أقرأ أيضاً
التاريخ: 7-5-2019
1725
التاريخ: 9-1-2017
3498
التاريخ: 23-4-2019
1874
التاريخ: 16-8-2020
2419
|
الأمل:
الإنسان يعيش في الحاضر مشدوداً بين وَتَرَيْن: (الماضي والمستقبل) ، فهو لا يَنِي يحمل الماضي في وَعْيهِ، وفي ذاكرته، وفي تركيب جسده، مثقلاً بأحزانه وأفراحه، ومخاوفه وآماله، مندفعاً بها نحو المستقبل، يضيء عينَيه نورُ الأمل الّذي يغمر قلبَه بالحياة الأفضل. ولكنّه أمل معذّب بالحيرة، والقلق، والمخاوف من خيبات الأمل.
وهذه الحقيقة بارزة في تكوين وحياة الإنسان الفرد بوضوح، وهي لا تقلّ وضوحاً في حياة الأمم والشّعوب والجماعات.
* وقد وقف الإسلام في تعليمه التّربوي الإيماني للأفراد في وجه الميل إلى الإغراق في الأمل:
- لأنّه حين يشتدّ ويغلب على مزاج الإنسان يجعله غير واقعي، ويحبسه في داخل ذاته، وينمي فيه الشّعور بـ (الأنا) على نحو لا يعود الآخرون موضوعاً لاهتمامه وعنايته أو يجعله قليل الاهتمام بهم، وهذا أمر مرفوض في دين يجعل الاهتمام الشّخصي بالآخرين أحد المقوّمات الأساسيّة للشّخصيّة الإنسانيّة السّليمة.
- ولأنّ الإغراق في الأمل يحول بين الإنسان وبين كثير من فرص كثيرة للتّكامل الرّوحي والأخلاقي.
والنّصوص القرآنيّة في هذا الشّأن كثيرة، كذلك النّصوص النّبويّة الواردة في السُنّة. وقد حفلتْ مواعظ الإمام عليّ في نهج البلاغة بالتّحذير من الاسترسال مع الآمال (١) .
وهذا لا يعني - بطبيعة الحال - أنّ تأميل الإنسان في مستقبله - باعتدال وواقعيّة - ممارسة غير أخلاقيّة في الإسلام، كيف وقد حذّر اللّه تعالى في القرآن الكريم من اليأس ونهى عنه في آيات تُذَكّر برحمة اللّه ورَوح اللّه، ومن ذلك تعليم (يعقوب) سلام اللّه عليه لِبَنِيْهِ حين أمرهم بالبحث عن يوسف وأخيه، وذلك كما ورد في قوله تعالى:
( يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ) (2) .
فإنّ (يعقوب) طِبْق مبدأ مشروعيّة الأمل العام المطلق على حالة فرديّة هي حالته وحالة بَنِيْه.
وإذن، فالأمل - في نطاق الواقع - حقيقة كيانيّة في الإنسان، قد يكون فقدانها ظاهرة مرضيّة نفسيّة وليس علامة عافية.
هذا على الصّعيد الفردي.
وأمّا على الصّعيد الجماعي في الأمم والشّعوب والجماعات فإنّ الأمل عامل هامّ جدّاً وأساسي في تنشيط حركة التّاريخ وتسريعها، وجعلها تتغلب بِيُسر على ما يعترضها من صعوبات ومعوّقات.
والأمل الموضوعي القائم على اعتبارات عمليّة تنبع من الجهد الإنساني، واعتبارات عقيديّة وروحيّة... هذا الأمل يشغل حَيِّزاً هامّاً وأساسيّاً في تربية اللّه تعالى للبشريّة السّائرة في حياتها على خطّ الإيمان السّليم.
وقد اشتمل القرآن الكريم على آيات محكمات، تتضمّن وَعْد اللّه تعالى بالنّصر والعزّة لأهل الإيمان وقادتهم من الأنبياء والتّابعين لهم بإحسان.
قال اللّه تعالى:
( إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ ) (3) .
وقال تعالى:
( وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ) (4) .
وقال تعالى:
( إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) (5) .
وقد وجّه اللّه تعالى في القرآن الكريم رسوله محمّداً (صلّى الله عليه وآله) والمسلمين إلى أنّ الأمل بالنّصر والحياة الأفضل يجب أنْ يبقى حيّاً نابضاً دافعاً إلى العمل حتّى في أحلك ساعات الخذلان والهزيمة وانعدام النّاصر... لقد كانت الآمال بالنّصر تتحقّق في النّهاية على أروع صُوَرِهَا حين يُخالِج اليأس قلوبَ أهل الإيمان، وحين يصل الرّسل الكرام إلى حافّة اليأس:
( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآَخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلاَ تَعْقِلُونَ * حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ * لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) (6) .
إنّ الأمل الجماعي بمستقبلٍ أكثر إشراقاً وأقلّ عذاباً، أو مستقبل مُتْرَع بالفرح خالٍ من المنغّصات... إنّ هذا الأمل يستند إلى (وعد إلهي) ، فهو - إذن - ليس مغامرة في المستقبل، وإنّما هو سير نحو المستقبل على بصيرة.
وهو أمل يرفض الواقع التّجريبي الحافل بالمعوّقات نحو مستقبل مثالي مشروط (بالعمل) المخلص في سبيل اللّه، وفي سبيل اللّه بناء الحياة، وعمارة الأرض، وإصلاح المجتمع. كما أنّ هذا المستقبل مشروط (بالصّبر) على الأذى في جنب اللّه، و (الصدق) في تناول الحياة والتعامل معها ومع المجتمع و (الرّضا) بقضاء اللّه تعالى.
والسُنّة حافلة بالنّصوص الّتي تغرس في قلب الإنسان روح الأمل، وتملأ وَعْيه ببشائر المستقبل الأفضل، استناداً إلى وعد اللّه تعالى.
والتّأمّل العميق الواعي في نصوص الكتاب الكريم والسُنّة الشّريفة الّتي تفصح عن العلاقة بين اللّه والإنسان، وتكشف عن طبيعة هذه العلاقة... كذلك التّأمّل في الفقه المبني على هذَين الأصلين...
* إنّ هذا التأمّل يكشف عن أنّ العلاقة بين اللّه والناس مبنيّة على ثلاث حقائق ربّانيّة يقوم عليها وجود المجتمع البشري، وديمومته، ونموّه، وتقدّمه:
١ - الحقيقة الأولى:
هي الإنعام المطلق غير المشروط بشيء على صعيد الشّروط المادِّيّة للحياة بما يكفل لها الدّيمومة والنموّ التّصاعدي نحو الأفضل، فقد خلق اللّه الإنسان، وزوّده بالمواهب العقليّة والنّفسيّة والرّوحيّة، الّتي تتيح له أنْ يتعامل مع الطّبيعة المسخَّرة له، وتمكِّنه من اكتشاف خيراتها وكنوزها، ومعرفة قوانينها، وتوجيه هذه الاكتشافات والمعارف لخدمة نفسه ونوعه.
٢ - الحقيقة الثّانية:
هي الرّحمة الّتي (كتبها اللّه على نفسهِ) (7) والّتي (وسعت كلّ شيء) (8) ، وإقالة العثرات - على صعيد الأمم والجماعات والمجتمعات، والأفراد -، والتّجاوز عن الخطايا والسّيئات، ومنع الفرص المتجدّدة لتصحيح السّلوك، وتقويم الاعوجاج، والتّوبة والإنابة إلى اللّه تعالى والعمل بقوانينه وشرائعه.
وهذه الحقيقة نابعة من معادلة تقابل بين حقيقَتَين كونِيَّتَيْن:
أ - خيريّة اللّه الشّاملة المطلقة.
ب - الحقيقة الموضوعيّة الثّابتة في الفكر الإسلامي، وهي أنّ الإنسان خُلِق ضعيفاً (9) .
وما يخالف هذه الحقيقة من الآلام والكوارث فهو على قسمين:
الأوّل:
ناشئ عن عمل الطّبيعة وقوانينها، وهي قوانين تعمل في غرضها الأقصى لخير الجنس البشري بصورة شاملة وغير مقيّدة بزمان أو رقعة جغرافيّة، وهذا ما يجعلها قوانين عادلة وإنْ أصابتْ بالآلام بعضاً من البشر في زمان بِعَيْنه أو مكان بِعَيْنه.
