الأدب
الشعر
العصر الجاهلي
العصر الاسلامي
العصر العباسي
العصر الاندلسي
العصور المتأخرة
العصر الحديث
النثر
النقد
النقد الحديث
النقد القديم
البلاغة
المعاني
البيان
البديع
العروض
تراجم الادباء و الشعراء و الكتاب
كثرة الشعر والشعراء المخضرمين
المؤلف: شوقي ضيف
المصدر: تاريخ الادب العربي - العصر الاسلامي
الجزء والصفحة: ص:42-45
19-9-2021
3961
كثرة الشعر والشعراء المخضرمين
تزخر كتب الأدب والتاريخ بما نظم من أشعار في صدر الإسلام، وهي أشعار كثيرة، نلقاها في كل ما يصادفنا من أحداث العصر، فليس هناك حدث كبير إلا ويواكبه الشعر ويرافقه، وكان أكبر الأحداث دعوة الرسول صلي الله عليه وسلم الى الإسلام، وهي دعوة اضطرته الى حمل السيف للذياد عنها، وانقسم العرب بإزائها مؤمنين ومشركين فكان هناك من آمنوا وحسن إيمانهم ومن وقفوا يدافعون عن الدين القديم ويصدون عن سبيل الله، وكل ذلك نجده ماثلا على ألسنة الشعراء. واستقام أمر الإسلام في الجزيرة، غير أن أقواما ارتدوا لعهد أبي بكر، فحاربهم ومثل الشعر هذه الحرب، ثم كانت الفتوح، فانطلق العرب يحملون مشاعل الإسلام الى العالم وهم ينشدون أناشيد الجهاد. وتلت ذلك فتنة عثمان وحروب على وطلحة والزبير وعائشة من جهة وحروب على ومعاوية من جهة ثانية، فعلت أصوات الشعراء وتصايحوا بأشعارهم في كل مكان.
ومضي كثيرون ينظمون في هذا العصر لامع الأحداث، بل مع أنفسهم وقبائلهم مستضيئين الى حد كبير بالإسلام وهديه الكريم. فالشعر لم يتوقف ولم يتخلف في هذا العصر، وهذا طبيعي لأن من عاشوا فيه كانوا يعيشون من قبله في الجاهلية وكانوا قد انحلت عقدة لسانهم وعبروا بالشعر عن عواطفهم ومشاعرهم، فلما أتم الله عليهم نعمة الإسلام ظلوا يصطنعونه وينظمونه. واقرأ في كتب الأدب والتاريخ مثل الأغاني والطبري وسيرة ابن هشام وكتب الصحابة مثل الإصابة والاستيعاب فستجد الشعر يسيل على كل لسان، واقرأ في
42
المفضليات والأصمعيات فستجد المفضل الضبي والأصمعي يحتفظان في كتابيهما بغير مطولة للمخضرمين، وقد عقد ابن قتيبة في الشعر والشعراء تراجم لكثيرين منهم، وسلك ابن سلام في كتابه «طبقات فحول الشعراء» طائفة من مجوديهم البارعين.
ومن يرجع الى كل هذه المصادر يستقر في نفسه أن الشعر ظل مزدهرا في صدر الإسلام، وليس بصحيح أنه توقف أو ضعف كما ظن ذلك ابن خلدون وتابعه فيه بعض المعاصرين إذ يقول في مقدمته: «انصرف العرب عن الشعر أول الإسلام بما شغلهم من أمر الدين والنبوة والوحي وما أدهشهم من أسلوب القرآن ونظمه فأخرسوا عن ذلك وسكتوا عن الخوض في النظم والنثر زمانا، ثم استقر ذلك وأونس الرشد من الملة، ولم ينزل الوحي في تحريم الشعر وحظره وسمعه النبي صلي الله عليه وسلم وأثاب عليه، فرجعوا حينئذ الى ديدنهم منه (1)».
وكأنه يجعل توقفهم عن الشعر مدة نزول الوحي لعصر الرسول، وواضح أن هذا لا يصدق على المشركين لأنهم لم يشغلوا بالدعوة، ومعروف أن جمهور القبائل العربية إنما دخل في الإسلام بعد فتح مكة في العام الثامن للهجرة. وإذن فانصرافهم عن الشعر-إن صح-إنما كان لمدة عامين أي الى أن انتقل الرسول صلي الله عليه وسلم الى الرفيق الأعلي. وهو نفسه ينقض ما قاله في أول كلامه بما قاله في آخره من أن الرسول سمع الشعر وأثاب عليه، ونحن نعرف أنه كان يقف بجانبه ثلاثة من شعراء المدينة ينافحون عنه ويردون على شعراء مكة وغيرهم من خصومه ذائدين مدافعين، وهم حسان بن ثابت وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة. وحتي في العامين الأخيرين من حياته عامي الوفود كان كل وفد يقدم ومعه خطباؤه وشعراؤه، وبمجرد أن يمثلوا بين يديه يتحدث خطباؤهم وينشد شعراؤهم ويرد عليهم خطباء الرسول صلي الله عليه وسلم وشعراؤه (2).
ولعل الذي دفع ابن خلدون الى كلامه السابق ما جاء عند ابن سلام وتناقله الرواة بعده من قوله: «فجاء الإسلام وتشاغلت عن الشعر العرب وتشاغلوا
43
بالجهاد وغزو فارس والروم ولهت (العرب) عن الشعر وروايته فلما كثر الإسلام وجاءت الفتوح واطمأنت العرب بالأمصار راجعوا رواية الشعر، فلم يؤولوا الى ديوان مدون ولا كتاب مكتوب، وألفوا ذلك وقد هلك من العرب من هلك بالموت والقتل، فحفظوا أقا؟ ؟ ؟ وذهب عليهم منه كثير» (3).
وابن سلام إنما يقول ذلك ليدل علي؟ ؟ ؟ عربيا كثيرا ضاع من يد الزمن، وكان يكفيه ما قاله من أنهم لم يدونوه وأنهم اكتفوا بروايته، فإن من شأن الرواية إذا طال العهد بها أن لا تحتفظ بكثير من الشعر وأن يسقط منه غير قليل، أما قوله بأن العرب لهت عن الشعر وشغلت عنه بالجهاد فينقضه ما تحمله كتب الأدب والتاريخ من منظوماته الكثيرة ومن أسماء ناظميه.
وربما جاءت شبهة إصغار العرب للشعر في صدر الإسلام وإعراضهم عنه من مهاجمة القرآن للشعراء في قوله تعالي: {{والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا»}. وواضح من نفس هذه الآيات أن القرآن إنما يهاجم شعراء المشركين الذين كانوا يهجون الرسول ويثبطون عن دعوته. فالقرآن لم يهاجم الشعر من حيث هو شعر، وإنما هاجم شعرا بعينه كان يؤذي الله ورسوله، وهو نفسه الذي قال فيه الرسول الكريم: «لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا خير له من أن يمتلئ شعرا» (4) أما بعد ذلك فإن الرسول كان يعجب بالشعر ويقول حين يسمع بعض روائعه: «إن من البيان لسحرا وإن من الشعر لحكما أو حكمة» (5)، وكان يحض حسان بن ثابت وغيره على نظمه ويثيبهم. وكان بعض خصومه ممن توعدهم يتخذه وسيلة الى استرضائه وعفوه عنه، على نحو ما هو معروف عن كعب بن زهير الذي أحفظه بأشعار مختلفة ندد فيها بالإسلام، ثم قدم عليه فأنشده لاميته المشهورة يطلب الصفح عن إساءته، فتهلل وجهه بشرا وخلع عليه بردته (6).
44
والحق أن الإسلام لم يرد العرب عن الشعر ونظمه، وسنري عما قليل أن الرسول عليه السلام اتخذه سلاحا ماضيا ضد خصومه من مشركي قريش وأعداء رسالته، إذ كان يري أن وقع نبله عليهم أشد من وقع الحسام (7). وكان الخلفاء الراشدون من بعده يرددونه دائما على ألسنتهم (8)، كما كان صحابته كثيرا ما يتناشدونه في المسجد (9). وقد اشتهر عمر بن الخطاب بأنه كان كثيرا ما يسأل وفود القبائل عن شعرائهم، وكانوا ينشدونه بعض أشعارهم وقد ينشدها هو متعجبا مستحسنا (10)، ويقال إنه كتب الى أبي موسي الأشعري واليه على البصرة: «مر من قبلك بتعلم الشعر فإنه يدل على معالي الأخلاق وصواب الرأي ومعرفة الأنساب» (11)، ويقول ابن سلام إنه «كان لا يكاد يعرض أمر إلا أنشد فيه بيت شعر» (12).
وكل ذلك معناه أن الإسلام لم يثبط عن الشعر إلا حين وقف معارضا لدعوته، أما بعد ذلك فقد كان يرتضيه ويستحسنه. وقد مضي الخلفاء الراشدون مهتدين بهدي الإسلام الحنيف ينهون عن الهجاء ويعاقبون فيه، وقصة عمر بن الخطاب مع الحطيئة معروفة، فقد حبسه. حين أقذع في هجائه للزبرقان بن بدر، ولما استرحمه على أفلاذ كبده بأبياته المشهورة عفا عنه، بعد أن عاهده على أن لا يعود الى مثل هذا الهجاء (13). واتبع عثمان سنة عمر في التشديد على من يسلقون المسلمين بألسنة حداد، وقصته مع ضابئ بن الحارث البرجمي مشهورة فقد هجا جماعة من الأنصار هجاء مقذعا أفحش فيه، فاستعدوه عليه فحبسه، وظل في حبسه حتي مات (14).
45
ولكن هاتين القصتين شئ ونظم العرب للشعر حينذاك وروايته شئ آخر. فقد كانت حريتهم مكفولة في هذه الرواية وذلك النظم ما لم يتعرضوا للأعراض، ومن الظلم للإسلام أن يقال إنه كف العرب عن الشعر ووقف نشاطه، فقد كان ينشد على كل لسان، وساعدت الأحداث على ازدهاره لا على خموله سواء في معركة الإسلام مع الوثنيين والمرتدين أو في الفتوح أو في معركة على مع خصومه في العراق. ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا إن الإسلام أذكي جذوته وأشعلها إشعالا، فإن أحداثه حلت من عقد الألسنة وأنطقت بالشعر كثيرين لم يكونوا ينطقونه، فإذا بنا نجد مكة التي لم تعرف في الجاهلية بشعر كثير يكثر شعراؤها، وإذا بنا إزاء عشرات من الشعراء في الفتوح لم يشتهروا بالشعر ونظمه قبلها. وهم يسمون جميعا مخضرمين من الخضرمة وهي الاختلاط لأنهم خلطوا في حياتهم بين الجاهلية والإسلام فعاشوا في العصرين معا.
_________
(1) مقدمة ابن خلدون (طبعة المطبعة البهية). ص 427.
(2) أغاني (طبعة دار الكتب) 4/ 146 وما بعدها.
(3) طبقات فحول الشعراء لابن سلام (طبع دار المعارف) ص 22.
(4) العمدة لابن رشيق (الطبعة الأولي) 1/ 12.
(5) العمدة 1/ 9.
(6) أغاني (طبعة الساسي) 15/ 142 وما بعدها
(7) العمدة 1/ 12.
(8) راجع خطبة أبي بكر في السقيفة وكتاب عثمان الى على حين حوصر، وانظر ابن سعد 6/ 57.
(9) طبقات ابن سعد (طبعة أوربا) ج 1 ق 2 ص 95 - 96 والفائق للزمخشري 1/ 257.
(10) أغاني (طبعة دار الكتب) 8/ 199، 10/ 288 والعقد الفريد (طبعة لجنة التأليف) 5/ 270 وخزانة الأدب للبغدادي 2/ 292.
(11) العمدة 1/ 10.
(12) البيان والتبيين 1/ 241.
(13) أغاني (طبعة دار الكتب) 2/ 185.
(14) ابن سلام ص 144 وانظر في ترجمة ضابئ أيضا الشعر والشعراء 1/ 309 والإصابة 3/ 267 والخزانة 4/ 80 والكامل للمبرد (طبعة رايت) ص 219.