الحياة الاسرية
الزوج و الزوجة
الآباء والأمهات
الأبناء
مقبلون على الزواج
مشاكل و حلول
الطفولة
المراهقة والشباب
المرأة حقوق وواجبات
المجتمع و قضاياه
البيئة
آداب عامة
الوطن والسياسة
النظام المالي والانتاج
التنمية البشرية
التربية والتعليم
التربية الروحية والدينية
التربية الصحية والبدنية
التربية العلمية والفكرية والثقافية
التربية النفسية والعاطفية
مفاهيم ونظم تربوية
معلومات عامة
إيقاظ البصيرة ومحاصرة الغوغاء
المؤلف: حسين أحمد الخشن
المصدر: مع الشباب في همومهم وتطلعاتهم
الجزء والصفحة: ص191ــ203
2024-10-03
244
إن ارتفاع مستوى الوعي لدى أبنائها، وهذا لن يتحقق إلا بالعمل الدؤوب للقضاء على حالة الأمية والجهل المستشرية فيها، والوقوف بوجه سياسة التضليل والتجهيل، فإن الجهل هو موئل للخرافة، والأمية تمثل أرضاً خصبة للاستغلال من قبل أصحاب المطامع، حيث يعمل هؤلاء على الإفادة من هذه الأجواء لتمرير مشاريعهم وبث إشاعاتهم ودعاياتهم المغرضة، ويسعون ـ أي أصحاب المطامع من أعداء الأمة ـ في سبيل تحريك الأفراد الجاهلين والمعدمين وتحويلهم إلى جماعة غوغائية تعرقل نهوض الأمة، بما تسببه من أعمال مخلة بالنظام العام ومسيئة إلى أمن الناس، وقد لاحظنا أن الكثير من المشاريع الإصلاحية أو الجهود التحررية قد تم إجهاضها عندما أثيرت الغوغاء في وجهها، وأغرب ما نواجهه في هذا المجال هو أن ينخرط الجيل الشاب في أجواء الغوغاء، ويتحول إلى مجرد أدوات رخيصة في صراع المصالح الكبرى!
ولهذا يكون العمل على محاصرة ظاهرة الغوغاء أو تفكيكها عملاً ضرورياً وهاماً في طريق النهوض والتحرر، فمن هم الغوغاء؟ وما هي مخاطر هم؟ وكيف نفكك هذه الظاهرة؟
1ـ الغوغاء: المفهوم والمخاطر
إن مرد استخدامنا لمصطلح الغوغاء يعود إلى كونه مصطلحاً معبراً عن واقع حال هذه الجماعة، وهو أيضاً مروي عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، والذي حدد لنا بشكل جلي كيفية التعامل معهم، كما سيأتي.
والغوغاء هم (أوباش الناس يجتمعون على غير ترتيب ويتسرعون إلى ارتكاب الشر دون روية).
قال ابن الأثير: (أصل الغوغاء: الجراد حين يخف للطيران، ثم استعير للسفلة من الناس والمتسرعين إلى الشر، يجوز أن يكون من الغوغاء: الصوت والجلبة، لكثرة لغطهم وصياحهم)(1).
وهذه الفئة قل أن يخلو منها مجتمع من المجتمعات البشرية، وذلك بحسب ثقافة أبناء المجتمع وتمدنهم، أو جهلهم وتخلفهم، فكلما ارتفعت حالة الوعي في المجتمع قل هؤلاء، والعكس بالعكس.
وأهم ما يتصف به الغوغاء هو الجهل، فهؤلاء (لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجأوا إلى ركن وثيق)، كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام)(2)، وهذا مكمن الخطر والداء، فبسبب جهلهم سوف يكونون ـ كما قلنا ـ قابلين للاستثمار والتوظيف من قبل أعداء الأمة وغيرهم من أصحاب المطامع والمصالح، ولا غرو أن يتم توظيف الغوغاء أحياناً أو غالباً في المشاريع السياسية المتضادة والمتقابلة، فتارة يؤخذون إلى أقصى اليمين، وأخرى إلى أقصى اليسار، فهم كما وصفهم علي (عليه السلام): "أتباع كل ناعق يميلون مع كل ريح"(3).
2ـ الغوغاء وافتقاد الميزان
والواقع أن السر وراء هذا الضياع والتخبط لدى هؤلاء يكمن فيما هو أعمق من مجرد حالة الجهل المتفشي فيهم، إنه كامن في افتقادهم الميزان القويم الذي ينظم التفكير ويضبط السلوك، والميزان هو العقل المتبصر، ومن الطبيعي أن افتقاد هذا الميزان أو ضعفه غالباً ما يكون ناشئاً - عن حالة الجهل والأمية، ومن يفتقد الميزان والبصيرة النافذة هو شخص أعمى، وهذا سيترك بصماته عليه ويتبدى ذلك من خلال الآثار التالية:
أ ـ إن الغرائز هي التي سوف تقود وتسيّر شخصاً كهذا، ولن يتحرك بوحي العقل أو هدي الوحي، والإنسان الذي تحركه الغرائز سيكون ما يفسده أكثر مما يصلحه.
ب ـ سيكون وقوداً سهلاً للفتنة، فالغوغاء ينساقون بسهولة مع أجواء الفتنة، لأن الفتن في بداياتها غالباً ما تُشَبِّه الأمر على الإنسان، كما قال علي (عليه السلام): "إن الفتن إذا أقبلت شبهت وإذا أدبرت نبهت"(4)، ولذا يسقط هؤلاء في الفتنة ويكونون وقودها قبل أن يكتشفوا خطأهم لاحقاً ويندموا حيث لا ينفع الندم. ومن هنا كانت هذه الفئة هي التي وقفت وخُطط لها لكي تقف في وجه الأنبياء (عليهم السلام) وكل الدعوات الإصلاحية، في الحديث عن الإمام الهادي (عليه السلام): "الغوغاء قتلة الأنبياء"(5).
ت ـ ونراه مستهيناً بعظائم الأمور ومعظماً لصغائرها، فهو يثير المعارك على هوامش الأمور وتوافهها، ولكنه لا يهتم للفواجع الكبيرة ولا تحرك فيه ساكناً! وهذا ما حصل مع الخوارج، حيث نُقل عنهم أنهم قد ثارت ثائرتهم ذات يوم لأن أحد أصحابهم تناول حبة تمر وقعت من نخلة لبعض الناس، فأكلها دون أن يستأذن من صاحبها، لكن لم يمض سويعات على هذه الحادثة حتى أقدموا بدم بارد على ذبح رجل مسلم وهو عبد الله ابن الصحابي الجليل خباب بن الأرت الأزدي ودون أن يرف لهم جفن أو تذرف لهم دمعة، لا لشيء سوى أنه لم يرَ رأيهم(6).
وهكذا وجدنا أن جمعاً من أهل الكوفة بعد أن شاركوا في قتل الإمام الحسين (عليه السلام)، أو رضوا بذلك، أو سكتوا عليه إذا بهم يسألون وبإلحاح عن حكم من قتل بعوضة أو ذبابة في حالة الإحرام! فما كان من أحد الصحابة إلا أن خاطبهم قائلاً: "تسألونني عن قتل الذباب وقد قتلتم ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله)!"(7).
3 ـ محاصرة الغوغاء ومواجهتهم
كيف نواجه ظاهرة الغوغاء ونتعامل معها؟
أعتقد أننا إذا أردنا أن نواجه ظاهرة الغوغاء فليس من الصحيح الوقوف المباشر في وجهها ولا سيما في حالات غليانهم، فهذا لن يجدي نفعاً، بل سيدفعهم إلى ارتكاب الحماقات، وإنما الأسلوب الأنجع في المواجهة يكون باعتماد الحلّين التاليين:
أولاً: الحل الظرفي
بالحؤول دون اجتماعهم، وإذا اجتمعوا فيجدر بنا السعي إلى تفريقهم، لأن في تفريقهم المنفعة وفي اجتماعهم المضرة، فإذا اجتمعوا أفسدوا وحركتهم غرائزهم، وإذا تفرقوا انصرفوا إلى أعمالهم، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) وقد سئل عن الغوغاء؟ قال: "هم الذين إذا اجتمعوا ضروا، وإذا تفرقوا نفعوا، قالوا قد عرفنا مضرة اجتماعهم فما منفعة افتراقهم؟؛ فقال: يرجع أصحاب المهن إلى مهنتهم فينتفع الناس بهم، كرجوع البناء إلى بنائه، والنساج إلى منسجه، والخباز إلى مخبزه"(8).
