ابن الاثير عن ذلك بقوله: (وقد ثبت
وتحقق ان فائدة الكلام الخطابي هو اثبات الغرض المقصود في نفس السامع بالتخييل
والتصوير، حتى يكاد ينظر إليه عياناً(22)، ولعل هذه العبارة تلخص مذهب
النقاد في مسألة التصوير الحسي، فتنم على اهتمامهم /بالمتلقي، وجعلهم غاية الشاعر
تصوير المرئيات التي ابصرها للسامع الذي لم يبصرها، لا تصوير المشاعر التي أدركها
للسامع الذي لم يدركها، او أدركها ولكنه لا يحسن التعبير عنها.
بيد ان في كلام
ابن الاثير ما يوحي بأنه لا يشترط ان يحاكي
الشاعر ما يراه فحسب، بل انه يقول ان محاكاة الشاعر ما يراه مما لا فضل له
فيه، حقاً انه ظل وفياً لمبدأ تصوير المعنى تصويراً حسياً، ولكنه على الاقل لم
يبالغ في اشتراط ان يكون المعنى نفسه مرئياً حتى يكون للشاعر ان يحاكيه، فلقد لاحظ
ان ما توارثه النقاد من الاعجاب ببراعة ابي نواس في ابياته الشهيرة التي وصف فيها
كأس الخمر الموشاة بالتصاوير لا يعني شيئاً، لأن ابا نواس انما عمد إلى شاهده عياناً
فحكاه، وليس في ذلك كبير فضل، قال بعد ان اورد ثناء الجاحظ والمبرد على معنى ابي
نواس: (وفصاحة هذا الشعر عندي هي الموصوفة، لا هذا المعنى فأنه لا كبير كلفة فيه،
لأن ابا نواس رأى كأساً من الذهب ذات تصاوير فحكاها في شعره، والذي عندي في هذا
انه من المعاني المشاهدة، ففان هذه الخمر لم تحمل إلا ماء يسيراً ، وكانت تستغرق
صور هذا الكأس إلى مكان جيوبها، وكان الماء فيها قليلاً بقدر القلانس التي على
رؤوسها، وهذا حكاية حال مشاهدة بالبصر)(23).
ولقد اهتدى ابن
الاثير في نقده لأبيات ابي نواس إلى مبدأ قيم صاغه فيما بعد، وهو ان من دقة
المعاني ان تستخرج من امر غير منظور، وكأنه ينقض بذلك كلام ابن رشيق، فقد عقب على
قول ابي نواس ايضاً:
يا شقيق النفس من
حكم نمت عن ليلى ولم تنم
فاسقني الخمر التي
اختمرت بخمار الشيب في الرحم
بقوله: (وهذا معنى
مخترع لم يسبق إليه، وهو دقيق يكاد لدقته ان يلتحق بالمعاني التي تستخرج من غير
شاهد حال متصور) (24)، ولا ريب ان هذه الملاحظة قد غدت عنه معياراً
يقيس به دقة المعاني، من حيث كونها مشاهدة او غير مشاهدة، بل انه لم يعد يثني على
أية محاكاة يؤلفها الشاعر من عناصر مرئية، إلا إذا تضمنت من براعة التشبيه ما يشفع
لها بذلك، على نحو ما عقب به على بيت لابن حمديس: (وقد جاء لابن حمديس الصقلي في
الهلال لآخر الشهر ما لم يأت به غيره، وهو من الحسن واللطافة في الغاية القصوى،
وذلك قوله:
كأنها ادم الظلماء
حين نجا من أشهب الصبح القى نعل
حافره
وهذه حكاية حال
مشاهدة بالبصر، إلا انه أبدع في التشبيه) (25).
ولقد ذهب ابن
الاثير في موضع آخر إلى ان التشبيه لا يخلو من ان يكون تشبيه معنى بمعنى، او صورة
بصورة، أو معنى بصورة، او صورة بمعنى، واذا كان تشبيه المعنى بالصورة في مثل قوله
تعالى: (والذين كفروا اعمالهم كسراب بقيعة) هو ابلغ اقسام التشبيه جرياً على عرف
اغلب النقاد، فإن تشبيه الصورة بالمعنى ليس امراً مقبولاً بحسب ولكنه امر لطيف
ايضاً، بل انه في رأي ابن الاثير ألطف اقسام التشبيه، وهذا لا ريب يناقض ايضاً ما
رواه ابن رشيد من انكار الرماني على الشاعر الذي شبه الصدغ بالوعد، والخد بالوعيد،
ولعل في ذلك ما يؤكد اعلاء ابن الاثير لجانب المعنى على جانب الحس، والثناء عليه
عوضاً من الزراية به، قال: (واعلم انه لا يخلو تشبيه الشيئين احدهما بالآخر من
اربعة اقسام: اما تشبيه معنى بمعنى كالذي تقدم ذكره من قولنا: زيد كالأسد، واما
تشبيه صورة بصورة كقوله تعالى: وعندهم قاصرات الطرف عين، كأنهن بيض مكنون، واما
تشبيه معنى بصورة كقوله تعالى: (والذين كفروا اعمالهم كسراب بقيعة) وهذا القسم
ابلغ الاقسام الاربعة لتمثيله المعاني الموهومة بالصور المشاهدة، واما تشبيه صورة
بمعنى كقول ابي تمام:
وفتكت بالمال
الجزيل وبالعدا فتك الصبابة
بالمحب المغرم
فشبه فتكه بالمال
وبالعدا، وذلك صورة مرئية، بفتك الصبابة، وهو فتك
معنوي وهذا القسم الطف الاقسام الاربعة لأنه نقل صورة إلى غير صورة)(26)،
اذن فإن تشبيه الفتك المادي بالفتك المعنوي، اكثر دلالة على براعة الشاعر، لأنه
نقل المعنى إلى الصورة، على ان ابن الاثير لم يشأ ان يذهب بعيداً في شرح هذه
الفكرة القيمة، والاستنباط منها، واكتفى بهذه الاشارة العابرة التي اوضح فيها
موقفه، بل انه ما لبث ان عاد إلى القول ان غاية التشبيه هي اثبات الخيال في ذهن المتلقي
بما يرغبه في شيء أو ينفره عن شيء وترك ملاحظته تلك التي يظهر فيها قدر من العناية
بالخيال غفلاً من التفسير ولذا فسرعان ما نراه يقول: (واما فائدة التشبيه من
الكلام فهي انك اذا مثلت الشيء بالشيء، فإنما تقصد به اثبات الخيال في النفس بصورة
المشبه به او بمعناه، وذلك أوكد في طرفي الترغيب فيه او التنفير عنه)(27).
وربما جاز لنا
القول اذن: ان ابن الاثير قد خفف قليلاً من غلواء الحس وطور في مفهومه، فكان أكثر
تحرراً في بعض اللمحات العابرة، وان كان قد ظل وفياً في الغالب لمبدأ المحاكاة
الحسية في النقد العربي(28).
اما عبد القاهر
الجرجاني الذي يمثل ذروة التطور في النقد العربي ، فنحن نطالع في كتابه"
اسرار البلاغة" ضروباً من التحليل العميق لمسائل التشبيه الشائكة تجعلنا نقف
على ما هو ابعد من محض التعريف، واذا كان قد ابقى على معظم مبادئ النقد، فقد اضفى
عليها رونقاً جديداً، بيد انه مع ذلك لم ينقص المفهوم الحسي، وانما حاول ان يغلب
عليه المفهوم العقلي، وواضح ان منطق العقل يخضع في النهاية لمنطق الحس، فكأن عبد القاهر
خلص التشبيه من قيد الحس إلى قيد العقل، فجعله ضرباً من القياس، والقياس ــ كما
يقول- انما تدركه العقول: (امام الاستعارة فهي ضرب من التشبيه، ونمط من التمثيل،
والتشبيه قياس، والقياس يجري فيما تعيه القلوب، وتدركه العقول، وتستفتى فيه
الافهام والاذهان، لا الاسماع والآذان)(29).
وهذا المذهب
العقلي يستقيم مع قسمته للتشبيه إلى ضربين باعتبار التأول، فالتشبيه اما ان يكون
ظاهراً لا يحتاج إلى تأول، وهو ما اعتمد على الصورة، أو الشكل، أو اللون، او
الهيئة، وإما ان يكون غير ظاهر فيحتاج إلى ضرب من التأول، فالتشبيه الظاهر يعتمد
على الحواس وغير الظاهر يعتمد على الحواس ايضاً، ولكنه لا يقتصر عليها، أو يقف
عندها، وانما يرقى منها إلى دلالة معنوية تقتضي امعان الفكر، ولطف النظر، وعلى ذلك
فالتشبيه الحسي يكون في نفس الصفة التي تجمع بين طرفي التشبيه، بينما يكون التشبيه
العقلي في مقتضى تلك الصفة، فإذا ما شبه الخد بالورد (وكذلك كل تشبيه جمع بين
شيئين فيما يدخل تحت الحواس)(30)، فان الشبه واضح في مشاركة الخد للورد
في صفة الحمرة نفسها، ولكن إذا شبه اللفظ بالعسل مثلاً فإن الشبه لا يتصور في صفة
الحلاوة نفسها، وانما فيما تقتضيه الحلاوة من حصول اللذة في النفس(31)،
وعبد القاهر، إن كان يصرح بأن الضرب الاول القائم على الحس هو حقيقة التشبيه، فإنه
لا يريد إيثاره على الضرب الآخر القائم على العقل، ولكنه يريد ان طبائع الاشياء
تقتضي ان ينتقل الانسان من المحسوس إلى المعقول فالعقل يعتمد على الحس ليرقى إلى
ما لا يرقى إليه الحس، وان كان الحس هو الاصل، ولعل هذه الحقيقة تتجلى في التمثيل
الذي هو فرع من التشبيه، حيث يقتضي الامر الرجوع من المعقول إلى المحسوس، كما تزول
كل ريبة ممكنة في وجه الشبه، مما يؤكد ان التشبيه الحسي هو جوهر التشبيه عند عبد
القاهر، قد يغادره الشاعر احياناً إلى معنى الطف، ولكنه لا يلبث ان يعود إليه إذا
ما التمس الوضوح: (ومعلوم ان العلم الأول اتى النفس أولاً من طريق الحواس والطباع،
ثم من جهة النظر والرؤية، فهو اذن أمس بها رحما، وأقوى لديها ذمما، وأقدم لها
صحبة، وآكد عندها حرمة، واذا نقلتها في الشيء بمثله عن المدرك بالعقل المحض،
وبالفكرة في القلب، إلى ما يدرك بالحواس، أو يعلم بالطبع، وعلى حد الضرورة، فانت
كمن يتوسل إليها للغريب بالحميم، وللجديد الصحبة بالحبيب القديم، فأنت إذن مع
الشاعر وغير الشاعر اذا وقع المعنى في نفسك غير ممثل، ثم مثله، كمن يخبر عن شيء من
وراء حجاب، ثم يكشف عنه الحجاب، ويقول: ها هو ذا فأبصره تجده على ما وصفت)
(32).
وهكذا فصحبة
المعنى العقلي طارئة، وصحبة الحس هي المال الاخير في النقد العربي، وغاية الشاعر
هي ان يقول عن المعنى الذي خطر بباله: ها هو ذا فأبصره، مما يرجع بنا إلى المعنى
المنظور، ويلاحظ ان عبد القاهر كان يشرح فضل التمثيل في مثل قول ابن المعتز:
اصبر على مضض
الحســو د فإن صبرك قاتله
فالنار
تأكــــــــــل نفسهــــــا ان
لم تجد ما تأكلــه
وليس كل تشبيه تمثيلاً)
(33)، وهو يؤثر التمثيل لما فيه من علة المعاينة نفسها: (أن الأنس الحاصل
بانتقالك في الشيء عن الصفة والخبر، إلى العيان ورؤية البصر، ليس له سبب سوى زوال
الشك والريب، فأما اذا رجعنا إلى التحقيق، فأنا نعلم ان المشاهدة تؤثر في النفوس
مع العلم بصدق الخبر) (34)، وعلى هذا النحو ما انفك النقاد جميعاً
يطالبون بالصورة المائية على تفاوت في التطبيق والتضييق.
على ان الامر عند
عبد القاهر ليس بهذه البساطة، فلقد أفاض كثيراً في الكلام على ضروب الاستعارة
العقلية، فجعلها قرينة اللطف، والشرف، والسمو، وكأن اقراره للشبه المرئي لم يمنعه
من ايثار الشبه العقلي الذي رأى فيه روحانية هي من شأن الاذهان الصافية، ولعل اوضح
ما يستبين به موقفه هو كلامه على ضروب الاستعارة من حيث تدرجها من الضعف إلى
القوة، فقد ذكر ان الضرب الاول هو وجود معنى الشبه في عمود الجنس مع تفاوت في
خصائصه ودرجاته(35)، على نحو استعارة الطيران للفرس، والضرب الثاني هو
اشتراك معنى الشبه في عموم الصفة، على نحو استعارة التهلل للإنسان في مثل قولنا
"رأيت شمساً"(36)
اما الضرب الثالث
الذي يعتبره عبد القاهر الصميم الخالص فحده عنده ان يكون الشبه مأخوذاً من الصور
العقلية)(37)على نحو ما يظهر في استعارة النور للبيان، فهاهنا لا بد من
صورة عقلية يستنبط منها وجه الشبه بعيداً عن الجنس، والطبيعة، والغريزة ، والهيئة
، والصورة ، وعن كل ما يمت إلى الحواس بنسب، على الرغم من ان الشبه نفسه قد يؤخذ
مما ادركته الحواس، ومن الجلي ان هذا الضرب العقلي هو مناط التشبيه في نقد عبد
القاهر، وهو الصورة التي تبلغ بها الاستعارة ذروة اللطف: (واعلم ان هذا الضرب هو
المنزلة التي تبلغ عندها الاستعارة غاية شرفها، ويتسع لها كيف شاءت المجال في
تفننها وتصرفها، وههنا تخلص لطيفة روحانية، فلا يبصرها إلا ذوو الاذهان الصافية،
والعقول النافذة، والطباع السليمة، والنفوس المستعدة لأن تعي الحكمة، وتعرف فصل
الخطاب)(38). وهذه الاستعارة التي تخلص "لطيفة روحانية"
تنقسم تبعاً لمأخذ الشبه إلى ثلاثة أقسام، أولها ان يؤخذ الشبه من المحسوس للمعقول
أو (من الاشياء المشاهدة، والمدركة بالحواس على الجملة، للمعاني العقلية) (39)
على نحو استعارة النور للبيان، وثانيها: (أن يؤخذ الشبه من الاشياء المحسوسة
لمثلها ألا ان الشبه مع ذلك عقلي) (40) على نحو قول النبي صلى الله
عليه[وآله] وسلم: (إياكم وخضراء الدمن) فالمرأة هنا مشبهة بالنبات، ولكن وجه الشبه
المقصود لا يتعلق بأمر حسي، وانما هو عقلي غايته عقد الصلة بين المرأة الحسناء في
منبت السوء، وبين نبات الدمن الذي يبدو في ظاهره حسناً وهو في باطنه خبيث(41).
أما الضرب الثالث (وهو أخذ الشبه من المعقول للمعقول) (42) فيتجلى
ايضاً في صورتين، الأولى: تنزيل الموجود منزلة المعدوم لفقدان ثمرة وجوده، نحو وصف
الجاهل بأنه ميت، والاخرى: تصور صفة معقولة في المستعار نحو القول: بأن فلاناً
"لقي الموت" باعتبار ما لقيه شدة وصعوبة) (43).
وينبه عبد القاهر
اخيراً على انه لم يختر من الامثلة إلا ما هو قريب ظاهر، وان ثمة ما هو أبعد
وألطف: (ولم اذكر ما يدق ويغمض، ويلطف ويغرب، وما هو من الاسرار التي اثارتها
الصنعة، وغاصت عليها فكرة الافراد منذ ذوي البراعة في الشعر. . وفي الاستعارة بعد
من جهة القوانين، والاصول، شغل الفكر، ومذهب القول، وخفايا، ولطائف تبرز من حجبها
بالرفق والتدريج واللطف والتأني) (44).
