المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية


Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية
{افان مات او قتل انقلبتم على اعقابكم}
2024-11-24
العبرة من السابقين
2024-11-24
تدارك الذنوب
2024-11-24
الإصرار على الذنب
2024-11-24
معنى قوله تعالى زين للناس حب الشهوات من النساء
2024-11-24
مسألتان في طلب المغفرة من الله
2024-11-24

الركن المعنوي في جريمة القتل الخطأ
30-1-2021
الإضاءة الصناعية - فلاشات الأستوديو Strobe lighting
25-12-2021
نماذج من تفسير الامام السجاد للقران الكريم
30-3-2016
Word-initial /h/
2024-04-09
الشكر وكماله
2023-04-30
الشفاعة ليست دعوة للتقاعس
25-09-2014


نظرة نقديّة لفنون العمل الأدبي-الخاطرة والمقالة والبحث  
  
4289   12:32 صباحاً   التاريخ: 14-08-2015
المؤلف : سيّد قُطب
الكتاب أو المصدر : النقد الأدبي أصوله ومناهجه
الجزء والصفحة : ص105-117
القسم : الأدب الــعربــي / النقد / النقد الحديث /

 لابد ان نبدأ بالشعر. فقد يكون اول هذه الفنون ظهورا، وأقدمها تاريخا. وطبيعة الاشياء تقتضي ان يتأخر مولد النثر الفني عن مولد الشعر، لأن الايقاع المنغم المقسم في الشعر يجعله مصاحبا للتعبير الجسدي بالرقص عن الانفعالات الحسية، كما يجعله أقدر على تلبية التعبير الوجداني بالغناء. وبالرقص والغناء لابد ان يكونا قد صاحبا طفولة البشرية ثم تبعهما الشعر وصاحبهما قبل ان تتهيأ مداركها لصياغة النثر الذي يتدخل الوعي والعمل الذهني فيه بنسبة أكبر. وقد صيغت الملحمة والتمثيلية بقسميها: المأساة والملهاة في قالب شعري فترة من الوقت، قبل ان يتهيأ ظهور التمثيلية نثرا بزمن ليس بالقصير، وقبل ان يتهيأ ظهور القصة والأقصوصة والتراجم بأزمان طوال. فاذا قصرنا المجال على الأدب العربي توقعا ان يكون الشعر قد سبق النثر الفني، فلقد وجدت القصيدة المكتملة الناضجة، بينما كان النثر الفني في خطواته يحبو.

لابد ان نبدأ بالشعر لهذا السبب، ولسبب آخر: ذلك هو ان التعريف الذي اخترناه للعمل الأدبي يصدق صدقا كاملا وحرفيا على الشعر بخاصة في إجماله وفي تفصيله، بينما تضعف بعض عناصره او تنزوي في بعض فنون العمل الأدبي الاخرى.

والشعر في الأدب العربي متميز الطبيعة عن النثر بحكم ظهور الإيقاع الموسيقي المقسم، وبحكم القافية. ولا يخلو النثر الفني من الايقاع الذي يبلغ حد الكمال والاتساق أحيانا – كالأمثلة التي مرت في الفصل السابق – ولكنه ايقاع من نوع اخر غير النوع الذي يحتويه النظم. وكذلك لا يخلو النثر الفني من القافية المتحدة او المتقاربة في بعض فنونه كالسجع والازدواج، ولكنها تختفي في فنونه الاخرى الطليقة.

وللشعر في الآداب الاوروبية تميزه من ناحية الايقاع المقسم والقافية كذلك، وإن تكن هاتان الخاصتان لا تبرزان في كل أنواعه بروزهما في الشعر العربي، إلا انهما خاصتان بارزتان على كل حال. ولكن الايقاع المقسم والقافية ليسا هما كل ما يميز طبيعة الشعر. فهناك ما هو أعمق. هناك الروح الشعرية، التي قد توجد احيانا في بعض فنون النثر ايضا، فتكاد تحيله شعرا. فما هي هذه الروح الشعرية؟

ليس في كل لحظة يجد الانسان نفسه في حاجة لأن يقول الشعر، ولا في كل حالة يحس الدافع إليه. هناك تجارب شعورية معينة تثير انفعالات شعورية خاصة، لا يستنفدها الا التعبير الشعري. وقد لا يكون صاحبها من القادرين على النظم فيعبر نثراً، ولكنه شبه موزون من ناحية الايقاع، ومشحون بالصور والظلال التي هي ميزة الشعر الكبرى.

فما هي هذه التجارب؟

هي التجارب التي ترفع الانسان فوق مستوى حياته العادية، والتي ترتفع فيها درجة الانفعال – أيا كان نوعه – حتى تصل الى درجة التوهج والاشراق او قريبا منهما. وكلما كانت درجة الانفعال اقوى جاء التعبير اجود بالقياس الى الشاعر الواحد بطبيعة الحال.

في مثل هذه الحالات يكاد التعبير الشعري يكون مفروضا لان ما يتضمنه من ايقاع قوي منسق، ومن صور وظلال أوفر، يجعله وسيلة مضمونة لاستنفاد الطاقة الشعورية المتضخمة. وليس هذا بعيدا عن مشاهدات الحياة الطبيعية. فنحن قد نشاهد الانسان الهادئ المالك لأعصابه، تمر به تجربة شعورية معينة، تهيج مشاعره هياجا شديدا. هنا يعبر عن انفعال بالألفاظ، ثم لا يجد في الألفاظ الكفاية فيستعين بالحركات الجسدية لاستكمال التعبير، يرفع صوته ويقبض اساريره او يبسطها ويحرك يديه، ويهتز جسده ويختلج .. فإذا أفرغ الشحنة الفائضة بطريقة عضلية هدأ واستراح.

في التعبير الشعري شيء من هذا، فالظاهر ان الايقاع فيه ووفرة التصورات الخيالية، يساعدان الألفاظ على استنفاد الانفعال بطريقة شبه عضلية وحسية، لأنها تمت بسبب الى الرقص والغناء وسيتلى التعبير الجسديتين عن الانفعال الوجداني الفني.

وعلى هذا لا يكون الإيقاع في الشعر ولا التعبير اللفظي المشع نافلة، فإن للإيقاع وظيفة خاصة يؤديها في استنفاد الطاقة الشعورية، وهو جزء من دلالة التعبير كالدلالة المعنوية اللغوية. اما الصور والظلال فهي استنفاد لطاقة الحس والخيال المصاحبة للتجربة الشعورية القوية، الفائضة عن التعبير اللفظي المجرد.

ولعلنا بهذا نكون قد كشفنا عن طبيعة الشعر ووظيفته معا، وفسرنا معنى الروح الشعورية. فهذه الروح هي الاحساس بما هو ارفع أو أقوى على العموم من الحياة العادية، أيا كان لون هذا الاحساس، روحيا او حسيا. درجة الانفعال لا نوع الانفعال، هي التي تستدعي التعبير الشعري، وهي ما نعبر عنه بالروح الشعرية.

وفي هذه اللحظات يكون الشعر هو التعبير المناسب لاستنفاذ الطاقة الشعورية الزائدة على ما يستطيع التعبير النثري ان يستنفذه.

