حكى أبو هلال
العسكري في كتاب الأوائل عند ذكر أبي الهيثم بن التيهان : إنه أول من ضرب على يد
رسول الله صلى الله عليه وآله في ابتداء أمر نبوته.
ثم قال ـ
بإسناده ـ : إن أبا الهيثم قام خطيبا بين يدي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه
السلام فقال : إن حسد قريش إياك على وجهين : أما خيارهم ، فتمنوا أن يكونوا مثلك
منافسة في الملإ وارتفاع الدرجة ، وأما شرارهم ، فحسدوا حسدا أثقل القلوب وأحبط
الأعمال ، وذلك أنهم رأوا عليك نعمة قدمها إليك الحظ وأخرهم عنها الحرمان ، فلم
يرضوا أن يلحقوا حتى طلبوا أن يسبقوك ، فبعدت ـ والله ـ عليهم الغاية ، وقطعت
المضمار ، فلما تقدمتهم بالسبق وعجزوا عن اللحاق بلغوا منك ما رأيت ، وكنت ـ والله
ـ أحق قريش بشكر قريش ، نصرت نبيهم حيا ، وقضيت عنه الحقوق ميتا ، والله ما بغيهم
إلا على أنفسهم ، ولا نكثوا إلا بيعة الله ، ( يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ )
فيها ، ونحن معاشر الأنصار أيدينا وألسنتنا معك ، فأيدينا على من شهد وألسنتنا على
من غاب.
أقول : روى ابن
أبي الحديد في شرح النهج : عن علي بن محمد بن أبي سيف المدائني ، عن فضيل بن الجعد
، قال : آكد الأسباب كان في تقاعد العرب عن أمير المؤمنين عليه السلام أمر المال
، فإنه لم يكن يفضل شريفا على مشروف ، ولا عربيا على عجمي ، ولا يصانع الرؤساء
وأمراء القبائل كما يصنع الملوك ، ولا يستميل أحدا إلى نفسه ، وكان معاوية بخلاف
ذلك ، فترك الناس عليا عليه السلام والتحقوا بمعاوية ، فشكا علي عليه السلام إلى
الأشتر تخاذل أصحابه وفرار بعضهم إلى معاوية ، فقال الأشتر : يا أمير المؤمنين!
إنا قاتلنا أهل البصرة بأهل البصرة وأهل الكوفة ورأي الناس واحد ، وقد اختلفوا بعد
وتعادوا وضعفت النية وقل العدد ، وأنت تأخذهم بالعدل ، وتعمل فيهم بالحق ، وتنصف للوضيع من
الشريف ، فليس للشريف عندك فضل منزلة ، فضجت طائفة ممن تبعك من الحق إذ عموا به
واغتموا من الحق إذ صاروا فيه ، ورأوا صنائع معاوية عند أهل الغناء والشرف ، فتاقت
أنفس الناس إلى الدنيا ، وقل من ليس للدنيا ، وأكثرهم يجتوي الحق ويشتري الباطل ،
ويؤثر الدنيا ، فإن تبذل المال ـ يا أمير المؤمنين ـ تمل إليك أعناق الرجال وتصفو
نصيحتهم ، ويستخلص ودهم لك يا أمير المؤمنين! وكبت أعداؤك ، وفض جمعهم ، وأوهن كيدهم ، وشتت أمورهم ، ( إِنَّهُ
بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) فقال علي عليه
السلام : أما ما ذكرت من علمنا وسيرتنا بالعدل ، فإن الله عز وجل يقول : ( مَنْ
عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ ) ،
وأما [ أنا ] من أن أكون مقصرا فيما ذكرت أخوف. وأما ما ذكرت من أن الحق ثقيل
عليهم ففارقوا بذلك ، فقد علم الله أنهم لم يفارقونا من جور ولا لجئوا إذ فارقونا
إلى عدل ، ولم يلتمسوا إلا دنيا زائلة عنهم كان قد فارقوها ، وليسألن يوم القيامة
: أللدنيا أرادوا أم لله عملوا؟.
وأما ما ذكرت من
بذل الأموال واصطناع الرجال ، فإنه لا يسعنا أن نؤتي امرأ من الفيء أكثر من حقه ،
وقد قال الله سبحانه وقوله الحق : ( كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً
كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ) وقد بعث الله محمدا صلى الله
عليه وآله وحده ، وكثره بعد القلة ، وأعز فئته بعد الذلة ، وإن يرد الله أن
يولينا هذا الأمر يذلل لنا صعبه ، ويسهل لنا حزنه ، وأنا قابل من رأيك ما كان لله
عز وجل رضى ، وأنت من آمن الناس عندي ، وأنصحهم لي ، وأوثقهم في نفسي إن شاء الله.
وروى أيضا في
الكتاب المذكور ، عن هارون بن سعد قال : قال عبد الله بن جعفر بن أبي طالب لعلي
عليه السلام : يا أمير المؤمنين! لو أمرت لي بمعونة أو نفقة! فو الله ما لي نفقة
إلا أن أبيع دابتي. فقال : لا والله ، ما أجد لك شيئا إلا أن تأمر عمك يسرق فيعطيك
..
ـ جماعة ، عن
أبي المفضل ، عن محمد بن العباس النحوي ، عن الخليل بن أسد ، عن محمد بن سلام ،
قال : حدثني يونس بن حبيب النحوي ـ وكان عثمانيا ـ قال : قلت للخليل بن أحمد :
أريد أن أسألك عن مسألة فتكتمها علي؟ قال : إن قولك يدل على أن الجواب أغلظ من
السؤال ، فتكتمه أنت أيضا؟ قال : قلت : نعم أيام حياتك. قال : سل. قال : ما بال
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله ورحمهم كأنهم كلهم بنو أم واحدة وعلي بن
أبي طالب عليه السلام من بينهم كأنه ابن علة؟. قال : من أين لك هذا السؤال؟. قال
: قلت : قد وعدتني الجواب. قال : قد ضمنت لي الكتمان.
قال : قلت أيام
حياتك.
فقال : إن عليا
عليه السلام تقدمهم إسلاما وفاقهم علما ، وبذهم شرفا ، ورجحهم زهدا ، وطالهم
جهادا ، فحسدوه ، والناس إلى أشكالهم وأشباههم أميل منهم إلى من بان منهم ، فافهم.
المصدر : بحار الأنوار
المؤلف : العلامة الشيخ محمد باقر المجلسي
الجزء والصفحة : جزء 29 / صفحة [ 505 ]
تاريخ النشر : 2025-08-06