ربما جاز لنا
القول اذن: ان عبد القاهر لم يكن مخلصاً تماماً في ولائه لمحاكاة الحواس وحدها،
وانه يميل إلى ما ينم على الدلالة دون ان يصرح بها، على نحو يتطلب شيئاً من التأمل
العقلي، فهو يحاول ــ في هذه التفريعات العقلية التي يلتمسها لضروب التشبيه ــ ان
ينأى بالصورة الشعرية عن عالم الحس إلى عالم المعنى، حقاً قد يقال: ان هذا التجريد
العقلي انما يسلب الصورة الشعرية قدراً كبيراً من الحياة، غير انه يضفي عليها
ايضاً من لطف المعنى ما ينقذها من جمود الشكل، على ان عبد القاهر انما خلص الصورة
من الحس إلى العقل تبعاً لمذهبه الاشعري في التماس المعنى العقلي وراء الشكل
الظاهري، ولو انه اذ خلصها من الحس، قرنها بالشعور لا بالعقل، بحيث تغذو تعبيراً
حسياً عن شعور نفسي، لكان قد خلص الصورة من الشكلية الحسية والعقلية معاً، ذلك ان
مدار العقل في النهاية على الحس، ولا سيما ان عبد القاهر قد جعل من الحواس اصل
التشبيه الذي هو قياس عقلي، ومهما يكن فأننا لا نجد عنده غالباً تطوراً بالغاً في
مفهوم الصورة، لأنه اقتصر على تغليب التجريد العقلي في وجه الشبه، على التمثيل
الحسي الذي هو الاصل(45)، ولا غرابة في ذلك لأنه كان مولعاً بمقارنة
الشعر بالتصوير ، والنقش والنسج، والصياغة وهي فنون تعتمد على الشكل المجرد أيضاً،
ولكن ثمة فرق واضح بين الصورة الشعرية، والصورة في هذه الفنون، لعله الفرق ذاته
بين الرسم والموسيقا أو بين الوضوح والإيحاء يقول جويو: (ان الرسم والتصوير في
الشعر والأدب غير الرسم والتصوير في الفنون البصرية، فالصورة في الشعر نتيجة
لتعاون كل الحواس، وكل الملكات، وليس الامر على هذا النحو في الفنون الاخرى)(46)،
وهذا هو ما اغفله النقد العربي غالباً حينما قرن الشعر بهذه الفنون دون ان يربطه
بالشعور، فكأنه كان يحرص بذلك على نقل الصورة إلى المتلقي، أكثر من حرصه على تعبير
الصورة عن الشاعر نفسه.
________________
(1) نقد الشعر:
ص118.
(2) نقد الشعر:
ص118.
(3) عيار الشعر:
ص10-11.
(4) المصدر نفسه:
ص10.
(5) الجاحظ، انظر:
الحيوان 3/132.
(6) ابن طباطبا:
انظر عيار الشعر ص11.
(7) سر الفصاحة:
ص235.
(8) انظر هذه
المسألة: سر الفصاحة ص241.
(9) انظر في ذلك:
الصورة الأدبية، ص78-80
(10) ارنست فيثر:
ضرورة الفن ترجمة اسعد حكيم، ص41-42.
(11) النقد الادبي
الحديث: ص363.
(12) العمدة:
1/287
(13) توفي ابن
رشيق سنة 463هـ، وابن سنان سنة 466 هـ.
(14) مسائل فلسفة الفن:
ص90.
(15) الصورة الادبية:
ص138.
(16) النقد الادبي
الحديث: ص444.
(17) العمدة:
2/236 وانظر ايضاً ص237-238 حيث يعلل قلة المعاني عند القدماء.
(18) العمدة:
2/240
(19) العمدة: 2/29
(20) العمدة:
2/294
(21) المصدر نفسه:
2/295-296
(22) المثل
السائر: ص25.
(23) المثل
السائر: ص122
(24) المثل
السائل: ص23
(25) المصدر نفسه:
ص122
(26) المثل
السائر: ص152.
(27) المصدر نفسه:
ص154.
(28) لعله من
المفيد ان نلاحظ ان ابن الاثير لا يميز بين الاستعارة والتشبيه، إلا في ان
الاستعارة تشبيه محذوف، ويجيز ان يقال عن الاستعارة هي تشبيه، وعن التشبيه هو
استعارة، يقول (والتشبيه ضربان: تشبيه تام وتشبيه محذوف، فالتشبيه التام ان يذكر
المشبه به، للفراق بينه، وبين التشبيه التام، وإلا فكلاهما يجوز ان يطلق عليه اسم
التشبيه، ويجوز ان يطلق عليه اسم الاستعارة لاشتراكهما في المعنى) المثل السائر:
ص138-139.
(29) اسرار
البلاغة: ص15.
(30) اسرار
البلاغة: ص71.
(31) المصدر نفسه:
ص70-75-78-80
(32) أسرار
البلاغة: ص102-103
(33) المصدر نفسه:
ص75.
(34) المصدر نفسه:
ص105-106.
(35) المصدر نفسه:
ص41.
(36) المصدر نفسه:
ص46.
(37) اسرار
البلاغة: ص49.
(38) المصدر نفسه:
ص50
(39) المصدر نفسه:
ص50.
(40) المصدر نفسه:
ص50.
(41) المصدر نفسه:
ص51-52.
(42) المصدر نفسه:
ص57
(43) المصدر نفسه:
ص61-62.
(44) اسرار
البلاغة: ص69-70.
(45) مسائل فلسفة
الفن: ص90.
(46) وهذا التغليب
نفسه ليس قاطعاً، فقد رأيناه يثني على التمثيل لما فيه من اظهار الخفي إلى الجلي،
والعقلي إلى الحسي.
دلَّت كلمة (نقد) في المعجمات العربية على تمييز الدراهم وإخراج الزائف منها ، ولذلك شبه العرب الناقد بالصيرفي ؛ فكما يستطيع الصيرفي أن يميّز الدرهم الصحيح من الزائف كذلك يستطيع الناقد أن يميز النص الجيد من الرديء. وكان قدامة بن جعفر قد عرف النقد بأنه : ( علم تخليص جيد الشعر من رديئه ) . والنقد عند العرب صناعة وعلم لابد للناقد من التمكن من أدواته ؛ ولعل أول من أشار الى ذلك ابن سلَّام الجمحي عندما قال : (وللشعر صناعة يعرف أهل العلم بها كسائر أصناف العلم والصناعات ). وقد أوضح هذا المفهوم ابن رشيق القيرواني عندما قال : ( وقد يميّز الشعر من لا يقوله كالبزّاز يميز من الثياب ما لا ينسجه والصيرفي من الدنانير مالم يسبكه ولا ضَرَبه ) . |
جاء في معجمات العربية دلالات عدة لكلمة ( عروُض ) .منها الطريق في عرض الجبل ، والناقة التي لم تروَّض ، وحاجز في الخيمة يعترض بين منزل الرجال ومنزل النساء، وقد وردت معان غير ما ذكرت في لغة هذه الكلمة ومشتقاتها . وإن أقرب التفسيرات لمصطلح (العروض) ما اعتمد قول الخليل نفسه : ( والعرُوض عروض الشعر لأن الشعر يعرض عليه ويجمع أعاريض وهو فواصل الأنصاف والعروض تؤنث والتذكير جائز ) . وقد وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي للبيت الشعري خمسة عشر بحراً هي : (الطويل ، والبسيط ، والكامل ، والمديد ، والمضارع ، والمجتث ، والهزج ، والرجز ، والرمل ، والوافر ، والمقتضب ، والمنسرح ، والسريع ، والخفيف ، والمتقارب) . وتدارك الأخفش فيما بعد بحر (المتدارك) لتتم بذلك ستة عشر بحراً . |
الحديث في السيّر والتراجم يتناول جانباً من الأدب العربي عامراً بالحياة، نابضاً بالقوة، وإن هذا اللون من الدراسة يصل أدبنا بتاريخ الحضارة العربية، وتيارات الفكر العربية والنفسية العربية، لأنه صورة للتجربة الصادقة الحية التي أخذنا نتلمس مظاهرها المختلفة في أدبنا عامة، وإننا من خلال تناول سيّر وتراجم الأدباء والشعراء والكتّاب نحاول أن ننفذ إلى جانب من تلك التجربة الحية، ونضع مفهوماً أوسع لمهمة الأدب؛ ذلك لأن الأشخاص الذين يصلوننا بأنفسهم وتجاربهم هم الذين ينيرون أمامنا الماضي والمستقبل. |
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
اتحاد كليات الطب الملكية البريطانية يشيد بالمستوى العلمي لطلبة جامعة العميد وبيئتها التعليمية
|
|
|