فالشعر ليس تعبيرا عن الحياة – كما غال بعض الكتاب-إنما هو تعبير عن اللحظات الأقوى والأملأ بالطاقة الشعورية في الحياة. وليس لموضوع التعبير في ذاته داخل في هذا. فالمهم هو درجة الانفعال الشعوري بهذا الموضوع. فقد يقف الشاعر امام الطبيعة الجميلة المزهوة في الربيع فلا تثير انفعاله لسبب من الاسباب، وقد يقف امام دودة حقيرة، او حائط متهدم، فتجيش نفسه وتنفعل. فتكون التجربة الأولى بعيدة عن الروح الشعرية والتعبير الشعري. وتكون الثانية هي الحافلة بالطاقة الحافزة على التعبير، وهذا البيان ضروري هنا لإيضاح ما نريد.

ولقد سلك الشعر هذه الخطة تقريبا في تاريخه كله. سواء كان شعرا غنائيا كما في الأدب العربي القديم، او شعر ملاحم وتمثيليات كما في الأدب الإغريقي والأوروبي، وبعض الأدب العربي الحديث.

ولقد كان نجاحه دائما رهينا بحسن استخدامه في مواضعه، ومراعاة طبيعته ووظيفته. فلما شاء بعضهم في القديم والحديث ان يحمله على غير طبيعته، فيضمنه الافكار المجردة، والتجارب الذهنية والحوادث العادية التي لا يرتفع انفعالهم بها عن درجة الانفعال اليومية .. أخفق كل الإخفاق، وبدا عاريا من اللحم والدم، لا يثير الانفعال، ولا يوحى برؤيا، ولا يزال رصيد التجارب الشعورية في نفوس الاخرين.

على أنه إذا كان هناك مبرر لاستخدام الشعر فيما مضى في غير مواضعه بسبب قصور النثر الفني عن التعبير في أيام طفولته، فان هذا المبرر قد زال، وآن للشعر ان يرتد غناء بحتا عن لحظات الانفعال الأقوى، ويؤدي وظيفته الرئيسية الأولى.

وسنرى فيما بعد ان (التمثيلية) التي تصور العصر الحديث لم تعد تحتمل ان تكون شعرا، لأنها تحاول ان تعبر عن مشكلات الحياة العادية، وان تعيش في وسط اجتماعي عادي. اما الملحمة فالشعر أداتها بلا جدال، لأنها تحاول دائما ان تعبر عن مواقف بطولة غير عادية، وعن لحظات في تاريخ هذه البطولة خارقة. ولكن يبدو ان جو الحياة الشعورية المعاصرة لم يعد يسمح للملاحم بالحياة، كما سمح لها في فجر البشرية الوردي، والقصة لم تعد صالحة للشعر كما سيجيء.

ولا شبهة في أنه لا التراجم ولا المقالة ولا البحث تصلح ان تكون شعراً. وعندئذ يتعين موضوع الشعر ووظيفته: إنه الغناء، المطلق بما في النفس من مشاعر واحاسيس وانفعالات الى درجة التوهج والاشراق او الرفرفة والانسياب على نحو من الانحاء.

ولسائل ان يسأل: أو تنفي الفكر من عالم الشعر ايضا؟

ولست أتردد في الإجابة. ان هذا الفكر لا يجوز ان يدخل هذا العالم الا مقنعا غير سافر، ملفعا بالمشاعر والتصورات والظلال، ذائبا في وهج الحس والانفعال. او موشى بالسبحات والسرحات! ليس ان يلج هذا العالم ساكنا باردا مجردا!

ولحسن الحظ ان الانسانية لا تزال تحمل هذه الشعلة المقدسة، ولا يزال ضميرها يزخر بالمشاعر والخواطر، ولا تزال تهتدى بالغريزة والإلهام بجانب الذهن البارد الجاف. وهناك لحظات تنفض عنها ذلك السكون البارد والوعي المتقيد، وتنطلق رفافة مشرقة، او دافقة متوهجة، او سارية هائمة او نشوانة حالمة، وفي كل هذه اللحظات الفنية الفائقة لا تجد الا التعبير الشعري، يتسق بإيقاعه القوي وصوره، وظلاله، مع هذه اللحظات الملاء الوضاء.

وقد تحدث في فصل (القيم الشعورية في العمل الأدبي) عن حد (الاديب الكبير) وهو بعينه حد (الشاعر الكبير). والأمثلة كلها هناك جاءت من الشعر لسهولة اقتباسه في حيز محدود.

فالشاعر الذي يصلنا بالكون الكبير، والحياة الطليقة من قيود الزمان والمكان، بينما هو يعالج المواقف الغيرة، واللحظات الجزئية، والحالات المنفردة، هو الشاعر الكبير النادر. على نحو ما مثلنا في طاغور والخيام والجامعة. والشعر الذي يصلنا بالكون والحياة لحظات متفرقات، يتصل فيها بالآباد الخالدة والحياة الأزلية، او بالحياة الانسانية خاصة والطبيعة البشرية، هو الشاعر الممتاز. على نحو ما نجده في ابن الرومي والمتنبي والمعري. والشاعر الذي يصدق في التعبير عن نفسه، ولكن في محيط ضيق وعلى مدى قريب، ولا ننفد وراءه الى احساس بالحياة شامل، ولا إلى نظرة كونية كبيرة، هو شاعر محدود، كما نجده في بشار وأبي نواس وعمر بن ابي ربيعة وجميل بثينة وأضرابهم على اختلاف بينهم في النوع والدرجة والاتجاه.

وهناك شعراء أصغر نجدهم في البهاء زهير وإخوانه. وهناك نظامون نجدهم فيما دون هذه الطبقة على مدى العصور.

فبشار مثلا رأس المحدثين كما يسمونه واستاذ التجديد في ذلك الحين، تبحث عنه في آفاقه المحدود، فترى اوسعها وأقواها في مثل هذه المقطوعات:

يا ليلتي تزداد نكرا مِن حُبِّ من أَحْبَبْتُ بِكْرَا

حَوْرَاءٌ إِنْ نَظَرَتْ إِلَيْـ      ـكَ سَقَتْكَ بالعينين خَمرا

وكأن رجع حديثها            قِطَعُ الرِّيَاضِ كُسِينَ زَهْرَا

وكأن تحت لسانها            هاروت ينفث فيه سحرا

وَتَخَال ما جَمَعَتْ عَلَيْـ     ـه ثيابَها ذَهَباً وعِطْرَا

***

وكاعب قالت لأترابها      يا قوم ما أعجب هذا الضرير!

هل يعشق الانسان ما لا يرى؟     فقلت – والدمع بعيني غزير

ان كان عيني لا ترى وجهها        فإنها قد صورت في الضمير

***

ذَكَرتُ بِها عَيشاً فَقُلتُ لِصاحِبي       كَأَن لَم يَكُن ما كانَ حينَ يَزولُ

وَما حاجَتي لَو ساعَدَ الدَهرُ بِالمُنى      كَعابٌ عَلَيها لُؤلُؤٌ وَشَكولُ

بَدا لِيَ أَنَّ الدَهرَ يَقدَحُ في الصَفا       وَأَنَّ بَقائي إِن حَيِيتُ قَليل

فَعِش خائِفاً لِلمَوتِ أَو غَيرَ خائِف     عَلى كُلِّ نَفسٍ لِلحِمامِ دَليلُ

خَليلُكَ ما قَدَّمتَ مِن عَمَلِ التُقى       وَلَيسَ لِأَيّامِ المَنونِ خَليلُ

***

فماذا ترى؟ إنك لن ترى عالما كبيرا ولا صغيرا انما هو ركن ضيق قريب آماد الشعور والاحاسيس، فيه صدق فني عن طبيعة محدودة، ونموذج من النفوس الحسية القريبة الابعاد. وان جادت احيانا بشعور عميق.