إن اجتماع هؤلاء، له مفاسدُ ومضارٌ كثيرة، وأخطرها أن ذلك يكون مقدمة لتشكل ما يسمى بالعقل الجمعي الذي يسلب الفرد تفكيره وعقله ويتحكم بسلوكه، وبكلمة أخرى: إن اجتماع الجهلة والسفهاء هو الذي يشكل حالة الغوغاء، بما يجعل الواحد منهم ينقاد مع غيره دون بصيرة ودون الرجوع إلى أهل العقل والمشورة. وإن الإنسان يندفع في وسط الجو الغوغائي ويمارس ـ أحياناً ـ أفعالاً لا تليق به، ولو أنك قمت بتصويره وأريته نفسه بعد ذلك وهو في حالة خلوة أو صفاء لتعجب من أفعاله وممارساته! إن الإنسان يفقد التركيز والقدرة على التفكير في وسط المعمعة وصخب الغوغاء، ومن هنا كانت الدعوة القرآنية إلى المشركين أن لا يحكموا على صدق النبي (صلى الله عليه وآله) في حالة الصخب والضوضاء أو تحت تأثير العقل الجمعي، بل ليخلو كل واحد منهم مع نفسه أو مع شخص آخر، ثم يتأمل فيما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله)، وهل هو سحر فعلاً أم هو الحق المبين؟ قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ}[سبأ: 46].
ثانياً: الحل الجذري
ويتمثل ببث حالة الوعي في الأمة، والعمل على ترشيدها وتحصينها بالعقل والعلم، لأنه كلما اتسعت مساحة الوعي خفت حالة السذاجة وتقلصت دائرة الجهل، إن مسؤوليتنا هي أن نسعى للانفراد بهؤلاء وإثارة مكامن الوعي فيهم، وأن نتحرك في ضوء برنامج تربوي تعليمي يهدف إلى توعية أبناء الأمة وبلورة الميزان القويم لديهم، لأن من يمتلك الميزان لا يُخشى عليه، والميزان ـ كما قلنا ـ هو البصيرة، فما هي البصيرة؟ وكيف يمتلكها الإنسان؟ وهذا ما نوضحه فيما يلي:
4 ـ البصيرة ومصادرها
من مِنن الله وألطافه بنا أنه زودنا بجملة من الحواس التي نستعين بها على قضاء حوائجنا وبلوغ مقاصدنا والتزود بالمعارف والمعلومات، فالحواس اداة للمعرفة ووسائل لخدمة الإنسان، بيد أن هذه الأعضاء قد تخطئ في التشخيص، فكانت بحاجة إلى إمام يقودها وقائد يحركها، والقائد هو العقل أو البصيرة، ولكن البصيرة أيضاً مع أنها إمام الحواس قد تُصاب بالعمى وتلك الطامة الكبرى، فإن تعطلت الحواس فتلك خسارة للإنسان دون شك، لكنها خسارة يمكن التعويض عنها، أما خسارة العقل أو خسارة البصيرة فإنها تسقط إنسانية الإنسان، قال تعالى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46]، ولذا فالإنسان ببصيرته النافذة، وفقد البصيرة يوقع المرء في المتاعب ويوجب الخذلان.
يُحكى أن عقيل بن أبي طالب دخل على معاوية ذات يوم فقال له معاوية: "إنكم تصابون في أبصاركم، فأجابه عقيل على البداهة: ولكنكم تصابون في بصائركم!(9).
ما هو مصدر البصيرة؟
ولكن كيف للإنسان أن يحفظ بصيرته من التلوث ومن الإصابة بمرض العمى؟
إن الأساس في امتلاك الإنسان لبصيرة نافذة لا تخونه ولا تخدعه هو في صدقه مع نفسه وفي خشيته من ربه، وفي صفاء فطرته.
والخطوة الأولى على هذا الصعيد: هي التفكر والتدبر في آيات الله تعالى، قال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46]. وفي الحديث عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "فإنما البصير من سمع فتفكر، ونظر فأبصر، وانتفع بالعبر ثم سلك جَدَداً واضحاً يتجنب فيه الصرعة في المهاوي، والضلال في المغاوي. ولا يُعين على نفسه الغواة.."(10). فالإنسان البصير هو الذي يُبصر نفسه ويراقبها، ويقلع عن عيوبه، عن الإمام علي (عليه السلام): "أبصر الناس من أبصر عيوبه وأقلع عن ذنوبه "(11).
والخطوة الثانية: هي الأخذ بالعقل كحجة أساسية لله تعالى على العباد، فالعقل يحفظ الإنسان من عمى البصيرة، شريطة أن نستنصح العقل ونطلب منه المشورة، فعن أمير المؤمنين (عليه السلام): "ليست الرؤية كالمعاينة مع الأبصار. فقد تكذب العيون أهلها ولا يغش العقل من استنصحه"(12).
وبالإضافة إلى العقل، فإن ثمة مصدراً آخر يساعد الأخذ به على استقامة البصيرة ونفاذها وهو الاستعانة بهداية الوحي، ومن هنا جاء وصف القرآن الكريم بأنه يمثل بصائر للناس، قال تعالى: {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [الجاثية: 20]، وهكذا وصفت التوراة التي بعث بها موسى (عليه السلام) بهذا الوصف: قال تعالى: {وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [القصص: 43].
5 ـ القائد والبصيرة
ولا بد أن يتحلى القائد ببصيرة نافذة، تجعله يمتلك رؤية واضحة للأمور والقضايا الاجتماعية والسياسية، فالساذج لا يصلح لقيادة المسلمين ولا إدارة شؤونهم وأمورهم حتى لو امتلك العلم والفقاهة، فالعلم ليس كافياً ليؤهل الشخص لموقع قيادة الأمة، بل لا بد أن يمتلك ـ بالإضافة إلى العلم والفقه - بصيرة نافذة، ولذا فلا تغتروا ـ أيها الشباب ـ بالمظاهر الاستعراضية لدى بعض الشخصيات التي تدعي الزعامة والقيادة، ولا يخدعنكم صراخ الزعيم وانفعالاته، بل فتشوا عن شجاعته وعقله وحكمته، قال تعالى في شأن النبي الأكرم: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108]، فالآية المباركة تأمر النبي (صلى الله عليه وآله) بأن يقدم نفسه ومشروعه للأمة بكل شفافية ويبين للناس أهدافه، ويوضح لهم من خلال سلوكه أنه على بصيرة من أمره وعالم بحاله ومآله.
وعندما يكون القائد على بصيرة من أمره فإنه سيعطي الناس من حوله ثقة به وبقيادته، فلا يسلمونه عند النكبات ولا يتخلون عن مشروعه في الصعاب. وإن بصيرة القائد من المفترض أن تمتد إلى أصحابه، فلاحظ قوله تعالى: {عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108]. وقد ذكرت العديد من الروايات الواردة في تفسير هذه الآية أن المقصود بقوله: {وَمَنِ اتَّبَعَنِي} هو علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وهذا من التفسير بالمصداق، لأن الإمام عليا (عليه السلام) المصداق الأبرز لمن تبع النبي (صلى الله عليه وآله) وكان يمتلك بصيرة نافذة وعزماً لا يلين، وبصيرته (عليه السلام) هذه نرصدها ويرصدها كل باحث منصف، وكانت حاضرة لديه منذ سني عمره الأولى، عندما اتبع النبي وكان أول القوم إسلاماً، وهكذا كانت هذه البصيرة حاضرة لديه في مرحلة الشباب، فضلاً عن سائر مراحله العمرية.
6 ـ الإمام علي (عليه السلام) صاحب البصيرة النافذة
وحيث إن الإمام علياً (عليه السلام) هو قدوة لكل شاب مسلم أو هكذا ينبغي أن يكون، فلا بأس بأن نتوسع قليلاً في ذكر بعض مواقفه (عليه السلام) التي تدلل على نفاذ بصيرته التي كانت حاضرة في كل المحطات أو المطبات التاريخية التي واجهته:
أولاً: لقد بلغ نفاذ بصيرته (عليه السلام) وإيمانه بالرسالة الإسلامية حداً لا يسأل عن مصيره الشخصي إذا ما أرسله النبي (صلى الله عليه وآله) أو كلفه بمهمة معينة، إذ المهم عنده أن يسلم الإسلام ورسول الله (صلى الله عليه وآله)، فيوم الهجرة، وعندما عرض النبي (صلى الله عليه وآله) عليه فكرة المبيت على الفراش كان جوابه: "أو تسلم بمبيتي هناك يا نبي الله؟! قال: نعم. فتبسم علي (عليه السلام) ضاحكاً، وأهوى إلى الأرض ساجداً شكراً لله"(13).
ويوم أخبره النبي (صلى الله عليه وآله) أنه سيَلقى بعده عنتاً وظلماً، ما كان همه أن يسأل عن هذا الظلم أو عن الأشخاص الذين يظلمونه، وإنما سأل رسول الله (صلى الله عليه وآله): "في سلامة من ديني؟ فقال (صلى الله عليه وآله): في سلامة من دينك"(14).
ثانياً: وبصيرته هي التي جعلته لا ينخدع بالكثير من العروض المريبة، ومن أخبثها العرض الذي تلقاه غداة وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) وإقصائه (عليه السلام) عن حقه، فقد جاءه يومها أبو سفيان عارضاً عليه الرجال والسلاح، قائلاً: أما والله لئن شئتم لأملأنها عليهم خيلاً ورجلاً! فناداه علي (عليه السلام): "ارجع يا أبا سفيان، فوالله ما تريد الله بما تقول، وما زلت تكيد الإسلام وأهله"(15).
ثالثاً: وهكذا كانت بصيرته هي التي حمت الإسلام وحفظت وحدة الأمة من التمزق، وذلك عندما رفض أن يحمل السيف ليقاتل من أجل المطالبة بحقه، بل كان بعد ذلك إيجابياً مع الآخرين فساعد وشارك في درء المخاطر التي تهدد الكيان الإسلامي برمته، كما جرى في حروب الردة ـ مثلاً ـ حيث يقول: "فما راعني إلا انثيال الناس على فلان يبايعونه، فأمسكتُ يدي حتى رأيت راجعة الناس، قد رجعت عن الإسلام، يدعون إلى محق دين محمد ﷺ، فخشيتُ إن لم أنصر الإسلام وأهله، أن أرى فيه ثلما أو هدماً، تكون المصيبة به علي أعظم من فوت ولايتكم، التي إنما هي متاع أيام قلائل، يزول منها ما كان كما يزول الشراب، أو كما يتقشع السحاب، فنهضت في تلك الأحداث حتى راح الباطل وزهق، واطمأن الدين وتنهنه"(16).
إن المأساة الحقيقية والمحنة الأليمة التي تواجه الأمة هي عندما يتم إقصاء أصحاب البصائر وذوي العقول الحكيمة والآراء السديدة ولا تُسمع لهم كلمة، ولا يؤخذ برأيهم، وفي المقابل يتقدم إلى الساحة الغوغاء الذين لا يتحركون عن بصيرة بل عن عمى وجهل وعصبية، ولا ريب أن أكبر متضرر في هذه الحال هو الأمة، كما أن ضررهم على الدين أشد وأبلغ، لأنهم في الغالب يحملون شعارات الدين وعناوينه. وإن معاناة علي (عليه السلام) وغربته الحقيقية كانت مع هذه الفئة، وهم من أسماهم (بالجهال المتنسكين"(17).
7ـ توازن الشخصية
وحديث البصيرة هذا يطل بنا على أمر وثيق الصلة بذلك، ألا وهو اعتناء الإسلام وتأكيده في وصاياه وإرشاداته على تربية الإنسان المسلم تربية دينية وأخلاقية خاصة تجعل منه شخصية متوازنة، بعيدة كل البعد عن الإفراط والتفريط في العاطفة والفكر والسلوك، فتوازن المسلم واستقرار صحته النفسية هو هدف أساسي يتطلع التشريع الإسلامي إليه، لأن ذلك يمثل أساساً لا غنى عنه في نجاح الإنسان في مهمة الاستخلاف على الأرض، فالأشخاص الأسوياء عقلياً ونفسياً هم المؤهلون لعمارة الأرض وحمل الأمانة الإلهية التي عجزت السماوات والأرض عن حملها، ومن هنا جاء الرفض التشريعي الحاسم للاعتناء بالوساوس التي تعتري الإنسان المسلم في أمر الصلاة والطهارة، وقد استخدمت الروايات تعابير مختلفة لمكافحة هذه الوساوس، ومن أبرز هذه التعابير البالغة الدلالة: القول للإنسان الذي يصر على إعادة الوضوء أو الصلاة تحت تأثير الوسوسة: إنك بإعادتك للصلاة أو الوضوء لا تقترب من الله تعالى ولست تطيعه بذلك، وإنما أنت تطيع الشيطان، ففي الحديث عن عبد الله بن سنان قال ذكرت لأبي عبد الله (عليه السلام) رجلاً مبتلى بالوضوء والصلاة وقلت: هو رجل عاقل، فقال أبو عبد الله: وأي عقل له وهو يطيع الشيطان! فقلت له: وكيف يطيع الشيطان؟!
فقال: سله هذا الذي يأتيه من أي شيء هو، فإنه يقول لك من عمل الشيطان"(18). وتأمل معي بدقة في قوله (عليه السلام): "وأي عقل له وهو يطيع الشيطان!"، فإنه كلام ينطق بالحق ولو كان مرا، وكأنه (عليه السلام) يريد القول: إن للعاقل علامات، ومن علاماته أن لا يسترسل مع الوساوس، ولا ينقاد للشيطان، وحقاً فإن هذه الوساوس تفضي إلى تحقيق غايات الشيطان، وهي عزوف الإنسان في نهاية المطاف عن عبادة ربه، كما نلاحظ ذلك في بعض الأشخاص المبتلين بالوسواس، حيث إن الصلاة تغدو عبئاً ثقيلاً يؤرقه ويقلقه، وكلما اقترب وقتها شعر المبتلى بالوسوسة بالهم يحاصره، بما يفضي في نهاية المطاف إلى ترك العبادة، وهذا ما يريده الشيطان.
والمغزى الأكثر دلالة الذي تضمنته هذه الرواية ونظائرها هو حرص التشريع الإسلامي وعنايته بصحة الإنسان المسلم النفسية واعتباره ذلك أولوية تتقدم حتى على احتياطه في أمر العبادة، فالاحتياط الذي يعمق المشكلة النفسية لدى الإنسان هو احتياط غير مطلوب ولا مرغوب فيه، فإن الله تعالى يريدنا أن نعبده ونحن في حالة من الصحوة العقلية والتوازن النفسي، لا أن نعبده في حالة اهتزاز الشخصية، بما يجعل المسلم العابد إنساناً معقداً نفسياً، وقد يقترب به اختلال التوازن إلى حد الجنون، وقد وعى بعض الفقهاء(19) أهمية هذا الأمر، وهذا ما دفعه إلى إطلاق فتوى جريئة تنص على سقوط التكليف بالصلاة ومقدماتها في بعض حالات الوسواس القهري العالية الحساسية التي تجعل صاحبها منشغلاً في معظم وقته بالصلاة وإعادتها، أو بالوضوء وإعادته، أو بالطهارة من الخبث، بما يربك حياته وحياة أهله والمحيطين به ويحولها إلى جحيم لا يطاق، وكم من حالة مرضية من هذا القبيل أفضت إلى الطلاق أو إلى الانتحار أو ترك التدين..
والحقيقة أن المتأمل في العديد من القواعد الشرعية المستقاة من الكتاب والسنة والتي تعالج حالات الشك لدى الإنسان المسلم سوف يكتشف أنها قواعد تسهيلية، وهي تغلب الجانب الذي يحفظ توازن الشخصية، وذلك من قبيل (قاعدة الطهارة)، التي تعد مرجعاً عند الشك في الطهارة والنجاسة، وفحواها: أن الأصل طهارة كل ما يشك في طهارته حتى تُعلم نجاسته، أو (قاعدة الحلية) القاضية بحلية ما يشك في حرمته إلى أن تعلم الحرمة أو يقوم عليها دليل، أو (قاعدة الفراغ) التي تقضي بالحكم بصحة العمل العبادي الذي يشك في صحته بعد الفراغ منه، أو قاعدة: (لا لكثير الشك)، وهي القاعدة الخاصة بعلاج حالات الوسواس والشك الخارجة عن المألوف، إلى غير ذلك من القواعد التي تطرقنا إليها في محل آخر(20).
ومن هنا فإن المفروض بالتربية الدينية أن تتماشى مع تلك النصوص والقواعد والفتاوى، فتعمل على انتشال المبتلى بالوسوسة من هذه الحالة المرضية، لا أن تفاقم المشكلة لديه من خلال اللجوء إلى الأسلوب المتشدد في الاحتياط، والذي يعقد حياة الشخص العادي، فضلاً عمن هو مبتلى بحالة مرضية خاصة.
________________________
(1) النهاية في غريب الحديث والأثر ج3 ص396.
(2) نهج البلاغة ج4 ص36.
(3) المصدر السابق.
(4) نهج البلاغة ج1 ص 183.
(5) أمالي الشيخ الطوسي ص613، وذيل تاريخ بغداد لابن النجار البغدادي ج4 ص141، ويروى هذا الكلام عن الإمام الرضا (عليه السلام) انظر: الدر النظيم في مناقب الأئمة اللهاميم للمشغري العاملي ص691، والعدد القوية للشيخ علي بن يوسف الحلي ص204.
(6) انظر: كشف الغمة في معرفة الأئمة (عليهم السلام) ج2 ص10.
(7) المصدر السابق ص220.
(8) نهج البلاغة ج4 ص46.
(9) المستطرف في كل فن مستظرف ج1 ص110، والصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم ج 3 ص49، وفي رواية أخرى أن هذه الحادثة جرت مع عبد الله بن عباس، انظر: المعارف لابن قتيبة الدينوري ص589، وربيع الأبرار ونصوص الأخبار للزمخشري ج5 ص37.
(10) نهج البلاغة ج2 ص42. والجدد: الطريق الواضح، والصرعة هنا بمعنى السقوط.
(11) عيون الحكم والمواعظ ص120.
(12) نهج البلاغة ج4 ص68.
(13) الأمالي للطوسي ص 465.
(14) کشف الغمة للأربلي ج1 ص96.
(15) الإرشاد للمفيد ج1 ص190.
(16) نهج البلاغة ج3 ص 119.
(17) فقد روي عنه (عليه السلام) أنه قال: "ما قصم ظهري إلا رجلان عالم متهتك وجاهل متنسك، هذا ينفر عن حقه بهتكه وهذا يدعو إلى باطله بنسكه"، انظر: معدن الجواهر للكراجكي ص 26، وعيون الحكم والمواعظ ص 479.
(18) الكافي ج 1 ص 12.
(19) وهو السيد الخميني رحمه الله فقد سئل عن الرأي الشرعي في امرأة تعاني من وسواس حاد يظهر عليها أثناء الوضوء والصلاة، بحيث إنها : تنشغل عند الزوال بالوضوء استعداداً لصلاتي الظهر والعصر، ويحل أذان المغرب وهي لم تنته بعد من هذين الفرضين! تستعد لصلاتي المغرب والعشاء فيحل منتصف الليل الشرعي وهي لا تزال منهمكة في أداء صلاة العشاء، وراجع زوجها الأطباء ولم يجد ذلك نفعا، ما جعل حياة زوجها وعائلتها تتحول إلى جحيم لا يطاق؟ وكان جوابه عليه الرحمة والرضوان: "ينبغي أن تعطي هذه المرأة المهلة العادية التي ينجز خلالها أي إنسان سوي فريضتي الوضوء والصلاة، فإذا تمكنت من إنجازهما خلال هذه الفترة كان به، أما إذا لم تتمكن من ذلك فيعتبر التكليف الشرعي ساقطاً عنها إلى اللحظة التي تتعافى فيها من هذه الحالة المرضية"، نقل الفتوى بحذافيرها أحد أعضاء مكتبه والملازمين له لسنوات طويلة، حجة الإسلام رحيميان، في كتابه «أنوار العروج - خواطر وذكريات عن حياة الإمام الخميني رحمه الله ونشرتها مجلة (باسدار إسلام، وطبعتها المستشارية الثقافية في سفارة الجمهورية الإسلامية الإيرانية في بيروت بتاريخ 1411 هـ ترجمة: علي شرف الدين ص 117).
(20) راجع كتاب مفاهيم ومعتقدات بين الحقيقة والوهم ص198 وما بعدها.