وهذا بالنّسبة إلى الكوارث الطّبيعية الّتي تحصل بغير تدخّل من الإنسان أو تقصير منه. أمّا ما يحدث في الطّبيعة نتيجةً لعمل الإنسان نفسه أو سلبيّته، أو عدم التزام بالقوانين (في عصرنا الحاضر: ثلويث البيئة، مثلاً، أو روح الاستغلال والعدوان في المجتمعات الصّناعيّة ضدّ العالَم الثّالث، مثلاً) ... هذا النّوع من الكوارث يدخل في القسم الثّاني التّالي.
الثّاني:
ناشئ عن سوء اختيار الإنسان، واستعجاله الخير قبل توفّر شروطه ونضجها، ومن عدوان بعضه على بعض.
٣ - الحقيقة الثّالثة:
هي البشارة من اللّه تعالى بأنّ أمور الحياة والمجتمع تصير إلى أفضل وأحسن ممّا عليه في الحاضر. ولكنّ هذه البشارة لا تتحقّق بطريقة إعجازيّة محضة. إنّ تحقيق البشارة يتمّ وفاء بالوعد الإلهي، ومِن ثمّ ففيها عنصر غَيْبي غير تجريبي، ولكنّ تحقيقها مشروط بالعمل البشري:
( إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا ) (10) .
( وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الأَلْبَابِ ) (11) .
( وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيرًا ) (12) .
من هذا المنطلق الثّابت في الفكر الإسلامي، ومن البشائر المحدّدة في الكتاب الكريم والسُنّة النّبويّة بفرج شامل آت في النهاية يملأ عدلاً بعد ما ملئت ظُلماً وجوراً من هذا المنطلق، ومن هذه البشائر كان أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السّلام) يرى نور الأمل في المستقبل، وكان يبشّر بأنّ فرجاً آتياً لا ريب فيه:
إنّ حركة التاريخ تقضي به، وإنّ وعد اللّه يقضي به، واللّه لا يخلف الميعاد.
وقد كانت رؤية الإمام لحركة التاريخ في المستقبل لا تقتصر على رؤية النّكبات والكوارث - كما توحي بذلك كثرة النّصوص الحاكية عن ذلك في نهج البلاغة - وإنّما تشمل البشائر أيضاً، وقد تقدّم في الحديث عن (المعاناة) وعن (الثورة) بعض النّصوص الدّالّة على ذلك.
وكانت رؤية الإمام: دقيقة، محدّدة، مضيئة واضحة المعالم.
في نطاق الخطوط الكبرى والتّيّارت الأساسيّة لحركة التاريخ، وإنْ لم تشتمل على التّفاصيل، من ذلك هذا الشاهد على رؤيته لحركة الثّورة العادلة الّتي لا تنطفئ مهما تكالبتْ عليها الرّياح الهوج، فقد قال له بعض أصحابه، لمّا أَظْفَرَه اللّه بأصحاب الجَمَل: (وَدَدْتُ أنّ أخي فلاناً كان شاهدنا ليرى ما نصرك اللّه به على أعدائك).
فقال له الإمام (عليه السلام): (أهوى أخِيك معنا (14) ؟) فقال: نعم.
قال: (فقد شَهِدَنَا في عسكِرنا هذا أقوامٌ في أصلاب الرِّجال وأرحامِ النِّساء سيرعفُ بهِمُ الزَّمانُ (15) ويقوى بهمُ الإيمانُ) (16) .
هذا الأمل الكبير الآتي الّذي يبشّر به الإمام (عليه السّلام) يتمثّل في قيام ثورة عالميّة تصحّح وضْع عالَم الإسلام، ومن ثمّ وضْع العالَم كلّه، يقودها رجل من أهل البيت هو: (الإمام المهدي) . وقد وردت في نهج البلاغة نصوص قليلة نسبيّاً تحدّد بعض ملامح هذا الأمل.
فمن ذلك قوله عليه السّلام:
(... حتَّى يُطلِع اللّه لكُم مَن يجمعُكُم، ويضُمُّ نشرَكُم (17) ) (18) .
والعقيدة بالمهدي عقيدة إسلاميّة ثابتة أجمع عليها المسلمون بأسرهم، ودلّ عليها القرآن الكريم في جملة آيات، والسُنّة الشّريفة في مئات الأحاديث المتواترة عن رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) وأئّمة أهل البيت.
قال (ابن أبي الحديد) في التّعليق على النّصّ الآنف:
(ثمّ يطلع اللّه لهم مَن يجمعهم ويضمّهم، يعني من أهل البيت (عليه السّلام). وهذا إِشارة إلى المهديّ الّذي يظهر في آخر الوقت. وعند أصحابنا إنّه غير موجود الآن وسيوجد، وعند الإماميّة إنّه موجود الآن).
وقال (ابن أبي الحديد) في التّعليق على نصّ آخر مماثل للنّصّ الآنف:
(فإنْ قيل: ومن هذا الرّجل الموعود الّذي قال (عليه السّلام) عنه: (بأبي ابن خِيْرَة الإِمَاء)؟
قيل: أمّا الإماميّة فيزعمون أنّه إمامهم الثّاني عشر، وأنّه ابن أَمَة اسمها (نرجس) .
وأمّا أصحابنا فيزعمون أنّه فاطمي، يُولَد في مستقبل الزّمان لأمّ وَلَد (19) وليس بموجود الآن) (20) .
* ومن النّصوص الّتي اشتمل عليها نهج البلاغة في هذا الشأن قول الإمام:
(أَلاَ وفي غدٍ - وسيأتي غد بما لا تعرِفُون - يأُخُدُ الوالي من غيرِها عُمَّالها على مساوئ أعمالِها، وتُخرِجُ لهُ الأرضُ أفاليذ كبدِها (21) ، وتُلقي إليه سِلماً مقاليدها، فيُريكُم كيف عدلُ السِّيرةِ، ويُحيِي ميِّتَ الكِتابِ والسُّنَّةِ) (22) .
هذا الأمل المضيء في الظلمات ليس أملاً قريباً إذا نظرنا إليه بمنظار آمال الأفراد - كلّ واحد بخصوصه -، فقد يمضي الموت بالأفراد دون أنْ تكتحل عيونهم بفجر هذا الأمل... إنّه بالنّسبة إليهم - كأفراد - بعيد... بعيد.
كذلك هو أمل بعيد بالنّسبة إلى كلّ مجتمع بمفرده وخصوصه، فقد تمضي القرون على مجتمع دون أنْ يحقّق في نظامه، ومؤسّساته هذا الأمل العظيم... ولكنّ هذا الأمل على مستوى النّوع
البشري كلّه أمل قريب؛ لأنّ الأحداث الّتي تغيّر مسار الجنس البشري كلّه لا تُقاس بأعمار الأفراد أو الجماعات أو المجتمعات ولا بالحركة التاريخيّة في هذا النّطاق أو ذاك أو ذيّاك، وإنّما تُقاس بما تناسب مع حجم النّوع الإنساني كلّه، ومع حركة التّاريخ العالمي كلّها... إنّ ألف سنة - مثلاً - في عُمْر فردٍ زمنٌ كبير طويل... كذلك الحال بالنّسبة إلى عُمْر حركة تاريخيّة في مجتمع من المجتمعات، ولكنّ ألف سنة في عُمْر البشريّة كلّها زمن قصير بالنّسبة إلى فترات التّحوّل التّاريخيّة الكبرى، الّتي أدخلتْ تغييراً أساسيّاً على المسار التّاريخي للجنس البشري كلّه، فنقلتْه من مستوى معين إلى مستوى أعلى منه مرتبة ونوعيّة. إنّ فترات التّحوّل التّاريخيّة الكبرى - كما نعلم - تستغرق أُلوف السّنين، أو - بالأحرى - عشرات الأُلوف من السّنين... إنّها حركة التّاريخ الكبرى (23) .
وفي انتظار أنْ تَنْجُز حركة التّاريخ الكبرى عَمَلَها في نقل الإنسانيّة إلى مستوى أعلى لم تفلح في بلوغه من قبل.. في انتظار ذلك تستمر حركة التاريخ في دوائرها الصّغرى في العمل على تغيير حال البشر: أفراداً، وجماعات، ومجتمعات، ومجموعات إقليميّة.
إنّ حركة التّاريخ في دوائرها الصّغرى تغيّر الإنسان نحو الأفضل على الصّعيد المادّي كما يثبت ذلك الواقع التّجريبي، ولكنّها لا تغيّره نحو الأفضل دائماً على الصّعيد المعنوي والأخلاقي، بل قد تعود به إلى الوراء كما يثبت الواقع التّجريبي أيضاً، وبالنّسبة إلى كثير من مظاهر حضارة عصرنا بشكل خاص.
والمسؤول عن التّخلف المعنوي للبشر ليس القَدَر، إنّه إرادة البشر أنفسهم، فإنَّ العالَم الأخلاقي لدى الفرد والمجتمع ليس عالَمَاً معطى وجاهزاً يأخذه الناس كما يستعملون الوصفات الطّبيّة أو المعادلات الرّياضيّة، إنّما يتمّ بناؤه بالمعاناة اليوميّة للناس مع شهواتهم ورغائبهم الشّرّيرة، ومجاهدتهم لأنفسهم من أجل التغلّب عليها. إنّ العالَم الأخلاقي ليس سهل البناء كالعالَم المادِّي التّجريبي؛ لأنّه تجاوز الإنسان لنفسه باستمرار نحو إنسانيّة أغنى وأعلى، ومن هنا فإنّ العالم الأخلاقي يبني التّعامل مع المستحيل، وكأنّه ممكن، إنّه في التكوين دائماً؛ لأنّ الإنسان كلّما بلغ ذروة جديدة في تكامله المعنوي لاَحَتْ لعينيه ذروة أسمى وأعلى.
وإذن، فالبشر، بانتظار أنْ يتحقّق هذا الأمل العظيم، لا يجوز أنْ يجمدوا وإنّما عليهم أنْ يتحرّكوا في أُطُر دوائر التاريخ الصّغرى نحو بلوغ ذرى إنسانيّة جديدة أعلى مِمّا بلغوه في كفاحهم الدّائب نحو مزيد من الكمال والنّور.
وإذن، فالمسلمون، باعتبار أنّ هذا الأمل العظيم سيتحقّق بإذن اللّه في نطاقهم بما هم جماعة بشريّة عقيديّة ومن خلال الإسلام نفسه بما هو دينهم،... المسلمون ينتظرون هذا الأمل العظيم قبل غيرهم من الجماعات العقيديّة في المجتمع البشري.
وقد ارتكز في أذهان الكثيرين ممّن عالجوا موضوع المهديّ والمهدويّة أنّ هذا المعتقد... هذا الأمل العظيم الثّابت بمقتضى وَعْد اللّه في الكتاب والسُنّة، والثّابت بمقتضى حركة التاريخ الكبرى... أنّ هذا المعتقد عامل سلبي في حركة التّقدّم والنّموّ يعوّقها، ويبعث على السكون، ويُقْعِد بالناس عن الحركة والسّعي نحو التّكامل المادِّي والمعنوي في انتظار أمل آتٍ ينقذ البشر بالمعجزة، ينقذ البشر بغير جهد البشر.
وربّما تكون بعض المظاهر في تاريخ عالم الإسلام تعزِّز هذا الاتّهام، ولكنّ الحقيقة هي أنّ هذا اللون من الانتظار السّلبي المريض دخل على ذهنيّة الإنسان نتيجةً لانتكاس حضاري تسلّل إليه من بعض الثّقافات الأجنبيّة عن الإنسان، فَشَلَّ قدرته على العمل؛ لأنّه شلّ إرادته وفعاليَّته وحوّله إلى حياة التّأمّل والقناعة والاستسلام.
أمّا الحقيقة فهي على خلاف ذلك، إنّ الانتظار - نتيجة لهذا المعتقد - هو انتظار إيجابي فعّال، هو تهيّؤ واستعداد، هو كدح دائم ومستمر يجب أنْ يطبع حركة تاريخ الإنسان المسلم نحو توفير أفضل الشّروط الّتي تهيِّئ لهذا الأمل العظيم أحسن ظروف النّجاح والتّحقّق.