كذلك تجد ابا نواس على ما له من إبداع فني في بعض التصورات وصدق فني في التعبير عن ذات نفسه ولكن في حدوده الضيقة القريبة. يبدو ذلك في حالتيه حين يستغرقه حسه وملاذه، وحين يصحو قلبه ووجدانه:

ذَكَرَ الصَبوحَ بِسُحرَةٍ فَاِرتاحا         وَأَمَلَّهُ ديكُ الصَباحِ صِياحا

أَوفى عَلى شَعَفِ الجِدارِ بِسُدفَةٍ         غَرِداً يُصَفِّقُ بِالجَناحِ جَناحا

بادِر صَباحَكَ بِالصَبوحِ وَلاتَكُن         كَمُسَوِّفينَ غَدَوا عَلَيكَ شِحاحا

***

وَخَدينِ لَذّاتٍ مُعَلَّلِ صاحِبٍ             يَقتاتُ مِنهُ فُكاهَةً وَمُزاحا

نَبَّهتُهُ وَاللَيــــلُ مُلتَبِسٌ بِـــهِ             وَأَزَحتُ عَنهُ حُثاثَهُ فَاِنزاحا

قالَ اِبغِني المِصباحَ قُلتُ لَهُ اِتئد         حَسبي وَحَسبُكَ ضَوءُها مِصباحا

فَسَكَبتُ مِنها في الزُجاجَةِ شَربَةً         كانَت لَهُ حَتّى الصَباحِ صَباحا

***

عَمِرَت يُكاتِمُكَ الزَمانُ حَديثَها         حَتّى إِذا بَلَغَ السَآمَةَ باحا

فأشاع من أسرارها مستودعا          لولا الملامة لم يكن ليباحا

فأتتك في صور تداخلها البلى         فأزالهن وأثبت الأشباحا

فكأنها والكأس ساطعة بها            صبح تقارب أمره فانصاحا

***

قُل لِمَن يَبكي عَلى رَسمٍ دَرَس         واقِفاً ما ضَرَّ لَو كانَ جَلَس

تصف الربع ومن كان به                مثل سلمى ولبيني وحنس

اِترُكِ الرَبعَ وَسَلمى جانِباً         وَاِصطَبِح كَرخِيَّةً مِثلَ القَبَس

بِنتُ دَهرٍ هُجِرَت في دَنِّها         وَرَمَت كُلَّ قَذاةٍ وَدَنَس

كَدَمِ الجَوفِ إِذا ما ذاقَها         شارِبٌ قَطَّبَ مِنها وَعَبَس

فاشرب الخمر إذا باكرتها          مع نداماك بلهو بغلس

واترك البحر لمن يركبه             قبح السابح فيه وتعس

***

لِدوا لِلمَوتِ وَاِبنوا لِلخَرابِ         فَكُلُّهُمُ يَصيرُ إِلى ذَهابِ

لِمَن نَبني وَنَحنُ إِلى تُرابٍ         نَصيرُ كَما خُلِقنا مِن تُرابِ؟

69

أَلا يا مَوتُ لَم أَرَ مِنكَ بُدّاً         أَبيتَ فَلا تَحيفُ وَلا تُحابي

كَأَنَّكَ قَد هَجَمتَ عَلى مَشيبي         كَما هَجَمَ المَشيبُ عَلى شَباب

وَإِنَّكَ يا زَمانُ لَذو صُروفٍ         وَإِنَّكَ يا زَمانُ لَذو اِنقِلابِ

وَهَذا الخَلقُ مِنكَ عَلى وَفازٍ         وَأَرجُلُهُم جَميعاً في الرِكابِ

هذا او ذاك طراز نجد ما يقرب منه طراز أسبق في الزمن عند عمر بن ابي ربيعة وعند جميل بثينة، وكلاهما ذو أفق محدود يجيء فيه أحيانا بالمعجب الفريد.

هذا عمر يقول مثلا :

أَطوي الضَميرَ عَلى حَرارَتِهِ         وَأَرومُ وَصلَ الحِبِّ في سِترِ

وَأَبيتُ أَرعى اللَيلَ مُرتَقِباً         مَجرى السِماكِ وَمَسقَطَ النَسرِ

كَم قَد مَضى إِذ لَم أُلاقِكُمُ         مِن لَيلَةٍ تُحصى وَمِن شَهرِ

وَمُحَدِّثٍ قَد باتَ يُؤنِسُني         رَخصِ البَنانِ مُهَفهَفِ الخَصرِ

مُتَضَمِّخٍ بِالمِسكِ يُشعِرُ بي         أَعطافَ أَجيَدَ واضِحِ النَحرِ

وَيُذيقُني مِنهُ عَلى وَجَلٍ         عَذباً كَطَعمِ سُلافَةِ الخَمرِ

في لَيلَةٍ كانَت مُبارَكَةً         ظَلَّت عَلَيَّ كَلَيلَةِ القَدرِ

حَتّى إِذا ما الصُبحُ آذَنَنا         وَبَدَت سَواطِعُ مِن سَنا الفَجرِ

جَعَلَت تُحَدِّرُ ماءَ مُقلَتِها         وَتَقولُ مالي عَنكَ مِن صَبرِ

بِمَحَلَّةٍ أُنُفٍ يُكَلِّفُها         قَومٌ أَرى فيهِم ذَوي غِمرِ

وَغُرُ الصُدورِ إِذا رَكِنتُ لَهُم         نَظَروا إِلَيَّ بِأَعيُنٍ خُزرِ

أو يقول:

لَيتَ هِنداً أَنجَزَتنا ما تَعِد         وَشَفَت أَنفُسَنا مِمّا تَجِد

وَاِستَبَدَّت مَرَّةً واحِدَةً         إِنَّما العاجِزُ مَن لا يَستَبِد

زَعَموها سَأَلَت جاراتِها         وَتَعَرَّت ذاتَ يَومٍ تَبتَرِد

أَكَما يَنعَتُني تُبصِرنَني         عَمرَكُنَّ اللَهَ أَم لا يَقتَصِد

فَتَضاحَكنَ وَقَد قُلنَ لَها         حَسَنٌ في كُلِّ عَينٍ مَن تَوَد

حَسَدٌ حُمِّلنَهُ مِن أَجلِها         وَقَديماً كانَ في الناسِ الحَسَد!

أو يقول:

لقد أرسلت جارتي      وقلت لها خذي حذرك

وقولي في ملاطفة        لزينب: نوّلي عمرك

فإن داويت ذا سقم         فأخزى الله من كفرك!

فهزت رأسها عجبا          وقالت من بذا أمرك؟

أهذا سحرك النسوا        ن قد خبرنني خبرك

وقلن: إذا قضى وطرا    وأدرك حاجة هجرك!

 وهكذا وهكذا نجد صدقا في التعبير عن طبيعة فنية خاصة. ونجد عذوبة وخلابة وطرافة. ولكننا لا نجد عالما ولا شبه عالم!

وكذلك حين نذهب الى جميل. فنجده يقول:

أَما كُنتِ أَبصَرتِني مَرَّةً         لَيالِيَ نَحنُ بِذي جَوهر

وَإِذ أَنا أَغيَدُ غَضُّ الشَبابِ         أَجُرُّ الرِداءَ مَعَ المِئزَرِ

وَإِذ لِمَّتي كَجَناحِ الغُرابِ         تُرَجَّلُ بِالمِسكِ وَالعَنبَرِ

فَغَيَّرَ ذَلِكَ ما تَعلَمينَ         تَغَيُّرَ ذا الزَمَنِ المُنكَرِ

وَأَنتِ كَلُؤلُؤَةِ المَرزُبانِ         بِماءِ شَبابِكِ لَم تُعصِري

قَريبانِ مَربَعُنا واحِدٌ         فَكَيفَ كَبِرتُ وَلَم تَكبَري

أو يقول:

أرى كل معشوقين غيري وغيرها          يلذان في الدنيا ويغتبطان

وأمشي وتمشي في البلاد كأننا                أسيران للأعداء مرتهنان

أصلي فأبكي في الصلاة لذكرها         لي الويل مما يكتب الملكان

ضمنت لها ألا أهيم بغيرها               وقد وثقت مني بغير ضمان

***

وما صاديات حمن يوما وليلة          عن الماء يخشين العصى حواني

لواغب لا يصدرن عنه لوجهة            ولا هن من برد الحياض دوان

يرين حباب الماء والموت دونه         فهن لأصوات السقاة رواني

بأكثر مني غلة وصبابة                    إليك ولكن العدو عداني

أو يقول:

إلى الله أشكو ما ألاقي من الهوى        ومن حُرَق تعتادني وزفير

ومن كُرَب للحب في باطن الحشا         وليل طويل الحزن غير قصير

فنجد هنا حرارة وصدقا، ونحس نفسا وقلبا. ولكننا بعد في حيز ومحدود نسمع لحنا واحدا قصير الاصداء. وقد يقال: اننا مع الخيام لا نسمع الا لحنا واحدا كذلك. ولكنه هنالك لحن الانسانية جميعا امام الغيب المجهول. لحن اللهفة البشرية الخالدة لاستجداء ذلك الغيب المجهول.

ثم نهبط عن هذه الافاق فنجد مثلا البهاء زهير وأضرابه. ونجدنا لا نزال في عالم الشعر. ولكننا نكاد نخرج من هذا العالم! وإننا لنفتقد هنا الأصالة كما نفتقد جدية الشعور، ولكنه ليس نظما فحسب! إن هنا صدى من رائحة عطرة!

فنجده مثلا يقول:

رَعى اللَهُ لَيلَةَ وَصلٍ خَلَت         وَما خالَطَ الصَفوُ فيها كَدَر

أَتَت بَغتَةً وَمَضَت سُرعَةً         وَما قَصَّرَت مَعَ ذاكَ القِصَر

بِغَيرِ اِحتِفالٍ وَلا كُلفَةٍ             وَلا مَوعِدٍ بَينَنا يُنتَظَر

فَقُلتُ وَقَد كادَ قَلبي يَطيـ         ـرُ سُروراً بِنَيلِ المُنى وَالوَطَر

أَيا قَلبِ تَعرِفُ مَن قَد أَتا         كَ وَياعَينِ تَدرينَ مَن قَد حَضَر

وَيا قَمَرَ الأُفقِ عُد راجِعاً         فَقَد باتَ في الأَرضِ عِندي قَمَر

وَيا لَيلَتي هَكَذا هَكَذا              وَبِاللَهِ بِاللَهِ قِف يا سَحَر

فَكانَت كَما نَشتَهي لَيلَةً         وَطالَ الحَديثُ وَطابَ السَمَر

أما النظم، النظم المجرد وإن كان لم يهبط بعد ولم يرك في صياغته – كما نجد فيما بعد – فهذا نموذج منه من ابن سهل الأندلسي:

هُوَ البَينُ حَتّى لَم تَزِدكَ النَوى بُعدا         تَرَحَّلَ قَبلَ البَينِ لا شَكَّ مَن صَدّا

أَيا فِتنَةً في صورَةِ الإِنسِ صوِّرَت         وَيا مُفرَداً في الحُسنِ غادَرتَني فَردا

جَبينٌ وَأَلحاظٌ وَجيدٌ لِحُسنِها               أَضاعَ الأَنامُ التاجَ وَالكُحلَ وَالعِقَدا

وَكَم سُئِلَ المِسواكُ عَن ذَلِكَ اللمى        فَأَخبَرَ أَنَّ الريقَ قَد عَطَّلَ الشَهدا

وهناك لا نتحدث عن آفاق ولا حدود فقد هبطنا الى مجرد الأوزان والقوافي!

ومن هذا الاستعراض السريع نتصور فكرة عن طبقات الشعر ودرجاته على وجه التقريب علوا وسفلا الى هذا النظم المجرد الأخير.

ولقد تتاح للشاعر الواحد لحظات يرتفع فيها على نفسه. او بتعبير أدق يرتفع فيها الى قمته. فنرى له مستويات في شعره كثيرة، ونضرب المثال على هذا من ابن الرومي في مستويات ثلاثة:

يقول في الوداع:

أعناقها والنفس بعد مشوقة      إليها، وهل بعد العناق تدان؟

وألقم فاها كي تزول حرارتي     فيشتد ما ألقى من الهيمان

وما كان مقدار الذي بي من جوى       ليشفيه ما ترشف الشفتان

كأن فؤادي ليس يشفى غليله          سوى ان يرى الروحين تمتزجان

فما من شك ان هنا صدق عاطفة، وحرارة انفعال، وتعبيرا قويا عن هذا الانفعال، يعطله في البيت الثاني ذلك التعليل بكى، وما يوحيه من جفاف! فوق ما يعطل الايقاع التمشي في الابيات. غير ان التعبير على كل حال موح بما وراءه.

ولكن هذا المستوى العالي في بابه يبدو أضيق محيطا فيما يصلنا به من الحياة الدائمة، بالقياس الى وقفات ابن الرومي نفسه في مواضع اخرى، كقوله مثلا في ريح الصبا:

هبت سحيرا فناجى الغصن صاحبه             موسوسا وتنادي الطير اعلانا

ورق تغنى على خضر مهدلة                   تسمو بها وتشم الارض احيانا

تخال طائرها نشوان من طرب                والغصن من هزه عطفيه نشوانا

فهنا نجد مجال الاتصال بالحياة الكبيرة أفسح، من خلال شعوره الذاتي بالحياة، في الصبا التي هبت سحيرا، وفي مناجاة الغصن لصاحبه موسوسا، وفي تنادي الطير معلنة، وفي ذلك الحفل البهيج الراقص الثمل من الورق المغنية على الخضر المهدلة، وكأنما هي تداعب الورق وتؤرجحها، فتسمو بها وتشم الأرض احيانا، وفي النشوة التي تخالج الطير فيطرب، وتخالج الغصن فيهتز عطفاه.

هذا من ناحية القيم الشعورية، أما من ناحية القيم التعبيرية، فالصور والظلال الحية المتراثية تملأ ساحة العرض الفسيحة. والايقاع الموسيقي هنا أجود واعلى واشد تناسقا مع الصور والظلال، وإشعاعات اللفظ كاملة، حتى لتكاد كل لفظة توحي بمفردها (1): (هبت سحيرا) ذلك التعبير الذي يصور الصبا جنية مسحورة او عروسا من عرائس الغاب هبت في السحر – (وسحيرا) أجمل وأرق ايحاء – فبعثت في كل شيء حياة مرحة حلوة لاعبة نشوى. (فناجى الغصن صاحبه موسوسا) كرفاق الصبي ولدات الشباب. وللفظ (ناجى) صورة خيالية وظل نفسي، تكملها صورة (موسوسا) على ما في الوصف هنا من صدق حسي ايضا، فوسوسة الاغصان والأوراق وقت هبوب الصبا اللينة الودود حقيقة حسية فوق ما تلقيه من ظلال خيالية. وحركة الأرجحة للورق على الأغصان وصورتها وإيقاعها مصحوبة بإيقاع غناء هذه الورق وتمايلها نشوى مع الغصن النشوان و(خضر مهدلة) وما فيها من إيحاء بالشعر الجميل المنسدل المهدل بلا تنسيق في هذه النشوة الراقصة. و(طائرها) هذه الإضافة وما توحيه من تواد وتواصل وألفة .. وهكذا ينساب كل لفظ في مكانه يصور للخيال ويوحى بالظلال.

