الحرب النفسية في العالم القديم
المؤلف:
الدكتور بطرس خالد
المصدر:
الإعلام والحرب النفسية
الجزء والصفحة:
ص 25- 28
2025-11-26
31
الحرب النفسية في العالم القديم:
أ - الحرب النفسية عند آشور:
في منتصف القرن الرابع عشر قبل الميلاد:
لا تزال معرفتنا بفجر البشرية قليلة للغاية حتى ليستحيل أن نحدد بشكل محدد متى بدأ إنسان العصر الحجري القديم في استخدام أدواته لأغراض الحرب النفسية.
ففي منتصف القرن الرابع عشر قبل الميلاد حينما كان الآشوريون يتحدون البابليين على السيادة جلبوا معهم الترانيم والقصائد البطولية الحربية، وتمدنا الإمبراطورية الآشورية بمصدر أكثر ثراء بكثير - للحرب النفسية - مما أمدتنا به الإمبراطورية البابلية.
وكان نشاط الحرب النفسية السابقة على المعارك يتجلى في الحكايات التي كانت تحذر الخصم من أخطار القتال، وكان يقف وراء تأليفها كهنة سومر القدماء الذين كانوا ينافسون الملوك على ولاء الجمهور، وشكلت تعاليمهم الدينية المصدر الذي استمدت منه الحرب النفسية مضمونها في تخويف الخصم، وكان استحضار الآلهة وسيلة مثلى - بالطبع - للمحافظة على سلطة ومكانة الكهنة في مجتمع تحكمه الخرافات، ولكنه أيضاً وسيلة مناسبة لرفع المعنويات قبل القتال إذا ما كان الكهنة والملوك على رأي واحد.
وكان الملوك يشنون الحرب باسم الدين وليس من أجل الغنائم أو الأرض - في الظاهر على الأقل، فقد أعلن الآشوريون على سبيل المثال أنهم كانوا يشنون الحرب ضد أعداء الإله آشور لكي يظهروا عظمة معبودهم ومجده، وقد فعلوا ذلك بوحشية حتى أن الكثيرين من الأعداء المحتملين استسلموا دون قتال، وقد أشارت النقوش الآشورية الملكية إلى الأنشطة الحربية في تقارير تكتب على شكل سجلات سنوية، وتصف تلك السجلات زحف الملك وجيشه إلى الحرب ثم المعركة والنصر المحتم والظفر وإنزال العقاب بالمهزومين، ثم التقرير الختامي الذي يقدمه الملك لإلهه.
في منتصف القرن السادس قبل الميلاد:
في منتصف القرن السادس قبل الميلاد، يصف نقش على جدران قصر الملك أشور "ناصيربال الثاني" في نينوى كيف عاقب الملك الآشوري مدينة "سورو" المتمردة ثم ابتكر طريقة للتحذير من أي ثورات أخرى حيث بنى عموداً عند بوابة المدينة، وسلخ جلود كل رؤساء المتمردين وغطى العمود بجلودهم، وعلق بعض الجلود في العمود والبعض ألقاها فوقه وعلى العصي، والبعض منها علقها على الرماح من حوله، وسلخ الكثيرين داخل حدود المدينة، ونشر جلودهم على الجدران، وقطع أطراف الضباط الذين تمردوا ضده.
وقد عكس الفن الآشوري هذه الوحشية وحملها الفخار الآشوري إلى البلاد البعيدة، وقد كانت تلك سياسة لنشر الرعب ممتزجة بالحرب النفسية، استهدفت الإبقاء على الشعوب المهزومة الخاضعة ساكنة مستسلمة، وتخويف الأعداء المحتملين بتلك الصور المنحوتة والمنتشرة في أرجاء البلاد.
الحرب النفسية عند الفراعنة:
إن التحول التدريجي من الحرب التي شنها أصحابها باسم الإله إلى الحرب التي تشن باسم الملك (مع النزول بالإله إلى مستوى المؤثر الرمزي الدافع) فربما يرجع جزئياً إلى تأثير الملوك المصريين الذين طوروا أشكال الحرب النفسية الخاصة بهم وبخاصة الأبنية والنصب العامة مثل الأهرام وأبو الهول، وقد كان الفراعنة من أوائل من اعترفوا بقوة تأثير الأبنية المعمارية العامة على نطاق واسع لإثبات سمو مكانة الأسرة الحاكمة ومشروعيتها، ومع ذلك فلقد كانت أساليب الحرب النفسية لديهم مثل تلك التي صدرت عن الآشوريين متذبذبة ومبعثرة، إذ لم يكن لها نمط متماسك ولا نظام، واستخدم المكان الديني لتعميق الولاء ونشر الخوف بين المحكومين ولما كان الملوك يؤمنون هم أنفسهم بالخرافات فقد حرصوا على أن يساندوا ويؤسسوا حربهم النفسية على الرعب، سواء كان ذلك في زمن السلام أو في زمن الحرب، وبتعبير آخر، إذا كان الدين قد أنتج أصول الحرب النفسية، فإن الرعب يمكن أن يعتبر منتج أصول الحرب النفسية في معناها البدائي.
