الأدب
الشعر
العصر الجاهلي
العصر الاسلامي
العصر العباسي
العصر الاندلسي
العصور المتأخرة
العصر الحديث
النثر
النقد
النقد الحديث
النقد القديم
البلاغة
المعاني
البيان
البديع
العروض
تراجم الادباء و الشعراء و الكتاب
نجد وبوادي الحجاز ونزوح قيس الى الشمال
المؤلف: شوقي ضيف
المصدر: تاريخ الادب العربي - العصر الاسلامي
الجزء والصفحة: ص:148-153
19-12-2021
2710
نجد وبوادي الحجاز ونزوح قيس الى الشمال
إذا كنا لاحظنا تحضر مدن الحجاز وخاصة المدينة ومكة فإن نجدا وبوادي الحجاز قلما سقط فيهما من الحضارة شئ ذو بال، إذ استمرت القبائل فيهما تعيش على الرعي وطلب الكلأ، فهي تعيش-كأسلافها في الجاهلية-معيشة متبدية فيها غير قليل من الشظف.
وفي هذه المعيشة ظلت المنافسات القبلية على المراعي، وظل تربص القبائل
149
بعضها ببعض، وإن كان من المحقق أن ذلك لم يأخذ الشكل الحاد الذي كان عليه القوم في الجاهلية، بسبب نهي الإسلام عن الأخذ بالثأر وتحول حقه من أيدي الأفراد الى أيدي الدولة، وكان ولاة بني أمية في نجد وبوادي الحجاز يقظين، وكانوا إذا تفاقم الشر من بعض الأفراد زجوا به في السجون. غير أن بقية من الشر والشجار بقيت، وهي بقية استتبعت ظهور بعض قطاع الطرق من أمثال طهمان (1) بن عمرو الكلابي الشاعر، كما استتبعت غير قليل من شعر الفخر والهجاء، على نحو ما نجد في مهاجاة (2) شبيب بن البرصاء الذبياني لعقيل بن علفة وأرطاة بين سهية، ومهاجاة (3) ابن ميادة الذبياني للحكم الخضري.
ودفع شظف المعيشة في هذه البيئة البدوية كثيرين من شعرائها للوفود على الخلفاء في دمشق والولاة في مكة والمدينة والكوفة والبصرة يطلبون نوالهم، ومن ثم كانوا يترددون بين البدو والحضر. ولا نبعد إذا قلنا إن شعراء شرقي الجزيرة من ربيعة وتميم وعبد القيس كانوا دائمي الارتحال الى الخلفاء والولاة والقواد والأجواد وكان منهم من تقذف به رحلاته الى خراسان.
ومر بنا أن كثيرا من العرب المتبدين ارتدوا بعد وفاة الرسول صلي الله عليه وسلم ومنعوا الزكاة، وقد قضي أبو بكر على هذه الردة، واستجابت الجزيرة لهذا الغرض الديني راضية مرضية. ويظهر أن بعض عمال الصدقات كان يقسو في جمعها على العرب أحيانا، ومن ثم ارتفعت أصوات في هذا العصر الأموي تشكو منهم شكوي مرة (4).
ولا بد أن نلاحظ أن نشاط الشعر في نجد وبوادي الحجاز لهذا العصر كان أقل مما كان عليه في الجاهلية، بسبب ما قدمنا من إماتة الإسلام لفكرة الأخذ بالثأر التي سعرت الشعر والشعراء قديما وما انطوي فيها من عصبيات، وحقا هو لم يمت ذلك نهائيا ولكنه قلل من حدته. ومن أسباب ضعف نشاط الشعر أيضا كثرة من هاجروا في الفتوح شرقا وغربا، إذ كانت عشائر ترحل
150
برمتها. على أن هذا أحدث حزنا في نفوس كثيرين سبق أن وصفناه في عصر صدر الإسلام.
ضعف نشاط الشعر إذن في هذه البيئة البدوية، ولكنه إذا كان ضعف في مجال الفخر والهجاء فإنه قوي قوة واسعة في مجال الغزل، إذ تكاثر شعراؤه كثرة مفرطة وتكاثرت قصصه الغرامية، وخاصة في بني عذرة وبني عامر.
وقد ترجم أبو الفرج في أغانيه لكثيرين منهم مثل جميل وعروة بن حزام وقيس ابن ذريح، ووقف طويلا عند مجنون ليلي وشك في حقيقته، وهو يصور بما يضاف إليه من قصص كثير كيف أصبح هذا الغزل شعبيا، وكأن عرب نجد وبوادي الحجاز أفرغوا فيه وفي أفراده صور البطولة التي فقدوها في حياتهم الإسلامية بسبب خمود حروبهم الداخلية.
وغزل هؤلاء النجديين من أروع صور الغزل العربي، لما أشاعوا فيه من نبل وسمو وطهارة ونقاء. وعادة ينسبه الأدباء والمؤرخون الى بني عذرة، لكثرة ما أنتجت فيه، فيقولون غزل عذري وهو غزل يمسح عليه الإسلام وما أحاط به المرأة من جلال ووقار وما حرم من الآثام ظاهرة وباطنة. وكان مما ساعد عليه شعور الحزن الذي وصفناه في غير هذا الموضع والذي كان يجلل أطراف الجزيرة لمن هاجروا منها عن عشائرهم وأهليهم، ودائما يصفي الحزن النفس وينقيها ويعدها حين تتحدث عن الحب أن تشجي حقا وأن تؤثر في النفوس تأثيرا بالغا.
وإذا تركنا نجدا وبوادي الحجاز الى أطراف الجزيرة الشمالية على حدود الشام والجزيرة وجدنا كثيرا من عشائر قيس وبطونها وخاصة من كلاب وعامر وسليم تنزح الى الشمال فتزاحم قبيلة كلب وأخواتها اليمنية في الشام وقبيلة تغلب في الجزيرة. ويكون ذلك سبب خصام قبلي واسع، تصطدم فيه المصالح الاقتصادية في الرعي وغير الرعي كما تصطدم المصالح السياسية، فقد كانت كلب وأخواتها اليمنية موالية لبني أمية، وكذلك كانت تغلب، فكان طبيعيا أن تقف قيس في الصفوف المعادية حين تواتيها الفرصة. ولم تلبث الفرصة أن سنحت حين بدا انهيار بني أمية عقب وفاة يزيد بن معاوية ودعوة ابن الزبير لنفسه بالخلافة،
151
وسرعان ما حطبت قيس في حبله، معلنة ثورتها على الأمويين تحت إمرة الضحاك بن قيس في الشام وزفر بن الحارث الكلابي في قرقيسيا بالجزيرة.
وتوالت الأحداث واتفق الأمويون وقبيلة كلب بزعامة ابن بحدل على مبايعة مروان بن الحكم بالخلافة. وثارت قيس الشام، وأوقعت بها كلب وقبائل قضاعة ومن انضم إليهم من تغلب هزيمة ساحقة في مرج راهط، قتل فيها الضحاك بن قيس. وتمت البيعة لمروان في الشام، وتبعته مصر. غير أن قيس الجزيرة ثبتت على موقفها بقيادة زفر بن الحارث وانضم إليه عمير بن الحباب السلمي، وأخذ عمير يغير غارات كثيرة على كلب في أيام متعاقبة مثل: يوم الغوير ويوم الهيل ويوم كآبة ويوم الإكليل ويوم السماوة ويوم دهمان (5). ووالت قيس غاراتها على تغلب، ونكل بها عمير في غير موقعة، وخاصة يوم ماكسين (6) وكان بين من أسرته قيس فيه القطامي، فلما عرفه زفر خلي سبيله، وأعطاه مائة من الإبل، مما جعل القطامي ينوه بمأثرته عليه طويلا (7)، ونمضي فإذا تغلب تقتل عميرا سنة 70 في إحدي غاراته عليها بالحشاك الى جانب نهير الثرثار.
ويثأر له زفر في موقعة مرج الكحيل حيث فتك بتغلب فتكا ذريعا.
وكان يكف عبد الملك في هذه الأثناء يده عن قيس الجزيرة رجاء أن تتحول إليه، وكان الصراع مندلعا بين المختار الثقفي ومعه أهل الكوفة وبين مصعب بن الزبير ومعه أهل البصرة، فرأي عبد الملك أن ينتظر رجاء أن يفني بعضهم بعضا، وانتصر مصعب. ولم يعاجله عبد الملك بالهجوم، ونراه يفلح في جذب زفر إليه، حتي إذا أصبح طريقه آمنا اقتحم بجيوشه العراق وقتل مصعبا سنة 71 للهجرة وأرسل الحجاج الى عبد الله بن الزبير بمكة فقضي عليه.