تلك منزلة أعلى من منزلة القطعة السابقة لكل هذه القيم الشعورية والتعبيرية جميعا.

وأحب ان اقول مرة أخرى: ان ليس الموضوع هو الذي حدد منزلة القطعتين. وليس لأن أولاهما تمثل حالة نفسية داخلية، والثانية تمثل حالة نفسية خارجية. ولإزالة هذا اللبس نناقش نموذجا آخر لابن الرومي نفسه في حالة نفسية داخلية، ولكنها اوسع رقعة وأرفع أفقا لأنها تصور موقفا انسانيا كونيا من خلال تصويرها لموقف الشاعر خاصة .. يقول في الاسفار :

أذاقتنيَ الأسفارُ ما كَرَّه الغِنَى         إليَّ وأغراني برفض المطالبِ

فأصبحتُ في الإثراء أزهدَ زاهدٍ         وإن كنت في الإثراء أرغبَ راغبِ

حريصاً جباناً أشتهي ثم أنتهي         بلَحْظي جناب الرزق لحظَ المراقبِ

ومن راح ذا حرص وجبن فإنه         فقير أتاه الفقر من كل جانبِ

تنازعني رغْبٌ ورهب كلاهما         قويٌّ وأعياني اطِّلاعُ المغايبِ

فقدمتُ رجلاً رغبةً في رغيبةٍ         وأخّرتُ رجلاً رهبةً للمعاطب

أخافُ على نفسي وأرجو مَفازَها         وأستارُ غَيْب اللّهِ دونَ العواقبِ

ألا من يريني غايتي قبل مذهبي         ومن أين والغاياتُ بعد المذاهبِ؟

ولا جدال في ان تصوير موقفه الشعوري هنا رائع دقيق. وأنه حافل بالصور والظلال الخيالية والشعورية، وجزئيات التجربة والانفعال المتتابعة تفي بشروطنا التي أسلفنا في (طريقة تناول الموضوع والسير فيه): أحاسيسه المتناقضة بين الرغبة الشديدة في الإثراء والخوف الشديد من السفر. حرصه وجبنه. اشتهاؤه. وانتهاؤه. وقفته يلحظ جناب الرزق لحظ المراقب. تنازع الرغب والرهب اياه. ولفظ (تنازعني) وصورته الخيالية مجذوبا من هنا ومن هناك مشدودا من اليمين والشمال. وصورته الفريدة يقدم رجلا رغبة ويؤخر رجلا رهبة. ولفظ (رغيبة) وما فيها من انسياب يعمقها في النفس – ضع بدلها مرغوبة يتغير الجو – الى اخر هذه القيم الشعورية والتعبيرية.

ولكن هذا كله – على قيمته الفنية – ينتهي بنا الى حالة ذاتية للشاعر في محيط لحظة واحدة الى ان يقول:

أخاف على نفسي وأرجو مفازها      وأستار غيب الله دون العواقب

ألا من يرين غايتي قبل مذهبي       ومن أين والغايات بعد المذاهب؟

الى ان يقول هذا فينسرب بنا وراء اللحظة المرموقة الى مجال آخر فسيح، مجال كوني كبير. هنا ليس ابن الرومي الشخص الفرد هو الذي نرقب نفسه وخواطره في لحظة من لحظات الزمان، ولكنه ابن الرومي (الانسان) أمام الأقدار الخالدة. هنا المعرفة الانسانية المحدودة أمام الغيب الكوني المجهول. هنا يصلنا ابن الرومي بالكون الكبير من خلال موقفه الفردي الخاص. فيذكرنا بالخيام في هذا المجال – على اختلاف في التصوير والاحساس – وليس المهم ان يقول لنا : ان المعرفة الانسانية قاصرة امام الغيب الكوني المجهول. فهذا كلام ذهني يقول، وقد يكون أرخص شيء في عالم الشعر. ولكن المهم انه يقول لنا هذا من خلال تجربة انسانية حية، وجزئية عابرة في لحظة. كالذي يفتح لنا ونحن داخل الجدران كوة صغيرة ننظر منها الى السماء والفضاء. وهنا يرتفع ابن الرومي الى طبقة (طاغور) وأمثاله، لولا أننا هناك على اتصال دائم بالكون الكبير في كل لحظة او في غالب اللحظات، وهنا نتصل بالكون الكبير لحظات بعد لحظات.

ثم نخلص اخيراً الى ضرب من الشعر جاء الى فصل الشعر خطأ، ولم يذهب الى فصل النثر، لسوء التقسيم والتبويب! ذلك هو شعر الفكرة المجرد من الصور والظلال. وبعضه الجيد له قيمته الفكرية والانسانية، ولا تملك ان تلقى به الى البحر، لأن إلقاءه خسارة على الفكر البشري. ولكنك لا تجد له من الحرارة ولا الإيقاع، ولا تلمح فيه من الصور والظلال ما يحرك مشاعرك ويهز وجدانك. وهذا مكانه فصل النثر لينفع هناك ويفيد، ويوسع من آفاق الفكر في الحياة.

كثير من شعر المتنبي والمعري من هذا الطراز.

يقول المتنبي:

إنما تنجح المقالة في المر         ء إذا صادفت هوى في الفؤاد

ويقول:

جمع الزمان فلا لذيذ خالص     مما يشوب ولا سرور كامل

ويقول:

شر البلاد بلاد لا صديق بها      وشر ما يكسب الانسان ما يصم

وفي البيت الأول دراسة نفسية، ونفاذ الى علة السلوك. وفي البيت الثاني ثمرة تجربة ونتيجة ملاحظة. وفي البيت الثالث موعظة تقوم في الشطر الأول على أساس شعوري، وفي الشطر الثاني على أساس خلقي .. ولكن اين هذا كله من ديوان الشعر؟ ان الذهن وحده هو الذي يتلقى هذه الدراسات والملاحظات والتوجيهات، بلا انفعال شعوري، لأنها مجردة من الحرارة الشعورية، ومن القيم التعبيرية كذلك. فمكانها هناك في فصل النثر بلا جدال!

وليست المسألة انها حكمة. فالحكمة قد تجيء ثمرة انفعال شعوري، فتصدر حارة دافقة غنية بالصور والظلال، فتودع ديوان الشعر في درجتها بلا معارضة، وذلك كقول المتنبي نفسه:

ذل من يغبط الذليل بعيش        رب عيش أخف منه الحمام

وقوله:

كفى بك داء ان ترى الموت شافيا          وحسب المنايا ان يكن امانيا

وقوله:

لمن تطلب الدنيا اذا لم ترد به       سرور محب او اساءة مجرم

فهنا حكمة نعم. ولكنها حارة. تلمح فيها الانفعال العاطفي، تلمحه في البيت الأول في ذلك التقرير اللاذع الذي يشبه الدعاء. (ذل من يغبط الذليل بعيش) وتلمحه في البيت الثاني في ذلك الاسى المرير الهادئ، الذي يمثله كذلك ايقاع البيت واطراده وامتداده. وتلمحه في البيت الثالث في ذلك السؤال الاستنكاري الذي يشبه التقريع والاعتراض.