ج - الحرب النفسية عند روما:
1. في أوروبا القديمة كانت روما تفتقر إلى المصادر الأسطورية التي أتيحت لرجال الدعاية الإغريق، فقامت لذلك باختلاق أساطير خاصة بها حتى تتيح لمواطنيها الأمثلة التي يحاكونها، ومن المؤكد أن الرومان كانوا مبدعين لا نظير لهم للدعاية الأسطورية.
وتقول الأسطورة أن مؤسسي روما كانا الشقيقين "رومولوس وريموس"، الذين أنجبتهما عذراء قتلت غيلة، فأصبحا يتيمين ورعتهما وأرضعتهما ذئبة، وهذه الأسطورة دعمت كبرياء الرومان بأصولهم المتواضعة، وكان هذا نافعاً بشكل خاص في ذروة القوة الرومانية لتأكيد مدى الارتفاع الذي حققوه، غير أن قصة صعودهم كانت قصة عنيفة.
2. كان أداء الخدمة العسكرية (فيما كان يمكن أن يصل إلى عشر حملات عسكرية سنوياً) من المؤهلات الأساسية للحصول على منصب سياسي على مدى تاريخ الجمهورية الرومانية.
3. لقد كان إله روما الرئيسي هو مارس ( Mars ) إله الحرب (بالطبع) وقد استخدم الدين وبشكل يفوق كثيراً ما حدث في اليونان، استخداماً نفعياً بوصفه أداة للسيطرة الاجتماعية.
4. كان أحد الأهداف المهمة للحرب النفسية لتوسع روما الإمبراطوري هو بالتحديد القول بأن الحق كان دائماً إلى جانب روما، وكان المعتاد أن يتولى الشعب حث الشيوخ – بعدوانية شديدة – على خوض القتال، وكان الرومان ينتصرون - في العادة، وكان مبرر النصر دائماً هو كون القضية الرومانية هي الحق، حيث يولد النصر شعوراً هائلاً بالكبرياء، وإضافة إلى الوطنية كان ثمة شعور بالعدل الفطري والزهو بالإنجاز التاريخي.
5. وصف "بوليبيوس" قتل المدنيين واغتصابهم - دون تمييز - في مدينة قرطاجة الجديدة في اسبانيا على أيدي قوات "سيبيو" الأفريقي خلال الحرب اليونانية الثانية (202-219 ق.م) قائلاً (إن الهدف من هذه العادة فيما أرى هو بث الرعب في القلوب) وهذا هو ما كان، فلقد شجع القادة الرومان وأيدوا ما اشتهرت به القوات الرومانية من شراسة ووحشية، بوصفها حرب نفسية لإخافة الخصوم الآخرين، ولعل هذا هو ما جعل "سيبيو ايميليانوس" خلال الحرب الثالثة (149-146 ق.م) يأمر بقطع أيدي 400 متمرد في اسبانيا (على رغم أنه يقال أن هذا الرجل نفسه قد بكي حينما رأى قرطاجة وقد دمرت تماماً في نهاية الحرب).
6. لم يحدث أبداً أن صور المؤرخون الرومان، روما في صورة المعتدي، فعندهم روما دائما تقوم بالدفاع عن مصالحها وتقهر الشعوب الأجنبية لكي تنقذها من أنفسها، وكانت وقبل أن يشن أي هجوم ترسل المبعوثين في محاولة متباهية لحل النزاع في مصلحة روما بوسائل أخرى غير الحرب، وكانت روما لا تعلن الحرب على أعدائها إلا إذا رفضت مثل تلك المحاولة، إنها تعلن الحرب بذرائع عادلة تحت مسمى إنقاذ السلام.
7. توضح المصادر الرومانية أن مفتاح النجاح الحربي الروماني يكمن في تدريب الجيوش وتنظيمها وكثيراً ما منحت هذه الحقيقة - بخاصة - للجيوش الرومانية ميزة نفسية على خصومها، فبعد أن رسخت روما شهرتها بأنها قوة لا تقهر - على رغم بعض النكسات كتلك التي انزلها "هانيبال" بروما في معارك بحيرة "تراسمين" أصبحت روما قادرة على أن تعتمد على شهرتها بقدرتها على أن تخسر بعض المعارك أحياناً وكسب الحرب على الدوام، وكان وجود شبكة المواصلات الرومانية من الطرق البرية والبحرية والاهتمام التفصيلي بوسائل النقل والمؤن اللازمة للقوات، في حد ذاته سبباً في ردع أشد المعتدين عزماً، وكان الانضباط والمعنويات العالية للجيش عنصرين أساسيين فيما يتعلق بأسلوب شن الرومان للحرب النفسية إلى جانب حروبهم كلها.
8. كان قيصر مؤمناً متشدداً بالانضباط، فعاقب - بقسوة - الهاربين من الخدمة والمتمردين ولم ينس أبداً الدور الذي تلعبه الأموال والغنائم في دفع الجنود إلى القتال، وكان واحداً من أوائل القادة والمسؤولين الرومان الذين طبعوا صورهم على قطع النقود أثناء حياتهم، بدلاً من طبعها بعد الموت، وكانت النقود المعدنية وسيطاً مهماً من وسائط حمل الدعاية الرومانية ووسيلة ثمينة لنشر صور مرئية للانتصارات الرومانية في كل أنحاء الإمبراطورية.
الاكثر قراءة في الدعاية والحرب النفسية
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة