أقرأ أيضاً
التاريخ: 30-9-2020
5398
التاريخ: 1-10-2020
3933
التاريخ: 2-10-2020
6293
التاريخ: 1-10-2020
4052
|
قال تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43) وَلَو جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُو لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُو عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت : 39] .
تفسير مجمع البيان
- ذكر الطبرسي في تفسير هذه الآيات (1) :
ذكر سبحانه دلالات التوحيد فقال {ومن آياته} أي حججه الدالة على وحدانيته وأدلته على صفاته التي باين بها جميع خلقه {الليل} بذهاب الشمس عن بسيط الأرض {والنهار} بطلوعها على وجهها وتقديرهما على وجه مستقر وتدبيرهما على نظام مستمر {والشمس والقمر} وما اختصا به من النور وظهر فيهما من التدبير في المسير والتعريف في فلك التدوير {لا تسجدوا للشمس ولا للقمر} وإن كان فيهما منافع كثيرة لأنهما ليسا بخالقين {واسجدوا لله الذي خلقهن} وأنشأهن وإنما قال {خلقهن} لوجهين ( أحدهما ) أن ضمير غير ما يعقل على لفظ التأنيث تقول هذا كباشك (2) فسقها وإن شئت قلت فسقهن ( والآخر ) أن الضمير يرجع إلى معنى الآيات لأنه قال {ومن آياته} هذه الأشياء {واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون} إن كنتم تقصدون بعبادتكم الله كما تزعمون فاسجدوا لله دون غيره .
ثم قال {فإن استكبروا} عن توجيه العبادة إلى الله وحده {فالذين عند ربك} وهم الملائكة {يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون} أي لا يملون ولا يفترون وهو مفسر في سورة الأعراف والمروي عن ابن عباس وقتادة وابن المسيب أن موضع السجود عند قوله {وهم لا يسأمون} وعن ابن مسعود والحسن أنه عند قوله {إن كنتم إياه تعبدون} وهو اختيار أبي عمرو بن العلا وهو المروي عن أئمتنا (عليهم السلام) .
{ومن آياته} أي من أدلته الدالة على ربوبيته {أنك ترى الأرض خاشعة} أي غبراء دارسة متهشمة عن قتادة والسدي أي كان حالها حال الخاضع المتواضع وقيل ميتة يابسة لا نبات فيها قال الأزهري إذا يبست الأرض ولم تمطر قيل قد خشعت {فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت} أي تحركت بالنبات {وربت} أي انتفخت وارتفعت قبل أن تنبت وقيل {اهتزت} بالنبات {وربت} بكثرة ريعها عن الكلبي {إن الذي أحياها} أي أحيا الأرض بما أنزله من المطر {لمحي الموتى} في الآخرة مثل ذلك {إنه على كل شيء قدير} ظاهر المعنى .
{إن الذين يلحدون} أي إن الذين يميلون من الإيمان ب آياتنا {لا يخفون علينا} بأشخاصهم وأقوالهم وأفعالهم وهذا وعيد عن قتادة وابن زيد والسدي وقد قيل أن معنى الإلحاد في آيات الله هوما كانوا يفعلونه من المكاء والصفير عن مجاهد وقيل : هو تبديلهم ذلك ووضعه في غير موضعه عن ابن عباس وقال بعض المفسرين أن المراد بالآيات هنا دلالات التوحيد والإلحاد فيها الانحراف عنها وترك الاستدلال بها .
ثم قال سبحانه على وجه الإنكار عليهم والتهجين لفعلهم والتهديد لهم {أ فمن يلقى في النار خير} وهم الملحدون {أم من يأتي آمنا يوم القيامة} من عذاب الله وهم المؤمنون المطيعون وهذا استفهام تقرير معناه أنهما لا يستويان وقيل إن الذي يلقى في النار أبو جهل والذي يأتي آمنا يوم القيامة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) عن مقاتل وقيل : هو عمار بن ياسر عن عكرمة والصحيح أن الآية على العموم والمراد بهما المؤمن والكافر .
ثم قال سبحانه {اعملوا ما شئتم} لفظه لفظ الأمر ومعناه الوعيد والتهديد أي فإذا علمتم أنهما لا يستويان فليختر كل واحد منكم لنفسه ما شاء من الأمرين فإن العاقل لا يختار الإلقاء في النار فإذا لم يختر ذلك فلا بد أن يؤمن بالآيات فلا يلحد فيها {إنه بما تعملون} أي بأعمالكم {بصير} عالم لا يخفى عليه شيء منها .
ثم أخبر سبحانه عنهم مهجنا لهم فقال {إن الذين كفروا بالذكر} الذي هو القرآن وجحدوه {لما جاءهم} أي حين جاءهم ثم أخذ سبحانه في وصف الذكر وترك خبر إن على تقدير إن الذين كفروا بالذكر يجازون بكفرهم ونحو ذلك وقيل إن خبره أولئك ينادون من مكان بعيد عن أبي عمرو بن العلا وقيل إن قوله {وإنه لكتاب عزيز} في موضع الخبر والتقدير الكتاب الذي جاءهم عزيز وأما قوله {وإنه} فالهاء يعود إلى القرآن الذي هو الذكر والمعنى إن الذكر لكتاب عزيز بأنه لا يقدر أحد من العباد على أن يأتي بمثله وقيل إنه عزيز بإعزاز الله عز وجل إياه إذا حفظه من التغيير والتبديل وقيل هو عزيز إذ جعله الله على أتم صفات الأحكام وقيل عزيز بأنه يجب أن يعز ويجل بالانتهاء إلى ما فيه وترك الإعراض عنه وقيل عزيز أي كريم على الله عز وجل عن ابن عباس .
{لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه} قيل فيه أقوال ( أحدها ) إن الباطل الشيطان ومعناه لا يقدر الشيطان أن ينقص منه حقا أو يزيد فيه باطلا عن قتادة والسدي ( وثانيها ) إنه لا يأتيه ما يبطله من بين يديه أي من الكتب التي قبله ولا من خلفه أي لا يجيء من بعده كتاب يبطله أي ينسخه عن ابن عباس والكلبي ومقاتل ( وثالثها ) معناه أنه ليس في إخباره عما مضى باطل ولا في إخباره عما يكون في المستقبل باطل بل إخباره كلها موافقة لمخبراتها وهو المروي عن أبي جعفر (عليه السلام) وأبي عبد الله (عليه السلام) ( ورابعها ) لا يأتيه الباطل من أول تنزيله ولا من آخره عن الحسن و( خامسها ) لا يأتيه الباطل من جهة من الجهات فلا تناقض في ألفاظه ولا كذب في أخباره ولا يعارض ولا يزاد فيه ولا يغير بل هو محفوظ حجة على المكلفين إلى يوم القيامة ويؤيده قوله {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} و{تنزيل من حكيم} أي هو تنزيل من عالم بوجوه الحكمة {حميد} مستحق للحمد على خلقه بالإنعام عليهم والقرآن هومن أعظم نعمه فاستحق به الحمد والشكر .
ثم عزى سبحانه نبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) على تكذيبهم فقال {ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك} أي ما يقول هؤلاء الكفار لك إلا ما قد قيل للأنبياء قبلك من التكذيب والجحد لنبوتهم عن قتادة والسدي والجبائي وقيل معناه ما يقول الله لك إلا ما قد قاله للرسل من قبلك وهو الأمر بالدعاء إلى الحق في عبادة الله ولزوم طاعته فهذا القرآن موافق لما قبله من الكتب وقيل معناه ما حكاه تعالى بعده من {إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم} فيكون على جهة الوعد والوعيد أي أنه لذو مغفرة لمن آمن بك وذو عقاب أليم لمن كذب بك .
{ولو جعلناه قرآنا أعجميا} أي لو جعلنا هذا الكتاب الذي تقرؤه على الناس بغير لغة العرب {لقالوا لولا فصلت آياته} أي هلا بينت بلسان العرب حتى نفهمه {أ أعجمي وعربي} أي كتاب أعجمي ونبي عربي وهذا استفهام على وجه الإنكار والمعنى أنهم كانوا يقولون المنزل عليه عربي والمنزل أعجمي وكان ذلك أشد لتكذيبهم فبين الله سبحانه أنه أنزل الكتاب بلغتهم وأرسل الرسول من عشيرتهم ليكون أبلغ في الحجة وأقطع للمعذرة .
{قل} يا محمد لهم {هو} أي القرآن {للذين آمنوا هدى} من الضلالة {وشفاء} من الأوجاع وقيل وشفاء للقلوب من كل شك وريب وشبهة وسمي اليقين شفاء كما سمي الشك مرضا في قوله {في قلوبهم مرض} {والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر} أي ثقل وصمم عن سماعه من حيث يثقل عليهم استماعه فلا ينتفعون به فكأنهم صم عنه {وهو عليهم عمى} عميت قلوبهم عنه عن السدي يعني أنهم لما ضلوا عنه وحاروا عن تدبره فكأنه عمي لهم {أولئك ينادون من مكان بعيد} أي أنهم لا يسمعون ولا يفهمون كما أن من دعي من مكان بعيد لم يسمع ولم يفهم وإنما قال ذلك لبعد أفهامهم وشدة إعراضهم عنه وقيل لبعده عن قلوبهم عن مجاهد وقيل ينادى الرجل منهم في الآخرة بأشنع اسمه عن الضحاك .
{ولقد آتينا موسى الكتاب} أي التوراة {فاختلف فيه} لأنه آمن به قوم وكذب به آخرون وهذه تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أيضا عن جحود قومه له وإنكارهم لنبوته {ولولا كلمة سبقت من ربك} في تأخير العذاب عن قومك وأنه لا يعذبهم وأنت فيهم {لقضي بينهم} أي لفرغ من عذابهم واستئصالهم وقيل : معناه لولا حكم سبق من ربك بتأخيرهم العذاب(3) إلى وقت انقضاء آجالهم لقضي بينهم قبل انقضاء آجالهم فيظهر المحق من المبطل {وإنهم لفي شك منه مريب} أي وإن قومك لفي شك مما ذكرناه موقع لهم الريبة وهو أفظع الشك .
ثم احتج سبحانه عليهم بأن قال {من عمل صالحا فلنفسه} أي من عمل طاعة فلنفسه لأن ثواب ذلك واصل إليه ومنفعته تكون له دون غيره {ومن أساء فعليها} أي من عمل معصية فعلى نفسه وبال ذلك وعقابه يلحقه دون غيره {وما ربك بظلام للعبيد} وهذا على وجه المبالغة في نفي الظلم عن نفسه للعبيد وإنما قال ذلك مع أنه لا يظلم مثقال ذرة لأمرين ( أحدهما ) أن من فعل الظلم وإن قل وهو عالم بقبحه وبأنه غني عنه لكان ظلاما ( والآخر ) أنه على طريق الجواب لمن زعم أنه يظلم العباد فيأخذ أحدا بذنب غيره ويثيبه بطاعة غيره .
________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج9 ، ص25-30 .
2- جمع كبش : وهو الحمل اذا دخل في السنة الثانية .
3- ليس في بعض النسخ لفظة ((العذاب)) .
تفسير الكاشف
- ذكر محمد جواد مغنية في تفسير هذه الآيات (1) :
الرحلة إلى القمر :
{ومِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ والنَّهارُ والشَّمْسُ والْقَمَرُ} . ذكر سبحانه في كتابه العزيز العديد من الآيات الكونية ودلالتها على الخالق وصفاته ، ومن تلك الآيات اختلاف الليل والنهار ، وخلق الشمس والقمر . انظر تفسير الآية 27 من سورة آل عمران ج 2 ص 37 وتفسير الآية 37 وما بعدها من سورة يس والآية 5 من سورة الزمر وغيرها من الآيات التي فيها ذكر الليل والنهار والشمس والقمر .
ولمناسبة ذكر القمر في هذه الآية نشير إلى الحدث العالمي الهام ، وهو رحلة رائدي الفضاء : (ونج) و(ادوين) الأمريكيين إلى القمر في صيف سنة 1969 ، وقد تكلم الناس عنها كثيرا ، وسألني أكثر من واحد عن رأي الدين في هذه الرحلة ، وأجبت بكلمة نشرتها الصحف ، ثم أدرجتها في المجلد الخامس من التفسير الكاشف بمناسبة بعض الآيات ، ولما وصل إليها عامل المطبعة شعرت من أعماقي بناصح يأمرني بالعدول عنها فاستنصحته دون ان أعرف السبب .
وبعد الانتهاء من طبع المجلد الخامس بقليل ظهر لي ان الخير فيما وقع ، ذلك اني قرأت في جريدة الأخبار المصرية عدد 6 - 2 - 1970 مقالا مترجما عن جريدة برافدا السوفيتية لعالمين بارزين في العلوم الطبيعية ، وهما (م فاسين) و(أشر باكوف) السوفياتيان . . اطلع هذان العالمان على النتائج التي أعلنها العلماء الامريكيون لدراسة تربة القمر والمعادن الموجودة في أرضه ، وقالا : (ان هذه الدراسة ترفض كل النظريات الشائعة عن أصل القمر ، ولا تقبل إلا تفسيرا واحدا ، وهوان القمر مصنوع صنعا دقيقا ومحكما ، وان الذي صنعه قوة خارقة مذهلة تملك من الطاقات ما لا يملكه كائن من الكائنات) ، وينتج من هذا ان ما يعتقده الماديون عن الكون هو مجرد أوهام ، ونقتطف من هذا المقال الكلمات التالية :
(ان الدراسات العلمية الحديثة ترفض كل ما قيل من النظريات والافتراضات عن نشأة القمر ، وتبدأ بفكرة جديدة لحل هذا اللغز . . وتقول هذه الفكرة الجديدة :
ان صناعة القمر تمت بأيدي (كائنات) متقدمة في علومها وآلاتها الفنية . . ثم (فرملت) حركته بواسطة الأجهزة البالغة التقدم بداخله . . ان في القمر ظواهر غريبة يستحيل أن توجد بالصدفة ، وقد اجتهد صانعو القمر كثيرا حتى توصلوا إليها) .
(ان الغلاف الخارجي للقمر يتكوّن من طبقتين أساسيتين : الأولى طبقة عازلة للحرارة ، سمكها حوالي 4 كيلومترات ، والثانية سمكها 300 كيلومتر ، وفوقها أجهزة وآلات مختلفة تم تصميمها لحماية المحركات . فالقمر - إذن - مذهل الصنع يستطيع تحمّل السفر الطويل والتواجد في مكانه ملايين الملايين من السنين . ولكن يبقى هذا السؤال قائما ، وهو إذا كان القمر قد صنعته (كائنات عاقلة متقدمة) فمن أين جاءت هذه الكائنات ؟ ولما ذا تكبدت هذا المجهود لصنع هذا الكوكب ؟
ألمجرد ان يدور حول كوكبنا بالذات ؟ . وهنا لا تقدم النظرية الجديدة إجابات . .
ولكنها تعتقد ان أقرب الافتراضات إلى العقل من أي شيء آخر هوان القمر مصنوع ، وقد أحكمت صنعه قوة مذهلة) .
هذا هو بيت القصيد وشاهدنا من المقال ، أعني قول العالمين الشيوعيين :
{ان العقل يرفض كل افتراض وتفسير لوجود القمر إلا افتراضا واحدا ، وهوان القمر مصنوع ، وان الذي صنعه قوة مذهلة} . أجل ، هو مصنوع وصانعه لا شريك له ولا مثيل ، وهندسته هي التي أرشدتنا إلى ذلك . أما قول العالمين :
صنعته كائنات متقدمة . . وفرملته أجهزة خارقة بالغة الدقة . . وان صانعيه بذلوا جهدا كبيرا في صنعه لأجل إخراجه ، أما هذا القول فإنه اعتراف صريح بأن ما في القمر من دقة وإحكام لا يكون ومحال أن يكون إلا من لدن قدير حكيم ليس كمثله شيء ، وهو الخلاق العليم . . ونحن على يقين بأننا سنقرأ في المستقبل القريب اعترافات أوضح تهدم أقوال الماديين ونظريات الملحدين ، وتثبت بالحس والتجربة ان وراء هذا الكون قوة قاهرة تقول للشيء كن فيكون . . وهذه نتيجة لا مفر منها لتقدم العلوم وانطلاق العقل نحو الكون العجيب . . وهنا يكمن السر لقوله تعالى : {أَولَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ والأَرْضِ وما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} - 185 الأعراف . وقوله : {هذا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [لقمان - 11] . وقوله : {إِنَّ فِي ذلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الرعد - 4] .
{لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ ولا لِلْقَمَرِ واسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} .
ضمير الإناث في خلقهن يعود إلى الليل والنهار والشمس والقمر ، أو إلى جميع الكواكب ، وعبّر سبحانه عنها بالشمس والقمر لأنهما أظهر الأفراد . . وقد اتفق الفقهاء قولا واحدا على أنه يجب أن يسجد قارئ هذه الآية ومن استمع إليها ، وقال بعضهم : بل ومن سمعها من غير قصد . وهي تخاطب الصابئة الذين عبدوا الكواكب لما فيها من المنافع ، تخاطبهم وتقول لهم : ان اللَّه هو الذي خلق الكواكب وسخرها لمنافع العباد ، وما هي إلا مخلوقات مثلنا تتوجه إليه تعالى بالسجود وتعترف له بالعبودية .
{فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ والنَّهارِ وهُمْ لا يَسْأَمُونَ} .