ليست الحكمة بخارجة عن ديوان الشعر. ولكن المهم هو نوعها ولونها ومبعثها وحرارتها.

ويقول المعري:

أما اليقين فلا يقين وإنما       أقصى اجهتادي ان اظن واحدسا

ويقول:

سألتموني فأعيتني إجابتكم           من ادعى أنه دار فقد كذبا

ويقول:

والناس في تيه بلا أمر           والله يفصل عنده الامر

وذلك كلام كله صادق وواقع. ولكن اين هو من الشعر؟ ان تجربة الغيب المجهول قد عاناها الخيام فأخرج لنا شعرا بديعا. لأنه عاناها بقلبه لا بذهنه، ووقف امامها انسانا يشعر لا عقلا يتفكر، ولا ننسى ما للتعبير الجامد الجاف هنا من أثر في جفاف الشعور.

فإذا نحن سرنا مع المعري نفسه الى قوله:

صاح هذي قبورنا تملأ الرحب      فأين القبور من عهد عاد؟

خفف الوطء ما أظن أديم الأ      رض إلا من هذه الأجساد

رب قبر قد صار قبرا مراراً        ضاحك من تزاحم الأضداد

فإننا نقف خشعا امام شعور انساني عميق، وامام تعبير تصويري موح، يزحم المشهد بالصور والظلال، ويهمس فيه بالوجدانات والاحاسيس، ويرتفع الى الطراز الأول من الشعر الانساني بكل قيمه الشعورية والتعبيرية. ولا يفوتني ان أنبه خاصة الى الايقاع الموسيقي في كل بيت. ومع ان الابيات كلها من وزن واحد الا انها تختلف ايقاعا، لان الوزن وحده لا يحدد لون الايقاع. فالوزن يؤلف الموسيقى الخارجية المحسوسة، وهناك موسيقى داخلية، ناشئة من طبيعة توالي الحروف ومخارجها، لا من حركة هذه الحروف التي يتم بها الوزن العروضي.

في البيت الأول رنة إعلان واشارة الى مجال فسيح.

(صاح هذي قبورنا تملأ الرحب).

ولعل لهذه المدات الثلاث المتوالية في (صاح) (هذى) (قبورنا) دخلا في ذلك الإيقاع الموسيقي الخاص.

فإذا وصلنا الى البيت الثاني احسسنا ايقاعه اشبه بوقع القدم المتوجسة الحذرة تخطو في حذر وخشية:

خفف الوطء ما أظن أديم الأ     رض إلا من هذه الأجساد

ويختلف الايقاع في البيت الثالث فتنطلق هذه الخطوات الحذرة، وينطلق الايقاع، ويتناسب ذلك مع ضحك القبر وسخريته بتزاحم الاضداد!

ومن هذه الموازنة تتبين الفوارق بين شعر الفكرة الباردة، وشعر العاطفة الحارة، ويتبين مكان هذا الطراز وذلك في سجل الآداب. وعليها يقاس كثير من الشعر المعاصر الذي يمعن في الفكرة المجردة احيانا، حتى يبدو عاريا من اللحم والدم، عاطلا من الحرارة والحياة. وفي ديوان الزهاوي وشكري والعقاد – على ما لهم من شعر احيانا – كثير من ذلك الطراز، أولى به ان ينقل الى كتبهم النثرية في البحوث والتعليمات.

ولابد قبل ان نختم فصل الشعر ان نقول فيه كلمة مستقلة عن (اللفظ). ففي الشعر خاصة يشغل اللفظ مكانا ممتازا يستحق هذه الكلمة المستقلة زيادة الى ما سبق في فصول الكتاب.

لقد آن ان نرد الى اللفظ اعتباره. لا على طريقة الجاحظ الذي كان يرى ان (المعاني ملقاة على قارعة الطريق) وان المزية كلها للعبارة، حيث يتابعه ابو هلال فيرى أن (ليس الشأن في إيراد المعاني، لان المعاني يعرفها العربي والعجمي والقروي والبدوي، وإنما هو في جودة اللفظة وصفائه .. مع صحة السبك والتركيب، والخلو من اود النظم) ولا على طريقة (المدرسة التعبيرية) التي كان يمثلها في العصر الحديث: المنفلوطي وشوقي، حيث يكمن وراء التزويق في العبارة كثير من التزوير في الشعور – على النحو الذي ضربنا له مثلا قصيدة شوقي في قصر أنس الوجود .. لا نريد ان نرد الى اللفظ اعتباره على اساس انه كل شيء، فقد بينا بما فيه الكفاية ان القيم الشعورية لها مكانها الاصيل في تقويم العمل الأدبي، وان كانت لا تبدو منفصلة عن القيم التعبيرية.

إنما نريد ان نرد الى اللفظ اعتباره على طريقة اخرى، وعلى أساس اخر.

ان اللفظ كما قلنا مرارا هو وسيلتنا الوحيدة الى إدراك القيم الشعورية في العمل الأدبي، وهو الاداة الوحيدة المهيأة للأديب لينقل الينا خلالها تجاربه الشعورية. وهو لا يؤدي هاتين المهمتين الا حين يقع التطابق بينه وبين الحالة الشعورية التي يصورها، وعندئذ فقد يستنفد – على قدر الامكان – تلك الطاقة الشعورية ويوحيها الى نفوس الاخرين.

والشعر لأنه تعبير عن الحالات الفائقة في الحياة، يحتاج أكثر من كل فن آخر من الفنون الأدبية الى شدة التطابق والتناسق بين التعبير والحالة الشعورية التي يعبر عنها. وقد أسلفنا أن اللفظ يعبر عن الحالات الشعورية بعدة دلالات كامنة فيه. وهي دلالته اللغوية ودلالته الإيقاعية ودلالته التصويرية. ونقص اي من هذه الدلالات الثلاثة في الشعر يؤثر في مدى تعبيره عن التجربة الشعورية الفائقة التي يتصدى لتصويرها، ويغض من قوة الإيحاء الى نفوس الاخرين.

وأيا كانت القيم الشعورية، فان تقصير اللفظ في تصويرها يحجب جزءا من قيمتها، ويمنعه الايحاء. ويؤثر بالتالي في حكمنا على النص الأدبي وعلى صاحبه كذلك!

من هنا كان للفظ قيمته وبخاصة في الشعر الذي هو صورة من اللحظات الفائقة في الحياة الشعورية.

ولم يخطئ بعض النقاد العرب كثيرا وهم يقولون: (المتنبي والمعري – حكيمان والشاعر البحتري) أو وهم يضيقون بأبي تمام وتعقيداته اللفظية والمعنوية.

ولسنا نتابعهم على طول الخط فقد كانوا يفهمون من اللفظ غير ما نفهم، ويريدون وظيفته على غير ما نريد؛ ولكننا نقول: ان ايقاع البحتري وصوره وظلاله المشعة هي نموذج بارع في الشعر العربي للأداء الشعري الموحي. ولو كان البحتري في طبيعته الشعرية أكبر مما كان، اي لو كان من طراز المتنبي او ابن الرومي لكان مكانه أضخم وأعلى. وهذا ابن الرومي – على موهبته الفنية الفريدة في الشعر العربي – يعوقه تعبيره النثري المفصل المعلل في احيان كثيرة عن بلوغ المنزلة الفنية التي تستحقها طبيعة شعوره، وحين يوفق في التعبير على نحو أبياته في ريح الصبا، وأبياته في كراهة الاسفار يبلغ قمة رفيعة بالقياس الى الشعر العربي كله.

