الحرب النفسية في عصر النهضة
المؤلف:
الدكتور بطرس خالد
المصدر:
الإعلام والحرب النفسية
الجزء والصفحة:
ص 30- 32
2025-11-26
44
الحرب النفسية في عصر النهضة:
تزامن ظهور المطبعة في تطورات مهمة أخرى في النشاط البشري وخاصة في مجال إدارة الحرب النفسية، كما كان لظهور البارود في أواخر العصور الوسطى تأثيره النفسي أكثر من تأثيره الحربي أو العسكري، ولكن استخدامه الحربي في أواخر القرن الخامس عشر كان قد تم إحكامه في شكل المدفع والأسلحة التي تحمل باليد وأدت هذه بدورها إلى نفي الطابع الشخصي عن القتال، وزادت من البعد المادي بين القوات المتحاربة، فقللت بذلك من الحاجة إلى رفع شجاعة الرجال لكي يندفعوا إلى منازلة بعضهم البعض في الاقتتال المباشر الذي تميزت به المراحل السابقة وازداد حجم الجيوش وظهرت تكتيكات جديدة لعملية خوض المعارك وعمليات الحصار (مثل ابتكار المعاقل المحصنة لمقاومة نيران المدفعية بفاعلية أكبر) حيث ضاقت المسافة الفاصلة بين الجنود والمدنيين، وقد كتب أحد الكتاب الإنجليز في العام 1598 قائلاً (إننا نادراً ما نرى في أيامنا تبادل الرجال للضربات مثلما كانوا يفعلون في الأيام الخالية).
أدت عمليات الحصار الحربية التي ميزت المراحل الأخيرة من حرب المائة عام إلى توريط السكان المدنيين إلى درجة غير مسبوقة في بشاعات المعارك إذ أصبح من الضروري الانتباه إلى معنويات أهالي المدن المحاصرة التي تدكها نيران المدفعية وكان الفرنسيون أول من أسس جيشاً دائماً في أوروبا فيما بين العامين 1445 و 1448 يتيح كياناً دائماً ومحترفاً يتبع الملك مباشرة، وقد أدى هذا التطور إلى نسف أفكار "الفروسية"، كما أدى إلى المزيد من التخصص في الجيوش الجديدة غير الارستقراطية وساعد على هذا بشكل أكبر ازدياد استخدام المرتزقة وخاصة من السويسريين والألمان الذين جلبوا معهم أسلحة ومهارات قتالية متخصصة، وكان المال هو المحرك الأكبر لدى مثل هؤلاء الرجال، فوجه مستخدموهم دعايتهم فيهم نحو الوعد بالجوائز المالية ولكن هذا لم يكن يفعل مفعوله على الدوام، فحينما كانت المخاطر تفوق الجوائز كان المرتزقة يظهرون هشاشة ولائهم وضعفه.
كما كان عازفو الموسيقى العسكرية جزءاً عضوياً من المعنويات القتالية تماماً مثلما كانوا في بعض الجيوش القديمة، وعلى الرغم انتقاد الموسيقى العسكرية آنذاك بأنها (بالغة التأثير في إثارة الشهوة إلى الدماء) فقد كونت جزءاً من عملية الإعداد الموجه ومن البيئة اللتين كانتا على المستوى ذاته من الأهمية الذي كان للأزياء الرسمية والمواكب برموزها أو التدريب وذلك في مجال دفع الجنود إلى القتال ومن الأساليب الأخرى لرفع المعنويات المأخوذة من العصور القديمة يبرز أسلوب الخطب الحماسية السابقة على نشوب المعارك.
من المؤكد أن الطباعة قد جعلت تمجيد الحرب يمتد ويتطاول دون حدود، فبدلاً من المخطوطات التي تنساب قطرة قطرة أصبحت الكتابات التي تتناول الحرب فيضاناً من المطبوعات وأصبحت الحرب موضوع للدراسة والمناقشة عبر الغرب كله كلمة بكلمة، وكتلة من حروف الطباعة وراء كتلة وصورة أو لوحة وراء مثيلتها، ومن دمي مباريات الرماية إلى التشكيلات الكاملة من تماثيل الجنود المصنوعة من الرصاص غير أن ما انطلق من أعمال وحشية خلال الحرب الايطالية، خاصة ما انصب منها على السكان المدنيين هيأ أسباب عدة للقلق فعلى سبيل المثال وصف توماس مور نهب روما الوحشي في العام 1527 بالعبارات التصويرية التالية:
(أما أشراف الرجال القدامى، أولئك الذين نصبت تماثليهم في الساحات، فقد كسروا الكثير منها فخلعوها ورموها في الطرقات وأخرجوا البعض من أهل روما عراه وقد قيدت أيديهم خلف ظهورهم، وضربوا في طريقهم من قبل حاملي الحراب المراكشية)، لقد أدت الروايات عن الأعمال الوحشية إلى تغذية المشاعر المعادية للحرب بين أغلبية السكان وباختلاف طبقاتهم الاجتماعية وتياراتهم الفكرية.
وخلال القرن السادس عشر انتعشت الحرب النفسية وخاصة الدعاية من فوق المنبر مع الاهتمام بالمواعظ والخطب الدينية.
وظهر الاختلاف في العقائد الدينية من خلال ما أصبح متاحاً لرجال الدين من أعمال مطبوعة استخدموها كأدلة مرشدة لرسالاتهم الإيديولوجية. وكانت الخطابات البابوية فيما سبق تنسخ بدقة بواسطة مجموعة منتقاة من الرهبان، وكانت تقوم بوظيفة “الأدلة" الإيديولوجية المرشدة. غير أنه بفضل الطباعة أصبحت السيطرة على الرسائل ممكنه ثم توزعها على جمهور أوسع بكثير، وينبغي أن نذكر أن المواعظ لم تكن تستهدف هدفاً دينياً فحسب، وإنما كانت وسيلة مهمة لنقل الأخبار المحلية والقومية والدولية إلى السكان، ولإعلان القوانين والمراسيم ولتبرير الضرائب ولإعلان نشوب الحرب والأهم من هذا كله استخدامها كأداة للحرب النفسية والدعاية.
الاكثر قراءة في الدعاية والحرب النفسية
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة