أقرأ أيضاً
التاريخ: 23-5-2019
2099
التاريخ: 3-04-2015
3372
التاريخ: 19-3-2016
3498
التاريخ: 17-3-2016
3301
|
الشعر المختلق :
يقول الشهيد العلامة المطهري (رحمه الله) حسبما نُسب إليه وهو يتحدّث عمّا سمعه في مجلس آخر في طهران : إن القارئ أضاف إلى مقولة : إنّ ليلى توجّهت إلى الخيمة ونثرت شعرها بناء على طلب الحسين (عليه السّلام) , أنها نذرت أيضاً زرع الطريق من كربلاء إلى المدينة بالريحان إذا ما استجاب الله تعالى دعاءها , وأرجع لها ابنها سالماً من المعركة ! أي أنها ستزرع طريقاً طوله ثلاثمئة فرسخ بالريحان !
قال القارئ ذلك ثم راح ينشد ويقول :
نذرٌ عليَّ لئن عادوا وإن رجعوا *** لأزرعنّ طريقَ التفت ريحانا
لقد ذهلت لمّا سمعت وزاد تعجبي من هذا البيت من الشعر العربي وصرت أسأل نفسي : من أين جاء وسط هذه التعزية ؟! ثم ذهبت أبحث في بطون الكتب وإذا بي أجد بأن (التفت) هي منطقة غير منطقة كربلاء أولاً . ثمّ إنّ بيت الشعر كله لا علاقة له بحادثة عاشوراء لا من قريب ولا من بعيد بل أنه نُظم على لسان مجنون ليلى العامري وهو ينتظر ليلاه التي كانت تقيم في هذه الناحية .
وإذا بقرّاء التعزية صاروا يقرؤونه على لسان ليلى اُمّ علي الأكبر وحُرّفت (التفت) إلى طفِّ كربلاء وواقعة عاشوراء .
تصوروا لو أنّ مسيحيّاً أو يهوديّاً أو ملحداً كان حاضراً في مثل هذا المجلس ألا تنتظرون منه أن يقول : ما هذه الترّهات التي تشوب تاريخ هؤلاء القوم ؟!
إنه لن يقول بأنّ قرّاء التعزية قد اختلقوا مثل هذه القصص من عنديّاتهم , بل إنه سيقول ـ والعياذ بالله ـ : ما أحمق نساءهم اللواتي ينذرن زرع الريحان من كربلاء إلى المدينة ! فما هو معنى هذا الكلام ؟!
ويقول أيضاً وهو يتحدث عن ليلى في كربلاء : والشعر المختلق على لسانها :
نذرٌ عليَّ لئن عادوا وإن رجعوا لأزرعنَّ طريقَ الطفِّ ريحانا
ونقول : إنّ لنا مع ما نُسب إليه (رحمه الله) هنا وقفات نوردها ضمن النقاط التالية :
أوّلاً : الشعر والمبالغة
إن من الواضح أنّ من أهم مظاهر الشعر وميزاته هو استخدام اُسلوب المبالغة فيه وإطلاق عنان الخيال للتجوال في الآفاق الرحبة وليقتنص من هنا وهناك صوراً جمالية فاتنة رائعة .
ولنأخذ مثالاً توضيحياً على ما نقول : موضوع التشبيه , وهو أبسط ما ينحو إليه الشاعر والناثر على حد سواء فإذا وجدنا الشاعر يشبّه رجلاً بالأسد في قوته وشجاعته وإقدامه أو يشبّهه بالجبل الأشم في ثباته وشموخه وعظمته فإنه يفعل ذلك دون أن يخطر له على بال ما للأسد من أنياب , ولبد وهيئات وحالات أو ما في الجبل من شجر , وحجر وتراب ومسارب وشعاب .
وهذا يوضّح أنّ القصد من ذكر زراعة طريق الطفِّ بالريحان ليس هو إنشاء نذر شرعي بالقيام بزراعة حقيقية لهذا الطريق وإنما المراد تصوير مدى الحرص على رجوع ذلك الولد الحبيب والغالي إلى أحضان والدته ومدى تلهّفها لرؤيته وحقيقة الأسى الذي تعاني منه جراء فراقه . وهو أمر تستحق لأجله الاحترام والإكبار بلا شك .
وإنّ من مظاهر كمال المرأة أن تملك هذه العاطفة النبيلة والجيّاشة ولن يستطيع أحد أن يصفها بالحمق ولا بغيره من أوصاف السوء مهما كان انتماؤه الديني وأيّاً كانت نظرته الإيمانيّة والعقائدية .
ثانياً : (التفت) اسم مكان
ويا ليت الشهيد السعيد ـ لو صحّت النسبة إليه ـ ذكر لنا المصدر الذي اعتمد عليه حين قال : إنّ (التفت) هو اسم المكان الذي كان يقيم فيه بنو عامر بن صعصعة ؛ فإن كلمة (التفت) لم نجدها فيما بأيدينا من كتب الجغرافيا والبلدان واللغة والتاريخ والأدب التي تحدّثت عن بني عامر ومساكنهم ومنازلهم .
ولا ندعي أننا قد استقرأناها جميعاً بل إننا نقول : إنّ اطّلاعنا على المصدر يعطينا الفرصة لمحاكمة هذه المقولة وللبحث في مدى صحة الاعتماد عليها , وبدون ذلك فإنها تكون دعوى تبقى عهدتها على مدّعيها وهي حجّة عليه ولا تلزم الآخرين بشيء , خصوصاً مع احتمال أن يكون (رحمه الله) قد استفاد ذلك بطريقة اجتهاديّة ممّا يذكره المؤرّخون حول مساكن بني عامر بن صعصعة وهم قوم قيس بن الملوّح .
فقد قال عمر رضا كحالة : كانوا كلهم بنجد ثم نزلوا ناحية من الطائف مجاورين لعدوان أصهارهم فنزلوا حولهم ... إلى أن قال : فكانت بنو عامر يتصيّفون الطائف ؛ لطيبها وثمارها ويتشتّون بلادهم من أرض نجد ؛ لسعتها وكثرة مراعيها وإمراء كلئها ويختارونها على الطائف...
وفي نصوص اُخرى : إنهم كانوا بذي سلم وهو واد منحدر على الذنائب . والذنائب في أرض بني البكاء على طريق البصرة إلى مكة ؛ وذلك لقول مجنون بني عامر :
أيا حرجات الحيِّ حيث تحمّلوا *** بذي سُلمٍ لا جادكنّ ربيعُ
وخيماتُك اللاتي بمنعرج اللوى *** بُلين بلىً لم تبلهنَّ رُبوعُ
وقيل : إنّ ليلى تزوّجت في ثقيف، وقيل : بل تزوّجها ورد العقيلي .
وذكروا أيضاً أنّ ليلى كانت تنزل بجبَلَي نعمان وهما جبلان قرب مكة وقد قال قيس بن الملوّح في ذلك :
أيا جَبَلَي نعمان بالله خليَّ *** سبيلَ الصبا يخلص إليَّ نسيمُها
ونحتمل أن يكون الشهيد مطهري ـ لو صحت نسبة الكلام إليه ـ قد أخذ كلمة (التفت) من كلمة (التوباد) , على أن يكون قد قسّم هذه الكلمة إلى قسمين :
أحدهما كلمة (التو) , والفارسي يلفظ الواو كالفاء ؛ فتصير (التف) .
والاُخرى كلمة (باد) التي تعني بالفارسيّة (الهواء) , وكلمة (تو) بمعنى داخل .
لكن إضافة التاء الثانية تبعد هذا الاحتمال وتقرّب احتمالاً آخر ؛ وهو أن يكون الأصل : (تفت باد) , فكلمة (تفت) تعني بالفارسيّة الحرارة فلعله (رحمه الله) قد اعتبر أن المراد من الكلمتين هو (الهواء الحار) , في إشارة إلى حرارة تلك المنطقة التي سمّيت بهذا الاسم , وأن تركيب الكلمتين (تفت باد) مع بعضهما البعض وإعطائهما طابع اللغة العربية قد اقتضى إسقاط التاء الثانية فصارت الكلمة هكذا (التوباد) .
نقول ذلك على أساس أن بني عامر كانوا يسكنون قرب جبل التوباد في نجد وقد قال مجنون بني عامر قيس بن الملوح : فقال : مضوا ... إلخ .
ثالثاً : التمثّل بالشعر
ولنفترض أنّ هذا الشعر قد جاء للتعبير عن حالة مجنون بني عامر مع ليلاه فما المانع من أن يكون قد استعاره من ليلى اُمِّ علي الأكبر على سبيل التمثّل به ؛ لمطابقته لحاله , وانسجامه مع تطلعاته وتعبيره عن آلامه وآماله ؟
ولعله لأجل هذا الغرض بالذات تصرّف في كلمة من الشعر فأبدلها باُخرى لو صحّ ما ذكروه من إبدال كلمة (الطفّ) بكلمة (التفت) . فكما يمكن أن يكون قرّاء العزاء هم الذين أبدلوا هذه الكلمة كذلك يمكن أن يكون الذي أبدلها هو مجنون بني عامر نفسه , خصوصاً إذا علمنا أنّ قيس بن الملوح كان معاصراً لليلى اُمّ علي الأكبر ؛ حيث كان يعيش في زمن يزيد (لعنه الله) وابن الزبير .
وعند ابن الجوزي أنّه توفي سنة سبعين للهجرة , وعند ابن تغري بردى أنه توفي في حدود سنة 65 , وقيل : في سنة 68 هـ .
رابعاً : الاستعانة أو الإيداع
وقد يكون قيس بن الملوح أو غيره قد أورد هذا البيت في قصيدته على سبيل التضمين ؛ سواء قصد به الإيداع أو الاستعانة . والإيداع : هو أن يودع الناظم شعره بيتاً من شعر غيره , أو نصف بيت وبعد أن يوطّئ له توطئةً تناسبه بحيث يظن السامع أنه جزء من شعره . فلعل قيس بن الملوّح قد أدخله في شعره على سبيل الاستعانة أو الإيداع ؛ فإن ذلك شائع في شعر العرب .
خامساً : لسان الحال طريقة تعبير مألوفة
بل ما الذي يمنع من أن يكون قرّاء العزاء الحسيني قد أوردوا هذا الشعر على طريقة (لسان حال ليلى) لكن بعض من سمعه قد ظنّ أنه ينسبه إليها على سبيل الحقيقة وأنها هي التي قالته أو نظمته ؟
سادساً : الشكّ في المجنون وفي شعره
والملفت للنظر هنا أمران كل واحد منهما يجعلنا نرجّح أنّ هذا الشعر قد نُسب إلى مجنون ليلى أو مجنون بني عامر على سبيل الادّعاء والتزوير وهذان الأمران هما :
الأوّل : إنّ أصل وجود المجنون موضع شك.
الثاني : إنّ شعره المنسوب إليه كلّه مولّد عليه أو أكثره . وللتدليل على ذلك نشير إلى روايات عديدة دلت على ذلك , ونقتصر على ما ورد في كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني ومن أراد المزيد من المصادر فعليه بمراجعة كتب الأدب والتراجم وغيرها .
والنصوص التي اخترناها هي التالية :
1 ـ أيوب بن عبابة يقول : سألت بني عامر بطناً بطناً عن مجنون بني عامر فما وجدت أحداً يعرفه .
2 ـ وعن ابن دأب أنه سأل أحد بني عامر عن وجود المجنون فأنكر وجوده , وقال : هيهات ! بنو عامر أغلظ أكباداً من ذاك , إنما يكون هذا في اليمانيّة الضعاف قلوبها ... إلخ .
3 ـ وعن الأصمعي : رجلان ما عُرفا في الدنيا قط إلاّ بالاسم ؛ مجنون بني عامر وابن القرية , وإنما وضعهما الرواة .
4 ـ وهناك اختلاف كثير في اسم المجنون ونسبته , فراجع .
5 ـ وعن عوانة أنه قال : المجنون اسم مستعار لا حقيقة له , وليس له في بني عامر أصل ولا نسب . فسُئل : من قال هذه الأشعار ؟ قال : فتى من بني اُميّة .
6 ـ عن ابن الأعرابي أنه ذكر عن جماعة من بني عامر أنهم سُئلوا عن المجنون فلم يعرفوه وذكروا أنّ هذا الشعر كلّه مولّد عليه.
7 ـ عن ابن الكلبي قال : حدّثت أنّ حديث المجنون وشعره وضعه فتى من بني اُميّة كان يهوى ابنة عمٍّ له وكان يكره أن يظهر ما بينه وبينها , فوضع حديث المجنون , وقال الأشعار التي يرويها الناس للمجنون ونسبها إليه .
8 ـ وعن أيوب بن عباية أنّ فتى من بني مراون كان يهوى أمرأة منهم , فيقول فيها الشعر وينسبه إلى المجنون وأنه عمل له أخباراً وأضاف إليها ذلك الشعر فحمله الناس وزادوا فيه .
9 ـ وقال الجاحظ: ما ترك الناس شعراً مجهولَ القائل في ليلى إلاّ نسبوه إلى المجنون .
10 ـ عن عوانة قال : ثلاثة لم يكونوا قط , ولا عُرفوا : ابن أبي العقب صاحب قصيدة الملاحم وابن القرية , ومجنون بني عامر .
11 ـ الأصمعي : الذي اُلقي على المجنون من الشعر واُضيف إليه أكثر من ما قاله هو .
ويقول أبو الفرج : إنّ أكثر الأشعار المذكورة في أخباره نسبها بعض الرواة إلى غيره , وينسبها من حكيت عنه إليه , وإذا قدّمت هذه الشريطة برئت من عيب طاعن ومتتبع للعيوب .
وكل ذلك يرجّح أن تكون نسبة هذا الشعر إلى المجنون قد جاءت على سبيل التزوير والافتعال كما هو الحال في كثير مما نُسب إليه.
وإنّ الأرجح هو سرقة هذا البيت من صاحبه الأصلي وهو اُمّ علي الأكبر (رحمها الله) ثمّ التصرف فيه ثمّ نسبته إلى آخر هو المجنون أو شخص آخر رأوه أولى به ؛ لما يتضمّن من حكايته لحاله أو لحالهم إن كان المجنون شخصية وهمية صنعها رجل من بني اُميّة للتستر وراءها .
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|