أقرأ أيضاً
التاريخ: 2-7-2020
11686
التاريخ: 28-6-2020
7496
التاريخ: 4-7-2020
6671
التاريخ: 8-7-2020
11523
|
قال تعالى: { وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (96) قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوالْغَفُورُ الرَّحِيمُ } [يوسف: 94، 98]
{ وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ} أي: لما خرجت القافلة وانفصلت من مصر متوجهة نحوالشام { قال أبوهم } يعقوب لأولاد أولاده الذين كانوا عنده: { إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ}: روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: وجد يعقوب ريح قميص يوسف حين فصلت العير من مصر وهو بفلسطين من مسيرة عشر ليال وقيل: من مسيرة ثماني ليال عن ابن عباس وقيل: من ثمانين فرسخا عن الحسن وقيل: مسيرة شهر عن الأصم قال ابن عباس: هاجت ريح فحملت بريح قميص يوسف إلى يعقوب وذكر في القصة أن الصبا استأذنت ربها في أن تأتي يعقوب بريح يوسف قبل أن يأتيه البشير بالقميص فأذن لها فأتته بها ولذلك يستروح كل محزون بريح الصبا وقد أكثر الشعراء من ذكرها فمن ذلك قولهم :
فإن الصبا ريح إذا ما تنسمت على نفس مهموم تجلت همومها
وقول أبي الصخر الهذلي :
إذا قلت هذا حين أسلويهيجني نسيم الصبا من حيث يطلع الفجر
وقوله { لولا أن تفندون } معناه: لولا أن تسفهوني عن ابن عباس ومجاهد وقيل: لولا أن تضعفوني في الرأي عن ابن إسحاق وقيل: لولا أن تكذبوني والفند الكذب عن سعيد بن جبير والسدي والضحاك وروي ذلك أيضا عن ابن عباس وقيل: لولا أن تهرموني عن الحسن وقتادة أي تقولون أنه شيخ قد هرم وخرف وذهب عقله وتقديره إني أقطع أنها ريح يوسف لولا أن تفندون { قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ} أي: قالوا له إشفاقا عليه وترحما إنك لفي ذهابك القديم عن الصواب في حب يوسف (عليه السلام) وأنه كان عندهم أن يوسف قد مات منذ سنين ولم يريدوا بذلك الضلال عن الدين وإنما أرادوا به المبالغة في حب يوسف والأماني الفاسدة فيما كان يرجومن عوده بعد موته عن قتادة والحسن وقيل: معناه إنك لفي شقائك القديم عن مقاتل وفي هذا دلالة على أن لفظ القديم قد يطلق في اللغة على المتقدم في الوجود.
{ فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ} وهو يهوذا عن ابن عباس وفي رواية أخرى عنه أنه مالك بن ذعر { أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا} أي: ألقى البشير قميص يوسف على وجه يعقوب فعاد بصيرا قال الضحاك: عاد إليه بصره بعد العمى وقوته بعد الضعف وشبابه بعد الهرم وسروره بعد الحزن فقال للبشير: ما أدري ما أثيبك به هون الله عليك سكرات الموت { قال } يعقوب لهم { أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } أي: إني كنت أعلم أن الله يصدق رؤيا يوسف ويكشف الشدائد عن أنبيائه بالصبر وكنتم لا تعلمون ذلك قال الحسن: كان الله سبحانه أعلمه بحياته ولم يعلمه بمكانه { قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ} فيما فعلنا.
{ قال } يعقوب { سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} إنما لم يستغفر لهم في الحال لأنه أخرهم إلى سحر ليلة الجمعة عن ابن عباس وطاووس وروي ذلك عن أبي عبد الله (عليه السلام) وقيل أخرهم إلى وقت السحر لأنه أقرب إلى إجابة الدعاء عن ابن مسعود وإبراهيم التيمي وابن جريج وروي أيضا عن أبي عبد الله (عليه السلام) وقيل: أنه كان يستغفر لهم كل ليلة جمعة في نيف وعشرين سنة عن وهب وقيل: أنه كان يقوم ويصف أولاده خلفه عشرين سنة يدعو ويؤمنون على دعائه واستغفاره لهم حتى نزل قبول توبتهم وروي أن جبرائيل (عليه السلام) علم يعقوب هذا الدعاء يا رجاء المؤمنين لا تخيب رجائي ويا غوث المؤمنين أغثني ويا عون المؤمنين أعني ويا حبيب التوابين تب علي واستجب لهم .
___________________
1- تفسير مجمع البيان ،الطبرسي،ج5،ص453-455.
{ ولَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَولا أَنْ تُفَنِّدُونِ } .
فصلت العير أي تحركت من المكان الذي كانت فيه ، وهو مصر ، واتجهت إلى أرض كنعان حيث يسكن يعقوب : وتفندون تنسبونني إلى الفند ، وهو الخرف . .