ضمير استكبروا يعود لعبدة الكواكب ، والمعنى ان أصر هؤلاء على الشرك فإن اللَّه غني عنهم وعن عبادتهم لأن له عبادا - الملائكة - لا يفترون عن التسبيح له ليلا ونهارا {ومِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ ورَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . تكرر هذا المعنى في العديد من الآيات وبأساليب شتى ، منها الآية 5 من سورة الحج ج 5 ص 311 .
{إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا} . طعن المشركون بالقرآن فقالوا : هو سحر ، وقالوا : انه أساطير . . واللَّه عليم بأقوالهم ، وسائلهم عنها ، وآخذهم بها { أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ} ؟ وهذا السؤال يحمل جوابه معه ، وأي عاقل يقول : النار خير من الجنة ، والخوف أحسن من الأمن ؟ ولكن المجرمين ذهلوا عن هذه البديهة وانهم في واقعهم قد آثروا الجحيم على النعيم ، والخوف على الأمن ( اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} .
هذا تهديد ووعيد بأنهم سيلاقون العذاب بعد أن ركبوا إليه طريق الكفر والضلال {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ} . المراد بالذكر القرآن ، وخبر ان محذوف أي معذبون .
إسرائيل والقرآن :
{وإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ ولا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} . وصف سبحانه القرآن بأنه عزيز وانه لا يأتيه الباطل ، ومعنى عزيز انه القاهر الغالب بحججه الواضحة وبراهينه القاطعة ، أما حفظه من الباطل فقد ذكر له المفسرون خمسة معاني ، وأقربها ان كل ما فيه من عقيدة وشريعة وأنباء وغيرها فهو حق لا ريب فيه . وتقدم الكلام عن ذلك مفصلا عند تفسير الآية 9 من سورة الحجر ج 4 ص 468 . وذكرنا هناك ان إسرائيل طبعت ألوف النسخ من القرآن ، وشوهت بعض الآيات ، منها الآية 85 من سورة آل عمران التي صارت في قرآن إسرائيل : ومن يبتغ غير الإسلام دينا يقبل منه . وقد حدث هذا سنة 1968 . فجمع الأزهر هذه النسخ ومنعها من الانتشار ، ولكن إسرائيل عادت ثانية وزوّرت سنة 1969 آيات أخرى منها : {وقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ ولُعِنُوا بِما قالُوا} [المائدة - 64] فغيرت إسرائيل كلمة لعنوا إلى كلمة {آمنوا} وغمرت بهذه النسخ أسواق لبنان ومعظم البلاد العربية وماليزيا وباكستان والهند وأندونيسيا وغينيا وساحل العاج وإيران . . وفي هذا اليوم بالذات 25 - 2 - 70 نشرت جريدة {النهار} البيروتية ان المحامي فاروق سعد أقام بوكالته عن مكتبة ومطبعة المشهد الحسيني بالقاهرة دعوى على مجهول بجرم تزوير طبعة القرآن الكريم وتقليدها وتحريفها وتعديلها ، وان النسخ المحرفة طبعت في ألمانيا الغربية في مطبعة (كولونيا – دويتس) .
ولم تقف إسرائيل في حربها للإسلام والمسلمين عند هذا الحد . . فأذاعت القرآن من إذاعتها محرفا ، وقد ظلت إذاعة القاهرة شهرا كاملا تسجل القرآن من إذاعة إسرائيل . . وأيضا صممت إسرائيل (راديوهات) لا تلتقط إلا إذاعتها التي تحرف القرآن وباعتها بأبخس الأثمان . . فعلت إسرائيل هذا وأكثر من هذا تطبيقا للمبدأ الصهيوني الذي أعلنه أحد زعماء الصهاينة بقوله : (يجب أن نتخذ القرآن سلاحا مشهرا ضد الإسلام لنقضي عليه) .
نذكر هذا كمثل للحرب التي تشنها إسرائيل على الإسلام . . عسى أن يعتبر به بعض الملوك والرؤساء بل وبعض الشيوخ أيضا الذين يتسمون باسم الإسلام ، ويعملون في الخفاء لصالح إسرائيل ومن يساندها . . وطريف قول بعض الشيوخ المزيفين : ان إسرائيل أحسن من غيرها لأنها تذيع القرآن من إذاعتها . . أجل ، يا شيخ انها تذيعه بل وتطبعه وتنشره أيضا ، ولكن مزيفا ومحرفا لتقضي على الإسلام تماما كبعض المعمّمين المزيفين .
{ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ} . قال مشركو الأمم السابقة لرسلهم وأنبيائهم : (قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه . . ما هذا إلا سحر مفترى . .
ان هذا إلا أساطير الأولين . . ان رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون الخ . .) وهكذا قال لك يا محمد طغاة قومك لأن الإله الذي أرسلك وأرسل من كان قبلك واحد ، ورسالته واحدة ، ومصلحة الطغاة التي تحول بينهم وبين اتباع الحق هي هي في كل زمان ومكان {إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وذُو عِقابٍ أَلِيمٍ} . جمعت الآية بين ذكر الضدين : العفو عن الذنب إذا تاب صاحبه ، والأخذ به إذا أصر عليه . . وهكذا سبحانه في الكثير من الآيات يقرن الوعد بالوعيد والترغيب بالترهيب كي يخشى العبد من عذاب اللَّه فيتقيه ، ولا يقنط من رحمته فيتوب ويؤوب .
{ولَو جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَولا فُصِّلَتْ آياتُهُ أأَعْجَمِيٌّ وعَرَبِيٌّ} . نزل القرآن على العرب بلغتهم التي يحبونها ويعتزون بها ، فقال بعض طغاتهم لبعض :
{لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه} . ولو نزل بغير لغتهم لاعترضوا وقالوا :
أنبي عربي وكتاب أعجمي ؟ هكذا يعدون لكل باب مفتاحا ، ولكل ليل مصباحا ، ولا هدف إلا الهروب من الحق .
{قُلْ هُو لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وشِفاءٌ} القرآن هدى لمن طلب الهدى والحق لوجه الحق ، وشفاء لمن طلب الشفاء من الكفر والنفاق . قال الإمام علي ( عليه السلام ) : (ان في القرآن شفاء من أكبر الداء ، وهو الكفر والنفاق والبغي) . {والَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وهُو عَلَيْهِمْ عَمًى} القرآن هدى ونور للمخلصين ، وعمى لعيون المنافقين ، وصمم لأسماعهم ، ومرض لقلوبهم {أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ} .
ناداهم القرآن في الدنيا بدعوة اللَّه فلم يستجيبوا له ، حتى كأنه لا نداء ، أوان النداء بعيد لا تسمعه الآذان . . وأيضا سوف يناديهم المنادي يوم القيامة : ألا كل حارث مبتلى في حرثه وعاقبة عمله غير حرث القرآن كما في نهج البلاغة .
وقال المفسرون : ان قوله تعالى : {مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ} إشارة إلى أنهم لا يسمعون ولا يفهمون تماما كالذي يدعى بصوت بعيد عنه لا يسمعه ولا يفهمه . . ويلاحظ بأن هذا المعنى يناقض الغرض المطلوب من النداء لأنه غير مسموع . والأرجح أن يكون قوله تعالى : من مكان بعيد إشارة إلى أن الصيحة تأتي من السماء ولكن يسمعها الجميع ، ويدل على ذلك قوله تعالى : {يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ} [ق - 42] .
{ولَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ} . المراد بالكتاب التوراة ، وقد اختلفوا فيها عند نزولها ، فمن مصدق ومكذب ، وكذلك اختلفوا في القرآن عند نزوله ، فمن مؤمن به وكافر {ولَولا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} . لقد شاءت حكمته تعالى أن يؤخر عذاب المجرمين إلى يوم يبعثون ، ولولا ذلك ما ترك على ظهرها من طاغ ولا أثيم {وإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} . ضمير انهم يعود لمشركي العرب ، وضمير منه للقرآن ، والمراد بالشك هنا الجدل بغير العلم والحق ، والمعنى انهم يجادلون في القرآن ، ولكن بالجهل والباطل وتقدمت هذه الآية بنصها الحرفي في سورة هود الآية 110 ج 4 ص 272 {مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ ومَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} . تكرر هذا المعنى في العديد من الآيات ، منها الآية 54 من سورة يس : {فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً ولا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} .
والآية 17 من سورة غافر : {الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ} وكثير غيرها من الآيات التي تنطق بأن الإنسان مخير غير مسير .
________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج6 ، ص494-499 .
تفسير الميزان
- ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات (1) :
قوله تعالى : {ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر} إلخ لما ذكر سبحانه كون دعوته (صلى الله عليه وآله وسلم) أحسن القول ووصاه أن يدفع بأحسن الخصال عاد إلى أصل الدعوة فاحتج على الوحدانية والمعاد في هذه الآيات الثلاث .
فقوله : {ومن آياته الليل والنهار} إلخ احتجاج بوحدة التدبير واتصاله على وحدة الرب المدبر ، وبوحدة الرب على وجوب عبادته وحده ، ولذلك عقبه بقوله {لا تسجدوا للشمس ولا للقمر} إلخ .
فالكلام في معنى دفع الدخل كأنه لما قيل : {ومن آياته الليل والنهار} إلخ فأثبت وحدته في ربوبيته قيل : فما ذا نصنع؟ فقيل {لا تسجدوا للشمس ولا للقمر} هما مخلوقان مدبران من خلقه بل خصوه بالسجدة واعبدوه وحده ، وعامة الوثنيين كانوا يعظمون الشمس والقمر وإن لم يعبدهما غير الصابئين على ما قيل ، وضمير {خلقهن} لليل والنهار والشمس والقمر .
وقوله : {إن كنتم إياه تعبدون} أي إن عبادته لا تجامع عبادة غيره .
قوله تعالى : {فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون} السأمة الملال ، والمراد {بالذين عند ربك} الملائكة والمخلصون من عباد الله وقد تقدم كلام في ذلك في تفسير قوله : {إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون : } [الأعراف - 206] .
وقوله : {يسبحون له} ولم يقل : يسبحونه للدلالة على الحصر والاختصاص أي يسبحونه خاصة ، وقوله : {بالليل والنهار} أي دائما لا ينقطع فإن الملائكة ليس عندهم ليل ولا نهار .
والمعنى : فإن استكبر هؤلاء الكفار عن السجدة لله وحده فعبادته تعالى لا ترتفع من الوجود فهناك من يسبحه تسبيحا دائما لا ينقطع من غير سأمة وهم الذين عند ربك .
قوله تعالى : {ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة} إلخ الخشوع التذلل ، والاهتزاز التحرك الشديد ، والربو النشوء والنماء والعلو ، واهتزاز الأرض وربوها تحركها بنباتها وارتفاعه .
وفي الآية استعارة تمثيلية شبهت فيها الأرض في جدبها وخلوها عن النبات ثم اخضرارها ونمو نباتها وعلوه بشخص كان وضيع الحال رث الثياب متذللا خاشعا ثم أصاب ما لا يقيم أوده فلبس أفخر الثياب وانتصب ناشطا متبخترا يعرف في وجهه نضرة النعيم .
والآية مسوقة للاحتجاج على المعاد ، وقد تكرر البحث عن مضمونها في السور المتقدمة .
قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ } [فصلت : 40 - 46] .
عودة أخرى إلى حديث القرآن وكفرهم به على ظهور آيته ورفعة درجته وما فرطوا في جنبه ورميهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وجحدهم الحق وكفرهم بالآيات وما يتبع ذلك ، وتختتم السورة .
والآية الأولى أعني قوله : {إن الذين يلحدون في آياتنا} الآية كالبرزخ الرابط بين هذا الفصل والفصل السابق من الآيات لما وقعت بين قوله : {إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم} الآية وبين قوله : {وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن} الآية وقوله : {ومن آياته الليل والنهار} إلخ .
قوله تعالى : {إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا} إلخ سياق تهديد لملحدي هذه الأمة كما يؤيده الآية التالية ، والإلحاد الميل .
وإطلاق قوله : {يلحدون} وقوله : {آياتنا} يشمل كل إلحاد في كل آية فيشمل الإلحاد في الآيات التكوينية كالشمس والقمر وغيرهما فيعدونها آيات لله سبحانه ثم يعودون فيعبدونها ، ويشمل آيات الوحي والنبوة فيعدون القرآن افتراء على الله وتقولا من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو يلغون فيه لتختل تلاوته فلا يسمعه سامع أو يفسرونه من عند أنفسهم أو يأولونه ابتغاء الفتنة فكل ذلك إلحاد في آيات الله بوضعها في غير موضعها والميل بها إلى غير مستقرها .
وقوله : {أ فمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمنا يوم القيامة} إيذان بالجزاء وهو الإلقاء في النار يوم القيامة قسرا من غير أي مؤمن متوقع كشفيع أو ناصر أو عذر مسموع فليس لهم إلا النار يلقون فيها ، والظاهر أن قوله {أم من يأتي آمنا يوم القيامة} لإبانة أنهما قبيلان لا ثالث لهما فمستقيم في الإيمان بالآيات وملحد فيها ويظهر به أن أهل الاستقامة في أمن يوم القيامة .
وقوله : {اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير} تشديد في التهديد .
قوله تعالى : {إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم - إلى قوله - من حكيم حميد} المراد بالذكر القرآن لما فيه من ذكر الله ، وتقييد الجملة بقوله : {لما جاءهم} يدل على أن المراد بالذين كفروا هم مشركو العرب المعاصرين للقرآن من قريش وغيرهم .
وقد اختلفوا في خبر {إن} ويمكن أن يستظهر من السياق أنه محذوف يدل عليه قوله : {إن الذين يلحدون في آياتنا} إلخ فإن الكفر بالقرآن من مصاديق الإلحاد في آيات الله فالتقدير إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم يلقون في النار يوم القيامة ، وإنما حذف ليذهب فيه وهم السامع أي مذهب ممكن والكلام مسوق للوعيد .
وإلى هذا المعنى يرجع قول الزمخشري في الكشاف ، : إن قوله : {إن الذين كفروا} إلخ بدل من قوله : {إن الذين يلحدون في آياتنا} .
وقيل : خبر إن قوله الآتي : {أولئك ينادون من مكان بعيد} ، وقيل : الخبر قوله : {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه} بحذف ضمير عائد إلى اسم إن والتقدير لا يأتيه منهم أي لا يأتيه من قبلهم ما يبطله ولا يقدرون على ذلك أو بجعل أل في الباطل عوضا من الضمير والمعنى لا يأتيه باطلهم .
وقيل : إن قوله : {وإنه لكتاب عزيز} إلخ قائم مقام الخبر ، والتقدير إن الذين كفروا بالذكر كفروا به وإنه لكتاب عزيز .
وقيل : الخبر قوله : {ما يقال لك} إلخ بحذف الضمير وهو{فيهم} والمعنى ما يقال لك في الذين كفروا بالذكر إلا ما قد قيل للرسل من قبلك إن لهم عذاب الاستئصال في الدنيا وعذاب النار في الآخرة ، ووجوه التكلف في هذه الوجوه غير خفية على المتأمل البصير .
وقوله : {وإنه لكتاب عزيز} الضمير للذكر وهو القرآن ، والعزيز عديم النظير أو المنيع الممتنع من أن يغلب ، والمعنى الثاني أنسب لما يتعقبه من قوله : {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه} .
وقوله : {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه} إتيان الباطل إليه وروده فيه وصيرورة بعض أجزائه أو جميعها باطلا بأن يصير ما فيه من المعارف الحقة أو بعضها غير حقة أو ما فيه من الأحكام والشرائع وما يلحقها من الأخلاق أو بعضها لغا لا ينبغي العمل به .
وعليه فالمراد بقوله : {من بين يديه ولا من خلفه} زمانا الحال والاستقبال أي زمان النزول وما بعده إلى يوم القيامة ، وقيل : المراد بما بين يديه ومن خلفه جميع الجهات كالصباح والمساء كناية عن الزمان كله فهو مصون من البطلان من جميع الجهات وهذا العموم على الوجه الأول مستفاد من إطلاق النفي في قوله : {لا يأتيه} .
والمدلول على أي حال أنه لا تناقض في بياناته ، ولا كذب في إخباره ، ولا بطلان يتطرق إلى معارفه وحكمه وشرائعه ، ولا يعارض ولا يغير بإدخال ما ليس منه فيه أو بتحريف آية من وجه إلى وجه .
فالآية تجري مجرى قوله : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر : 9] .
وقوله : {تنزيل من حكيم حميد} بمنزلة التعليل لكونه كتابا عزيزا لا يأتيه الباطل {إلخ} أي كيف لا يكون كذلك وهو منزل من حكيم متقن في فعله لا يشوب فعله وهن ، محمود على الإطلاق .
قوله تعالى : {ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك} إلخ {ما} في {ما يقال لك} نافية ، والقائلون هم الذين كفروا حيث قالوا : إنه ساحر أو مجنون أو شاعر لاغ في كلامه أو يريد أن يتأمر علينا ، والقائلون لما قد قيل للرسل أممهم .
والمعنى : ما يقال لك من قبل كفار قومك حيث أرسلت إليهم فدعوتهم فرموك بما رموك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك أي مثل ما قد قيل لهم .
وقوله : {إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم} في موضع التهديد والوعيد أي إن ربك ذو هاتين الصفتين أي فانظر أو فلينظروا ما ذا يصيبهم من ربهم وهم يقولون ما يقولونه لرسوله؟ أ هو مغفرة أم عقاب؟ فالآية في معنى قوله : {اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير} أي ما عملتم من حسنة أو سيئة أصابكم جزاؤه بعينه .
وقيل : المعنى ما يوحى إليك في أمر هؤلاء الذين كفروا بالذكر إلا ما قد أوحي للرسل من قبلك وهو أن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم فالمراد بالقول الوحي ، و{إن ربك} إلخ بيان لما قد قيل .
قوله تعالى : {ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أ أعجمي وعربي} قال الراغب ، : العجمة خلاف الإبانة .
قال : والعجم خلاف العرب والعجمي منسوب إليهم ، والأعجم من في لسانه عجمة عربيا كان أو غير عربي اعتبارا بقلة فهمهم عن العجم . انتهى .
فالأعجمي غير العربي البليغ سواء كان من غير أهل اللغة العربية أو كان منهم وهو غير مفصح للكنة في لسانه ، وإطلاق الأعجمي على الكلام كإطلاق العربي من المجاز .
فالمعنى : ولو جعلنا القرآن أعجميا غير مبين لمقاصده غير بليغ في نظمه لقال الذين كفروا من قومك : هلا فصلت وبينت آياته وأجزاؤه فانفصلت وبانت بعضها من بعض بالعربية والبلاغة أ كتاب مرسل أعجمي ومرسل إليه عربي؟ أي يتنافيان ولا يتناسبان .
وإنما قال : {عربي} ولم يقل : عربيون أو عربية مع كون من أرسل إليه جمعا وهم جماعة العرب ، إذ القصد إلى مجرد العربية من دون خصوصية للكثرة بل المراد بيان التنافي بين الكلام وبين المخاطب به لا بيان كون المخاطب واحدا أو كثيرا .
قال في الكشاف ، : فإن قلت : كيف يصح أن يراد بالعربي المرسل إليهم وهم أمة العرب؟ قلت : هو على ما يجب أن يقع في إنكار المنكر لو رأى كتابا عجميا كتب إلى قوم من العرب يقول : كتاب أعجمي ومكتوب إليه عربي وذلك لأن مبنى الإنكار على تنافر حالتي الكتاب والمكتوب إليه لا على أن المكتوب إليه واحد أو جماعة فوجب أن يجرد لما سيق إليه من الغرض ولا يوصل به ما يخل غرضا آخر أ لا تراك تقول وقد رأيت لباسا طويلا على امرأة قصيرة : اللباس طويل واللابس قصير ولو قلت واللابس قصيرة جئت بما هو لكنه وفضول قول لأن الكلام لم يقع في ذكورة اللابس وأنوثته إنما وقع في غرض وراءهما .
وقوله : {قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء} بيان أن أثر القرآن وخاصته لا يدور مدار لغته بل الناس تجاهه صنفان وهم الذين آمنوا والذين لا يؤمنون ، وهو هدى وشفاء للذين آمنوا يهديهم إلى الحق ويشفي ما في قلوبهم من مرض الشك والريب .
وهو عمى على الذين لا يؤمنون - وهم الذين في آذانهم وقر - يعميهم فلا يبصرون الحق وسبيل الرشاد .
وفي توصيف الذين لا يؤمنون بأن في آذانهم وقرا إيماء إلى اعترافهم بذلك المنقول عنهم في أول السورة : {وفي آذاننا وقر} .
وقوله : {أولئك ينادون من مكان بعيد} أي فلا يسمعون الصوت ولا يرون الشخص وهو تمثيل لحالهم حيث لا يقبلون العظة ولا يعقلون الحجة .
قوله تعالى : {ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه} إلخ تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن جحود قومه وكفرهم بكتابه .
وقوله : {ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم} الكلمة هي قوله : { وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [الأعراف : 24] .
وقوله : {وإنهم لفي شك منه مريب} أي في شك مريب من كتاب موسى (عليه السلام) .
بيان حال قومه ليتسلى به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما يرى من قومه .
قوله تعالى : {من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها} إلخ أي إن العمل قائم بصاحبه ناعت له فلوكان صالحا نافعا انتفعت به نفسه وإن كان سيئا ضارا تضررت به نفسه فليس في إيصاله تعالى نفع العمل الصالح إلى صاحبه وهو الثواب ولا في إيصال ضرر العمل السيىء إلى صاحبه وهو العقاب ظلم ووضع للشيء في غير موضعه .
ولوكان ذلك ظلما كان تعالى في إثابته وتعذيبه من لا يحصى من العباد في ما لا يحصى من الأعمال ظلاما للعبيد لكنه ليس بظلم ولا أنه تعالى ظلام لعبيده وبذلك يظهر وجه التعبير باسم المبالغة في قوله : {وما ربك بظلام للعبيد} ولم يقل : وما ربك بظالم .
________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج17 ، ص319-325 .
تفسير الامثل
- ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه الآيات (1) :
السّجدة لله تعالى :
تعتبر هذه الآيات بداية فصل جديد في هذه السورة ، فهي تختص بقضايا التوحيد والمعاد ، ودلائل النبوة وعظمة القرآن ، وهي في الواقع مصداق واضح للدعوة إلى الله في مقابل دعوة المشركين إلى الأصنام .
تبدأ أوّلا من قضية التوحيد ، فتدعو الناس إلى الخالق عن طريق الآيات الآفاق (2) : {ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر} فالليل وظلمته للراحة ، والنهار وضوءه للحركة .
وهذان التوأمان يقومان بإدارة عجلة حياة الناس بشكل متناوب ومنظم ، بحيث لوكان أحدهما دائمياً أو استمر لمدة أطول ، فستصاب جميع الكائنات بالفناء ، لذا فإنّ الحياة تنعدم على سطح القمر حيث تعادل لياليه (15) ليلة أرضية ونهاره بهذا المقدار أيضاً .
إنّ لياليه المظلمة الباردة تجعل كلّ شيء جامداً ، أمّا نهاره الطويل الحار فإنّهُ يحرق كلّ شيء ، لذلك لا يستطيع الإنسان وكائنات أرضنا أن تعيش على القمر .
أمّا الشمس فهي مصدر كلّ البركات المادية في منظومتنا ، فالضوء والحرارة والحركة ونزول المطر ، ونمو النباتات ونضج الفواكه ، وحتى ألوان الورود الجميلة ، كل ذلك يدين في وجوده إلى الشمس .
القمر يقوم بدوره بإضاءة الليالي المظلمة ، وضوءه دليل السائرين في دروب الصحراء ، وهو يجلب الخيرات بتأثيره على مياه البحار وحدوث الجزر والمد فيه .
ولعلّ البعض قام بالسجود لهذين الكوكبين السماويين وبعبادتهما بسبب الخيرات والبركات الآنفة الذكر ، فتاهوا في عالم الأسباب ، ولم يستطيعوا الوصول إلى مسبّب الأسباب .
ولذلك نرى القرآن بعد هذا البيان يقول مباشرة : {لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهنّ إن كنتم إيّاه تعبدون} (3) .
فماذا لا تتوجهوا بالسجود والعبادة إلى خالق الشمس والقمر ؟
ولماذا تعبدون كائنات هي نفسها خاضعة لقوانين الخلقة ونظام الوجود ، ولها شروق وغروب وتخضع للتغيرات ؟
إنّ السجود لا ينبغي إلاّ لله خالق هذه الموجودات ! إنّ خالق هذه الموجودات ومودع النظم والقوانين فيها لا يغرب ولا يأفل ولا تمتد يد التغيير إلى محضر كبريائه عزّوجلّ .
وبهذا الشكل تنفي الآيات أحد الفروع الواسعة لانتشار الشرك وعبادة الأصنام المتمثلة في عبادة الكائنات الطبيعية النافعة ، فينبغي للجميع أن يبحثوا عن علة العلل وأن لا يتوقفوا عند المعلول; نعم ينبغي البحث عن خالق هذه الموجودات !
إنّ هذه الآية تستدل ـ في الواقع ـ على وجود الخالق الواحد عن طريق النظام الواحد الذي يتحكم بالشمس والقمر والليل والنهار ، وإن حاكميته تعالى على هذه الموجودات تعتبر دليلا على وجوب عبادته .
قوله تعالى : {إن كنتم إيّاه تعبدون} فيه إشارة إلى ملاحظة مؤدّاها : إذا كنتم تريدون عبادة الخالق فعليكم إلغاء غيره من الشركاء في العبادة ، لأنّ عبادته لا تكون إلى جانب عبادة غيره .
وإذا لم يؤثر هذا الدليل المنطقي في أفكار هؤلاء ، واستمروا مع ذلك في عبادة الأصنام والموجودات الأُخرى ، ونسوا المعبود الحقيقي ، فالله تعالى يخاطبهم بعد ذلك بقوله : {فإن استكبروا فالذين عند ربّك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون} (4) .
فليس مهماً أن لا تسجد مجموعة من الجهلة والغافلين حيال جبروت الله وذاته المقدّسة الطاهرة ، فهذا العالم الواسع مليء بالملائكة المقرّبين الذين يركعون ويسجدون ويسبحون له دائماً ولا يفترون أبداً .
ثم إنّ هؤلاء هم بحاجة إلى عبادة الله ولا يحتاج تعالى لعبادتهم ، لأنّ فخرهم وكمالهم لا يتمّ إلاّ في ظل العبودية له سبحانه وتعالى .
ولقد ذكرنا أنّ الآيات أعلاه هي من آيات السجدة ، ، وثمّة اختلاف بين فقهاء أهل السنة في أنّ السجدة هل تكون واجبة بعد بداية الآية الأولى (تعبدون) أو أنّها تكون كذلك بعد تمام الآيتين (يسأمون) ؟
ذهب الشافعي ومالك إلى الأحتمال الأول ، بينما رجح آخرون كأبي حنيفة وأحمد بن حنبل الأحتمال الثّاني .
إلاّ أنّ موقع السجدة الواجبة حسب اعتقاد علماء الإمامية ، وفقاً للرّوايات الواردة عن أهل البيت(عليهم السلام) ، هي الآية الأولى (تعبدون) والآية الكريمة هي من آيات السجدة الواجبة في القرآن الكريم .
وضروري أن نشير هنا إلى أنّ الواجب هو أصل السجدة ، أمّا الذكر فهو مستحب ، ونقرأ في رواية أنّ أقل هذا الذكر في السجدة هو القول : «لا إله إلا الله حقّاً حقّاً ، لا إله إلا الله إيماناً وتصديقاً ، لا إله إلا الله عبوديةً ورقاً سجدت لك ياربّ تعبداً ورقاً ، لا مستنكفاً ولا مستكبراً بل أنا عبد ذليل خائف مستجير» (5) .
نعود مرّة اُخرى إلى آيات التوحيد التي تعتبر الأرضية للمعاد ، وإذا كان الحديث قد شمل في السابق الشمس والقمر والآيات السماوية ، فإنّ الحديث هنا يدور حول الآيات الأرضية .
يقول تعالى : {ومن آياته أنّك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت} .
هذه الأرض الميتة اليابسة الخالية من الحركة وآثار الحياة ، أي قدرة حولتها إلى نبض دائم يمور بالحياة والحركة ، إنّه الماء ، وإنّه لدليل كبير على قدرة الله الأزلية ، وعلامة على وجود ذاته المقدّسة .
ثم تنتقل الآية من قضية التوحيد المتمثلة هنا بالحياة التي ما زالت تحيطها الكثير من الأسرار والخفايا والغموض ، إلى قضية المعاد ، حيث يقول تعالى : {إنّ الذي أحياها لمحي الموتى} .
نعم : {إنّه على كلّ شيء قدير} .
فدلائل قدرته واضحة في كلّ مكان ، ومع هذا الوضع فكيف نشكّك بالمعاد ونعتبره محالا ، أليس هذا سوى الجهل والغفلة؟
«خاشعة» من (الخشوع) وتعني في الأصل التضرع والتواضع الملازم للأدب . واستخدام هذا التعبير بخصوص الأرض الميتة اليابسة ، يعتبر نوعاً من الكناية .
فالأرض اليابسة الفاقدة للماء ستخلو من أي نوع من أنواع الثبات ، وستشبه الإنسان الساقط أرضاً أو الميت الذي لا حراك فيه ، إلاّ أن نزول المطر سيهب لها الحياة ويجعلها تتحرك وتنمو .
«ربت» من (ربو) على وزن (غلو) وتعني الزيادة والنمو ، والربا مشتق من نفس هذه الكلمة ، لأنّ المرابي يطلب دينهُ مع الزيادة .
«اهتزت» من «هز» على وزن «حظ» وتعني التحريك الشديد .
وحول «المعاد الجسماني» وأدلته وكيفية الاستدال عليه من عالم النبات تقدم بحث مفصّل في نهاية سورة «يس» من هذا التّفسير .
وقوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِى ءَايَتِنَا لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَّن يَأْتِي ءَامِناً يَوْمَ الْقِيَمَةِ اعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِالذِّكْرِ لَمَّا جَآءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَبٌ عَزِيزٌ (41) لاَّ يَأْتِيهِ الْبَطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيم حَمِيد} .
محرفو آيات الحق :
المجموعة التي بين أيدينا من آيات السورة الكريمة ، بدأت بتهديد الذين يقومون بتحريف علائم التوحيد ، وتضليل الناس ، حيث يقول تعالى : {إنّ الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا} .
من الممكن لهؤلاء أن يضلّوا الناس بأسلوب المغالطة وباستخدام السفسطة الكلامية ، ويخفوا ذلك عن الناس . إلاّ أنّه ليس بوسعهم إخفاء ذرّة ممّا يقومون به عن الله تبارك وتعالى .
«يلحدون» من (إلحاد) وهي في الأصل من (لحد) على وزن (عهد) وتعني الحفرة الواقعة في جانب واحد ، ولهذا السبب يطلق على الحفرة في جانب القبر اسم «اللحد» .
ثمّ أطلقت كلمة (إلحاد) على أي عمل يتجاوز الحد الوسط إلى الإفراط أو التفريط ، وهي لذلك تطلق لوصف الشرك وعبادة الأصنام ، ويقال لمن لا يؤمن بالله تعالى (الملحد) .
والمقصود من «الإلحاد في آيات الله» هو إيجاد الوساوس والتمويه في أدلة التوحيد والمعاد التي ذكرتها الآيات السابقة بعنوان «ومن آياته» أو جميع الآيات الإلهية ، سواء منها الآيات التكوينية السابقة أو الآيات التشريعية النازلة في القرآن الكريم والكتب السماوية الأُخرى .
إنّ المذاهب المادية والإلحادية في عالمنا اليوم التي تعتبر الدين وليد الجهل أو الخوف أو نتاج العامل الإقتصادي والأُمور الأُخرى لإضلال الناس ، هي بلا شك من مصاديق الخطاب في هذه الآية الكريمة .
القرآن الكريم أوضح جزاء هؤلاء في إطار مقارنة واضحة فقال تعالى : {أفمن يُلقى في النّار خير أم مَن يأتي آمناً يوم القيامة} ؟
الاشخاص الذين يحرقون ايمان الناس وعقائدهم بنيران الشبهات والتشكيكات سيكون جزاؤهم نار جهنّم ، بعكس الذين أوجدوا المحيط الآمن للناس بهدايتهم الى التوحيد والإيمان ، فإنّهم سيكونون في أمان يوم القيامة أليس ذلك اليوم هو يوم تتجسد فيه أعمال الإنسان في هذه الدنيا ؟
وقال بعض المفسّرين : إنّ الآية تقصد «أبا جهل» «أبو جهل» كنموذج للغواية ولأهل النّار ، وفي الجانب المقابل ذكروا «حمزة» عم النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أو «عمار بن ياسر» لكن من الواضح أنّ هذا القول لا يعدو أن يكون مصداقاً للآية ذات المفهوم الواسع .
والطريف في هذا الجزء من الآية أنّ التعبير القرآني يستخدم كلمة (إلقاء) في مخاطبة أهل النّار كدليل على عدم امتلاكهم الخيار في أمرهم ، بينما يستخدم كلمة «يأتي» في مخاطبة أهل الجنّة ، كدليل على احترامهم وحريتهم وإرادتهم في اختيار الأمن والهدوء .
وفوق كلّ هذا فقد استخدمت الآية تعبير الأمان من العذاب كناية عن الجنّة ، بينما استخدمت نار جهنم بشكل مباشر ، وفي ذلك إشارة إلى أنّ أهم قضية في ذلك اليوم هي «الأمن» .
وعندما ييأس الإنسان من هداية شخص يخاطبه بقوله : افعل ما شئت . لذا فالآية تقول لأمثال هؤلاء : {اعملوا ما شئتم} .
لكن عليكم أن تعلموا : {أنّه بما تعملون بصير} .
لكن هذا الأمر لا يعني أنّ لهم الحرية في أن يعملوا ما يشاؤون ، أو أن يتصرفوا بما يرغبون ، بل هو تهديد لهم بأنّهم لا يصغون لكلام الحق ، إنّه تهديد يتضمّن توعُّد هؤلاء والصبر على أعمالهم إلى حين .
الآية التي بعدها تتحول من الحديث عن التوحيد والمعاد إلى القرآن والنبوّة ، وتحذّر الكفار المعاندين بقوله تعالى : {إنّ الذين كفروا بالذكر لما جاءهم} (6) .
إنّ إطلاق وصف «الذكر» على القرآن يستهدف تذكير الإنسان وإيقاظه ، وشرح وتفصيل الحقائق له بشكل إجمالي عن طريق فطرته ، وقد ورد نظير ذلك في الآية (9) من سورة «الحجر» في قوله تعالى : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر : 9] .
ثمّ تنعطف الآية لبيان عظمة القرآن فتقول : {وإنّه لكتاب عزيز} .
إنّه كتاب لا يستطيع أحد أن يأتي بمثله أو أن يتغلب عليه ، منطقه عظيم واستدلاله قوي ، وتعبيره بليغ منسجم وعميق ، تعليماته جذرية ، وأحكامه متناسقة متوافقة مع الأحتياجات الواقعية للبشر في أبعاد الحياة المختلفة .
ثم تذكر الآية صفة اُخرى مهمّة حول عظمة القرآن وحيويته ، فيقول تعالى : {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه} لأنّه : {تنزيل من حكيم حميد} .
أفعال الله عزوجل لا تكون إلاّ وفق الحكمة وفي غاية الكمال . لذا فهو أهل للحمد دون غيره .
لقد ذكر المفسّرون عدّة احتمالات حول قوله تعالى : (لا يأتيه الباطل . . .) إلاّ أن أشملها هو أنّ أي باطل لا يأتيه ، من أي طريق كان ، ومهما كان الأُسلوب ، وهذا يعني عدم وجود تناقض في مفاهيمه ، ولا ينقض بشيء من العلوم ، أو بحقائق الكتب السابقة ، ولا يعارض كذلك بالإكتشافات العلمية المستقبلية .
لا يستطيع أحد أن يبطل حقائقه ، ولا يمكن أن ينسخ في المستقبل .
لا يوجد أي تعارض في معارفه وقوانينه ووصاياه وأخباره ، ، ولا يكون ذلك في المستقبل أيضاً .
لم تصل إليه يد التحريف بزيادة أو نقص في آية أو كلمة ، ولن يطاله ذلك مستقبلا .
إنّ هذه الآية تعبير آخر لمضمون الآية (9) من سورة «الحجر» حيث قوله تعالى : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [الحجر : 9] (7) .
ومن خلال ما قلناه نستنتج أن قوله تعالى : (من بين يديه ومن خلفه) كناية عن جميع الجوانب والجهات ، بمعنى أنهُ لن يصيبهُ البطلان أو الفساد من جميع الأوجه والجوانب ، وما ذهب إليه البعض من أن ذلك كناية للحال والمستقبل ، فان قولهم هذا مصداق للمفهوم الأول .
«الباطل» كما يرى الراغب في مفرداته : هوما يقابل الحق ، ولكن قد يفسّر أو يراد به أحياناً أحد مصاديقه كالشرك والشيطان والمعدوم والساحر .
ويطلق على الشجاع بـ «البطل» لأنّه يبطل أعداءه ويقتلهم أو يلقي بهم خارجاً .
لكن «باطل» في الآية تنطوي على مفهوم مطلق غير محدّد بمصداق معين .
والتعبير الأخير في الآية (تنزيل من حكيم حميد) دليل واضح على عدم وصول الباطل بأي طريق من الطرق إلى القرآن الكريم ، فالباطل قد يسري الى الكلام الذي يصدر من الأفراد ذوي العلم المحدود والقدرات النسبية .
أمّا الذي يتصف بالعلم المطلق والحكمة المطلقة ويجمع كلّ الصفات الكمالية التي تجعله أهلا للحمد ، فلا يطرأ على كلامه التناقض والاختلاف ، ولا ينسخ أو ينقض ، أو تمتد إليه يد التحريف ، ولا يتناقض كلامه مع الكتب السماوية والحقائق السابقة ، ولا يعارض بالمكتشفات العلمية الراهنة ، أو تلك التي يكشفها المستقبل .
وأخيراً ، الآية واضحة الدلالة على نفي التحريف عن القرآن الكريم ، سواء من جهة الزيادة أو النقصان (هناك بحث مفصل حول نفي التحريف أوردناه في نهاية الحديث عن الآية (9) من سورة «الحجر» .
سؤال :
قد يقال : إذا كان الباطل هوما أشرنا إليه ، أي كلّ ما يتصف بأنّه «المخالف الحق» فإننا في تفسير الآية (وكذلك المفسّرين الأخرين) فسّرناه بمعنى «المبطل» فكيف يتسق ذلك؟
الإجابة على هذا السؤال تكمن في ملاحظة دقيقة في الأُسلوب القرآني ، فالقرآن لا يقول : سوف لا يأتي باطل بعد هذا الكتاب السماوي ، بل يقول لا يأتي الباطل إلى هذا الكتاب (أي القرآن) [ينبغي الإنتباه إلى ضمير جملة : يأتيه] .
ومعنى الكلام أن لا شيء يستطيع أن يصل إليه ويبطله . (فدقق في ذلك) .
وقوله تعالى : {مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43) وَلَو جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُو لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُو عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت : 43 - 46]
كتاب الهداية والشفاء :
قام الكفار والمشركون بمحاربة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وتكذيبه ، والتصدي للاسلام والقرآن و الايات السابقة كانت تحكي عن الحادهم وكفرهم بآيات الله لذلك جاءت الآية الأولى من الآيات التي بين أيدينا لمواساة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وارشاد المسلمين الذين يواجهون الأذى بأنّ لا محيص لهم عن الاستقامة والصبر .
يقول تعالى : {ما يقال لك إلاّ ما قد قبل للرسل من قبلك} .
فإذا كانوا يتهمونك بالجنون والكهانة والسحر ، فقد أطلقوا هذه الأوصاف على من قبلك من الأنبياء والمرسلين .
إنّ دعوتك لدين الحق ليست جديدة ، وإنّ ما تواجهه وأنت تدعو للدين الجديد ليس جديداً أيضاً ، لذلك ما عليك ـ يا رسول الله ـ إلاّ أن ترابط بقوّة وتلزم ما أنت عليه ولا تهتم بكلام هؤلاء ، لأنّ الله معك .
احتمل بعض المفسّرين أن يكون المراد من الآية هو : أنّ الكلام الذي قيل لك من قبل الله هو نفس الكلام الذي قيلَ لمن قبلك من الأنبياء (8) .
لكن المعنى الأوّل أنسب في المقام ، خاصة مع ملاحظة سياق الآيات القادمة .
يقول الله تبارك وتعالى في نهاية الآية : {إنّ ربّك لذو مغفرة وذو عقاب أليم} .
فرحمتهُ ومغفرته للمصدّقين ، وعذابه للمكذبين والمعارضين .
وهذا الجزء من الآية هو بشارة للمؤمنين وتشويق لهم ، وإنذارٌ للكفار وتهديد لهم .
إنّ تقديم (المغفرة) على (العقاب) يشبه ـ في الواقع ـ الموارد الأُخرى ، وهو دليل على تقدّم رحمته تعالى على غضبه ، كما جاء في المأثور من الدعاء : «يامن سبقت رحمتهُ غضبهُ» (9) .
الآية التي بعدها تتحدث عن ذرائع هؤلاء المعاندين ، وترد على واحدة منها ، إذ هم كانوا يقولون : لماذا لم ينزل القرآن بلسان الأعاجم حتى نهتم به أكثر ويستفيد منهُ غير العرب؟
إنّها حجّة عجيبة !
ولعلّهم كانوا يستهدفون منها عدم فهم الناس القرآن حتى لا يضطروا إلى منعهم عنه ، كما حكى القرآن عن سلوكهم هذا في آية سابقة في قوله تعالى : {لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه} (10) .
وهنا يجيب القرآن على هذا القول بقوله : {ولو جعلناه قرآناً أعجمياً لقالوا لولا فصلت آياته} .
ثم يضيفون : يا للعجب قرآن أعجمي من رسول عربي ؟ : {أأعجمي وعربي} .
أو يقولون : كتاب أعجمي لأُمّة تنطق بالعربية ؟!
والآن وبالرغم من نزوله بلسان عربي ، والجميع يدرك معانيه بوضوح ويفهم عمق دعوة القرآن ، إلاّ أنّهم ومع ذلك نراهم يصرخون : {لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ} [فصلت : 26] .
إنّ الآية تتحدث في الواقع عن المرض الكامن في نفوس هؤلاء وعجزهم عن مواكبة الهدى والنور الذي أنزل عليهم من ربّهم ، فإذا جاءهم بلسانهم العربي قالوا : هو السحر والأسطورة ، وإذا جاءهم بلسان أعجمي فإنّهم سيعتبرونه غير مفهوم ، وإذا جاءهم مزيجاً من الألفاظ العربية والأعجمية عندها سيقولون بأنّه غير موزون (11) !!
وينبغي الإنتباه هنا إلى أنّ كلمة (أعجمي) من «عجمة» على وزن «لقمة» وتعني عدم الفصاحة والإبهام في الكلام ، وتطلق «عجم» على غير العرب لأن العرب لا يفهمون كلامهم بوضوح ، وتطلق «أعجم» على من لا يجيد الحديث والكلام سواء كان عربياً أو غير عربي .
بناءاً على هذا فإنّ (أعجمي) هي (أعجم) منسوبة بالياء .
ثم يخاطب القرآن الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بالقول : {قل هو للذين آمنوا هدىً وشفاء} .
أمّا لغيرهم : (والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر) أيّ «ثقل» ولذلك لا يدركونه .
ثم إنّه : {وهو عليهم عمى} (12) . أيّ أنّهم لا يرونه بسبب عماهم ، فهؤلاء كالاشخاص الذين ينادون من بعيد : {أُولئك ينادون من مكان بعيد} .
ومن الواضح أنّ مثل هؤلاء الأشخاص لا يسمعون ولا يبصرون . فلأجل العثور على الطريق والوصول إلى الهدف لا يكفي وجود النور وحده ، فيجب أن تكون هناك عين تبصر ، كذلك يقال في مسألة التعلّم ، حيثُ لا يكفي وجود المبلّغ والداعية الفصيح ، بل ينبغي أن تكون هناك أذن تسمع وتعي ، فلا شك في بركة المطر وتأثيره في نمو النباتات . ولكن المسألة في الارض . طيبة أم خبيثة !!
فالذين يتعاملون مع القرآن بروح تبحث عن الحقيقة سيهتدون وستشفى نفوسهم وصدورهم به ، حيث يعالج القرآن الكريم الأمراض الأخلاقية والروحية ، ثم يشدّون الرحال للسفر نحو الآفاق العالية في ظل نور القرآن وهداه .
أمّا ماذا يستفيد المعاندون والمتعصبون وأعداء الحق والحقيقة وأعداء الأنبياء والرسل من كتاب الله تعالى ، فهم في الواقع مثلهم مثل الأعمى والأصم ومن ينادى من مكان بعيد ، فهل تراه يسمع النداء أو يستجيب لهداه ، إنّهم كمن أصيب بالعمى والصمم المضاعف ، وهو بعد ذلك في مكان بعيد !!
ونقل بعض المفسّرين أنّ أهل اللغة يقولون لمن يفهم : أنت تسمع من قريب .
ويقولون لمن لا يفهم : أنت تنادى من بعيد (13) .
«وثمّة شرح مفصل حول شفاء القرآن ومعالجته لآلام الإنسان الروحية ، يمكن مراجعته ذيل الآية (82) من سورة الإسراء .»
الآية التالية تستمر في مواساة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين معه وتقول لهم : إنّ للعناد والإنكار تأريخ طويل في حياة النبوات : {ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه} .
وإذ ترى أنّنا لا نعجل في عقاب هؤلاء الأعداء المعاندين ، فذلك لأنّ المصلحة تقتضي أن يكونوا أحراراً حتى تتمّ الحجّة عليهم : {ولولا كلمة سبقت من ربّك لقضي بينهم} أي لكان العقاب قد شملهم بسرعة .
إنّ التأجيل الإلهي إنّما يتم هنا لمصلحة الناس ومن أجل المزيد من فرص الهداية والنور ، وبغية إتمام الحجّة عليهم ، وهذه السنّة كانت نافذة في جميع الأقوام السابقة ، وهي تجري في قومك أيضاً .
لكنّهم لم يصدّقوا بهذه الحقيقة بعد : {وإنّهم لفي شك منهُ مريب} .
«مريب» من «ريب» بمعنى الشك الممزوج بسوء الظن والقلق ، لذلك فمعنى الآية : إنّ المشركين لا يشكون في كلامك وحسب ، بل يزعمون وجود القرائن على بطلانه والتي تؤدي بزعمهم إلى الريب .
بعض المفسّرين احتمل أنّ مراد الجملة الأخيرة هم اليهود وكتاب موسى (عليه السلام) ، بمعنى أنّ هؤلاء القوم لا يزالون يشكون في التوراة ، لكن بعد هذا المعنى يرجح التّفسير الأول (14) .
في الآية الأخيرة ـ من المجموعة ـ نقف أمام قانون عام يرتبط بأعمال الناس ، وقد أكّده القرآن مراراً . وهذا القانون يكمل البحث السابق بشأن استفادة المؤمنين من القرآن ، بينما يحرم غير المؤمنين أنفسهم من فيض النور الإلهي والهدى الرّباني .
يقول تعالى في هذا القانون : {من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربّك بظلاّم للعبيد} .
لذا فإنّ من لم يؤمن بهذا الكتاب والدين العظيم فسوف لن يضروا الله تعالى ولا يضروك ، لأن الحسنات والسيئات تعود إلى أصحابها ، وهم الذين سينالون حلاوة أعمالهم ومرارتها .
_____________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج12 ، 196- 209 .
2 ـ ينبغي الإلتفات إلى أنّ السجدة هنا واجبة في حال سماع الآية أو تلاوتها .
3 ـ يرجع ضمير التأنيث في (خلقهن) إلى الليل والنهار والشمس والقمر كما يقول علماء اللغة وأصحاب التّفسير ، إذ أنّ ضمير جمع المؤنث العاقل قد يعود أحياناً إلى جمع غير العاقل كما يقال مثلا (الأقلام بريتهنّ) والبعض يعتقد أنّ الضمير هنا يرجع للآيات التي هي جمع مؤنث لغير العاقل .
واحتمل البعض أن الضمير يعود على الشمس والقمر فقط باعتبار آنها جنس تشمل جميع الكواكب وكأنّها تتمتع بعقل وشعور .
4 ـ «لا يسأمون» : من كلمة (السئامة) وتعني التعب من الإستمرار في العمل أوفي موضوع معين .
ضمناً فإنّ جملة (فإن استكبروا) جملة شرطية جزاؤها محذوف ، والتقدير هو : فإن استكبروا عن عبادة الله وتوحيده فإن ذلك لا يضرّه شيئاً» .
5 ـ وسائل الشيعة ، كتاب الصلاة ، المجلد الرابع ، صفحة 884 ، [ باب 46 من أبواب قراءة القرآن . حديث رقم (2)] .
6 ـ لقد ذكر المفسّرون عدّة احتمالات حول خبر «إنّ الذين» أنسبها اًن نقول بأنّ الخبر هو جملة (لا يخفون علينا) حيث حذف بقرينة الآية السابقة . وقال البعض : إنّ الخبر هو جملة «يلقون في النّار» المستفادة من الآية السابقة ، بينما قال البعض بأنّه جملة «أولئك ينادون من مكان بعيد» التي ترد في الآيات القادمة ، لكن الرأي الأوّل أرجح .
7 ـ لقد اختار هذا التّفسير الزمخشري في كشافه ، وللعلاّمة الطباطبائي حديث يشبه هذا في تفسير الميزان ، في حين حدّد بعض المفسّرين مصطلح الباطل بالشيطان أو المحرفين ، أو الكذب ، وما شابه . وقد ورد في حديث عن الباقر والصادق قولهما عليهما السلام : «إنّه ليس في أخباره عما مضى باطل ، ولا في أخباره عمّا يكون في المستقبل باطل» كما نقل عنهما عليهما السلام صاحب مجمع البيان . وواضح أن ما ذكر هو مصاديق لمفهوم الآية .
8 ـ هذا الإحتمال يمكن ملاحظته في تفسير «مجمع البيان» و «التّفسير الكبير» ولكنّ كليهما رجح التفسير الأوّل .
9 ـ عن دعاء الجوشن الكبر . الفصل (19) الجملة الثامنة .
10 ـ في تفسير الفخر الرازي نقرأ قوله : نقلوا في سبب نزول هذه الآية أنّ الكفار لأجل التعنت قالوا : لونزل القرآن بلغة العجم» .
11 ـ بعض المفسّرين فسّر قوله تعالى : (أأعجمي وعربي) بنفس معناه المباشر أي مزيج وخليط بين العربي والأعجمي .
12 ـ بعض المفسّرين ذهب إلى القول بأنّ الجملة أعلاه معناها هو : أنّ القرآن هو سبب في عمى هذه الفئة وعدم رؤيتها» في حين أنّ الراغب في المفردات وابن منظور في لسان العرب اعتبرا قول العرب «عمي عليه» بمعنى أنّهُ «اشتبه حتى صار الإضافة إليه كالأعمى» وبناءاً على هذا يكون المراد من الآية هوما ذهبنا إليه في المتن .
13 ـ يلاحظ ذلك في تفسير القرطبي حديثه عن الآية .
14 ـ ينبغي أن يلاحظ أنّ الآية بعينها وردت في سورة هود آية (110) .
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
المجمع العلمي للقرآن الكريم يقيم جلسة حوارية لطلبة جامعة الكوفة
|
|
|