أقرأ أيضاً
التاريخ: 28-6-2020
7496
التاريخ: 10-7-2020
5394
التاريخ: 12-7-2020
4302
التاريخ: 8-7-2020
4839
|
قال تعالى { وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ } [يوسف: 36، 38]
أخبر سبحانه عن حال يوسف (عليه السلام) في الحبس فقال: { وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ} والتقدير: فسجن يوسف ودخل معه السجن فتيان أي: شابان حدثان وقيل: إنهما مملوكان لملك مصر الأكبر واسمه وليد بن ريان وكان أحدهما صاحب شرابه والآخر صاحب طعامه فنمي إليه أن صاحب طعامه يريد أن يسمه وظن أن الآخر ساعده على ذلك ومالأه عليه عن قتادة والسدي { قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} هو من رؤيا المنام كان يوسف (عليه السلام) لما دخل السجن قال لأهله: إني أعبر الرؤيا فقال أحد العبدين لصاحبه :هلم فلنجربه فسألاه من غير أن يكونا رأيا شيئا عن ابن مسعود وقيل: بل رؤياهما على صحة وحقيقة ولكنهما كذبا في الإنكار عن مجاهد والجبائي وقيل: إن المصلوب منهما كان كاذبا والآخر صادقا عن أبي مجلز ورواه علي بن إبراهيم أيضا في تفسيره عنهم (عليهم السلام) والمعنى: قال أحدهما وهو الساقي: رأيت أصل حبلة عليها ثلاثة عناقيد من عنب فجنيتها وعصرتها في كأس الملك وسقيته إياها وتقديره أعصر عنب خمر أي: العنب الذي يكون عصيره خمرا فحذف المضاف.
قال الزجاج وابن الأنباري: العرب تسمي الشيء باسم ما يؤول إليه إذا وضح المعنى ولم يلتبس يقولون: فلان يطبخ الآجر ويطبخ الدبس وإنما يطبخ اللبن والعصير وقال قوم: إن بعض العرب يسمون العنب خمرا حكى الأصمعي عن المعتمر بن سليمان أنه لقي أعرابيا معه عنب فقال له ما معك ؟قال: خمر وهو قول الضحاك فيكون معناه: أني أعصر عنبا وروي في قراءة عبد الله وأبي جميعا: إني رأيتني أعصر عنبا .
{ وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ} معناه: وقال صاحب الطعام: إني رأيت كان فوق رأسي ثلاث سلال فيها الخبز وألوان الأطعمة وسباع الطير تنهش منه { نبئنا بتأويله } أي: أخبرنا بتعبيره وما يؤول إليه أمره { إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} أي: تؤثر الإحسان والأفعال الجميلة قال الضحاك :كان إذا ضاق على رجل مكانه وسع له وإن احتاج جمع له وإن مرض قام عليه وهو المروي عن أبي عبد الله (عليه السلام) وقال الزجاج :جاء في التفسير أنه كان يعين المظلوم وينصر الضعيف ويعود العليل قال وقيل: { من المحسنين } أي: ممن يحسن تأويل الرؤيا قال: وهذا دليل على أن أمر الرؤيا صحيح وأنها لم تزل في الأمم السالفة وفي الحديث أن الرؤيا جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة وتأويله أن الأنبياء يخبرون بما سيكون والرؤيا تدل على ما سيكون فيكون المعنى في الآية: إنا نعلمك أونظنك ممن يعرف تعبير الرؤيا ومن ذلك قول أمير المؤمنين (عليه السلام) قيمة كل امرىء ما يحسنه .