وظاهر الآية يدل على أن يعقوب شم رائحة القميص من مكان بعيد ، وبمجرد ان تحرك الركب من مكانه ، وقبل ان يتجاوز أرض مصر ، مع أن المسافة بين يعقوب وحامل القميص كانت مسيرة ثمانية أيام ، وقيل : عشرة . . وأبقى المفسرون اللفظ على ظاهره ، وقالوا : ان يعقوب وجد ريح القميص حقيقة على الرغم من بعد المسافة عنه ، واعتبروا ذلك معجزة خص اللَّه بها يعقوب .
وغير بعيد أن يكون الريح كناية عن الحدس المصيب الذي يقع للإنسان في بعض الأحيان بخاصة لأهل القلوب الطيبة الصافية ، وان يعقوب قد أحس قلبه بدنواللقاء ، فعبّر عنه بريح يوسف ، ويرجح إرادة هذا المعنى ان اليأس من لقاء يوسف ما خامر قلب يعقوب لحظة واحدة ، ويشهد على ذلك قوله : فتحسسوا من يوسف وأخيه . وقوله : عسى أن يأتيني بهم جميعا . وقوله ليوسف :
يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك . . وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث ويتم نعمته عليك . وقوله : اني اعلم من اللَّه ما لا تعلمون .
{ قالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ } . ضمير قالوا يعود إلى من كان حاضرا في مجلس يعقوب حين قال : أجد ريح يوسف ، والمعنى ان الذين حضروا مجلس يعقوب قالوا له : أنت مخطئ في إصرارك وانتظارك يوسف الذي ذهب كما ذهب غيره من الأموات . { فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً } . . وما كان يعقوب مخطئا في حدسه ، فلقد جاء البشير يحمل قميص يوسف ، وما ان مس وجه يعقوب ، حتى عادت إليه نعمة البصر ، وسعادة الحياة ، وقيل : ان الذي حمل هذا القميص هوالذي حمل القميص الملطخ بدم كذب قبل أربعين سنة ، ليمحوالسيئة بالحسنة ، وأيضا قيل لا عجب ان يرتد بصر يعقوب بمجرد البشرى « فكثيرا ما شفى السرور والفرح من الأمراض ، وتجارب الطب شاهد صدق على ذلك » .
{ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ } . يشير إلى قوله في الآية 86 : « قال انما أشكوبثي وحزني إلى اللَّه واعلم من اللَّه ما لا تعلمون » وقد مر شرحها .
{ قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ } . ندم أخوة يوسف على فعلتهم ، وتابوا من خطيئتهم ، وسألوا أباهم ان يدعوإلى اللَّه ان يقبل منهم التوبة ، ويغفر لهم الذنب ، وشرطوا على أنفسهم ان لا يعودوا إلى معصية .
{ قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوالْغَفُورُ الرَّحِيمُ } . قال بعض المفسرين الجدد : « ان كلمة سوف لا تخلومن الإشارة إلى قلب إنسان مكلوم » . يريد أن قلب يعقوب ما زال فيه شيء على بنيه رغم توبتهم وطلبهم المغفرة . . وهذا اشتباه وقياس لقلوب الأنبياء على قلوب سائر الناس ، والصحيح ان يعقوب أرجأ الدعاء لهم بقبول التوبة إلى خلوته وانقطاعه إلى ربه في الظلمات والاسحار ، لأن ذلك ادعى للقبول والاستجابة ، قال سبحانه : « وبِالأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ - 18 الذاريات » . وقال : « والْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحارِ - 17 آل عمران »
____________________
1- التفسير الكاشف، محمد جواد مغنية،ج4، صفحه355-356.
قوله تعالى:{ وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ} الفصل القطع والانقطاع والتفنيد تفعيل من الفند بفتحتين وهو ضعف الرأي، والمعنى لما خرجت العير الحاملة لقميص يوسف من مصر وانقطعت عنها قال أبوهم يعقوب لمن عنده من بنيه: إني لأجد ريح يوسف لولا أن ترموني بضعف الرأي أي إني لأحس بريحه وأرى أن اللقاء قريب ومن حقه أن تذعنوا بما أجده لولا أن تخطئوني لكن من المحتمل أن تفندوني فلا تذعنوا بقولي.
قوله تعالى:{ قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ} القديم مقابل الجديد والمراد به المتقدم وجودا، وهذا ما واجهه به بعض بنيه الحاضرين عنده، وهو من سيء حظهم في هذه القصة تفوهوا بمثله في بدء القصة إذ قالوا:{إن أبانا لفي ضلال مبين} وفي ختمها وهو قولهم هذا:{تالله إنك لفي ضلالك القديم}.
والظاهر أن مرادهم بالضلال هاهنا هو مرادهم بالضلال هناك وهو المبالغة في حب يوسف وذلك أنهم كانوا يرون أنهم أحق بالحب من يوسف وهم عصبة إليهم تدبير بيته والدفاع عنه لكن أباهم قد ضل عن مستوى طريق الحكمة وقدم عليهم في الحب طفلين صغيرين لا يغنيان عنه شيئا فأقبل بكله إليهما ونسيهم، ثم لما فقد يوسف جزع له ولم يزل يجزع ويبكي حتى ذهبت عيناه وتقوس ظهره.
فهذا هو مرادهم من كونه في ضلاله القديم ليسوا يعنون به الضلال في الدين حتى يصيروا بذلك كافرين:.
أما أولا: فلأن ما ذكر من فصول كلامهم في خلال القصة يشهد على أنهم كانوا موحدين على دين آبائهم إبراهيم وإسحاق ويعقوب (عليهما السلام).
وأما ثانيا: فلأن المقام هاهنا وكذا في بدء القصة حين قالوا: إن أبانا لفي ضلال مبين} لا مساس له بالضلال في الدين حتى يحتمل رميهم أباهم فيه، وإنما يمس أمرا عمليا حيويا وهو حب أب لبعض أولاده وتقديمه في الكرامة على آخرين فهو المعنى بالضلال.
قوله تعالى:{ فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} البشير حامل البشارة وكان حامل القميص وقوله{أ لم أقل لكم إني أعلم} يشير (عليه السلام) إلى قوله لهم حين لاموه على ذكر يوسف:{إنما أشكوا بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون}، ومعنى الآية ظاهر.
قوله تعالى:{ قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ} القائلون بنو يعقوب بدليل قولهم:{يا أبانا} ويريدون بالذنوب ما فعلوه به في أمر يوسف وأخيه، وأما يوسف فقد كان استغفر لهم قبل.
قوله تعالى:{ قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} أخر (عليه السلام) الاستغفار لهم كما هو مدلول قوله:{سوف أستغفر لكم ربي} ولعله إنما أخره ليتم له النعمة بلقاء يوسف وتطيب نفسه به كل الطيب بنسيان جميع آثار الفراق ثم يستغفر لهم وفي بعض الأخبار: أنه أخره إلى وقت يستجاب فيه الدعاء وسيجيء إن شاء الله.
__________________
1- تفسير الميزان ،الطباطبائي،ج11،ص201-202.
وأخيراً شملتهم رعاية الله ولطفه:
أمّا أولاد يعقوب فإنّهم بعد أن واجهوا يوسف وجرى لهم ما جرى حملوا معهم قميص يوسف فرحين ومستبشرين وتوجّهوا مع القوافل القادمة من مصر، وفيما كان الإخوة يقضون أسعد لحظات حياتهم، كان هناك بيت في بلاد الشام وأرض كنعان ـ ألا وهو بيت يعقوب الطاعن في السنّ حيث كان يقضي هو وعائلته أحرج اللحظات وأشدّها حزناً وبؤساً.
لكن ـ مقارناً مع حركة القافلة من مصر ـ حدث في بيت يعقوب حادث غريب بحيث أذهل الجميع وصار مثاراً للعجب والحيرة، حيث نشط يعقوب وتحرّك من مكانه وتحدّث كالمطمئن والواثق بكلامه قال: لو لم تتحدّثوا عنّي بسوء ولم تنسبوا كلامي إلى السفاهة والجهل والكذب لقلت لكم:{إنّي لأجد ريح يوسف} فإنّي أحسّ بأنّ أيّام المحنة والآلام سوف تنصرم في القريب العاجل، وأنّه قد حان وقت النصر واللقاء مع الحبيب، وأرى أنّ آل يعقوب قد نزعوا ثوب العزاء والمصيبة ولبسوا لباس الفرح والسرور ـ لكن لا تصدّقون كلامي{وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ}(2).
والمستفاد من قوله تعالى{فصلت} أنّه بمجرّد أن تحرّكت القافلة من مصر أحسّ يعقوب بالأمر وتغيّرت أحواله.
أمّا الذين كانوا مع يعقوب ـ وهم عادةً أحفاده وأزواج أولاده وغيرهم من الأهل والعشيرة ـ فقد إستولى عليهم العجب وخاطبوه بوقاحة مستنكرين:{ قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ} أليس هذا برهاناً واضحاً على ضلالك حيث مضت سنين طويلة على موت يوسف لكنّك لا زلت تزعم أنّه حي، وأخيراً تقول: إنّك تشمّ رائحته من مصر؟! أين مصر وأين الشام وكنعان؟! وهذا دليل على بعدك عن عالم الواقع وإنغماسك في الأوهام والخيالات لكنّك قد ضللت منذ مدّة طويلة، ألم تقل لأولادك قبل فترة اذهبوا إلى مصر وتحسّسوا عن أحوال يوسف!
يظهر من هذه الآية الشريفة أنّ المقصود بـ(الضلال) ليس الإنحراف في العقيدة، بل الإنحراف في تشخيص حقيقة حال يوسف والقضايا المتعلّقة به، لكن يستفاد من هذه التعابير أنّهم كانوا يتعاملون مع هذا النّبي الكبير والشيخ المتيقّظ الضمير بخشونة وقساوة بالغين بحيث كانوا يقولون له مرّة:{إنّ أبانا في ضلال مبين} وهنا قالوا له:{إنّك لفي ضلالك القديم} لكنّهم كانوا غافلين عن الحقيقة التي كان يتحلّى بها يعقوب وعن صفاء قلبه، ويتصوّرون أنّ قلب يعقوب كقلوبهم القاسية المظلمة وأنّه لا يطّلع على حقائق الأُمور ماضيها ومستقبلها.
وتمضي الليالي والأيّام ويعقوب في حالة الإنتظار ... الإنتظار القاسي الذي يستبطن السرور والفرح والهدوء والإطمئنان، إلاّ أنّ المحيطين به كانوا مشغولين عن هذه الأُمور لإعتقادهم بأنّ قضيّة يوسف مختومة وإلى الأبد.
وبعد عدّة أيّام من الإنتظار ـ والتي لا يعلم إلاّ الله كيف قضاها يعقوب ـ إرتفع صوت المنادي معلناً عن وصول قافلة كنعان من مصر، لكن في هذه المرّة ـ وخلافاً للمرّات السابقة ـ دخل أولاد يعقوب إلى المدينة فرحين مستبشرين، وتوجّهوا مسرعين إلى بيت أبيهم، وقد سبقهم الـ(بشير) الذي بشّر يعقوب بحياة يوسف وألقى قميص يوسف على وجهه.
أمّا يعقوب الذي أضعفت المصائب بصره ولم يكن قادراً على رؤية القميص فبمجرّد أن أحسّ بالرائحة المنبعثة من القميص شعر في تلك اللحظة الذهبية بأنّ نوراً قد شعّ في جميع ذرّات وجوده وأنّ السّماء والأرض مسروران ونسيم الرحمة يدغدغ فؤاده ويزيل عنه الحزن والألم، شاهد الجدران وكأنّها تضحك معه، وأحسّ يعقوب بتغيّر حالته، وفجأةً رأى النّور في عينيه وأحسّ بأنّهما قد فتحتا ومرّة أُخرى رأى جمال العالم، والقرآن الكريم يصف لنا هذه الحالة بقوله:{ فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًاً}.
هذه الحالة التي حصلت ليعقوب أسالت دموع الفرح من عيون الإخوة والأهل، وعند ذاك خاطبهم بقوله:{ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}.
هذه المعجزة الغريبة، جعلت الأولاد يعودون إلى أنفسهم ويتساءلون عنها ويفكّرون في ماضيهم الأسود المليء بالأخطاء والذنوب، وما اعتورهم من الحسد وغيره من الصفات الرذيلة البعيدة عن الإنسانية، لكن ما أجمل التوبة والعودة إلى طريق الصواب حينما ينكشف للإنسان خطأ المسيرة التي سار فيها .. وما أحلى تلك اللحظات التي يحاول المذنب أن يطلب العفو ممّن جنى عليه، ليطهّر به نفسه ويبعدها عن جادّة الخطأ والإنحراف، وهذا ما قام به الإخوة حيث وقعوا نادمين على يد أبيهم يقبّلونها ويطلبون منه العفو والإستغفار{قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ}.
أمّا يعقوب هذا الرجل العظيم الذي كانت روحه أوسع من المحيطات، فقد أجابهم دون أن يلومهم على تلك الأفعال التي اقترفوها في حقّه وحقّ أخيهم .. أجابهم بقوله:{ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي} وأملي معقود بأن يغفر الله سبحانه وتعالى ذنوبكم{إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}.
___________________
1- تفسير الامثل ،مكارم الشيرازي،ج6،ص358-360.
2 ـ{تفنّدون} من مادّة (الفَند) على زنة (الرَمَد) ومعناها العجز الفكري والسفاهة، ومضى بعض اللغويين إلى أنّ معناها الكذب ومعناها في الأصل الفساد. فبناءً على ذلك فإنّ جملة{لولا أن تفنّدون} معناها إذا لم تتّهموني بالسفاهة وفساد العقل.
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
المجمع العلمي للقرآن الكريم يقيم جلسة حوارية لطلبة جامعة الكوفة
|
|
|