والمتنبي حين يخلص من برودة التأمل الفكري، ثم يخلص من تعقيد التعبير اللفظي يصل الى قمة فنية شامخة بالقياس الى الشعر العربي كله كذلك. وحين تخلص لأبي تمام ابيات تقرب من هذا الطراز يرتفع ويصبح شيئا آخر. وبالمثل نجد للمعري في أحيان قليلة ابياتا من الشعر الخالص الطليق التعبير.

وليس المقصود هو رونق اللفظ او جزالته، ولا قوة الإيقاع او حلاوته. إنما المقصود هو التناسق بين طبيعة التجربة الشعورية، وطبيعة الاشعاع الايقاعي والتصويري للفظ، بحيث يتسق الجو الشعوري والجو التعبيري على نحو ما مثلنا بأبيات ابن الرومي في ريح الصبا، وأبيات المعري في قصيدة الرثاء الدالية، والمقام هنا يتسع لاستعراض بعض الامثلة زيادة على كل ما قدمنا.

يقول البحتري في عيد النيروز في الربيع:

أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكا        من الحسن حتى كاد ان يتكلما

وقد نبه النيروز في غسق الدجى       أوائل ورد كن بالأمس نوَّما

يفتقها برد الندى فكأنه                  يبث حديثا كان قبل مكتما

فمن شجر رد الربيع لباسه            عليه كما نشرت وشيئا منمنما

ورق نسيم الريح حتى حسبته          يجيء بأنفاس الأحبة نعما

وقد تحدثنا عن ايحاء البيت الأول وايقاعه فيما مضى. فلتتابع الحديث:

ان قيمة التعبير عنا انه بإيقاعه وبالصور والظلال التي تشعها الألفاظ والعبارات ينشر جو الربيع – كما هو نفس الشاعر – فالجو كله جو يقظة بادئة وتعبير عن مكنون في الضمير. فالربيع (كاد ان يتكلما) والنيروز (نبه) في (غسق الدجى) (اوائل ورد كن بالأمس نوما) وبرد الندى (يفتقها) وكأنه (يبث) حديثا (كان قبل مكتما) والربيع يرد على الشجر لباسه كما نشرت (وشيا منمنما) والوشي المنمنم اشبه شيء بالهمس في اذن الورد للتنبيه و(نسيم) الريح (رق) حتى ليحسبه يجيء بأنفاس الأحبة (نعما). كل ظل للفظ، وكل ايقاع، هو ظل اليقظة البادئة وايقاع الحركة المتفتحة. وعلى الساحة هنا شخصيات كلها مشرق وديع لطيف انيس: الربيع يكاد ان يتكلم وهو ينبه اوائل الورد النوم في غسق الدجى. والشاعر يقول: (كن نوما) لا (كانت نائمة) لان نون النسوة والجميع يوحى بأنهن عرائس وسنى ينبهن الحبيب الزائر في غسق الدجى. ويستمر الجو فنرى برد الندى يفتق الغلائل عن هؤلاء العرائس، ويبثهن حديث الهوى الناعم وكان قبل مكتما. والربيع يرد اللباس على عرائسه وكأنما ينشر أردية منمنمة موشاة، والنسيم يرق حتى لكأنه نفاس الأحبة. والأحبة الناعمين الهانئين.

ذلك جو. وتلك ألفاظ. فلننظر الى جو آخر وألفاظ اخرى للبحتري ايضا في ديوان كسرى:

يتظنى من الكآبة ان يبـ        ـدو لعيني مصبح او مسمى

مزعجا بالفراق عن أنس ألف      عز أو مرهقة بتطليق عرس

فهو يبدى تجلدا وعليه         كلكل من كلاكل الدهر مرسى

فهو جو كئيب مختنق الانفاس. وهنا ظلال الالفاظ وايقاعها تشارك في خلق هذا الجو الكئيب المختنق الانفاس، لا بمعناها اللغوي فحسب، بل بظلها وجرسها: (يتظنى) (مزعجا بالفراق) (مرهقا بتطليق عرس) (ككل من كلاكل الدهر موسى).

ان السياق هنا يطلق من هذه الألفاظ شحنتها وذكرياتها وصورها الخيالية وظلالها، فتنشر في الجو أسى عميقا، وتكتم الانفاس فيه وثقلها. وللألفاظ المفردة بغض النظر عن معناها الكامل في السياق ظلال مفردة تستمدها مما (وراء الشعور) من الذكريات والصور التي صاحبتها في تاريخها الشخصي والانساني على الزمن الطويل، ثم لها كذلك ظلالها وهي في نسق كامل. والظلال الأولى ينكرها رجل نافذ مثل (عبد القاهر) لأنه لا يرى دلالة اللفظ الا في نظم معين. وهذه مغالاة منه. فللفظ ظله الخاص وجرسه الموحى في كثير من الاحيان.

وطبيعي ان الجمال الفني في هذه الابيات لا تستقبل به في ظلال الألفاظ المفردة ولا إيقاعها، انما يدل عليه هذا وتدل عليه القيم التعبيرية الاخرى المكتملة في النسق، فصياغة (مزعجا) (ومرهقا) للمفعول تصور جو الإكراه الذي كان يتوارى لو صيغ هذ2ان الاسمان للفاعل ثم يضاف الى هذا كله طبيعة الاحساس بهذا الايوان كأنه حي مكروب، بعاطفة الشاعر في كربته، ويحس بنفسه تجاوب (نفسه) لفرط ما بها من شعور مرهف مهتاج ..

ويقول ابن الرومي ابياته التي حللناها فيما مضى عن (ريح الصبا) فترى كل لفظ في مكانه وجوه يوحى بإيقاعه كما يوحى بظله. فارجع إليها هناك لحظة ثم تعال نسمعه يقول في (نرجسة).

يا حبذا النرجس ريحانة      لأنف مغبوق ومصبوح

كأنه من طيب أرواحه        ركب من روح ومن روح

فنلمح هنا تنافراً بين روح النرجس وروح هذا الايقاع وظلال هذه الالفاظ. ضع صورة النرجسة التي تشير بعينها الناعسة ولا تنطق، وتلمح ولا تصرح – بخلاف طريقة الورد مثلا في التعبير! – ضع هذا بجوار (لأنف مغبوق ومصبوح) بذلك الجرس الغليظ الجاف في وزن البيت كله وفي لفظ (مغبوق) ولفظ (مصبوح) ومعها (أنف)! ثم ضع بجوارها كذلك (ركب) الذي يوحى اليك بأغلظ الاجسام وأجفها، وقد اختنقت معه (روح وروح) لان في التراكيب خشونة وعنفا لا يتسق ظلهما مع ظل الروح والروح، ولا مع ظل النرجس والريحان!

ان للألفاظ ارواحا، ووظيفة التعبير الجيد ان يطلق هذه الارواح في جوها الملائم لطبيعتها، فتستطيع الايحاء الكامل والتعبير المثير.

ويقول ابو تمام:

ان ريب الزمان يحسن ان يهـ     ـدى الرزايا الى ذوي الاحساب

فلهذا يجف بعد اخضرار           قبل روض الوهاد روض الروابي

فنرى هنا ألفاظا عارية من الظلال والإيقاع، مجردة من الرمز والايحاء، ونجد بخاصة كلمة (فلهذا) وهي تنقلنا الى وضح الذهن الأجرد، الى منطق التعليل والقياس الظاهري، ونخرج بها من جو الشعر كله الى جو مجرد من الظلال والشياب.