وقال أبومسلم :نراك من المحسنين إلينا إن فسرت لنا الرؤيا وهوقول ابن أبي إسحاق ثم ذكر لهما يوسف (عليه السلام) ما يدل على أنه عالم بتفسير الرؤيا { قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ} في منامكما { إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ} في اليقظة { قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا } التأويل وذلك أنه كره أن يخبرهما بالتأويل لما على أحدهما فيه من البلاء فأعرض عن سؤالهما وأخذ في غيره عن السدي وابن إسحاق وقيل: إنه إنما قدم هذا ليعلما ما خصه الله تعالى به من النبوة وليقبلا عنه فقال: لا يأتيكما طعام من منزلكما إلا أخبرتكما بصفة ذلك الطعام وكيفيته قبل أن يأتيكما كما قال عيسى بن مريم (عليهماالسلام): وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم عن الحسن والجبائي { ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي} كأنهما قالا له: كيف عرفت تأويل الرؤيا ولست بكاهن ولا عراف؟ فأخبرهما أنه رسول الله وأنه تعالى علمه ذلك وتعليمه تعالى قد يكون بأن يفعل العلم في قلبه وقد يكون بالوحي وقد يكون بنصب الأدلة التي يدرك بها العلم {إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} معناه: أنه لا يستحق هذه الرتبة الخطيرة إلا المؤمنون المخلصون وإني تركت طريقة قوم لا يؤمنون فلذلك خصني الله بهذه الكرامة { وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي} أي: شريعة آبائي { إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ } أي: لا ينبغي لنا ونحن معدن النبوة وأهل بيت الرسالة أن ندين بغير التوحيد { ذلك } أي: التمسك بالتوحيد والبراءة من الشرك وقيل: النبوة والعلم { مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا} بأن خصنا بها { وعلى الناس } أيضا بإرسالنا إليهم واتباعهم إيانا واهتدائهم بنا .
{ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ} نعم الله تعالى وقد كان يوسف (عليه السلام) فيما بينهم زمانا ولم يحك الله سبحانه أنه دعا إلى الدين وكانوا يعبدون الأصنام لأنه لم يطمع منهم في الاستماع والقبول فلما رآهم عارفين بإحسانه مقبلين عليه رجا منهم القبول منه فدعاهم إلى التوحيد على ما أمر الله سبحانه له في قوله ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وقد روي أن صاحبي السجن قالا له: لقد أحببناك حين رأيناك فقال :لا تحباني فوالله ما أحبني أحد إلا دخل علي من حبه بلاء أحبتني عمتي فنسبت إلى السرقة وأحبني أبي فألقيت في الجب وأحبتني امرأة العزيز فألقيت في السجن .
_____________________
1- تفسير مجمع البيان ،الطبرسي،ج5،ص400-402.
{ ودَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً - أي عنبا - وقالَ الآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ }. دخل يوسف الطهر السجن ، وبقيت امرأة العزيز الرجس في قصرها طليقة تأمر وتنهى ، ولكن يوسف دخل السجن طيب النفس ، وهوالذي أحبه وآثره لأن فيه راحة الضمير ، والنجاة من المعصية ، والفوز بمرضاة اللَّه ، أما امرأة العزيز فهي في سجن من العذاب الأليم ، عذاب الضمير والحرمان والفضيحة .
ودخل مع يوسف ( عليه السلام ) السجن فيمن دخل اثنان من حاشية الملك : ساقيه ، وخازن طعامه لتهمة ألصقت بهما ، قال الساقي : رأيت فيما يرى النائم اني أعصر خمرا - أي عنبا لأنه يؤول إلى الخمر - وقال الخازن : أما أنا فرأيت على رأسي خبزا يخطفه سرب من الطير ، ويذهب به { نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ }خبرنا بتفسير ما رأينا { إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ }في سيرتك مع أهل السجن .
{ قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما }. ذكر في تفسيره ستة أقوال ، ويتلخص أقربها إلى ظاهر اللفظ بأن يوسف قال للسائلين :
انا وأنتما محجوبان في هذا المكان لا يعلم أحدنا ما ذا يجري في خارجه ، ومع هذا فأنا اعلم أي طعام يرسل إليكما ، ما هونوعه ، وما هي الغاية من إرساله قبل أن يرسل .
وتسأل : لقد سألاه عن تعبير ما رأيا فأجابهما بأنه يخبر عن الغيب فيما يأتيهما من طعام ، وهذا لا يمت إلى السؤال بصلة ؟ .