وبذلك أنقذت تغلب من مخالب قيس، غير أن بقية بقيت لهذه الحروب الدامية إذ تصادف أن الأخطل دخل على عبد الملك وعنده الجحاف بن حكيم السلمي فسأله عبد الملك هل يعرفه؟ فقال: نعم هذا الذي أقول فيه:
ألا سائل الجحاف هل هو ثائر … بقتلي أصيبت من سليم وعامر (8)
152
وكان الجحاف ممن فتكوا بتغلب تحت لواء عمير بن الحباب. وقد ظل يموج به الغضب والأخطل ينشد قصيدته حتي إذا فرغ منها أجابه:
نعم سوف نبكيهم بكل مهند … ونبكي عميرا بالرماح الخواطر (9)
ومضي الجحاف، فأغار بقومه بني سليم سنة 73 على تغلب عند موضع يسمي البشر، فنكل بها تنكيلا فظيعا، إذ قتل رجالهم ونساءهم وبقر بطون حواملهم، وكان ممن قتله ابن للأخطل، أما الأخطل نفسه فوقع أسيرا، غير أنه موه على بني سليم حقيقته وقال: إنه من عبيد تغلب، فأطلقوه وهم لا يعرفونه.
ولما رأي الجحاف أنه خرج بذلك على ميثاقه لعبد الملك لحق بأرض الروم خوفا منه، ولكن قيسا ما زالت تتوسل الى عبد الملك أن يعفو عنه حتي أمنه، غبر أنه ألزمه أن يدفع ديات قتلي البشر فلجأ الى الحجاج فأداها له، وتأله الجحاف بعد ذلك ونسك (10).
وإنما سقنا هذه الأحداث، لأن العصبية الجاهلية عادت فيها جذعة بين قيس من جهة وكلب وتغلب من جهة أخري وعاد معها الثأر، حتي أصبح فوق كل شئ، وحتي أصبحنا نسمع في كل مكان النار ولا العار، واشتطوا في القتل وسفك الدماء اشتطاطا، إذ بقروا بطون الحوامل وقتلوا النساء.
وعودة العصبية القبلية على هذا النحو هيأت في قوة لعودة أشعار الفخر والهجاء، ففي كل جانب يتصايح الشعراء منذرين خصومهم بالويل والثبور، ويفيض الجزء الخامس من كتاب أنساب الأشراف للبلاذري بأشعارهم، ونجد من ذلك آثارا في الطبري ينشدها مع الأحداث في موقعة مرج راهط (11) وغيرها.
وآثارا أخري كثيرة في كتاب الأغاني (12)، فقد تراص شعراء كلب من أمثال جواس ابن القعطل وعمرو بن المخلاة ومنذر بن حسان وشعراء تغلب وعلي رأسهم الأخطل، كما تراص شعراء قيس وعلي رأسهم زفر بن الحارث وعمير بن الحباب وجهم
153
القشيري وابن الصفار المحاربي، وأخذ كل فريق يريش سهامه من الوعيد والتهديد والتخويف الشديد، فالتهب الهجاء والفخر التهابا.
ومضي كثير من شعراء القبائل في هذه الأنحاء بعد أن عاد السلام الى نصابه يمدحون الخلفاء والولاة طلبا للنوال، يتقدمهم في ذلك الأخطل والقطامي وأعشي تغلب وأعشي بني شيبان ونابغتهم، وكما كانوا يقصدون الولاة والخلفاء كانوا يقصدون الأجواد من الأمويين وغيرهم.
_________
(1) انظره في أخبار اللصوص للسكري 100.
(2) أغاني (طبع دار الكتب) 12/ 271 وما بعدها.
(3) أغاني 2/ 298.
(4) انظر جمهرة أشعار العرب (طبع المطبعة الرحمانية) ص 305.
(5) انظر الأغاني (طبعة الساسي) 20/ 121 وما بعدها.
(6) أغاني 20/ 127.
(7) أغاني 20/ 128.
(8) يريد الأخطل اليوم الذي قتلت فيه بنو تغلب عمير بن الحباب السلمي.
(9) خطر الرمح: اهتز في يد فارسه.
(10) أغاني 12/ 198 وما بعدها.
(11) الطبري 4/ 418.
(12) الأغاني (طبعة دار الكتب) 12/ 198 وما بعدها و (طبعة الساسي) 17/ 111 وما بعدها، 20/ 121 وما بعدها.