لقد رأينا أنّ حركة التّاريخ في دوائرها الصّغرى لا تتوقّف، ونوع هذه الحركة - تقدّميّة صاعدة أو رجعيّة هابطة (على صعيد المعنويّات والأخلاق) - يتوقّف على إرادة البشر أنفسهم، فهم الّذين يبنون عالمهم الأخلاقي الأمثل وهو لا يبنى إلاّ بالعمل الإيجابي الّذي يحرّكه الطموح نحو إنسانيّة أفضل.
___________________
(1) راجع: دراسة موسّعة ومعمِقة عن هذا الموضوع في فصل (الوعظ) من كتابنا: (دراسات في نهج البلاغة) / الطّبعة الثّالثة.
(2) سورة يوسف: (مكّيّة / ١٢) الآية: ٨٧.
(3) سورة المؤمن: (مكّيّة / ٤٠) الآية: ٥١.
(4) سورة الأنبياء: (مكّيّة / ٢١) الآية: ١٠٥.
(5) سورة الأعراف: (مكِّيّة / ٧) الآية: ١٢٨.
(6) سورة يوسف: (مكّيّة / ١٢) الآيات: ١٠٩ - ١١١.
(7) قال تعالى: ( قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ) سورة الأنعام: (مكِّيّة/٦) الآية ١٢ وقال تعالى: ( وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) سورة الأنعام: (مكّيّة / ٦) الآية: ٥٤.
(8) قال تعالى: ( ... ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ) سورة الأنعام: (مكِّيّة / ٦) الآية: ١٤٧.
وقال تعالى: ( قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ ) سورة الأعراف: (مكِّيّة / ٧) الآية: ١٥٦.
وقال تعالى: ( رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ) سورة المؤمن: (مكِّيّة / ٤٠) الآية: ٧.
(9) قال اللّه تعالى: ( يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا ) سورة النّساء: (مدنيِّة / ٤) الآية:٢٨.
(10) سورة الإسراء: (مكِّيّة / ١٧) الآية: ٩.
(11) سورة الزّمر: (مكّيّة / ٣٩ ) الآية: ١٧ - ١٨.
(12) سورة الأحزاب: (مدنيّة / ٣٣) الآية: ٤٧.
(13) الهوى: الميل والرّغبة، يعني هنا الموقف السّياسي.
(14) يرعف بهم: يوجدون في المجتمع من غير أنْ يتوقّع وجودهم؛ لاختلافهم النّوعي الأساسي عن الأخلاقيّة والذّهنيّة السّائدة في المجتمع، فَيُفَاجَأ المجتمع بوجودهم. كما يفاجِئ الرّعافُ صاحبَه.
(15) نهج البلاغة: رقم النّصّ: ١٢.
(16) يضم نشركم: يجمع شتاتكم ويوحّد مواقفكم في حركة تاريخيّة واحدة.
(17) نهج البلاغة: رقم النّصّ: ١٠٠.
(18) (ابن أبي الحديد) : شرح نهج البلاغة: ٧ / ٩٤.
(19) أُمّ ولد: كناية عن الأَمَة المَمْلُوْكَة.
(20) المصدر السابق: ٧ / ٥٩.
(21) الفلذة: القطعة. والكبد في المعتقد الطّبّي القديم من أشرف أعضاء الإنسان وأكثرها أهمّيّة في بقائه وصحته، فهي تخرج الأرض: أفضل كنوزها وثرواتها.
(22) نهج البلاغة: رقم النّصّ: ١٣٨.
(23) لعلّ (ابن أبي الحديد) قد طافت بذهنه هذه الفكرة حين قال معلِّقاً على أحد نصوص نهج البلاغة بهذا الشّأن:
(ثمّ وعدهم بقرب الفرج، فقال: إنّ تكامل صنائع اللّه عندكم، ورؤية ما تأملونه أمر قد قرب وقته، وكأنّكم بعد قد حضر وكان، وهذا على نمط المواعيد الإلهيّة بقيام السّاعة، فإنّ الكتب المنزَلة كلّها صرّحت بقربها، وإنْ كانت بعيدة عنّا؛ لأنّ البعيد في معلوم اللّه قريب، وقد قال سبحانه: ( إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا ) ) شرح نهج البلاغة: ٧ / ٩٥.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|