أجل ، ليس هذا تعبيرا للرؤيا ، ولكنه تمهيد له ، فلقد أراد يوسف ان يغتنم هذه الفرصة ليثبت لأهل السجن انه نبي مرسل من عند اللَّه ، واستدل على نبوته بالإخبار عن الغيب ، تماما كما استدل عيسى ( عليه السلام ) على صدقه بقوله :
« وأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لآيَةً لَكُمْ - 49 آل عمران » . وبديهة ان الغرض الأول ليوسف ( عليه السلام ) ان يبث بين السجناء عقيدة التوحيد والاعتراف باليوم الآخر ، كما هوشأن الأنبياء ، ويظهر ذلك من أقواله التالية :
{ ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي }. ذا إشارة إلى الاخبار بالغيب و( كما ) حرف خطاب للسائلين عن تعبير الرؤيا ، والمعنى ان ما أخبركم به من الغيب ليس كهانة ولا سحرا أوعرافة ، وإنما هو وحي أوحاه اللَّه إليّ كما أوحى إلى الأنبياء من آبائي { إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ }. أي برئت من قوم لا يؤمنون باللَّه واليوم الآخر . . وفي هذا تعريض - ولكن بلطف ورفق - بالسجناء وغيرهم من المشركين ، لتكون دعوته أوقع في نفوسهم ، وفي التاريخ ان المصريين كانوا يومذاك يعبدون آلهة ، منها الشمس ، ويسمونها ( رع ) ، ومنها عجلهم ( ابيس ) .
{ واتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وإِسْحاقَ ويَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ }. لقد كان هؤلاء مشهورين مكرمين عند الجميع وبالخصوص إبراهيم الخليل ( عليه السلام ) ، ولذلك أضاف يوسف نفسه إليهم نسبا ودينا ، قال الرازي :
« لما ادعى يوسف النبوة وتحدى بالمعجزة ، وهي علم الغيب قرن به كونه من أهل بيت النبوة ، وان أباه وجده وجد أبيه كانوا أنبياء ، فإن الإنسان متى ادعى حرفة آبائه لم يستبعد ذلك منه ، وأيضا ان درجة إبراهيم وإسحاق ويعقوب كانت معروفة عند الناس ، فإذا ظهر انه ولدهم عظموه ، وكان انقيادهم له أتمّ ، وتأثير كلامه في قلوبهم أكمل » .
{ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وعَلَى النَّاسِ}. أي ان اختصاصنا بالنبوة فضل من اللَّه حيث رآنا أكفاء لرسالته ، وأيضا فضل على الناس لأنهم بنا اهتدوا إلى سواء السبيل { ولكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ }بل يشركون ويجحدون : وكلما زادوا غنى ازدادوا كفرا وطغيانا .
________________
1- التفسير الكاشف، محمد جواد مغنية،ج4، ص312-313.
قوله تعالى:{ وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ} إلى آخر الآية الفتى العبد وسياق الآيات يدل على أنهما كانا عبدين من عبيد الملك، وقد وردت به الروايات كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
وقوله:{ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} فصل قوله:{قال أحدهما} للدلالة على الفصل بين حكاية الرؤيا وبين الدخول كما يشعر به ما في السياق من قوله:{أراني} وخطابه له بصاحب السجن.
وقوله:{أراني} لحكاية الحال الماضية كما قيل، وقوله:{أعصر خمرا} أي أعصر عنبا كما يعصر ليتخذ خمرا فقد سمي العنب خمرا باعتبار ما يؤول إليه.
والمعنى أصبح أحدهما وقال ليوسف (عليه السلام) إني رأيت فيما يرى النائم إني أعصر عنبا للخمر.
وقوله:{ وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ} أي تنهشه وهي رؤيا أخرى ذكرها صاحبه.
وقوله:{ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} أي قالا نبئنا بتأويله فاكتفى عن ذكر الفعل بقوله:{قال}{وقال} وهذا من لطائف تفنن القرآن، والضمير في قوله:{بتأويله} راجع إلى ما يراه المدلول عليه بالسياق، وفي قوله:{إنا نراك من المحسنين} تعليل لسؤالهما التأويل و{نراك} أي نعتقدك من المحسنين لما نشاهد فيك من سيماهم، وإنما أقبلا عليه في تأويل رؤياهما لإحسانه، لما يعتقد عامة الناس أن المحسنين الأبرار ذووقلوب طاهرة ونفوس زاكية فهم ينتقلون إلى روابط الأمور وجريان الحوادث انتقالا أحسن وأقرب إلى الرشد من انتقال غيرهم.
والمعنى: قال أحدهما ليوسف: إني رأيت فيما يرى النائم كذا وقال الآخر: إني رأيت كذا، وقالا له: أخبرنا بتأويل ما رآه كل منا لأنا نعتقد من المحسنين، ولا يخفى لهم أمثال هذه الأمور الخفية لزكاء نفوسهم وصفاء قلوبهم.
قوله تعالى:{ قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا} لما أقبل صاحبا السجن على يوسف (عليه السلام) في سؤاله عن تأويل رؤيا رأياها عن حسن ظن به من جهة ما كانا يشاهدان منه سيماء المحسنين اغتنم (عليه السلام) الفرصة في بث ما عنده من أسرار التوحيد والدعوة إلى ربه سبحانه الذي علمه ذلك فأخبرهما أنه عليم بذلك بتعليم من ربه خبير بتأويل الأحاديث وتوسل بذلك إلى الكشف عن سر التوحيد ونفي الشركاء ثم أول رؤياهما.
فقال أولا: لا يأتيكما طعام ترزقانه - وأنتما في السجن - إلا نبأتكما بتأويله - أي بتأويل ذاكما الطعام وحقيقته وما يؤول إليه أمره - فأنا خبير بذلك فليكن آية لصدقي فيما أدعوكما إليه من دين التوحيد.
هذا على تقدير عود الضمير في قوله:{بتأويله} إلى الطعام، ويكون عليه إظهارا منه (عليه السلام) لآية نبوته نظير قول المسيح (عليه السلام) لبني إسرائيل:{وأنبؤكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين}: آل عمران: 49، ويؤيد هذا المعنى بعض الروايات الواردة من طرق أهل البيت (عليهم السلام) كما سيأتي في بحث روائي إن شاء الله تعالى.
وأما على تقدير عود ضمير{بتأويله} إلى ما رأياه من الرؤيا فقوله:{لا يأتيكما طعام} إلخ، وعد منه لهما تأويل رؤياهما ووعد بتسريعه غير أن هذا المعنى لا يخلومن بعد بالنظر إلى السياق.
قوله تعالى:{ ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} بين (عليه السلام) أن العلم والتنبؤ بتأويل الأحاديث ليس من العلم العادي الاكتسابي في شيء بل هو مما علمه إياه ربه ثم علل ذلك بتركه ملة المشركين واتباعه ملة آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب أي رفضه دين الشرك وأخذه بدين التوحيد.
والمشركون من أهل الأوثان يعتقدون بالله سبحانه ويثبتون يوم الجزاء بالقول بالتناسخ كما تقدم في الجزء السابق من الكتاب لكن دين التوحيد يحكم أن الذي يقدر له شركاء في التأثير أوفي استحقاق العبادة ليس هوالله وكذا عود النفوس بعد الموت بأبدان أخرى تتنعم فيها أوتعذب ليس من المعاد في شيء، ولذلك نفى (عليه السلام) عنهم الإيمان بالله وبالآخرة، وأكد كفرهم بالآخرة بتكرار الضمير حيث قال:{وهم بالآخرة هم كافرون} وذلك لأن من لا يؤمن بالله فأحرى به أن لا يؤمن برجوع العباد إليه.
وهذا الذي يقصه الله سبحانه من قول يوسف (عليه السلام):{ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} هو أول ما أنبأ في مصر نسبه وأنه من أهل بيت إبراهيم وإسحاق ويعقوب (عليهما السلام).