ويقول عن مشاهد الربيع:

من كل زاهرة ترقرق بالندى     فكأنها عين إليك تحدر

تبدو ويحجبها الجحيم كأنها         عذراء تبدو تارة وتخفر

حتى غدت وهداتها ونجادها      فئتين في حلل الربيع تبختر

والتعبير هنا أجود وانسب، وأدل على جو الربيع البهيج وحيويته، ولكن اين هي من أبيات البحتري، ومن طلاقتها التي تطلق بشاشة الربيع؟ واين هي من أبيات ابن الرومي عن ريح الصبا؟ ولعل للإيقاع الموسيقي هنا في الأبيات دخلا في جمود المشهد في الحس عن الانطلاق الكامل، اقرأ (فكأنها عين إليك تحدر) هذا التشديد في (كأنها) وفي (تحدر) يوحي بالتشديد والتوقف في جريان الايقاع وفي ظل الصورة. فالبيت يبدأ طليقا خفيفا (من كل زاهرة ترقرق بالندى) وينتهي متوقفا غليظا بالشطر الثاني والفرق بين إيقاعهما وظليهما هو الفرق بين انسياب (ترقرق) وتقبض (تحدر)، وكذلك تبدو هذه الظاهرة: ظاهرة الانسياب والتقبض، في شطري البيت الثاني: (تبدو ويحجبها الجحيم كأنها) و(عذراء تبدو تارة وتخفر) فتخفر هذه منقضبة متكتلة! في جو الربيع الطليق البهيج. ليست المسألة مسألة صياغة لفظ او ألفاظ، إنما هو الشعور التلقائي الغامض الذي توحيه الى النفس – بلا انتباه – تلك الايقاعات والإيقاع الموسيقي ينساب الى النفس ويغمرها بشعور خاص قبل ان يتنبه الوعي الى معنى الألفاظ والسياق.

ويقول المتنبي:

وللواجد المكروب من زفراته       سكوت عزاء او سكوت لغوب

فإذا كل لفظ وكل إيقاع في البيت يصور الجو المكروب الكظيم الذي يريد تصويره .. (الواجد المكروب) (زفراته) (لغوب) ولكل من هذه الألفاظ صورة خيالية وظلال نفسية يلقيها بذاته بمجرد نطقه؛ ثم تجتمع هذه الصور والظلال كلها وتتضح في السياق وتتناسق، ولو قال (آهاته) مثلا بدل (زفراته) لما تم الاتساق بينها وبين (المكروب) فالمكروب يزفر، ولا يتأوه. ولو قال تعب بدل لغوب لنقص الظل لأن المكروب الكاظم يعاني اللغوب. والتعب اخف وقعا وجرسا وظلا .. ثم اقرأ الشطر الثاني (سكوت عزاء او سكوت لغوب) تجدك تقف حتما بعد (سكوت عزاء) تقف ولو كنت واصلا للكلام. تقف في التنفس، فكأنما هي زفرة تتبعها زفرة اخرى في (او سكوت لغوب) وبذلك يجتمع الظل والإيقاع ليصورا جو الكرب واللغوب والزفرات.

وهذا التوفيق يخون المتنبي حينما يستيقظ ويتحدث بذهنه، ولا يستمد مما وراء الوعي عباراته وشعوراته، فاسمعه يقول:

يعطيك مبتدرا فان اعجلته             أعطاك معتذرا كمن قد أجرما

ويرى التعظم ان يرى متواضعا      ويرى التعاظم ان يرى متعظما

نصر الفعال على المقال كأنما        خال السؤال على النوال محرما

تجد التعبير النثري البارد المعقد، الذي لا تشع فيه صورة ولا ظل من لفظ او عبارة، ولا يسلك إيقاعه ابدا طريقه الى الحس، وليست المسألة هنا ان المعنى ذهني سلك طريقة الذهن في التعبير فحسب، ولكن يضاف إليها ان العبارة ذاتها باردة معقدة. ولعل هنا تناسقا بين طريقة التعبير والعبارة، ولكنه تناسق يخرج بهما جميعا من منطقة الشعر على العموم!

لقد آن ان نرد للفظ اعتباره على هذا الاساس. لان الإغراق في تصغير قيمته مفسد لفن الأدب كالإغراق في تضخيم هذه القيمة. ولأن فهم وظيفة اللفظ في العمل الأدبي فهما كاملا كفيل بأن يربط بين دلالته المعنوية والتصويرية والإيقاعية وبين الجو الشعوري المراد تصويره، ويلفت النظر الى المواضع الدقيقة الحساسة في تذوق الأدب والاستمتاع به.

والشعر هو أولى فنون الأدب بان يعرف للفظ قيمته على هذا الاساس.

_______________________

(1)سبق ان قلنا: ان الصور والظلال والايقاع ليست قيما تعبيرية بحتة.

 

 





دلَّت كلمة (نقد) في المعجمات العربية على تمييز الدراهم وإخراج الزائف منها ، ولذلك شبه العرب الناقد بالصيرفي ؛ فكما يستطيع الصيرفي أن يميّز الدرهم الصحيح من الزائف كذلك يستطيع الناقد أن يميز النص الجيد من الرديء. وكان قدامة بن جعفر قد عرف النقد بأنه : ( علم تخليص جيد الشعر من رديئه ) . والنقد عند العرب صناعة وعلم لابد للناقد من التمكن من أدواته ؛ ولعل أول من أشار الى ذلك ابن سلَّام الجمحي عندما قال : (وللشعر صناعة يعرف أهل العلم بها كسائر أصناف العلم والصناعات ). وقد أوضح هذا المفهوم ابن رشيق القيرواني عندما قال : ( وقد يميّز الشعر من لا يقوله كالبزّاز يميز من الثياب ما لا ينسجه والصيرفي من الدنانير مالم يسبكه ولا ضَرَبه ) .


جاء في معجمات العربية دلالات عدة لكلمة ( عروُض ) .منها الطريق في عرض الجبل ، والناقة التي لم تروَّض ، وحاجز في الخيمة يعترض بين منزل الرجال ومنزل النساء، وقد وردت معان غير ما ذكرت في لغة هذه الكلمة ومشتقاتها . وإن أقرب التفسيرات لمصطلح (العروض) ما اعتمد قول الخليل نفسه : ( والعرُوض عروض الشعر لأن الشعر يعرض عليه ويجمع أعاريض وهو فواصل الأنصاف والعروض تؤنث والتذكير جائز ) .
وقد وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي للبيت الشعري خمسة عشر بحراً هي : (الطويل ، والبسيط ، والكامل ، والمديد ، والمضارع ، والمجتث ، والهزج ، والرجز ، والرمل ، والوافر ، والمقتضب ، والمنسرح ، والسريع ، والخفيف ، والمتقارب) . وتدارك الأخفش فيما بعد بحر (المتدارك) لتتم بذلك ستة عشر بحراً .


الحديث في السيّر والتراجم يتناول جانباً من الأدب العربي عامراً بالحياة، نابضاً بالقوة، وإن هذا اللون من الدراسة يصل أدبنا بتاريخ الحضارة العربية، وتيارات الفكر العربية والنفسية العربية، لأنه صورة للتجربة الصادقة الحية التي أخذنا نتلمس مظاهرها المختلفة في أدبنا عامة، وإننا من خلال تناول سيّر وتراجم الأدباء والشعراء والكتّاب نحاول أن ننفذ إلى جانب من تلك التجربة الحية، ونضع مفهوماً أوسع لمهمة الأدب؛ ذلك لأن الأشخاص الذين يصلوننا بأنفسهم وتجاربهم هم الذين ينيرون أمامنا الماضي والمستقبل.