قوله تعالى:{ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ} أي لم يجعل الله سبحانه لنا أهل البيت سبيلا إلى أن نشرك به شيئا ومنعنا من ذلك، ذلك المنع من فضل الله ونعمته علينا أهل البيت وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون فضله تعالى بل يكفرون به.
وأما أنه تعالى جعلهم بحيث لا سبيل لهم إلى أن يشركوا به فليس جعل إجبار وإلجاء بل جعل تأييد وتسديد حيث أنعم عليهم بالنبوة والرسالة والله أعلم حيث يجعل الرسالة فاعتصموا بالله عن الشرك ودانوا بالتوحيد.
وأما أن ذلك من فضل الله عليهم وعلى الناس فلأنهم أيدوا بالحق وهو أفضل الفضل والناس في وسعهم أن يرجعوا إليهم فيفوزوا باتباعهم ويهتدوا بهداهم.
وأما أن أكثر الناس لا يشكرون فلأنهم يكفرون بهذه النعمة وهي النبوة والرسالة فلا يعبئون بها ولا يتبعون أهلها أولأنهم يكفرون بنعمة التوحيد ويتخذون لله سبحانه شركاء من الملائكة والجن والإنس يعبدونهم من دون الله.
هذا ما ذكره أكثر المفسرين في معنى الآية.
ويبقى عليه شيء وهو أن التوحيد ونفي الشركاء ليس مما يرجع فيه إلى بيان النبوة فإنه مما يستقل به العقل وتقضي به الفطرة فلا معنى لعده فضلا على الناس من جهة الاتباع بل هم والأنبياء في أمر التوحيد على مستوى واحد وشرع سواء ولوكفروا بالتوحيد فإنما كفروا لعدم إجابتهم لنداء الفطرة لا لعدم اتباع الأنبياء.
لكن يجب أن يعلم أنه كما أن من الواجب في عناية الله سبحانه أن يجهز نوع الإنسان مضافا إلى الهامة من طريق العقل الخير والشر والتقوى والفجور بما يدرك به أحكام دينه وقوانين شرعه وهو سبيل النبوة والوحي، وقد تكرر توضيحه في أبحاثنا السابقة كذلك من الواجب في عنايته أن يجهز أفرادا منه بنفوس طاهرة وقلوب سليمة مستقيمة على فطرتها الأصلية لازمة لتوحيده ممتنعة عن الشرك به يستبقي به أصل التوحيد عصرا بعد عصر ويحيى به روح السعادة جيلا بعد جيل، والبرهان عليه هو البرهان على النبوة والوحي فإن الواحد من الإنسان العادي لا يمتنع عليه الشرك ونسيان التوحيد، والجائز على الواحد جائز على الجميع وفي تلبس الجميع بالشرك فساد النوع في غايته وبطلان الغرض الإلهي في خلقته.
فمن الواجب أن يكون في النوع رجال متلبسون بإخلاص التوحيد يقومون بأمره ويدافعون عنه وينبهون الناس عن رقدة الغفلة والجهالة بإلقاء حججه وبث شواهده وآياته وبينهم وبين الناس رابطة التعليم والتعلم دون السوق والاتباع.
وهذه النفوس إن كانت فهي نفوس الأنبياء والأئمة (عليهم السلام)، وفي خلقهم وبعثهم فضل من الله سبحانه عليهم بتعليم توحيده لهم، وعلى الناس بنصب من يذكرهم الحق الذي تقضي به فطرتهم ويدافع عن الحق تجاه غفلتهم وضلالتهم فإن اشتغال الناس بالأعمال المادية ومزاولتهم للأمور الحسية تجذبهم إلى اللذات الدنيوية وتحرضهم على الإخلاد إلى الأرض فتبعدهم عن المعنويات وتنسيهم ما في فطرهم من المعارف الإلهية، ولولا رجال متألهون متولهون في الله الذين أخلصهم بخالصة ذكرى الدار في كل برهة من الزمان لأحيطت الأرض بالعماء، وانقطع السبب الموصول بين الأرض والسماء، وبطلت غاية الخلقة، وساخت الأرض بأهلها.
ومن هنا يظهر أن الحق أن تنزل الآية على هذه الحقيقة فيكون معنى الآية: لم يجعل لنا بتأييد من الله سبيل إلى أن نشرك بالله شيئا، ذلك أي كوننا في أمن من الشرك من فضل الله علينا لأنه الهدى الذي هوسعادة الإنسان وفوزه العظيم.
وعلى الناس لأن في ذلك تذكيرهم إذا نسوا وتنبيههم إذا غفلوا، وتعليمهم إذا جهلوا، وتقويمهم إذا عوجوا ولكن أكثر الناس لا يشكرون الله بل يكفرون بهذا الفضل فلا يعبئون به ولا يقبلون عليه بل يعرضون عنه. هذا.
وذكر بعضهم في معنى الآية: أن المشار إليه بقوله:{ذلك من فضل الله علينا} إلخ، هو العلم بتأويل الأحاديث.
وهو كما ترى بعيد من سياق الآية.
__________________
1- تفسير الميزان ،الطباطبائي،ج11،ص144-147.
ومن جملة السجناء الداخلين مع يوسف فتيان { وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ }.
وحيث أنّ من الظروف لم تكن تسمح للإنسان أن يحصل فيها على الأخبار بطريق عادي، فإنّه يأنس لأحاسيس الآخرين ليبحث عن مسير الحوادث ويتوقّع ما سيكون، حتّى أنّ الرؤيا وتعبيرها عنده يكون مطلباً مهمّاً.
من هذا المنطلق جاء ليوسف يوماً هذان الفتيان اللذان يقال: إنّ أحدهما كان ساقياً في بيت الملك، والآخر كان مأموراً للطعام والمطبخ، وبسبب وشاية الأعداء وسعايتهم بهما دخلا السجن بتهمة التصميم لسمّ الملك، وتحدّث كلّ منهما عن رؤيا رآها الليلة الفائتة وكانت بالنسبة له أمراً عجيباً.
{ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ} ثمّ أضافا { نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}.
وحول معرفة الفتيين وإطلاعهما على أنّ يوسف له خبرة بتأويل الأحلام هناك أقوال بين المفسّرين:
قال بعضهم: إنّ يوسف نفسه أخبر السجناء بأنّ له إطلاعاً واسعاً في تفسير الأحلام، وقال بعضهم: إنّ سيماء يوسف الملكوتية كانت تدلّ على أنّه ليس فرداً عادياً .. بل هو فرد عارف مطّلع وصاحب فكر ونظر، ولابدّ أن يكون مثل هذا الشخص قادراً على حلّ مشاكلهم في تعبير الرؤيا.
وقال البعض الآخر: إنّ يوسف من بداية دخول السجن برهن ـ بأخلاقه الحسنة والمعاشرة الطيّبة للسجناء وخدمتهم وعيادة مرضاهم ـ أنّه رجل صالح وحلاّل المشاكل، لذلك كانوا يلتجئون إليه في حلّ مشاكلهم ويستعينون به.
وهناك ملاحظة جدير ذكرها، وهي أنّ القرآن عبّر بـ«الفتى» مكان «العبد» وهو نوع من الإحترام، وعندنا في الحديث «لا يقولنّ أحدكم عبدي وأمتي ولكن فتاي وفتاتي»(2) ليكون العبيد في مراحل الإنعتاق والحريّة التي نظّمها الإسلام في مأمن من كلّ أنواع التحقير.
التعبير بـ{إنّي أراني أعصر خمراً} إِمّا لأنّه رأى في النوم أنّه يعصر العنب للشراب أو العنب المخمّر الذي في الدنّ، وهو يعصره ليصفّيه مستخرجاً منه الشراب، أو أنّه يعصر العنب ليقدّم عصيره للملك!.. دون أن يكون خمراً، وحيث أنّ العنب يمكن أن يتبدّل خمراً أطلق عليه لفظ الخمر.
والتعبير بـ{إنّي أراني} بدلا من «إنّي رأيت» هو بعنوان حكاية الحال، أي إنّه يفرض نفسه في اللحظة التي يرى فيها الرؤيا «النوم» وهذا الكلام لتصوير تلك الحالة.
وعلى كلّ حال فقد إغتنم يوسف مراجعة السجينين له لتعبير الرؤيا ـ وكان لا يدع فرصة لإرشاد السجناء ونصحهم ـ وبحجّة التعبير كان يبيّن حقائق مهمّة تفتح لهم السُبُل ولجميع الناس أيضاً.
في البداية، ومن أجل أن يستلفت إهتمامهما وإعتمادهما على معرفته بتأويل الأحلام الذي كان مثار إهتمامهما وتوجّههما { قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا}.
وبهذا فقد طمأنهما أنّهما سيجدان ضالّتهما قبل وصول الطعام إليهما.
وهناك إحتمالات كثيرة في هذه الجملة بين المفسّرين، من جملتها: إنّ يوسف قال: أنا بأمر الله مطّلع على بعض الأسرار، لا انّي أستطيع تعبير الأحلام فحسب، بل أنا أستطيع حتّى إخباركم بما سيأتيكم من الطعام وما نوعه وبأي صورة وأي خصوصية!.
فعلى هذا يكون التأويل بمعنى ذكر خصوصيات ذلك الطعام، وإن كان التأويل قليل الإستعمال في مثل هذا المعنى طبعاً، ولا سيّما أنّه ورد في الجملة السابقة بمعنى تعبير الرؤيا.
والإحتمال الآخر من مقصود يوسف هو: إنّ أي نوع من الطعام ترونه في النوم فأنا أعرف ما تأويله (ولكن هذا الإحتمال لا ينسجم مع الجملة السابقة) {قبل أن يأتيكما}.
فعلى هذا يكون أحسن التفاسير للجملة المتقدّمة، هو التّفسير الأوّل الذي ذكرناه في بداية الحديث.
ثمّ إنّ يوسف أضاف إلى كلامه مقروناً بالإيمان بالله والتوحيد الجاري بجميع أبعاده في أعماق وجوده، ليبيّن بوضوح أن لا شيء يتحقّق إلاّ بإرادة الله قائلا: {ذلكما ممّا علّمني ربّي} ولئلاّ يتصوّر أنّ الله يمنح مثل هذه الأُمور دون حساب، قال { إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ}.
والمقصود بهذه الملّة أو الجماعة هم عبدة الأصنام بمصر أو عبدة الأصنام من كنعان.
وينبغي لي أن أترك مثل هذه العقائد لأنّها على خلاف الفطرة الإنسانية النقيّة، ثمّ إنّي تربّيت في اُسرة الوحي والنبوّة { وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ}.
ولعلّ هذه هي أوّل مرّة يعرّف يوسف نفسه للسجناء بهذا التعريف، ليعلموا أنّه سليل الوحي والنبوّة وقد دخل السجن بريئاً .. كبقيّة السجناء الأبرياء في حكومة الطواغيت.
ثمّ يضيف على نحو التأكيد { مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} لأنّ اُسرتنا اُسرة التوحيد ... اُسرة إبراهيم محطّم الأصنام { ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ}.
وعلى هذا فلا تتصوّروا أنّ هذا الفضل والحبّ شملا اُسرتنا أهل النبوّة فحسب ـ بل هي الموهبة العامّة التي تشمل جميع عباد الله المودعة في أرواحهم المسمّاة بالفطرة حيث يتكاملون بقيادة الأنبياء { وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ}.
جدير بالذكر والإلتفات أنّ «إسحاق» عُدّ في الآية المتقدّمة في زمرة «آباء يوسف» في حين أنّنا نعرف أنّ يوسف هو ابن يعقوب ويعقوب هو إبن إسحاق، فتكون كلمة أب بهذا مستعملة في الجدّ أيضاً.
________________
1- تفسير الامثل ،مكارم الشيرازي،ج6،ص288-290.
2ـ مجمع البيان، ج5، ص232.
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
المجمع العلمي للقرآن الكريم يقيم جلسة حوارية لطلبة جامعة الكوفة
|
|
|